...

فنزويلا كانت بين انقلاب داخلي ومحاولة غزو أمريكي

د.محمد عبدالرحمن عريف

هي الاستعمارية الأمريكية، أو الإمبريالية، نسبة لسياستها في ممارسة الهيمنة على دول أخرى من خلال القوة العسكرية، الاقتصادية والسياسية. والبعض يرى فيها قهر وتدهور للدول والشعوب المستهدفة. فالعالم يشهد الآن امبريالية جديدة تتمتع بطاقة هائلة من غطرسة القوة؛ حيث تنتهك الديموقراطية وحقوق الانسان على الارض الأمريكية نفسها. وبالطبع هذا ما ظهر في أحداث فنزويلا الأخيرة. فالسياسي الأمريكي وليام فولبرايت الذي ألف كتابه الشهير “غطرسة القوة”، نبّه فيه بلاده من خطرالسقوط المروع للدولة إذا فقدت رؤيتها الصحيحة للأشياء، ونبَّه إلى تأثير غطرسة القوة الأمريكية على سلوك أمريكا تجاه الشعوب الأخرى.

“كونوا ثابتين في محاربة الانقلاب، أقول ذلك لكلّ القوات المسلحة البوليفارية: وحدة قصوى، انضباط أقصى، تعاون أقصى، فليس من حق أحد أن يعطينا مهلاً.. وفنزويلا ليست مرتبطة بأوروبا”. هكذا خطب الرئيس الفنزويلي مادورو أمام العسكريين، وعلى خطى تشافيز يسير مردداً شعاراته وملتزماً بأفكاره، حيث قال بعد عملية الانقلاب “نحن الأغلبية ونحن شعب هوغو تشافيز”. وبحسب وزير دفاعه فلاديمير بادرينو فان الجيش يرفض إعلان غويدو نفسه رئيساً بالوكالة، وأن “الجيش لن يقبل برئيس فُرض في ظل مصالح غامضة، أو أعلن نفسه ذاتياً بشكل غير قانوني، وسيدافع عن دستور البلاد وهو ضامن للسيادة الوطنية”.

الواقع أن الاستقطاب الدولي بـ”شرعية” غوايدو وتهديد واشنطن بالتدخل العسكري عملت عليه الولايات المتحدة طويلاً لكن بطريقة غير احترافية. ولا يبدو أن التصعيد الأميركي وصل الى ذروته مع كراكاس، هكذا توحي التصريحات المتتالية للمسؤولين الأميركيين، فلم تنته بعد فصول المحاولات الأميركية الكثيرة لإزاحة الرئيس مادورو، حيث تسعى جاهدة لانهاء آخر حلقات الحرب على الثورة البوليفية للاعتراف بزعيم المعارضة رئيساً شرعياً بغية استكمال العودة إلى حديقتها الخلفية في أميركا اللاتنينية.

هنا وجب على الإدارة السياسية الفنزويلية مراجعة كاملة للعلاقات مع الولايات المتحدة بطلب من مادورو بهدف اتِّخاذ الإجراءات السياسية المناسبة. سريعاً تطور المشهد ليعلن مادورو الذي يحظى بدعم الجيش ووزير الدفاع لقطع بلاده علاقاتها الدبلوماسية مع الولايات المتحدة، ويمهل الدبلوماسيين الأميركيين 72 ساعة لمغادرة البلاد. وإن سبق اتفاق لوزير الخارجية بومبيو مع الرئيس الكولومبي إيفان دوكيه لفرض عُزلة دبلوماسية على فنزويلا. ليؤكد الأخير أن “كل الدول التي تدافع عن الديمقراطية يجب أن تتحد لرفض الديكتاتورية الفنزويلية، ولفعل ما بوسعنا لإعادة النظام الديمقراطي الدستوري”. هذا المشروع تحدث عنه سابقاً مستشار الأمن القومي جون بولتون، وأشار إليه نائب الرئيس مايك بنس الذي حدد سابقاً محور “الدول المارقة” الخمس، ومنها فنزويلا.

نعم لم يأتِ بومبيو مع مبوثه إبرمز وبولتون بجديد عما حاول القيام به سلفه جيمس ماتيس في إعداد محاولة انقلاب تحت إشراف مستشاره السابق للأمن القومي إتش آر ماكماستر في تعطيل الحوار بين مادورو والمعارضة، وفي تجنيد العصابات الكولومبية التي أعلنت مسؤوليتها عن محاولة اغتيال مادورو باسم “الحركة الوطنية لجنود القمصان” بمساعدة أثنين من الجنرالات في آب/ أغسطس الماضي.

الخارجية الروسية سريعاً جاءت على الخط، فحذرت الولايات المتحدة من أي تدخل عسكري في فنزويلا منبهة إلى أن ذلك قد يتحوّل إلى سيناريو كارثي. وجاء الحديث على “إن روسيا ستقف إلى جانب فنزويلا ولن تسمح بالتدخل في شؤونها الداخلية، فسلوك الولايات المتحدة هو مسار يؤدّي إلى غياب القانون وحصولِ حمَّام دماء، وستواصل تعاونها الاقتصادي مع فنزويلا على مختلف الصعد”. وهنا يحشد مايك بومبيو حلفاء أميركا اللاتينية، ويسعى لاستكماله بالضغط على الدول الأوروبية التي تقف في الصف خلفه للانقلاب على مادورو، لكنه يجمح أكثر من ذلك في دعوة دول العالم إلى دعم الحرية وحماية الشعب الفنزويلي كما قال أو الوقوف مع إيران وكوبا وروسيا والصين.

قد تراهن أمريكا على انقسام الجيش في فنزويلا وانحيازه للانقلاب، والجيش يرد عبّر وزير الدفاع فلاديمير بادرينو باستعداده الدفاع عن فنزويلا ضد التدخل الخارجي وحماية السيادة الوطنية، والمقاومة الشعبية المسلّحة ضد العدوان التي أعلن عنها مادورو لصد محاولات الإنقلابيين في الداخل والخارج. ويظهر مادورو على التلفزيون وهو يستعد لقيادة مناورات في قاعدة فورت باراماكاي.

الواقع على الأرض أنه على الصعيد العسكري لا تتوفر القدرة الأميركية مع حلفائها على الغزو وإسقاط النظام في ظل تعاون الجيش الفنزويلي مع كوبا وروسيا. وعلى الصعيد الاقتصادي من الممكن تفكيك الأزمة الاقتصادية بالتعاون والمقايضة مع الدول الساعية لتسجيل فشل آخر في سجل الإدارة الأميركية التي تتخبط بأزمات الفشل في سياساتها الخارجية حتى فوق خناقها في داخل أميركا.

لا يخفى أن السلطات الشرعية في كاراكاس لا تزال تحظى بدعم الكثير من البلدان والدول المؤثرة، إضافة لروسيا التي طالبت بـ”وضع حد لتدخل مشين وغير مخفي في شؤون دولة تتمتع بالسيادة”. كذلك الصين وتركيا وكوبا ونيكاراغوا والمكسيك وفلسطين والعديد. وأعرب رئيس حزب “فرنسا المتمردة” (يسار) جان-لوك ميلانشون أيضاً عن أمله بـ”صمود” مادورو.

هو التخبط السياسي الأميركي، ومسارعة الإدارة لتسليط الضوء على أزمة مفتعلة مع فنزويلا علّ التسبب بحرب أهلية دموية يتسيّد جدول الأعمال ويفرض واقعاً جديداً يراد منه تعزيز التحشيد الداخلي خلف السياسة الكونية الأميركية. في سياق تلك السياسة “الكيدية” تلوح محطات المخططات الأميركية الخاصة بفنزويلا لارتباطها الوثيق في صلب سياسة الهيمنة الأميركية، عززها صعود بارز للتيارات اليمينية في عدد من دول أميركا اللاتينية، أبرزها البرازيل.

في الساعات الباكرة من يوم 22 كانون الثاني/ يناير، استدعى البيت الأبيض ثلاثة أعضاء متشددين من الكونغرس: ماركو روبيو، ريك سكوت، ماريو دياز- بالارت، للقاء عاجل مع الرئيس دونالد ترامب ونائبه مايك بينس، ومسؤولين آخرين أبرزهم وزراء الخارجية والتجارة والخزانة. تم تكليف نائب الرئيس بينس باجراء مكالمة هاتفية مع “زعيم المعارضة خوان غوايدو”، ورد فيها، وفق التسريبات الصحفية، ان الأول أبلغه “.. إن اعتمدت الجمعية الوطنية المادة 233 (من الدستور) في اليوم التالي، فإن الرئيس (ترامب) سيعلن دعمه له” وتنصيبه رئيساً للبلاد.

في الخلفية أيضاً كانت مراهنة أميركية على تهيئة الأجواء لانتشقاقات في صفوف القوات العسكرية والأمنية، بيد أن وعي القيادات السياسية والعسكرية أجهض تلك المهمة قبل أن تبدأ، وبالتالي ما كان سيترتب عليها لاقى النتيجة عينها. فالرئيس ترامب يشعر بالحاجة إلى دور معنوي في خارج الولايات المتحدة لتعزيز نفوذه بأنه يتحكّم بالأزمة الداخلية التي لم تسفر عن أي من الاعتقالات والاتهامات الموجهة لمقربين من الرئيس ترامب وحملته الانتخابية عن تقديم دلائل مقنعة أو محتملة تعزز التهمة الأصلية: تورط الرئيس مع روسيا خلال الحملة الانتخابية. وفيما يخص روجر ستون ينطوي على “تضخيم” مزاعم باتصالاته السابقة مع مؤسس “ويكي ليكس”، جوليان اسانج، وفي الخلفية ما نسب للمستشار الاستراتيجي السابق لترامب، ستيف بانون، من دور بارز في تجيير مضمون المراسلات الالكترونية للمرشحة الرئاسية السابقة، هيلاري كلينتون، في خدمة حملة ترامب الرئاسية. بدلاً من التصدي للسياسات المدمرة للمؤسسة الحاكمة وترميم بعض تداعياتها الضارة برفاهية الشعب الأميركي رمت بيلوسي بكل ثقلها إلى جانب محاولات صرف الأنظار عن القضايا والتحديات الحقيقية، مما يعزز الرأي بانفصام المؤسسة الحاكمة وعمق أزماتها الداخلية التي تحرص على حلها بتصدير تداعياتها خارج الحدود.

في النهاية يبقى أن العقيدة العسكرية للقوات المسلحة الفنزويلية تستند إلى السياسة التي وضعها “شافيز”، وتقول “إن واجب الجيش الوطني أن يكون وطنياً، وشعبياً، ومعادياً للإمبريالية”. وهو الجيش الذي احتل بحسب موقع “غلوبال فاير باور”، في عام 2018، الرتبة الـ(46) في تصنيف جيوش العالم من بين (136) دولة. الحقيقة أن الكثير من الأحداث التي جرت في فنزويلا، جاءت بإلهام من الأميركيين. ويبقى حقاً أنها أحداث أسقطت أوراق التوت التي تسترت كثيراً على الإمبريالية الأمريكية. فمتى تتوقف هذه الفاشية الانقلابية الأمريكية؟.

 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button