دراسات شرق أوسطيةدراسات قانونية

قانون الأملاك الوطنية الجزائري بين ضرورات التطور وحقيقة التعثر

إذا كان القانون الإداري قد كشف رغم تبعثر نصوصه ومنظومته القانونية عن وجود قوانين لصيقة به من قبيل قانون الحريات الأساسية أو علم الإدارة، فإننا نتوقع أن هذا القانون نفسه هو الذي سيبعث مرة أخرى من رحمه قانونا يخص الأموال العامة أسوة بما ذهب إليه الفقيه ريفييرو في إخراج قانون الحريات العامة من المنظومة الإدارية التي كان يندس في ضوئها مثله كمثل موضوع الضبط الإداري.1

وإذا كان موضوع الأموال العامة موضوعا نجد نصوصه مبعثرة بين أحكام الدساتير والشريعة العامة، فإن هذا لم يمنع المشرعين في نطاق القانون المقارن من أن يفردوا له في نطاق التشريع العادي نصوصا تراوحت تسميتها بين معنى قانون الملكية العمومية أو قانون الأملاك الوطنية أو قانون الدومين العام. وسواءا علينا اعتمدنا هذه التسمية أو تلك في التعبير عن وجود تشريع ينظم علاقة الدولة المركزية وجماعاتها الإقليمية بإدارة أملاك المجموعة الوطنية،فإن الثابت أن تشريعا واحدا في حد ذاته لن يكون المساحة المجزية التي تتربع فيها مثل هذه المنظومة القانونية إبتداءا وإنتهاءا على كل ما له صلة بموضوع الأملاك العامة، بدليل كما بيناه سلفا أن للدستور كلمته وللقانون المدني كلمته وللتشريع المالي والتشريع القطاعي الذي نقصد به التشريع المتخصص في مجال حماية الثروات الطبيعية كتشريع الغابات والمياه والثروات المنجمية هو الآخر كلمته.بل إن الأستاذة زروقي ليلى2

قد أحصت ما لا يقل عن 15 موضعا تطرق فيها المشرع الجزائري إلى موضوعات الأموال العامة بشكل متفرق تراوح ما بين التشريع العادي من قبيل قانون التوجيه العقاري وقوانين المالية لسنوات متعاقبة،وكذا قانون البلدية والولاية فضلا عن طائفة معتبرة من المراسيم ذات الطابع التنظيمي، على أننا نحسب أنه من المناسب التأكيد على أن ذكر الأستاذة ليلي زروقي للقائمة التي تشكل ترسانة التشريع الأموال العامة، إنما هو ذكر قصد التعداد عل سبيل المثال لا الحصر ومهما يكن من أمر فما هو المفهوم الذي ينبغي أن يعلق بأذهاننا عندما نتحدث عن الأموال العامة بالجزائر وما هو تاريخ تقنين هذه الأموال وأهم الموضوعات التي تلتصق بدراسة قضايا الأموال العامة؟

للإجابة عن كل هذه الأسئلة وغيرها تقترح الدراسة الحالية الخطة التالية وذلك باعتماد منهج تحليل النصوص والمنهج التاريخي على حد سواء.

وقبل هذا وذاك، فإن دراستنا هذه تروم البحث في إشكالية اختلط فيها الشق الدستوري بالسياسي وانعكاس كل ذلك على المظهر القانوني ومن هنا فإن هذه الدراسة تتسائل فيما إذا كان المشرع الجزائري قد وفق وهو يجنح إلى تطوير قانون الأملاك الوطنية إلى التجاوب مع مقاصده السياسية التي لا ريب أنها عرفت منعرجات ومنعطفات انقلابية كرسها التحول من الاشتراكية إلى نظام الاقتصاد الحر.كما أن هذه الإشكالية تريد أن تضع يدها عند مواطن التعثر التي انتابت مسعى التحولات القانونية التي مست مجال الأموال العامة لا سيما ما اتصل منها بالأملاك الوطنية.

المبحث الأول: الجانب المفاهيمي لمسألة الأموال العامة:

توطئة: لقد دار جدل كبير حول مفهوم الملكية الذي لا شك أن موضوع الأموال العامة ينطلق في أية مناقشة منها منذ تواريخ تعود إلى ما قبل النهضة بأوروبا.ولما كان موضوع الملكية العمومية أساسا مستمد لدرجة الارتباط الوثيق من معنى الحاكم والمحكوم في أوروبا، فلا عجب إذن من أن نشهد ارتباطا بين معنى الملكية العامة وفكرة الإمبراطور الحاكم في روما مرورا بفكرة هذا الحاكم الذي تقلص جزئيا نفوذه في أوروبا، وهو ما صار يسمى ملكا بعد أن تقاسم مع الكنيسة معاني السلطة وإنتهاءا بالنظام الجمهوري الذي تراجع فيه معنى السلطة والسيادة الذي كان شديد الاتساع في النظامين الإمبراطوري الروماني والملكي بأوروبا لا سيما منها فرنسا على وجه التحديد، وسعيا للوقوف من طرف الفقهاء على معنى الملكية العامة فإن بعضهم قد أنكر وصف العمومية على مصطلح الملكية، واعتبر أن ما لله لله وما لقيصر لقيصر،في حين أن جانبا آخر في الفقه قد جعل يصف السلطة اللصيقة بفكرة السلطة العمومية بأنها سلطة تشبه الوديعة المتروكة للحاكم أسوة وتأثرا بفلسفة العقد الاجتماعي، بينما جاء فريق ثالث أيام اندلاع الثورة الفرنسية وربط فكرة الملكية العمومية بمصطلح حراسة الإدارة لأملاك المواطنين المنقولة والعقارية على أساس أن الدومين العام تراث مشترك لجميع مواطني الدولة كما أشار إلى ذلك أول قانون للدومين العام الصادر سنة 1790 3 غير أن الجدل المذكور لم تنطفئ جذوته مع دخول فرنسا في نقاش يحضر لسن القانون المدني للقرن 19 أين بدأ التفريق يجد مناطه بين معنى الملكية العامة والملكية الخاصة التابعة للدولة، إذ تمت الإشارة إلى ذلك في المواد 538،540،541 من القانون المدني الفرنسي.

وأمام هذا الجدل تعين علينا أن نقف من خلال هذا المبحث قبل التطرق لمسالة الأموال العامة من حيث خصائصها ومعاييرها، قبل هذا تعين علينا أن نناقش موضوع الملكية بشكلها النظري بإعتبار الأموال العامة شديدة الالتصاق كمسألة، بقضية التملك بغض النظر عن ما إذا كن الشخص طبيعيا أو معنويا عاما أو خاصا وذلك من خلال المطلبين التاليين:

المطلب الأول: الملكية بوجه عام.

تقول المادة 1048 من التقنين المدني العراقي:الملك التام من شأنه أن يتصرف به المالك تصرفا مطلقا فيما يملكه،عينا ومنفعة واستغلالا،فينتفع بالعين المملوكة وبغلتها وثمارها ونتاجها ويتصرف في عينها بجميع التصرفات الجائزة.4

إن لهذه المادة نظائر في التشريعات العربية تمثل المادة 802 قانون مدني مصري والمادة11 من قانون الملكية العقارية اللبناني والمادة 811 من القانون المدني الليبي،والمادة 768 من القانون المدني السوري،نماذج عنها في التشريع العربي، غير أن الفقيه عبد الرزاق احمد السنهوري يقدر بأن مفهوم الملكية هذا لم يعد مطلقا بعد أن تحول مدلوله إلى وظيفة اجتماعية خاصة بعد طلوع فجر الفلسفة الاشتراكية. ويضيف الفقيه المذكور أن معنى الملكية هذا حتى يحظى بالحماية الضرورية يتعين أن لا يحيد ولا يتعارض مفهومه عندما يتصل بالمعنى الخاص للملكية مع مغزى المصلحة الجماعية، إذ الغلبة عند هذا المستوى ستكون بالقطع لمفهوم المصلحة الجماعية.كما أن النتيجة الثانية التي ينبه إليها الفقه بخصوص الملكية الخاصة هو الاعتداد تاريخيا بأي الملكتين الخاصتين أسبق؟ وفي هذا المستوى من البحث يرجح الفقه أسبقية التاريخ كمعيار على أنه يمكن صاحب الملكية الخاصة من التعويض المرتجى بعد أن ترفع يده عن ملكيته لأسبقية حصول سلفه عليها.وغني عن البيان أن مثل هذه النتيجة لا يمكن أن تنئ عن فلسفة حسن النية التي يتحتم وجوبا توافرها عند تصادم ملكيتين خاصتين. ومما لا شك فيه أن الملكية باعتبارها الإطار الفكري الذي تناقش فيه الأموال العامة فإنها تستحق الوقوف عندها قبل التسلل لمناقشة موضوع الأموال العامة إلى موقف المشرع الجزائري من هذه القضية وهذا ما سنحاول أن نعرض له في الفرع الموالي.

الفرع الأول: موقف المشرع الجزائري من مسألة الملكية.

لقد أورد المشرع الجزائري في الكتاب الثالث تحت عنوان الحقوق العينية الأصلية،في بابه الأول المعنون بحق الملكية وفصله الأول حق الملكية بوجه عام وفي القسم الأول نطاقه ووسائل حمايته،اعتبارا من المادة 674 إشارة إلى موضوع الملكية أين تم ربط المسألة بحق التمتع والتصرف المنصب على الأشياء المملوكة شريطة أن لا يكون ذلك متعارضا مع القوانين الجاري بها العمل.وقضية إخراج حق التمتع والتصرف من معاني الإطلاق وإدراجها تحت طائلة النسبية تجد مناطها في إحالة المواد 677 و679 و681 إلى آليات تدخل الدولة، تارة تحت عنوان التأميم وتارة أخرى تحت عنوان نزع الملكية للمنفعة العامة وطورا تحت عنوان الاستيلاء. على أن المشرع الجزائري في كل الأحوال لم يقم بترك الباب مفتوحا أمام أي تعسف من شأن المالك أن يشعر به عندما بعث فيه شيئا من الطمأنينة بتمكينه من فكرة اللجوء إلى القضاء وتمكينه من المطالبة أمامه من التعويض المنصف والعادل. بل إن المشرع رغم صياغة هذه النصوص في شهر سبتمبر 1975 في ظل أجواء تفوح اشتراكية إلا أنه قد استثنى المحلات السكنية مثلا من أن تكون موضع استيلاء باستعمال القوة العمومية بناءا على قرارات يمكن أن يتخذها الوالي أو رئيس المجلس الشعبي البلدي.5 ولا شك أن المشرع الجزائري في حديثه عن فكرة الملكية عندما ربطها بآليات الحماية إنما يكون قد أخذ الجانب الوظيفي الاجتماعي الذي ينبغي أن تتسم به عملية أيلولة الملكية الخاصة للقطاع العام مغلبا بهذه المثابة المصلحة الجماعية على المصلحة الفردية في نطاق النقاش المتصل بمفهوم الملكية بوجه عام.

الفرع الثاني: علاقة حق الملكية بموضوع تقسيم الأشياء والأموال.

لقد اعتبر المشرع الجزائري أن الصلة وثيقة بين موضوع الملكية بوجه عام وتقسيم الأشياء إلى مادية وغير مادية كما فعل ذلك الفقيه السنهوري6 بعنونتها على تلك الشاكلة،غير أن المشرع الجزائري فضل في القسم الثاني من الكتاب الثالث من الباب الأول منه اعتبارا من نص المادة 682 أن يتطرق إلى موضوعات الأشياء والأموال وذلك بقوله:”كل شيء غير خارج عن التعامل بطبيعته أو بحكم القانون يصلح أن يكون محلا للحقوق المالية.

والأشياء التي تخرج عن التعامل بطبيعتها هي التي لا يستطيع أحد أن يستأثر بحيازتها وأما الخارجة بحكم القانون فهي التي يجيز القانون أن تكون محلا للحقوق المالية”.7

وسواءا علينا اتفقنا مع الصياغة الفنية التي جاء بها المشرع الجزائري أم سجلنا بشأنها بعض الملاحظات، فإن القانون المدني الجزائري قد جعل يخوض في موضوع الأشياء ويقسمها إلى منقولات وعقارات بالطبيعة وأخرى بالتخصيص وأشياء مثلية وأخرى سماها تحت العنوان الأكبر للأشياء أموالا عاما تناقض فيها قطعا دستوريا مع ما حاول تسييجه بها من قبيل إشارته إلى فكرة التسيير الذاتي والتعاونيات الاشتراكية ذات الصلة بالثورة الزراعية التي تم التراجع عنها منذ عقد السبعينيات من القرن الماضي قانونيا ثم ثبت ذلك دستوريا بموجب أحكام دستور 23 فبراير 1989، الشيء الذي يجعل نص المادة 688 متجاوزا تاريخيا سياسيا وقانونيا.

ومما لا شك فيه أن علاقة الأشياء بالأموال الثابتة من حيث أن الشيء يمكن صاحبه من قابلية التصرف فيه ويعطيه عليه سلطة يمكن أن تكون مباشرة في نطاق ما يعرف بالحقوق العينية أو غير مباشرة في نطاق ما يعرف بحقوق الدائنية.ولا عجب إذا وجدنا أن الأشياء متنوعة بحسب طبيعتها وقابليتها للتصرف وأخرى غير قابلة للتصرف الأمر الذي ينعكس على تصنيفها من حيث صلتها بالأموال إلى أشياء يمكن أن ترتب أموالا غير قانونية كما هو الشأن بالنسبة للحشيش والأفيون المحرم تداولها، على أن هذه الأشياء نفسها أو ما كان في حكمها كالأقراص المستعملة للتأثير العقلي يمكن أن تصبح أموالا عامة إذا ما رخص بها القانون لأسباب طبية أو تحت عناوين صيدلانية.والواقع أن الدراسة الحالية لا تنشد القيام بعملية مسح وجرد تحصر فيها كل معاني الأشياء والأموال لأن هذا ليس موضوع بحثها.غير أنها تعتقد أن المرور لموضوع الأموال العامة لا يمكن أن يكون مرورا من الناحية المنهجية سليما ما لم يتم التمهيد له بإلماح خاطف إلى موضوع الملكية بوجه عام وصلة هذه الأخيرة بمسألة الأموال منظورا إلى ذلك كله في ظل أحكام الشريعة العامة،فما هو إذن الإطار العام من الناحية المفاهمية لفكرة الأموال العامة؟هذا ما سنحاول الإجابة عليه من خلال المطلب الموالي.

المطلب الثاني: الإطار النظري لمسألة الأموال العامة.

لقد اختار المشرع الجزائري وهو يتطرق لموضوع الأموال العامة، أن يتبنى المسألة تحت مصطلح الأملاك الوطنية بدليل ما نص عليه القانون 90/30 الصادر يوم 01/12/19908.وسواءا على المشرع الجزائري أن يكون قد انفرد بهذه التسمية، أو حذا حذو بعض التشريعات المقارنة، فإن المستقر عليه هو أن موضوع الأموال العامة موضوع يجد مناطه في بنية القانون الإداري ويستلهم على غرار غيره مضامينه فضلا عن ذلك من التشريع والقضاء.ومما لا شك فيه أن قانون الأموال العامة قد عرف تطورا يعود فيه المشرع المغربي وهو يؤرخ له إلى سنة 1913 مع بداية الحقبة الاستعمارية الفرنسية للمملكة المغربية9 في حين أن الباحثين في القانون الجزائري يعودون بنا إلى بدايات الاستقلال الوطني لنصل معهم إلى آخر تعديل مس موضوع الأملاك الوطنية والذي صدر في جوان 2008 إنسجاما مع التعديل الأخير الصادر تحت القانون 14/08 المعدل والمتمم للقانون 90/30 10. وللوقوف على وضعية قانون الأملاك الوطنية لبلادنا فإننا نفرد الفرعيين التاليين.

الفرع الأول:تناول المشرع الجزائري لموضوع الأموال العامة.

يصل بعض الباحثين في مناقشة الأموال العامة بالجزائر إلى ما كان عليه الوضع حتى قبل دخول الاستعمار الفرنسي إذ يصفون الأوضاع وقتها بأنها كانت محكومة بتطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية إجمالا،على أن توزيع الأموال عند إذن لم يكن يخرج عن دائرة الأموال الزراعية في المناطق الريفية والأموال الحضرية في المدن أين تدور مسألة الأموال هته بين بعض الآلات الفلاحية المستعملة بالأرياف وأخرى صناعية تنتمي إلى عالم المدن حيث يوجد بعض الحرفيين وتنتشر بشكل محتشم بالكاد أعمال صناعية داخل ورش متواضعة.11 أما إبان العهد التركي فإن الأمر لم يتغير كثيرا من حيث اتسام نظرية الأموال العامة بالصبغة الإسلامية،غاية ما في الأمر أن رقعة هذه الأموال قد عرفت توسعا في نطاق المساحات الزراعية التي كان يشغل فيها العثمانيون المواطنين الجزائريين تحت عنوان أعمال الصخــرة فضلا عن إدراج المساجد أثناء فترات السلم وما تتحصل عليه الجيوش من غنائم أثناء فترات الحرب في قائمة أموال البيلك باعتبار مصطلح البيلك هو الذي كان يوازي الدولة إذا ما نحن اعتمدنا القاموس العثماني12 ،في حين أن النظام الاستعماري الفرنسي قد جعل يفيد بنية خبيثة حتى من الاجتهاد الإسلامي عملا على تنمية أموال السلطة الفرنسية على حساب الجزائريين أفرادا وقبائلا تطبيقا للقاعدة الفقهية القائلة أن الأرض للغازي.وهكذا ومن غير مفاجئة راح الفرنسيون يصدرون القانون تلو القانون معاقبة للأهالي مرة تحت عنوان المصادرة وأخرى تحت عنوان قانون الحراسة وطورا تحت عنوان التقادم المسقط بعد تغيب الجزائريين عن أراضيهم لمدة لا تزيد عن ثلاثة أشهر لوذا بأنفسهم من الأعمال الحربية والعدوانية التي قد يشنها الفرنسيون.وهكذا نمت المساحة المملوكة للسلطة الفرنسية لتصبح قبل سنة 1894 تحسب بملايين الهكتارات التي وزعها الفرنسيون إلى مساحات زراعية ورعوية ومساحات تخصص لإقامة المرافق العامة،على أن هذا التوزيع سرعان ما عرف منعرجا جديدا إذ أخذت السلطة الفرنسية تنشئ قرى للمعمرين الفرنسيين أو تبيع لهم أراض كانت في الأصل مملوكة للجزائريين في نطاق الملكية الجماعية للقبائل التي قلصتها في البدء إلى ملكية دواوير لتنتهي بها إلى ملكية فردية سرعان ما نزعت عنها صفة التصرف تاركة لبعض الجزائريين حق الحيازة والانتفاع لا غير.13 ومهما يكن من أمر فإنه من الثابت تاريخيا أن السلطات الاستعمارية بالنظر إلى بقاء الاستعمار الفرنسي طويلا بالجزائر لدرجة أن شاعت عبارة الجزائر فرنسية،فإن هذا الاستعمار قد أقام طرقا للمواصلات ربطت بين البلديات والولايات وجعلت تصل بين الداخل الجزائري ومناطق السواحل والشواطئ أين أنشئت موانئ وأقيمت بعض الدور والمرافق المهيأة بالأساس لراحة المعمرين.والواقع أن فكرة الأموال العامة ونواتها بالجزائر قد تأثرت بشكل أو بآخر بالوجود الاستعماري تشريعا توزيعا وتفكيرا.ذلك أن فرنسا الاستعمارية قد طبقت نظريات الأموال العامة المنتهى إليها في القرن 19 بدءا من التراب الجزائري منذ إقرار قانون 16/02/1851 المتعلق بالملكية العقارية وإنتهاءا بقانون 13/02/1943 الذي وزع الأموال العامة إلى أموال عمومية للدولة الفرنسة وأموال خاصة ليترك في مقام ثالث فصلا سماه بالأموال العامة للجزائريين.وعلى الرغم من التوجه الأناني للدولة الفرنسية في الاستفادة من الأموال العامة بعقلية انتقامية إبان ثورة التحرير إذ كثرت المنشآت العسكرية ومؤسسات التصنيع الحربي على حساب أعمال التأمين الاجتماعي والصحي والتعليمي نكاية في الجزائريين إلا أن هؤلاء الجزائريين أنفسهم لم يستطيعوا التخلص من المنظومة القانونية المتعلقة بمسألة الأموال العامة والمنتسبة فكريا ووجدانيا إلى الترسانة الفرنسية إلا يوم 05 جويلية 1973 أين أوقف العمل بقانون 31/12/1962 القاضي باستمرار تطبيق القانون الفرنسي ما لم يكن متعارضا مع مفهوم السيادة الوطنية بما في ذلك ما تعلق منه ببترول الصحراء الجزائرية الذي ذكـر في مـا ذكر بشأنـه سنـة 1965 أنه في صورة ما إذا حدث نـزاع بين الجزائر وفرنسا بخصـوص تسييره وإدارتـه فإنـه يتعين الرجوع فيه إلى القانون الإداري الفرنسي.14 وكيف ما كان الحال فإن الدولة الجزائرية بعد الاستقلال لم يكن بمقدورها التنصل من كل ماضي الشعب الجزائري دفعة واحدة على الرغم من أن نظام المبادئ الذي أقرته ثورتها كان قد اختار الاتجاه إلى الاشتراكية بدليل أنه ما أن انبلج فجر إستقلال البلد، حتى جعل النظام الحاكم في الجزائر يصدر القانون تلو القانون تغليبا لنظرية جماعية وسائل الإنتاج،وتمكينا للطبقات الكادحة من عمال وفلاحين مما يعتقد أنه كفيل بضمان إبعاد شبح استغلال الإنسان لأخيه الإنسان.وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى القوانين والمراسيم التي أممت مصانع التبغ ووسائل النقل البري ودور السينما والمصانع الكبرى للأدوية والمناجم المختلفة لينتهي الأمر بتأميم النفط.كما أن تتويج الاختيار الاشتراكي الذي يوسع رقعة الأموال العامة المعبر عنه منذ مؤتمر طرابلس قبل الاستقلال ومؤتمر الجزائر لعام 1964 المتعلق بحزب جبهة التحرير الوطني.إن هذا كله شهد تتويجه بظهور الميثاق الوطني ودستور سنة 1976 اللذين اعتبرا إلى وقت غير بعيد مرجعين مفصليين في سياسة الأموال العامة المكسوة برداء الاشتراكية بطريقة سافرة لدرجة أن ظن واضعو هاتين الوثيقتين أن هذا اختيار لا رجعة فيه15 .

الفرع الثاني: النظام القانوني للأموال العامة بالجزائر.

لقد كنا في الفرع السبق قد قمنا بجولة تاريخية رصدنا من خلالها الظروف المهيأة والمؤثرة على نمط التشريع في الجزائر في مواد الأموال العامة، والتي نخال أنها قد تركت بصماتها في وجدان الهيئتين التشريعية والقضائية ببلادنا، غير أن الفرع الحالي الذي ينشد بالأساس جرد عناصر المنظومة القانونية الخاصة بالأموال العامة بالجزائر، سيحاول أن يجد مواطن تماس ويتحسس مواضع نفور إن وجدت بين مشكلات النظام القانوني الجزائري لمسألة الأموال العامة منذ عقد الثمانينات من القرن الماضي،فكيف كان ذلك كذلك؟

أولا:إن أول قانون يستحق تسمية قانون الأموال العامة في الجزائر هو ذلك القانون الذي صدر يوم 30جوان 1984 تحت رقم 16/84 المتعلق بالأملاك الوطنية والذي يشتمل على فصل تمهيدي وثلاثة أجزاء وتتكون في مجموعها من 142 مادة،واستهدف التشريع الجديد القضاء على التناقضات التشريعية التي أثارت الكثير من الجدل الفقهي ومحاولة سد الثغرات التي أوجدها حكم واقع اشتراكي للأموال العامة بمقتضى قانون يأخذ بالنظرية التقليدية.وبصدور القانون الجديد يصبح هو المرجع الأساسي للأحكام القانونية لأملاك الدولة إلى جوار ما يحيل إليه من تشريعات أخرى منظمة لجوانب خاصة من أحكام الأموال العامة ،فنجد المادة الأولى من القانون تحيل في إشارتها إلى تكوين الأملاك الوطنية إلى كل من الميثاق الوطني ودستور 1976 والتشريع الجاري العمل به.والمادة 13 تخضع توزيع وتسيير الأملاك الوطنية لمبادئ القوانين الخاصة بتخصيصها وتطبيقها.كما أن المادة 140 من القانون تأخذ في الحسبان الأحكام المنصوص عليها في نصوص أخرى ذات طابع تشريعي إلى جوارها ما أورده القانون ذاته من قواعد وذلك في مجال كفالة تدبير التسيير أو التصرف في ممتلكات وملحقات الأملاك الوطنية،وأخيرا فإن المادة 141 من القانون تنص على إلغاء جميع الأحكام المخالفة لهذا القانون.16 ومما لا شك أن مثل هذا النص كان ينبغي له أن يتغير بالنظر إلى التوجه المعبر عنه بعد سن الجزائر لدستور 23 فبراير 1989 الذي يختلف في توجهاته السياسية عن دستور1976 فحصل ذلك في نهاية سنة 1990.

ثانيا:صدور قانون الأملاك الوطنية الحامل رقم 90/30 بتاريخ 01/12/1990 مثل ترجمة عملية واستجابة لمقتضيات التحول الدستوري الذي عاد بالجزائر إلى تطبيق النظرية التقليدية فاسحا المجال بشكل أرحب إلى نظام الملكية الفردية.ومع ذلك فإن قانون 90/30 من حيث الشكل جاء أشبه بالقانون 84/16 لا من حيث الاحتفاظ بنفس العنوان، ولا من حيث التبويب، إذ هو الآخر تضمن فصلا تمهيديا وثلاثة أجزاء توزعت بين 140مادة.وقف من خلالها المشرع على مختلف مضامين الأموال العامة من حيث تعريفها وتوزعها بين أموال عامة وأخرى خاصة للدولة، كما أنه تطرق إلى مكوناتها وكيفية تسييرها وجردها ورقابة إدارتها متحدثا في الآن نفسه عن الأموال الشاغرة والحطام والكنوز والأموال الغابية فضلا عن الإشارة إلى العقارات والمنقولات وكيفية الانتفاع منها دون إغفال وسائل حماية الأموال العامة مع تسييج هذا القانون بسياج من الأحكام الجزائية ردعا من المشرع لكل متجاوز ومخترق لهذه النصوص.ففي مجال تعريف الأملاك الوطنية أوردت المادة الأولى من هذا القانون ما منطوقه:”يحدد هذا القانون مكونات الأملاك الوطنية وكذا القواعد الخاصة بتكوينها وتسييرها ومراقبة إستعمالها”.بينما ذكرت المادة الثانية من ذات القانون ما يفيد:”عملا بالمادتين 17 و18 من الدستور،تشتمل الأملاك الوطنية على مجموع الأملاك والحقوق المنقولة والعقارية التي تحوزها الدولة وجماعتها الإقليمية في شكل ملكية عمومية أو خاصة وتتكون هذه الأملاك الوطنية من:-الأملاك العمومية والخاصة التابعة للدولة- الأملاك العمومية والخاصة التابعة للولاية- الأملاك العمومية والخاصة التابعة للبلدية.17 ومن اللافت أن المشرع الجزائري بالقانون 14/08 المعدل والمتمم لقانون الأملاك الوطنية قد صور لنفسه أنه يعدل نص المادة الثانية، إلا أن الذي فعله، لم يزد كله عن حذف العبارة التي أحالت بها المادة الثانية من القانون 90/30 إلى نص المادتين 17 و18 من الدستور، الشيء الذي جعلنا نعتقد أن سعي المشرع للتنصل من الضوابط الدستورية من شأنه أن يهيأ ذهن القارئ إلى تقبل النص المعدل والمتمم للقانون 90/30 على أساس النص المنسجم بشكل ضمني مع الملامح الدستورية ذات الصلة بالأموال العامة.ونحسب أن التعديل الذي كان ينبغي أن يأتي به المشرع ربما كان الأصح فيه أن يتعلق الأمر بفكرة المجموعة الوطنية التي أوردها الدستور وهو يتحدث عن ملكية المال العام.

كما أننا نحسب أن الفصل دستوريا بين المال التابع للدولة والمال العام التابع للولاية أو البلدية يستحق مزيدا من الإنارة والإضاءة حسما لكل شك من شأنه أن يدور بخصوص مدى تمثيلية الدولة من قبل البلدية والولاية على الأقل في باب الأموال العامة.أما نص المادة 12من القانون 90/30 فقد جاءت صياغته على النحو التالي:”تتكون الأملاك الوطنية العمومية من الحقوق والأملاك المنقولة والعقارية التي يستعملها الجميع والموضوعة تحت تصرف الجمهور المستعمل إما مباشرة وإما بواسطة مرفق عام شريطة أو تكيف في هذه الحالة،بحكم طبيعتها أن تهيئتها الخاصة تكييفا مطلقا أو أساسيا مع الهدف الخاص بهذا المرفق وكذا الأملاك التي تعتبر من قبيل الملكية العمومية بمفهوم المادة 17 من الدستور.لا يمكن أن تكون الأملاك الوطنية العمومية موضوع تمليك خاص أو موضوع حقوق تمليكية.

في حين أن نص المادة 80 من نفس القانون وهو يشرح الأموال العامة الخاصة بالدولة فإنه يقول:”تخضع الأملاك الوطنية الخاصة التابعة والجماعات الإقليمية المحددة في المواد 17 إلى 20 أعلاه من حيث تسييرها واستعمالها والتصرف فيها في وقت واحد لما يأتي:

– للقواعد الساري مفعولها على تنظيم وتسيير الجماعات والمصالح،والهيئات المالكة أو الحائزة.

– للقوانين والتنظيمات التي توجه أو تخصص هذه الأملاك لأهداف وأغراض التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وكذلك التشريع الخاص بهذا الشأن.

– للقوانين المتعلقة بعلاقات القانون الخاص التي تلزم الدولة أو الجماعات الإقليمية في هذا المجال.

– لأحكام هذا القانون.18

وبصرف النظر عن موفقية المشرع من حيث الصياغة الفنية لهذا النص من عدمه، فإن الذي يمكن أن نقرره على سبيل اليقين هو أن المشرع الجزائري قد وزع نظام الأملاك الوطنية ما بين أملاك عمومة تابعة للدولة وأخرى سماها أموالا خاصة هي الأخرى جعلها من مشمولات أموال الدولة.وضبط ذلك كله من حيث تسيير هذه الأموال ومراقبتها بجملة من الضوابط تراوحت ما بين الطابع الخدماتي والحاجة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية المعبر عنها إما وطنيا وإما إقليميا، مما جعل الإدعاء بالسيطرة على كل مفاتيح قانون الأموال العامة بالجزائر إدعاءا مبالغا فيه طالما أن هذه القوانين من شأنها التوزع والتنوع بين مختلف نصوص المنظومة التشريعية ببلادنا.

المبحث الثاني: معيارية تصنيف الأموال العامة وضوابط حمايتها.

لا شك أن الجدل بخصوص وضع معايير لمسألة الأموال العامة قد دار طويلا بين فقهاء القانون، وجعل هؤلاء يتوزعون ما بين مناد بازدواجية هذه المعايير ومناصر لثلاثيتها،في حين أن موضوع حماية الأموال العامة قد عرف إلى حد ما شبه توافقية في توزيع مواطن هذه الحماية وضبط آلياتها ضبطا يكاد يدعوا إل الشعور بأن ثمة إجماعا حول ضرورة اعتبار الحماية للمال العام مسألة أرفع من أن تكون مختلفا بشأنها.فما هي معايير تصنيف الأموال العامة وضوابط حمايتها؟هذا ما يحاول المطلبان المواليان الإجابة عنه.

المطلب الأول: معايير تصنيف الأموال العامة.

لقد سبق أن ذكرنا أن معايير التصنيف للأموال العامة تراوحت ما بين قائل بازدواجيتها وداع إلى ثلاثيتها، فما هي هذه المعايير ثم ما موقف المشرع الجزائري منها؟

الفرع الأول:معايير التصنيف.

لقد قرر الدكتور طاهر رحماني في محاضرات غير منشورة حول قانون الأموال العامة بالجزائر أن الحديث عن معيارية هذه الأموال يندرج تحت وصف المعايير الإيجابية أو السلبية أو وصف المعايير التقليدية في مقابل المعايير الجديدة.19 وكيف ما كان الوصف فإن معيار عدم قابلية المال العام للتجزئة والتملك ومعيار استعمال الجمهور لهذا المال يعدان برأينا أداتين تبرزان بشكل واضح وجلي المؤشرات الواجب توافرها في أي مال عام.فالقول بفكرة استعمال المال العام من قبل الجماهير يقتضي حتى بالرجوع إلى منطق المادة 12 من القانون 90/30 توافر فلسفة المنفعة العامة المعبر عنها عن طريق إيجاد مرافق عامة تقوم بإعداد وتهيئة المال العام حتى يصبح الانتفاع به متاحا لاستعمال الجمهور شريطة أن يكون المال المراد استعماله قابلا بطبيعته لاستعمال الجمهور إما مهيأ وإما غير مهيئا تبعا لنشاط المرفق العمومي المكلف بتقديم هذه الخدمة أو تلك للجمهور،كما هو الشأن مثلا بالنسبة لاستغلال سوق مغطاة التي تقوم مصالح البلدية بتهيئتها، أو استعمال حق التجوال في غابة جاهزة بطبيعتها للاستغلال في مجال التجوال.هذا ويأخذ الدكتور طاهر رحماني على مشرعنا عند تعريفه للأموال العامة ارتكانه إلى النص القانوني الفني الذي لا يستند إلى السوابق القضائية على خلاف ما فعل نظيره الفرنسي، في حين أننا نقدر أن المشرع الجزائري لم يزد عن الاستفادة من التشريع المقارن عندما توخى سن قانون الأملاك الوطنية،كما أن الجزائر وقت سن هذا القانون لم يكن رصيدها في باب الاجتهاد القضائي قد استوفى ما استوفاه الاجتهاد الذي توصل إليه مجلس الدولة بفرنسا باعتباره مرفقا مرجعيا في المواد الإدارية إجمالا منذ القرن ال19 بما في ذلك ما اتصل بقانون الأموال العامة.

شرحا من جانبها لمعيار عدم قابلية المال العام للتملك،أوردت الأستاذة ليلى زروقي أن المسالة ينظر إليها من زاوية الوظائف الموكلة للمرفق العام من حيث كونها مرافق مرشحة ما لم يرفع عنها التخصيص للقيام بمهام اقتصادية واجتماعية الشيء الذي يتيح للمتمعن أن يقرر بأن مبدأ عدم قابلية المال العام للتملك لا يعد مبدءا مطلقا طالما أن فرضية رفع التخصيص تظل تطارد نعت وصفة العمومية والجماهيرية عليه.20 والذي نستطيع أن نخلص به في مجال الحديث عن معايير تحديد الأموال العامة وتصنيفها،هو عدم استقرار الكتاب على تصنيفات محددة ينعقد من حولها الإجماع بدليل أن البعض يتحدث عن معيار الأموال العمومية الطبيعية في مقابل معيار الأموال العمومية الصناعية، في حين أن آخرين يتحدثون عن الاستعمال الجماهيري الواسع الذي تؤطره المرافق العامة القابلة للاستعمال الجماهيري للأموال العامة بطبيعتها وحسب. في نهاية هذا الفرع يحسن بنا أن نقرر أن تعدد التصنيفات هذا لا ينقص كيف ما كان الحال من الطبيعة الأساسية والجوهرية التي تتميز بها فكرة الجماعية في المال العام والمنفعة العمومية والبعد عن الاستئثار الفردي الذي تمنعه القوانين بما في ذلك دستور البلد.

الفرع الثاني: خصائص الأموال العامة.

لقد نصت المادة 689 من القانون المدني الجزائري على ما يلي:” لا يجوز التصرف في أموال الدولة، أو حجزها، أو تملكها بالتقادم غير أن القوانين التي تخصص هذه الأموال لإحدى المؤسسات المشار إليها في المادة 688،تحدد شروط إدارتها، وعند الاقتضاء شروط عدم التصرف فيها.21

وبرجوعنا إلى النص المذكور نلاحظ أنه يقرر ثلاثة مبادئ تتلخص في عدم جواز التصرف في المال العام والحجز عليه وتملكه بالتقادم في شكل قواعد أساسية يمكن النكول عنها إذا ما حصل نص على ذلك من خلال القوانين المتعلقة بالمؤسسات والقطاعات المنوه بها في نص المادة 688ق م .وعلى الرغم من أن هذه المبادئ قد قبلت الاستثناء عنها بإحالتنا إلى نص المادة 688 ق م إلا أن الذي حصل هو أن هذا النص لم يعد دستوريا من جهة كون دستور 23 فبراير 1989 قد ألغى الانعطاف نحو الاشتراكية.بل إن هذا النص حتى عندما ولد لم يكن دستوريا لأنه نص بعثت فيه الروح يوم 26/09/1975 وقت أن كان العمل بدستور 1963 موقوفا بعد انقلاب 19/06/1965 وقبل سن دستور 22/11/1976 المتعلق بميثاق الجزائر لعام 1976.إن هذه الملاحظات جميعا تجعلنا ندعو المشرع الجزائري إلى الإسراع في ضبط الأمور المتعلقة بموضوع الأموال العامة منظورا إليها في ضوء القانون المدني طبقا لنص المادة 688منه.هذا وإننا نلاحظ أن المشرع الجزائري قد أعاد في آخر تعديل خص الأملاك الوطنية في القانون 14/08 الإشارة المجتزئة إلى الخصائص الواردة في نص المادة 689 ق م الأمر الذي دعانا إلى التساؤل عند عدم وجود تطابق عن جدوى الإشارة في نص المادة 4 من القانون 14/08 المعدلة للقانون 90/30 بشيء من التحريف.؟

فهل بعد حصول التعديل المذكور يعد القاضي الجزائري محقا إذا استغنى عن تطبيق نص القانون المدني في ظل وجود نص خاص تطبيقا لقاعدة الخاص يقيد العام؟ أم أن مسألة العودة للقانون المدني تظل متعلقة فقط بعدم جواز تملك الأموال العامة بالتقادم طالما أن تعديل القانون 14/08 وضع جانبا الحديث عن خاصية عدم جواز التقادم؟.

إن الملاحظات التي أوردناها جميعا تستحق أن تدعم بقولنا إن المشرع الجزائري في آخر تعديل يخص الأملاك الوطنية يكون قد نحا منحى القانون والقضاء الإداري في فرنسا، بدليل أن ما سميناه بالخصائص الثلاث اعتبره بعض الكتاب الفرنسيين معايير تخلع على الأموال العامة بوصفها بأنها غير قابلة للتصرف فيها وغير قابلة للحجز عليها22 من دون أن يمتد الأمر لتناول مسألة عدم جواز التملك بالتقادم.

المطلب الثاني: حماية الأموال العامة.

لقد دأب الكتاب في الحديث عن حماية الأموال العامة على الإشارة إلى ضرورة تقسيم هذه الحماية إلى حماية ضد تصرفات الأفراد وأخرى ضد تصرفات الإدارة.ففي ما يتعلق بالحماية ذات الصلة بتصرفات الإدارة يمكننا بداية أن نفسر التزام الإدارة بضرورة صيانة المال العام والمحافظة عليه باعتباره شكلا من أشكال هذه الحماية كتجديد الطرق وترميم مقرات المرافق العامة دوريا تحت طائلة محاسبة المسيرين والإداريين الموكول إليهم مثل هذا العمل كما أن معنى حماية المال العام من تصرفات الإدارة يمتد ليمنع على هذه الأخيرة إجراء البيوع أو الرهون أو عقد الإيجارات تحت طائلة اعتبار هذا النوع من التعاقد باطلا لا يحمى فيه حتى المتعاقد مع الإدارة عن حسن نية لأن الإخلال بهذا النوع من الالتزام إنما هو مس بقواعد النظام العام.كما أن معنى الحماية المطلوب ضمانها من الإدارة يجعل المال العام غير قابل لأن يملك في مواد المنقولات بحيازته تطبيقا لقاعدة الحيازة في منقول سند الملكية.وكذا الحال بالنسبة لظاهرة الالتصاق المتعلقة بالعقارات التي قد تقود في ظروف معينة إلى أيلولة العقار من مالك إلى آخر.بل إنه من قبيل حماية المال العام أن يمنع الحجز عليه إذا كان المرفق العام المسير له مدينا على أساس إفتراض أن هذا المرفق له من الثراء والغني ما يضمن تسديد الديون المترتبة عليه22

أما فيما يخص الحماية المتعلقة بالأفراد فإن دلالتها تنصرف لمنع هؤلاء الأفراد من شغل الأموال العامة بدون وجه حق مهما تكن مدة الشغل،ذلك أن الأفراد غير متاح لهم أن يتملكوا بالتقادم ما يكونون قد شغلوه بدون وجه حق تحت عنوان الحيازة بل إن على الإدارة في مواجهة الأفراد هدم حتى ما يكونون قد بنوه بدون اللجوء إلى القضاء إعمالا لمنطق السيادة وامتياز المرفق العام.

هذا وتذكر كثير من المراجع أن المرفق العام بوسعه في مواجهة الأفراد أن يرفع دعاوى أمام القضاء الإداري والجزائي،بل حتى أمام القضاء الإستعجالي إذا ما تعلق الأمر بشغل مساكن محسوبة في نطاق الذمة المالية للدولة،ناهيكم عن إقرار نظام المتابعة بخصوص مخالفات الطرق المرتكبة بمركبات تابعة للدولة بدليل ما تنص عليه المادة 802 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية 23 .

ومع كل ما تقدم فإننا نؤثر أن ننظر إلى موضوع حماية الأموال العمومية في نطاق ما تقرره النصوص والتشريعات وذلك ما نكرس له الفرعين التاليين.

الفرع الأول: الحماية الدستورية للأموال العامة.

إن مجرد نص المؤسس الدستوري على طائفة من الأموال بين جنبات الدستور من خلال المادة 17 منه، يعد من وجهة نظرنا إقرار بأهمية هذه الأموال واستحقاقها لمعاملة غير عادية لما تمثله النصوص الدستورية من سمو على ما سواها من قواعد قانونية من ناحية وما تمثله الأموال المذكورة وتكتسيه من أهمية اشتقتها برأينا من وصفها بأنها تدخل تحت طائلة الملكية العامة للمجموعة الوطنية من جهة ثانية ولا غرابة أن يتعلق الأمر بالأموال الموجودة بباطن الأرض والمناجم والمقالع والموارد الطبيعية للطاقة والثروات المعدنية الطبيعية والحية،فضلا عن المناطق البحرية والمياه والغابات والنقل عن طريق السكك الحديدية والنقل البحري والجوي والبريد والمواصلات السلكية واللاسلكية.ومن الموضوعية أن يشاد بالمؤسس الدستوري عندما اختار أن ينهي المادة 17 باعترافه بمفهوم المخالفة أن القائمة التي أوردها كتراث مشترك للمجموعة الوطنية لا تعد قائمة مغلقة،بل لقد أكد ذلك حتى في المادة 18 عندما أقر بوجود أملاك وطنية تدخل تحت طائلة الأملاك العمومية ويمكن وصفها بأنها أموال خاصة للدولة والولاية والبلدية،غير أن القانون هو الذي يحدد ذلك ويبين كيفية تسييرها ونعتقد أن الحس الاشتراكي الذي تخلص منه دستور 1989 لم يكن قد غادر وجدان المؤسس الدستوري دفعة واحدة،كما أننا نحسب بقراءة المادة 17 و18 من الدستور أن المؤسس الدستوري قد آل على نفسه أن ينشأ شكلا من أشكال النظام العام الذي يتعين على أية سلطة تنفيذية أن تحترمه، كأن يدور بذهن بعض السياسيين خوصصة قطاع من القطاعات المتعلقة بتسيير الأموال العامة الموجودة تحت باطن الأرض أو تمكين جهات خاصة وطنية أو أجنبية من إدارة شؤون المياه والغابات مثلا، على الرغم من أن القانون والفقه قد وضعا آليات عقود الامتياز ودفاتر الأعباء الملحقة بها التي نجدها مكرسة في آخر تعديل لقانون الأملاك الوطنية كما أنه مشار إليها أيضا في قوانين الخوصصة والاستثمار.

الفرع الثاني: الحماية الجنائية للأموال العامة.

على الرغم من أن المشرع الجزائري قد أقر في نهاية القانون 90/30 المتعلق بالأملاك الوطنية فصلا ثالثا في الجزء الأخير من القانون سماه أحكاما جزائية إلا أن المطلع عليه لا يجد ما يشفي الغليل لدرجة أن المشرع اكتفى في شكل عموميات بالإحالة على تطبيق قانون العقوبات عندما يتعلق الأمر بخروقات تخص المساس بالأموال العامة الأمر الذي جعلنا نقتنع بأنه كان أولى بالمشرع أن يلغي الفصل المذكور حتى لا يتهم بالثرثرة القانونية الغير محبذة اعتبارا من المادة 136 إلى 139 من القانون 90/30.

أن هذه الملاحظة تكفي برأينا كمقدمة في هذا الفرع لمحاولة تلمس بعض مواطن الحماية الجنائية المقررة على مخالفات ذات الصلة كما هو الشأن بالنسبة لإقرار المشرع مبدأ معاقبة تحطيم ملك الغير أو التعدي على الملكية العقارية في المواد 407،387 أو الحروق المشار إليها في المادة 396 من قانون العقوبات،24 فضلا عن ضمان الحماية الجنائية حتى بالنسبة لأختام الدولة ورموزها مما يجعل هذه الحماية تطال الأشياء المادية وغير المادية التي تمثل تراثا مشتركا للمجموعة الوطنية، والاكتفاء من جانبنا بهذه الأمثلة ليس معناه قطعا القول بوجوب قائمة حصرية تمارس من خلالها عملية الحماية الجنائية المقررة على الأموال العامة، ذلك أن لقانون العقوبات امتدادات تحت فصول الأحكام الجزائية الموجودة في القوانين الخاصة المتعلقة بالأموال محل الحماية،ولا نحسب أنه ضروري الدخول في فحص أركان هذه الجريمة أو تلك ولو تعلق الأمر بالمال العام، لأن هذا العمل برأينا تدخل دراسته تحت إطار مواد القانون الجنائي الخاص.

صفوة القول إن الدراسة الحالية قد كشفت لنا أن المشرع الجزائري قد تأخر نسبيا عن وضع تصور قانوني يخص مجال الأملاك الوطنية بدليل أنه لم يسن مثل هذا القانون إلا سنه 1984، الشيء الذي يعني أن قانون الأملاك الوطنية على ما فيه من حساسية لم يعطه مشرعنا الأولوية الضرورية المستحقة رغم أنه قد عمد إلى آلياته من خلال إعمال أساليب نزع الملكية ولا سيما التأميم الذي تزامن مع إقرار نظام التسيير الملكية ولا سيما التأميم الذي تزامن مع إقرار نظام التسيير الذاتي وتحويل قاعات السينما والمناجم والبترول إلى ممتلكات وطنية.

إن هذه الدراسة قد سمحت لنا بأن نسجل تعثرا يستحق التصويب في مجال الصناعة القانونية عندما نجد أن المادة 688 ق م ما تزال تحدثنا عن الاختيار الاشتراكي وتعاونيات الثورة الزراعية بل إن المشرع الجزائري حتى في تعديله الأخير في باب الحديث عن الخصائص الملكية العامة أوجد لنفسه حرجا ما كان أغناه عنه عندما سها عن ذكر خاصية تملك الدولة للمال العام عن طريق التقادم وفق نص المادة 689 ق م الشيء الذي يجعل السؤال مشروعا عندما يتردد الباحث وهو يتحرى القانون الواجب التطبيق إما استنادا إلى قواعد الشريعة العامة أو تطبيق لقاعدة الخاص يقيد العام.

إن التعثر الذي سجلته الدراسة صادف أن كان الاهتمام به متعلقا بالتحول الدستوري الجزائري25 والذي كان طبيعيا أن يعقبه تحول تشريعي وتنظيمي ولقد لاحظنا أن مادة الحماية الجزائرية للأملاك الوطنية لم تشهد تغيرا بين القانون 84/16 والقانون 90/30 لدرجة أن وصفنا ما اتصل بهذه الحماية بالثرثرة القانونية الغير محبذة .

وعليه فإنه يتعين من وجهة نظرنا التفكير في وضع تقنين شامل وكأمل يحاول أن يغطي هذه التعثرات وذلك ما كنا قد إستشرفناه في بداية هذا البحث أسوة بما حصل مع موضوع الحريات العامة التي استطاعت أن تستأثر لنفسها بمكان أن مثل هذا الاقتراح سيظل عسير الانجاز في ظل شح الاجتهاد القضائي ذلك أن سن مثل هذا التقنين فورا يتعارض مع حقيقة أن الوجدان التشريعي الجزائري قد يكون ما يزال مسكونا على سبيل التأثر باجتهاد قضاء مجلس الدولة بفرنسا التي لا ريب أنها اجتهادات تختلف مع واقع الجزائر زمانا ومكانا وسياقا.ومع ذلك فإن إحداث تناغم بين دستور البلاد وشريعتها العامة والقوانين الخاصة والحديث هنا عن قانون الأملاك الوطنية ضرورة ملحة لا تقبل التريث والانتظار .

1-Jean Rivero ,Les libertés publiques, imprimerie des presses universitaires de France, aout1997 ,p:32

2- الأستاذة ليلى زروقي،محاضرات غير منشورة.

3-Yves Gaudemet, DROIT ADINISTRATIF DES BIENS ,L.G.D.J, p ;03

4-عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في القانون المدني، حق الملكية،دار إحياء التراث العربي،بيروت لبنان 1967،الجزء الثاني،ص492.

5-القانون المدني الجزائري،طبعة 2005-2006 منشورات بيرتي

6- عبد الرزاق السنهوري،نفس المرجع،ص5.

7- القانون المدني الجزائري،

8- وزارة العدل،التشريعات العقارية،مديرية الشؤون المدنية 1994،ص44.

9-Michel ROUSSETE et JEAN GARAGNON. Droit administratif marocain, revue et mise à joure par Michel ROUSSETE.6éme édition.2003,p :557

10- الجريدة الرسمية للجمهورية الجزائرية العدد 44

11-دكتور محمد فاروق عبد الحميد،التطور المعاصر لنظرية الأموال العامة في القانون الجزائري،دراسة مقارنة في ظل قانون الأملاك الوطنية،ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر،ص:105

12- دكتور محمد فاروق عبد الحميد،نفس المرجع، ص:109

13- المرجع السابق، ص:117

14- دكتور محمد فاروق عبد الحميد،المرجع السابق، ص:123

15-المرجع السابق،ص:124

16- دكتور محمد فاروق عبد الحميد،المرجع السابق، ص:128

17- التشريعات العقارية،نفس المرجع،ص:48.

18- الجريدة الرسمية للجمهورية الجزائرية العدد 44

19- الدكتور طاهر رحماني، محاضرات حول الأموال العامة،دروس غير منشورة، ألقيت على طلبة المدرسة الوطنية للقضاء سنة 2001،2002،ص:01

20- الأستاذة زروقي ليلى،مرجع سابق،ص:90.

21- القانون المدني الجزائري.

22-YVES Gaudemet, op cit ;p :23

22- الأستاذة زروقي ليلى،مرجع سابق،ص:98

23- الأستاذة زروقي ليلى،مرجع سابق،ص:99.

24- قانون العقوبات الجزائري.

25- الدستور الجزائري.

نصر الدين الأخضري

جامعة قاصدي مرباح ورقلة

 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى