قراءة في أهم التغيرات التي طرأت على النظام الدولي بعد انتهاء الحرب الباردة

ستناقش هذه الدراسة التغيرات الحاصلة على النظام الدولي بعد انتهاء الحرب الباردة، وتأثير هذه التغيرات على مجريات النظام الدولي، حيث سنقوم بدراسة إشكالية استمرار حلف شمال الأطلسي، والأهداف التي تسعى الولايات المتحدة لتحقيقها من الحفاظ على استمرار حلف الناتو، الذي يعتبر من مخلفات نظام دولي قد انتهى، وما هي الأساليب والأسباب التي اعتمدتها واتبعتها الولايات المتحدة للحفاظ على الحلف، وكيف عملت على إقناع الدول الأوروبية، وخاصة دول “أوروبا الغربية” بضرورة استمرار حلف الناتو، حتى بعد سقوط الاتحاد السوفيتي الذي تشكل الحلف من اجل مواجهته.

 سيتم أولا التطرق إلى العديد من الجوانب النظرية المتعلقة في الموضوع، من حيث عرض أهم نظريات العلاقات الدولية التي قد تكون لعبت دورا مهما في محاولتها لتفسير هذا الوضع الدولي، “أي قبل وبعد انتهاء الحرب الباردة ” وما ترتب على ذلك من استمرار لا وبل توسع حلف الناتو، حيث سيتم هذا النقاش في سياق متسلسل، بداية مع الفصل الأول الذي يناقش البعد التاريخي للدارسة والمتشكل في فترة الحرب الباردة، وكيف أن وجود الاتحاد السوفيتي كأكبر مهدد لأمن الولايات المتحدة والقارة الأوروبية اعتبر كمبرر أو حتى كسبب لتأسيس حلف الأطلسي.

أما الفصل الثاني: فسوف يناقش ويتطرق للعديد من المواضيع النظرية، كعرض مختصر عن نظرية التحالفات السياسية في العلاقات الدولية، وكذلك خصائص النظام ثنائي القطبية، بالإضافة إلى عرض مفصل عن التطور التاريخي لحلف شمال الأطلسي، مع التطرق بشكل مختصر لتقييم سياسات التحالفات الأمريكية.

وصولا إلى الفصل الأخير في هذه الدراسة: الذي سيناقش انتهاء الحرب الباردة، والتحولات الحاصلة على النظام الدولي اثر انتهائها، بالإضافة إلى البيئة الأوروبية الجديدة، واهم المتغيرات والمستجدات التي ظهرت على الساحة الأوروبية بعد انتهاء الحرب الباردة، وهل هذه المستجدات تتوافق مع الرؤية الأمريكية بضرورة استمرار التواجد الأمريكي في أووربا الغربية، واستمرار حلف الناتو، كما سنوضح آلية استمرار وتوسع الناتو، وما ترتب على ذلك من مهام ووظائف جديدة أنيطت بالحلف، وما هي أهداف الدول الغربية من موافقتها وتأييدها لاستمرار وتوسع الناتو، وأخير سيتم الحديث عن موضوع العلاقات الأمريكية الأوروبية، واهم المستجدات التي طرأت على هذه العلاقات، ففي الفصول السابقة تم الحديث في أكثر من مرة عن العلاقات الأمريكية الأوروبية في ظل الحرب الباردة، وفي ظل استراتيجية مواجهة عدو مشترك.

كان هذا عرضا مختصرا لما ستحاول هذه الدراسة التطرق إليه، والقيام على مناقشته كوسيلة لإيضاح أسباب استمرار وتوسع حلف الناتو، الذي توقع العديد من المحللين انتهائه بانتهاء الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفيتي.

اعتبر مشروع مارشال بداية السياسة الأمريكية تجاه القارة الأوروبية، وخاصة دول أوروبا الغربية، التي خرجت من الحرب العالمية الثانية متكبدة للخسائر على كافة الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بالإضافة إلى الدمار الذي لحق بها، بهذا رأت انه لا بد من طلب المساعدة لأول مرة في تاريخها من طرف آخر خارج القارة الأوروبية، وتم ذلك متزامنا مع التخطيط الأمريكي لاحتواء المد الشيوعي للمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي “سابقا” على القارة الأوروبية.

أدركت الولايات المتحدة الأمريكية أن الدول الأوروبية وما تعانيه من مشاكل اقتصادية، أن المساعدة الأولى لها يجب أن تكون بإنعاش اقتصاد هذه الدول، حيث أن مشروع مارشال( 1947م) والذي قام على تقديم منح اقتصادية للدول الأوروبية المتضررة من الحرب العالمية الثانية، والتي بلغت قيمتها حوالي” 13.3″ مليار دولار أمريكي، كان الهدف من وراء ذلك هو عدم ترك الدول الأوروبية تواجه واقعها الاقتصادي المتردي مما قد يؤثر على سرعة وقوعها تحت السيطرة السوفيتية وهذا ما سعت أمريكا لمنع وقوعه.

الاستراتيجية الأخرى التي اتبعتها الولايات المتحدة الأمريكية المتزعمة للمعسكر الغربي، هي الدخول في أحلاف عسكرية مع دول أوروبية أهمها دول أوروبا الغربية، هذه الدول التي لم تكن بعد واقعة بشكل مباشر تحت السيطرة السوفيتية كباقي الدول الأوروبية والتي اصطلح على تسميتها بدول أوروبا الشرقية.

فالولايات المتحدة الأمريكية تهدف إلى مساعدة هذه الدول الأوروبية لتجاوز عقدة الأمن وعدم الثقة فيما بينها، حيث تم ذلك بالإعلان عن تشكيل حلف شمال الأطلسي أو ما اصطلح على تسميته بحلف الناتو عام “1949” والذي كان بمثابة مظلة أمنية للدول الأوروبية، وكذلك بالنسبة لأمريكا من اجل تنظيم معسكرها الغربي لمواجهة الاتحاد السوفيتي.

طبيعة العلاقات التي تشكلت خلال هذه المرحلة ما بين دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، أخذت شكلا اقرب ما يكون إلى نمط المشاركة التي تميز علاقة الاعتماد المتبادل والمصالح المتبادلة، كان هذا على النقيض مع طبيعة العلاقة التي تشكلت بين دول أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي سابقا، حيث تميزت بقربها إلى التبعية أكثر منها إلى المشاركة والمصالح المتبادلة.

لا بد أن الولايات المتحدة الأمريكية بتنمية هذا النوع من العلاقات بينها وبين دول أوروبا الغربية، كانت تسعى للحصول على وسيلة لتدعيم خطوط المواجهة مع الاتحاد السوفيتي، ولتنظيم صفوف معسكرها الغربي من اجل مواجهة المد الشيوعي للمعسكر الشرقي.

بانتهاء الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي، وما ترتب عليه من سقوط عدو الولايات المتحدة واكبر مهدد لأمن القارة الأوروبية، وتحرر معظم دول أوروبا الشرقية من السيطرة السوفيتية بدأت مجريات جديدة على الساحة الدولية، وبالتالي هناك مستقبل جديد للنظام الدولي.

ومع سقوط الاتحاد السوفيتي، وانتهاء مخلفات الحرب الباردة، وأهمها حلف “وارسو” الذي جاء تأسيسه ردا على إنشاء حلف شمال الأطلسي، بدأت الدول الأوروبية تشعر بهذه المتغيرات، حيث رأت أن التهديد الذي كان موجها إليها من قبل الاتحاد السوفيتي فد انتهى، وبالتالي فان مبررها الرئيسي للالتفاف حول الولايات المتحدة الأمريكية لا داعي له، بالإضافة إلى أن الأسباب التي أدت إلى قيام حلف شمال الأطلسي قد انتهت، مما فرض على الدول الأوروبية ضرورة إعادة صياغة علاقتها مع الولايات المتحدة الأمريكية بما يتناسب مع المتغيرات الحاصلة على الساحة الدولية، والمتمثلة في انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي.

وبالتالي فان العديد من الدول الأوروبية طالبت الولايات المتحدة بضرورة إنهاء حلف شمال الأطلسي، وذلك بسبب انتهاء أسباب ودوافع تشكيله، أو على الأقل تغير مهامه من أداة دفاعية إلى أداة لتنظيم الأمن والاستقرار في القارة الأوروبي، وضرورة إضفاء الصبغة الأوروبية على الحلف بدلا من الصبغة الأمريكية المسيطرة عليه.
إن محاولات أوروبا المتكررة لإعادة صياغة علاقتها مع الولايات المتحدة الأمريكية وخاصة بعد انتهاء الحرب الباردة، وضرورة التعامل مع مستجدات الساحة الدولية وما فرضته هذه المستجدات من ضرورة إنشاء كيان أوروبي موحد ومنسجم ليكون فاعلا على الساحة الدولية، أدت إلى خروج عدة مطالب لإنشاء كيانات أوروبية مستقلة عن حلف الناتو المسيطر عليه من قبل أمريكا.

ففي عام 1991خرجت المبادرة الفرنسية الألمانية التي دعت لتشكيل قوة أوروبية مشتركة بعيدا عن الحلف، حيث رأت ألمانيا وفرنسا أن خلق جناح عسكري لدول الاتحاد الأوروبي سوف يدعم من وحدتها واستقلالها.

هذه الرؤية تم معارضتها من داخل القارة الأوروبية، فقد رأت بريطانيا ضرورة الاستمرار في الاتحاد الأوروبي كمؤسسة مدنية واقتصادية، هذا بالإضافة إلى رفض الولايات المتحدة الأمريكية لهذه الرؤية، وأكدت على ضرورة استمرار حلف شمال الأطلسي كأداة للدفاع والأمن الجماعي، وهذا مع ضرورة إدخال بعض التغيرات على أهداف الحلف، ووسائله لضمان استمرار يته وفعاليته، فأدركت الولايات المتحدة الأمريكية أن انتهاء حلف شمال الأطلسي يعني انتهاء سيطرتها على القارة الأوروبية التي تشكل خط دفاع للأمن القومي الأمريكي.

        من هنا تسعى هذه الدراسة إلى دراسة السياسة الأمريكية تجاه القارة الأوروبية” أوروبا الغربية” وخاصة بعد انتهاء الحرب الباردة،  فالتمركز الأمريكي في أوروبا أثناء الحرب الباردة كان مبررا بضرورة احتواء المد الشيوعي ومواجهة التهديد السوفيتي لأمن أمريكا وأمن القارة الأوروبية، أما بعد انتهاء الحرب الباردة وزوال الخطر الشيوعي الذي كان محيطا بأوروبا وأمريكا وانهيار الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو، فان هذه المتغيرات فرضت على المنطقة بشكل عام مستجدات جديدة لا بد من التعامل معها.

من أهم هذه المستجدات،  انه لا يوجد تبرير واضح لإصرار أمريكا على استمرار حلف شمال الأطلسي بالرغم من انتهاء أسباب وجوده كما اشرنا سابقا، وتبعا للنظرية الواقعية فانه بانتهاء الحرب تنتهي كافة مخلفاتها، ولكن حلف شمال الأطلسي ما زال قائما وما زالت أمريكا تقوم على توسيعه وضم عدد اكبر من دول أوروبا الشرقية لعضويته.

وبالتالي سيكون النقاش الأساسي لهذه الدراسة هو “السياسة الأمريكية تجاه القارة الأوروبية بعد انتهاء الحرب الباردة تحديدا من خلال حلف شمال الأطلسي، باعتباره ناظما للعلاقات الأمريكية الأوروبية في مرحلة الحرب الباردة، وما بعد الحرب الباردة”.

فالفرضية الرئيسية لهذه الدراسة تقول” أن إصرار الولايات المتحدة الأمريكية على استمرارية وتوسع حلف شمال الأطلسي، يشكل تعبيرا للرؤية الأمريكية الخاصة بالقارة الأوروبية، والمتمثلة في أن مصدر الاستقرار والأمن الأمريكي يعتمد على الاستقرار والأمن الأوروبي.

وبالتالي يمكننا القول أن حلف شمال الأطلسي يشكل أداة للولايات المتحدة الأمريكية في سياستها الخارجية تجاه أوروبا قبل وبعد انتهاء الحرب الباردة.

فالتهديد السوفيتي لم يكن المبرر الوحيد وراء التواجد والتمركز الأمريكي في القارة الأوروبية، بل أن هذا التمركز والتواجد يحمل العديد من الأهداف.

للدخول إلى صلب هذه الفرضية ودراستها فانه من المفروض التطرق بشكل أساسي إلى طبيعة التحولات الحاصلة على العلاقات الأمريكية الأوروبية، وهل التحالف الأمريكي الأوروبي ما زال يشكل تعبيرا عن مصالح مشتركة أو هو تعبير عن شبكة خلاص للسياسات الضرورية القومية أو المنطقية.

فالإشكالية الأساسية لهذه الأطروحة تتمحور حول التساؤل التالي، وهو ما سر إصرار أمريكا على الاحتفاظ بحلف شمال الأطلسي حتى بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي، وما هي الغاية الأمريكية المتمثلة في توسيع الحلف، من جهة ثانية ما هي طبيعة العلاقات الأمريكية الأوروبية أثناء وبعد الحرب الباردة، وهل ما زالت هذه العلاقات تعبيرا عن مصير مشترك أم أنها آخذة في التحول إلى علاقة شبكة خلاص، وما مدى ما يشكله حلف شمال الأطلسي لأمريكا في سياستها تجاه أوروبا، وهل هو فعلا يعتبر ناظما للعلاقات الأمريكية الأوروبية؟

وبالتالي فان هذه الدراسة تحاول بشكل عام دراسة التغيرات الحاصلة على العلاقات الأمريكية الأوروبية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بالتركيز على أدوات السياسة الأمريكية تجاه القارة الأوروبية المتمثلة بحلف شمال الأطلسي.

ومن أهم التساؤلات التي تشكل المحاور الرئيسية لهذه الرسالة:

  • ما هي الأهداف التي يعبر عنها استمرار حلف شمال الأطلسي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي؟
  • هل التحالف الأمريكي الأوروبي هو تعبير عن مجموعة من المصالح والأهداف، أم خلاص لأوروبا ووسيلة سيطرة لأمريكا، بمعنى آخر أين هي حدود الانسجام والاختلاف في العلاقات الأمريكية الأوروبية وأيهما أعمق؟
  • وما هو مستقبل هذه العلاقات الثنائية في ظل نظام دولي أحادى القطبية تسعى فيه أمريكا للوصول إلى المركز بالتزامن مع التهميش المتعمد للدور الأوروبي من قبل الولايات المتحدة الأمريكية؟
  • و ما حجم وأهمية الدور الذي يشكله حلف شمال الأطلسي بالنسبة لأمريكا في سياستها الخارجية اتجاه القارة الأوروبية ؟
  • والى أي مدى يمكن أن تسمح أوروبا باستمرارية أمركة حلف شمال الأطلسي، وهو يشكل تعبير عن شراكة أوروبية أطلسية.

أما أهمية الدراسة فتتبدى في موضوعها، حيث تعتبر دراسة التغيرات الجذرية الحاصلة على النظام الدولي وتحوله من نظام ثنائي القطبية إلى أحادى القطبية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية من أهم المسائل التي يجري نقاشها على الساحة الدولية، كما أن دراسة تأثير هذه التغيرات يعتبر من أهم ما يمكن التطرق أليه في خضم الوضع القائم.

 كما أن دراسة السياسة الأمريكية الخارجية أمر مثير للجدل بغض النظر عن الطرف الآخر، ولكن إذا كان هذا الطرف الآخر هو القارة الأوروبية، وبالتحديد دول “أوروبا الغربية” فان الموضوع يكتسب أهمية إضافية وذلك للدور الحساس الذي لعبته أوروبا قبل وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ونظرا لذلك فقد تم اختيار إحدى الأدوات التي ترتكز عليها أمريكا في سياستها الموجهة للقارة الأوروبية المتمثلة في حلف شمال الأطلسي، والتغيرات الحاصلة على هذه السياسة خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي نظرا لما يثير بقاء حلف شمال الأطلسي وتوسعه، وهو الذي يعتبر من مخلفات الحرب الباردة من جدل مستمر، وبناء على ذلك سوف يتم التركيز في هذه الدراسة على الفترة الزمنية الواقعة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ومن اجل الحصول على نتائج غير مجزأة سوف يتم التطرق بشكل عام إلى تاريخ هذه العلاقة ( الأمريكية _ الأوروبية) قبل انهيار الاتحاد السوفيتي أي أثناء الحرب الباردة وذلك حتى يتم الإثبات أن هذه العلاقة قد تغيرت تبعا للتغيرات التي حصلت على النظام الدولي.

فيما يتعلق بالإطار النظري لا مجال للإنكار بان هذا الجانب كان هو الأصعب في إعداد هذه الدراسة، ليس لشيء محدد، ولكن لتفرع الموضوع وصعوبة إيجاد خيط واضح يمكن أن يقود إلى إتباع نظرية واحدة ومحددة من نظريات العلاقات الدولية.

ولكن بعد الإطلاع على العديد من المصادر والمراجع والدارسات السابقة بدأت الصورة تتجه نحو الإيضاح والتحديد.

        هذه الدراسة تتناول فترتين زمنيتين مختلفتين، فالفترة الأولى هي فترة الحرب الباردة، وما ترتب على هذه الفترة من ظهور شكل محدد للنظام الدولي، وبالتالي هناك نظرية محددة لهذا الزمن، أما الفترة الثانية وهي المحور الأساسي في هذه الدراسة، هي فترة ما بعد الحرب الباردة وانيهار الاتحاد السوفيتي، وما ترتب عليه من متغيرات جديدة فرضت نفسها على الساحة الدولية وأدت إلى حدوث تغيرات جذرية وعميقة على النظام الدولي الجديد، مما ترتب عليه ضرورة إيجاد نظرية مختلفة من نظريات العلاقات الدولية تحاول تفسير هذه المتغيرات الحاصلة كحد أدنى.

        من هنا كان لا بد من إتباع نظريتين أساسيتين في هذه الدراسة والتأكيد في أكثر من مرة، بان العديد من الدراسات والمراجع التي تم الإطلاع عليها خلال العمل على هذه الدراسة تؤكد قدرة هاتين النظريتين في تفسير هذه التغيرات العميقة الحاصلة على الساحة الدولية وعلى النظام الدولي.

        كما ذكرنا سابقا، فان هذه الدراسة مقسمة إلى فترتين زمنيتين، الفترة الأولى هي فترة ساد فيها الصراع ما بين قطبين عالميين هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي سابقا، وقد أطلق على هذه الفترة من الصراع فترة الحرب الباردة.

        هناك إجماع عند الأغلبية من دراسي العلاقات الدولية بان النظرية الأقدر على تفسير مجريات هذه الفترة التاريخية هي النظرية الواقعية.

        قبل الخوض في تفاصيل دقيقة بشان هذا الموضوع، هناك مقدمة عامة عن رؤية حديثة لدور النظريات في تفسير الأحداث الدولية، فلا بد من الإطلاع على هذه الدراسة كونها تشكل دراسة جديدة من نوعها قد ألقت الضوء على العديد من الموضوعات المتعلقة بالنظريات الخاصة بالعلاقات الدولية بطريقة مختلفة وغير شائعة.

        فهناك ثلاث توجهات رئيسية في العلاقات الدولية كما هو معروف، فالتوجه الأول هو التوجه السلوكي، أما التوجه الثاني فكان البنيوي، وأخيرا التوجه التطوري.

        جميع هذه التوجهات حسب رأي الكاتب انطلقت من الادعاء بأنها قادرة بان تكون علمية في تحليلها ودراستها للعلاقات ما بين الدول، وعندما تقول علمية فهي تقصد بأنها تنطلق من الأسس التي أنطقت منها العلوم الطبيعية، بما معناه أنها تستطيع أن تستخدم نفس الأدوات التي استخدمت في العلوم الطبيعية لتطبيقها في العلوم الاجتماعية.1

        يكمن وراء هذا الادعاء، أن هذه التوجهات هي قادرة ليس فقط على تفسير ما يحدث في النظام الدولي، ولكنها قادرة أيضا أن تتنبأ ما يمكن أن يحدث في المستقبل اعتمادا على تحليلها وقراءتها لما يحدث في لحظة تاريخية معينة.

        ومن وجهة نظر الكاتب فهو يتساءل بشان التالي، إذا كانت هذه التوجهات انطلقت من هذا الادعاء، فلماذا فشلت النظريات في قراءة إمكانية حدوث أهم حدث في القرن العشرين، وهو انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي؟

        يجيب الكاتب على هذا التساؤل، بأنه من الواضح أن هناك إشكالية مبالغة في قدرة هذه التوجهات في العلوم الاجتماعية، ليس فقط في أن يكون لها قراءة علمية لما يحدث في العلاقات الدولية، ولكن المبالغة أيضا في ما يمكن أن يحدث في المستقبل، فكما هو معروف فان جميع النظريات في العلاقات الدولية تؤكد على أنها قادرة ليس فقط على قراءة الأحداث الدولية، ولكنها قادرة أيضا على التنبؤ بما سيحصل في المستقبل.1

        هذه كانت إشكالية في نظريات العلاقات الدولية، الإشكالية الثانية تتمحور حول الانطلاقة الخاطئة التي انطلقت منها العلوم الاجتماعية فيما يتعلق بإتباعها نفس الأدوات التي اتبعت واستخدمت من قبل الباحثين في العلوم الفيزيائية.

        وحسب رأي الكاتب يرى بأنه في العلوم الفيزيائية يستطيع العالم أو الباحث أن يحدد مجموعة معينة من المتغيرات التي على أساسها يقوم بتفسير الظواهر الطبيعية، وانطلاقا من هذا التفسير فهو يملك إمكانية التنبؤ بما يمكن أن يحدث في المستقبل.

        ولكنه في المقابل ينتقد الأكاديميين والباحثين في العلوم الاجتماعية وذلك لتناسيهم أنه من المستحيل تحديد المتغيرات وذلك بسبب وجود مجموعة لا متناهية من المتغيرات التي يأخذها باحث العلوم الاجتماعية بعين الاعتبار.

        فمحاولات المنظرين لخلق علم سياسة قادر على أن يقرأ المستقبل، “مستقبل الأحداث العالمية” عمليا أنتجت نتائج غير مرضية فلم يستطع أي توجه من التوجهات الثلاث السابقة التي تطورت منذ عام 1945 فلاحقا أن تتنبأ بطريقة انتهاء الحرب الباردة.

        في النهاية النقطة الرئيسية التي يريد الكاتب إيصالها، هي بأنه ليس القول أن التوجه العلمي هو توجه غير مهم في العلاقات الدولية، ولكن العلماء والباحثين الجيدين من المفروض أن يستخدموا كل الأدوات التي من الممكن أن تتوفر لهم وذلك في محاولتهم لقراءة المستقبل.1

هذه المقدمة البسيطة عن النظريات في العلاقات الدولية كان لا بد منها قبل الدخول في تفاصيل النظريات التي تم تبنيها في هذه الدراسة ولذلك لإيصال فكرة واضحة وهي انه ليس من المنطقي القول أن نظرية واحدة هي التي تستطيع تفسير أحداث العلاقات الدولية، فالعالم لا يمكن أن يكون واقعي أو ليبرالي من دون أن تتداخل هذه النظريات في بعضها البعض في لحظات تاريخية معينة.

 بالتالي أولى النظريات التي تم تبنيها في هذه الدراسة هي النظرية الواقعية، فالنظرية الواقعية تنطلق من الافتراض الذي يتمحور حول الطبيعة الإنسانية التي ينظر إليها عبر منظور سلبي، فهذه الطبيعة الإنسانية تحث الإنسان على السيطرة والقوة، وبسبب ذلك فالعلاقات ما بين الناس هي علاقات من اجل القوة، فالمنظرين الرئيسين في النظرية الواقعية ابتداء من “مورجون” ينطلقون من الافتراضات التي افترضها كل من “نيوسيدس ” “وميكافلي” و”هوبز” فيما يتعلق بالصراع من اجل القوة، وفيما يتعلق في هذا المجال حول الطبيعة الإنسانية فيحاول القوي أن يسيطر على الضعيف، ولهذا يلجا كل من الطرفين إلى القوة المادية وذلك من منطلق الحفاظ على الحياة بما يتطابق ومهمتهم الطبيعة.2

                هذا من جانب أما من جانب آخر، حسب وجهة نظر الواقعية في الدولة فهي تعتبر مركز العلاقات ما بين الدول، واعتمادا على ذلك ينظر إلى الدولة على أنها الفاعل الرئيسي في النظام الدولي.1

كما أن الدول في حالة صراع دائم فيما بينها من اجل القوة، وان دور الدولة في هذه الحالة يتمثل في حماية نفسها من الدول الأخرى، وهذا مرادف للأمن القومي الذي يتمحور حول امتلاك القوة الكفيلة لحماية مصالح دولة معينة من أعدائها.

        مما يفرض على الدولة أن تزيد من محددات قوتها حتى تستطيع حماية نفسها ومصالحها، كما أنها بحاجة إلى قرارات عقلانية حول الأمن، والهدف من ذلك هو سعيها لتعزيز مصالحها.

        يمكننا القول أيضا بان الواقعية بالمقارنة مع مفهوم النظرية الليبرالية المؤسساتية فيما يتعلق بعملية التعاون ما بين الدول وتقريب وجهات النظر وإرساء أسس أكثر صحية للسلام، ترى بأنها إمكانية محدود نسبيا فالدولة هي الأساس في النهاية.2

وهذا ما أكد عليه “مارسيل ميرل” بان المنظمات الدولية كثيرا ما تسهم في إبرام اتفاقيات تتمتع في القانون الدولي بوضع يقترب من وضع القوانين في النظم القانونية المحلية، إلا أن هذه الاتفاقيات ليست سوى معاهدات لا تصبح سارية المفعول إلا بعد قبول الدول لها وتصديقهم عليها.1

        من هنا ترى الواقعية بان المجتمع الدولي والعلاقات الدولية هي صراع مستمر نحو زيادة قوة الدولة واستقلالها بالكيفية التي تمليها مصالحها أو إستراتيجيتها، بغض النظر عن التأثيرات التي تتركها في مصالح الدول الأخرى.

فالعلاقات الدولية عبر هذه المدرسة تتلخص بان الدبلوماسي والجندي هما اللذان يصنعان من حيث الأساس العلاقات الدولية، وقد نالت دراسة السياسة الخارجية النصيب الأكبر من أعمال الكتاب الواقعيين، فقد أصبح نموذج الدولة – الأمة الذي ساد أوروبا في القرن التاسع عشر رمزا ومرجعا لكل دولة حتى في الظروف الراهنة، ويقول الواقعيون بضرورة الفصل بين السياسة الخارجية والسياسة الداخلية لان الخارجية تتخذ المصلحة الوطنية أساسا لها ولا تراعي المعطيات الداخلية التي تصبح نتيجة لذلك ثانوية.2

        وبتلخيص سريع لأهم فرضيات النظرية الواقعية، نجد بان علماء النظرية الواقعية يعتقدون أن هناك ثمة مجموعة من العوامل الثابتة إلى حد معين تلعب دورا رئيسيا في تشكيل السلوك الدولي، أهمها أن الطبيعة البشرية ثابتة أو على الأقل يصعب تغيرها بسهولة، فهم يرون بان الإنسان أكثر ميلا للشر والخطيئة وامتلاك القوة.

        من جانب آخر فالواقعيين بشكل عام يوافقون على أن الموقع الجغرافي للدولة يؤثر في إمكانياتها وتوجهاتها السياسية الخارجية، فالجغرافيا تجعل بعض الدول أكثر عرضة للغزو من غيرها، وبعض الدول تحتل مواقع استراتيجية أكثر أهمية من غيرها من الدول، فسهولة الوصول إلى الطرق المائية وطبيعة الحدود الجيدة للدفاع عن الدولة تؤثر كذلك في السياسة الخارجية.1

        ونتيجة الصعوبة في تحقيق السلام عن طريق القانون الدولي أو التنظيم الدولي أو حتى الحكومة الدولية يصبح من الضروري البحث عن سبل أخرى لتنظيم واستخدام القوة، من هنا يقر اغلب الواقعين بان ميزان القوى يمثل أحد السبل الهامة في هذا المجال، فعندما تتساوى القوة في مجموعة من الدول يكون من المتعذر على إحداها أن تسعى للهيمنة.

         هذا ويرى الواقعيون من جانب آخر،  بان المبادئ المعنوية أو الأخلاقية يصعب تطبيقها على الأعمال أو السلوك السياسي، والمسالة في النهاية هي إلى أي مدى يستطيع القائد السياسي أن يحقق أهداف سياسته الخارجية الرئيسية دون تعريض الدولة التي يمثلها إلى الخطر.2

مما لا شك فيه أن نهاية الحرب الباردة قد أفرزت نظاما عالميا جديدا، فخلال الحرب الباردة برزت قوتان عظميان هما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي حيث أثرتا على مسار العلاقات الدولية لمدة زمنية تزيد على أربعين سنة، فقد كان هدف كليهما هو حماية أقاليمهما من أي تهديد نووي، نهاية الحرب الباردة أجبرتهما على إدخال تغيرات في تصوراتهما الأمنية والاستراتيجية.

وبناء على ذلك فان النظرية التي كانت سائدة في تلك الفترة، أي قبل انهيار الاتحاد السوفيتي ،هي النظرية الواقعية، فقد كانت النظرية الأقدر على تفسير مجريات الأحداث السياسية في تلك الحقبة.

في النهاية يمكن القول أن طبيعة العلاقات الدولية التي كانت سائدة خلال الحرب الباردة، هي علاقات تقوم على التنافس بين الدول من اجل زيادة قدراتها العسكرية ومصادر قوتها وذلك من اجل الحفاظ على أمنها من أي تهديد نووي في تلك الحقبة من أهم الفاعلين على الساحة الدولية، وبما أن الدول هي فواعل عقلانيون فإنها تسعى باستمرار لتعظيم الفوائد وتقليص التكاليف وذلك مع سعيها لتحقيق أهدافها. 1

وبالتالي نلاحظ أن النظرية السياسية الأقدر على تفسير مجريات الأمور على الساحة الدولية في حقبة الحرب الباردة وفي ظل نظام عالمي ثنائي القطبية هي النظرية الواقعية، تبعا لما تميزت به تلك الحقبة من تنافس ما بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي على زيادة مقدرات القوة العسكرية، لحماية أمنها القومي عن طريق التهديد باستخدام القوة والدخول في سباق التسلح وامتلاك القوة النووية، التي عبرت عن نفسها في تلك المرحلة بما عرف بنظرية الردع.1

انتهت ما كانت تسمى فترة الحرب الباردة، وكانت النهاية بانهيار الاتحاد السوفيتي وانتصرت الكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.

انهيار الاتحاد السوفيتي افرز تغيرا جذريا على مجريات الأمور في الساحة الدولية، حيث تغير النظام الدولي برمته من نظام قائم على ثنائي القطبية إلى نظام أحادى القطبية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.

هذا التغير في النظام الدولي أدى بشكل مباشر إلى تغير في مفهوم الأمن الاستراتيجي، وقد فرض نفسه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتفرد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة العالم.

لم تعد النظرية الواقعية هي النظرية المناسبة لتفسير العلاقات الدولية من وجهة نظر الأغلبية، فقد تغير مفهوم الأمن والنظام الدولي بأكمله، وبالتالي لم تعد هذه النظرية قادرة على تفسير ما يجري من أمور بين الدول.

        فالنظرية الواقعية بعد انتهاء تلك الفترة أي انتهاء الحرب الباردة، تعرضت لنقد قاسي من قبل العديد من المراقبين على الساحة الدولية، فيمكننا القول بان الواقعيين والواقعيين الجدد ذكروا بان سلوك القوى العظمى عام 1945 يتوافق مع نظريتهم ولكن الكاتب “Richard lebow” رد على هذه المقولة بان سلوك القوى العظمى تناقض مع النظرية الواقعية، ويثبت ذلك من خلال نظرته على التفسيرات الواقعية لأهم ثلاث تطورات دولية في منتصف القرن الماضي، “السلام الطويل” بين القوتين العظمتين، تخلي الاتحاد السوفيتي عن إمبراطوريته، وأخيرا التحول الذي حدث في النظام الدولي ما بعد فترة الحرب الباردة.

        الطرح الواقعي يعتمد على الافتراض بان الفوضى هي الصفة الأساسية في تحديد وتعريف النظام الدولي، مما يفرض على الدول إعطاء الاهتمام الأكبر للأمن وان تسعى هذه الدول إلى زيادة وتطوير قوتها العسكرية أكثر من أية قيمة أخرى.

إن النظريات المتجددة تفترض تعريفات مفاهيمية وعملية لمتغيراتها التابعة والمستقلة وعلى هذه التعريفات أن تكون دقيقة من الناحية المفاهيمية، وان تفترض وتشترك بكيفية قياس المتغيرات، ولكن النظرية الواقعية لم تحقق هذا الشرط، فالتعريفات المتعلقة بالمصلحة الوطنية، القوة، توازن القوى والقطبية، هي تعريفات فضفاضة وغير محددة، ولهذا يصعب اختبار المقترحات الواقعية تجاه الدلائل المستنتجة من قضايا محددة.1

        إن نظريات التحول في القوة والقوى يشكل فرع من الواقعية الذي يحلل إجابات القوى العظمى للتراجع، ولهذا نرى أن هذه النظريات قد فشلت بان ترى احتمالية التعايش السلمي بين القطبين لنظام ثنائي القطبية، هذا بالإضافة إلى عدم قدرتها على رؤية أن أحد القطبين سيتخلى عن منطقة تأثيره الأساسية من اجل أن يحقق هذا السلام، وهذا يشكل أرضية واضحة لرفض نظريات التحول هذه ونرى في هذا السياق بان الواقعيين عالجوا انتهاء الحرب الباردة على أنها قضية خاصة. 1

        إن كلا من “مورجونثاو وولتز” يؤكدان على أن عدم حدوث الحرب يرجع إلى نظام ثنائي القطبية، فهو اقل احتمالا لحدوث حرب متعددة الأقطاب وبالنسبة ل “وولتز” فان عدم حدوث الحرب يرجع إلى طبيعة نظام ثنائي القطبية والقطبية هي صفة من الصفات البنيوية للنظام.

إن طرح “وولتز” لمفهوم القوة قريب من “مورجونثاو” ولهذا نجده يؤكد على أن الدول لا تصبح دول عظمى إذا امتلكت عنصر من عناصر القوة، وبالرغم من هذا نراه يؤكد على أن القوة تبقى العامل الأساسي الوحيد في التحليل النهائي، ولهذا نرى بعض الإشكاليات في تأكيده على أن القوة العسكرية هي المؤشر لمكانة أي قوة عظمى، هذا بالوقت الذي يقول فيه بان العالم كان يخضع لنظام ثنائي القطبية منذ أواخر الأربعينيات.

        يبدو أن “وولتز” يضع حجته بان مكانة قوة عظمى هو بالأساس يرجع لقدرات تقنية وعلمية متقدمة وان هذه القدرة هي التي تمكن القوى العظمى من استخدام أسلحة فائقة التطور.

        بما أن هذه العناصر الرئيسية هي الشرط لان تكون الدولة قوة عظمى، فإننا نستنتج انه في نهاية الأربعينيات لم يكن الاتحاد السوفيتي يملك هذه القدرات ولهذا فهو ليس قوة عظمى. 1

        بالتالي فان قدرة النظرية الواقعية على تحليل التحولات التي يمكن أن تحدث على بنية القدرات المختلفة للقوى العظمى ليست كبيرة، ولهذا وبالرغم من أنها تقر بإمكانية تراجع هذه القوى إلا أنها تؤكد على أن الدول ليس لها خيار، ففي ظل النظام الدولي الفوضوي عليها الحفاظ على قوتها النسبية وإلا ستصبح فريسة للآخرين. 2

        “رو برت جلبن” أحد المنظرين الواقعيين يؤكد على انه قد تتراجع القوى العظمى، إلا انه في هذه الحالة عندما تواجه الدولة العظمى المتراجعة خطر الاحتواء، فالاحتمال الأكثر أنها سترد بطريقة عسكرية شرسة.

بعد هذا النقد الموجه لقدرة تفسير النظرية الواقعية لمجريات التغيرات الحاصلة على النظام الدولي، نرى بأنه حتى نهاية الثمانينات توافقت سياسة الاتحاد السوفيتي مع النظرية الواقعية، إلا انه مع مجيء “غورباتشوف” أخذت هذه السياسة تتناقض مع تفسيرات الواقعية للتغيرات الدولية.

        إن انسحاب الاتحاد السوفيتي من أوروبا الشرقية جاء ليتناقض مع النظرية الواقعية، فبعض المنظرين الواقعيين اقروا بان سياسة الاتحاد السوفيتي الخارجية بعد 1985 كانت غير منسجمة مع النظرية الواقعية.

        وبالتالي النتيجة لهذا النقاش: أنه من الصعب جدا فهم أو محاولة تحليل سياسة الاتحاد السوفيتي الخارجية بعد 1985 في إطار النظرية الواقعية، إضافة لذلك لا يمكننا أن ننسى أيضا بان توسع الناتو بعد انتهاء الحرب الباردة جاء أيضا ليتناقض مع النظرية الواقعية.1

        في النهاية يمكننا أن نضيف بان النظرية الواقعية لم تخرج من نهاية الحرب الباردة أكثر ضعفا مما دخلتها، فنهاية النظام الدولي للحرب الباردة توافق مع تراجع دولة متعدد القوميات وهي الاتحاد السوفيتي.

        وبالتالي فان جزء من إشكاليات الواقعية فيما يتعلق في تفسير ما حدث من تحولات في النظام الدولي، هو عدم أخذها بعين الاعتبار الصفات الإيجابية والسلبية لبعض الأشخاص مثل “غورباتشوف”، وأيضا أصحاب صنع القرار ذوي المكانة المركزية، هذا بالإضافة إلى ظهور المشاعر القومية في أماكن مختلفة من الاتحاد السوفيتي.

        إن تنبئ العديد من الواقعيين أمثال “ميرشيمر” انه بغياب الخطر السوفيتي يتوقف الناتو على أن يكون تحالفا فعالا، وكما أكد “وولتز” على ذلك في عام 1990، على أن تحالف الناتو هو “شيء سيغيب عن أنظارنا”، فانه بعد اقل من عشر سنوات بدأت تظهر هذه التنبؤات بأنها غير صحيحة، فالواقعية والواقعية الجديدة لم تكن قادرة على تفسير انتهاء الحرب الباردة واستمرارية حلف الناتو.1

        هذه القضايا كلها لم يأخذها الواقعيون بعين الاعتبار لذلك هناك إشكالية داخلية في بنية النظرية الواقعية والتي لا تمكنها أن تفسر هذا النوع من التحولات.

        إذا نستنج من السابق بان النظرية الواقعية ارتكبت أخطاء كبيرة في تفسير مجريات الأحداث الدولية في مرحلة الحرب الباردة، وأنها فشلت في تفسير ما جرى من متغيرات عميقة بانهيار الاتحاد السوفيتي، بناء على ذلك لا بد من إتباع نظرية أو الرجوع إلى نظرية أخرى قد تكون تملك بعض التفسيرات لكافة المتغيرات الحاصلة على الساحة الدولية ابتداء من انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة واستمرار الناتو.2

        بالرغم من الانتقادات السيئة التي وجهت للنظرية الواقعية إلا أن “Ethan Kapstein” يرى انه بالرغم من الإشكاليات المختلفة للنظرية الواقعية، سوف لن تزول كحجر زاوية في نظرية العلاقات الدولية، إلا في حال ظهور بديل نظري لها، وفي ظل غياب هذا البديل فان طلبة العلاقات الدولية سيتمروا في استخدام هذه النظرية، من هذا المنطلق يمكن القول أن النظرية الواقعية سوف تستمر في تعريف حقل العلاقات الدولية.

        ويؤكد أيضا على أن أي بديل للنظرية الواقعية في العلاقات الدولية من المفروض أن يعطي تفسيرات للعلاقات الدولية تنطلق من تفسير علاقة الداخل بالخارج، وحتى الآن لا يوجد أي بديل نظري مفاهيمي يتمكن من اخذ مكان النظرية الواقعية في تفسير العلاقة ما بين الداخل والخارج.1

ظهرت بوادر المدرسة الليبرالية وأصحاب هذا الخيار بعد الحرب العالمية الأولى، فقد كانت صدمة الحرب وما أحدثته من دمار وخراب واسع سببا في ظهور المثالية أو الليبرالية، والتي عبرت عن رؤية تفاؤلية للطبيعة الإنسانية، وتؤكد على إمكانية تسوية النزاعات السياسية بطرق سلمية، وقد قام المثاليون وأصحاب هذا التوجه بوضع مبادئ معينة لهذه المدرسة أو لهذا التوجه، من ضمنها أن السلوك السيئ كامن في الغريزة البشرية وهو غير ظاهر، كما يرون أيضا انه يمكن للإرادة الإنسانية أن تقضي على الحرب بواسطة تأثيرات في بيئة الإنسان (المؤسسات والهياكل )، ويمكن أن يضمن ذلك حينما تتفق الدول على قواعد أخلاقية عامة وان هذه القواعد الأخلاقية تعين على إيجاد أهلية العمل في العلاقات الدولية، ويرى أنصار هذا المنهج أن استخدام القوة هو عمل مدان أخلاقيا وان ضمان السلام يقام على أساس القيم الأخلاقية، كما أن انضمام الشعوب إلى هذه القواعد غالبا ما يأتي على أساس الاتفاق والقناعة بدور هذه القواعد في إقامة أرضية للسلام العالمي، فضلا عن أن قبول هذه القواعد سيجعل من الصعب لكل طرف في النزاع أن يرتبط بعمل شرير ضد الآخر.1

يسمى الليبراليون أو المثاليون بأنصار المدرسة القانونية، لأنهم يقترحون حلا قانونيا لتسوية القضايا السياسية مطالبين على الخصوص بإقامة حكومة عالمية ونظام لأمن جماعي ونزع التسلح واعتبار السلام قضية لا تتجزأ وإدانة الحرب وتحقيق السلام بواسطة القانون الدولي.

        من هنا فان الدعاة لهذا المنهاج يتصورون وجود نظام دولي قائم على حكم القانون، والخضوع لسلطة التنظيم الدولي في كل ما يتعلق بشؤون المجتمع الدولي، ومثال على ذلك ما اشتملت عليه مقدمة ميثاق الأمم المتحدة، حيث تعلن نبذها لمبدأ العنف والعدوان وتدعو إلى ارتضاء سلطة التنظيم الدولي وحل الخلافات الدولية بطرق سلمية.

        في الحقيقة إن التصور المثالي لم يتمكن من فرض نفسه ولا سيما في الولايات المتحدة، وذلك بسبب الانتقادات اللاذعة التي تلقاها من معارضة ” الواقعين الأمريكيين” وكذلك بسبب العمل السياسي الذي اعتمده رجال السياسة الأمريكيين الحريصين على وجود دور فعال للولايات المتحدة الأمريكية في العالم.2

قد تبدو هذه المقدمة فضفاضة وغير محددة بعض الشيء وخاصة فيما يتعلق بموضوعنا في هذه الدراسة، وهو محاولة إيجاد نظرية قد تكون اقدر على تفسير هذه المتغيرات الجديدة في النظام الدولي، وخاصة بعد تراجع الواقعية وتعرضها لنقد قاسي بسبب عجزها عن إيجاد تفسيرات ملائمة لهذه التغيرات، وكذلك فشلها في أن تتنبأ بهذا التحول العظيم، من حيث انتهاء الحرب الباردة والنظام الدولي الذي ساد في تلك الفترة وهو نظام ثنائي الأقطاب.

ولكن هناك بعض التغيرات التي قد تساعدنا في إيجاد نظرية معينة تحمل ملامح تفسيرية لهذه التغيرات في النظام الدولي، فكما هو معروف تقوم هذه الدراسة على دراسة تغير محدد في النظام الدولي وهو استمرار وتوسع حلف الناتو والتغير الجاري على هياكله الوظيفية.

فحدث استمرارية الناتو وكل ما ترتب عليه، النظرية التي تحمل بعض القدرة لتفسير هذا التغير هي النظرية الليبرالية. النظرية الليبرالية تملك تصورا أمنيا مخالفا للنظرية الواقعية، فالليبراليون يمتلكون تصورا بديلا يتمثل في الأمن الجماعي وهو وفقا ل “قولدستين” يتمثل في تشكيل تحالف موسع جدا، هذا التحالف يضم معظم الفاعلين الأساسين في النظام الدولي وذلك بقصد مواجهة اعتداء أي فاعل آخر.

هذا التصور يعني أن الدول الأعضاء في منظومة الأمن الجماعي تتكتل لمواجهة أي دولة تعتدي على دولة أخرى، حيث أسس الفيلسوف الألماني “ايمانويل كانط” لهذا التصور قبل قرنين من الزمن وذلك عندما اقتراح إنشاء فيدرالية تضم دول العالم.

“كانط” كان من أوائل المفكرين الفلاسفة الذين طرحوا فكرة الاتحاد من اجل السلام، والاتحاد ما بين المجتمعات الليبرالية، والآن يوجد أكثر من خمسين دولة ليبرالية تشكل هذا الاتحاد.

فالدول الليبرالية تمارس نوعا من القيود التي تهدف إلى السلام وتحد من الحرب، من هذا المنطلق نجد أن هناك سلام منفصل يتواجد فيما بينهم، وهذا السلام المنفصل يضع الأسس المتينة

للتحالفات الأساسية ما بين أمريكا والقوى الليبرالية، الناتو، تحالف اليابان، الارتباطات الثنائية مع استراليا ونيوزيلندا.1

الرئيس “ودرو ولسون” استفاد من هذا التصور في طرح تصوره لعالم يسوده السلام وذلك في نهاية الحرب العالمية الأولى، عندما قام بطرح فكرة إنشاء عصبة الأمم المتحدة لتعزيز السلام في العالم.

وبناء على ذلك فان الفرق القائم بين النظرية الواقعية والليبرالية، قد يكون بان النظرية الواقعية تنطلق بالأساس من فكرة ضرورة تعزيز قدرة الدولة العسكرية وزيادة مقدرتها الاستراتيجية، أما النظرية الليبرالية فتهدف إلى الحفاظ على أمنها القومي الجماعي وذلك ليس بهدف تعزيز أمنها العسكري فحسب بل الاقتصادي والثقافي أيضا.2

إذا الفكرة العامة في النظرية الليبرالية هي الأمن القومي الجماعي وتشكيل التحالفات التي تضم معظم الدول الفاعلة في النظام الدولي وذلك لمواجهة أي فاعل معتدي آخر.

 وفقا للنظرية الليبرالية، فان الأمن الجماعي لا بد أن يؤدي إلى ضرورة الرد على أي عدوان قد يهدد السلام ما بين الدول حيث يتم إشراك كل الدول الأعضاء وليس ما يكفي من الأعضاء لصد المعتدي حيث يكون الرد عن طريق تنظيمه، ولا يترك للدولة منفردة تحديد ما تراه من إجراءات مناسبة تخصها وحدها. 1

هذا بشكل عام يمكن تطبيقه على الوضع الذي ساد النظام الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، فهناك استمرارية لظاهرة غريبة وهي ظاهرة حلف شمال الأطلسي، ذلك الحلف الذي نشا في فترة الحرب الباردة كأحد أدوات الرد على العدوان العسكري المحتمل من العدو الوحيد المتمثل في الاتحاد السوفيتي، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي ليس هناك من مبرر لاستمرار حلف شمال الأطلسي، وطبقا للنظرية الواقعية فان حلف شمال الأطلسي هو من مخلفات الحرب وبالتالي لا بد من انتهاءه، ولكن ما حصل في الواقع هو غير ذلك فحلف شمال الأطلسي لم يحافظ فقط على بقاءه، بل قام بإحداث تغيرات على أهدافه ومبررات وجوده، هذا بالإضافة إلى توسعه ليشمل معظم دول أوروبا الشرقية التي كانت واقعة تحت السيطرة السوفيتية سابقا.2

بهذا ضمنيا قد يكون في بعض جوانبه يطبق النظرية الليبرالية القائمة على ضرورة تشكيل تحالفا كبيرا من اجل الرد على أي عدوان.

وهذا ما قد تكون تهدف إليه الولايات المتحدة الأمريكية بسعيها نحو الحفاظ على حلف شمال الأطلسي، والقيام على إحداث التغيرات اللازمة عليه من اجل ملاءمته للوضع الجديد القائم عليه النظام الدولي، كما يفسر ذلك قيام الولايات المتحدة الأمريكية بقبول أعضاء جدد داخل الحلف من دول أوروبا الشرقية التي سبق لها وان كانت تحت السيطرة السوفيتية أثناء فترة الحرب الباردة وقبل انهيار الاتحاد السوفيتي.

اختلفت طرق التعبير عن تجسيد مفهوم الأمن الجماعي بعد انتهاء الحرب الباردة، ولكن مهما اختلفت التسميات إلا أن هذه التصورات تشترك في نقطة واحدة وهي أن البلدان الديمقراطية لا تلجا إلى الحرب ضد بعضها البعض.

وهذا ما حاولت الولايات المتحدة الأمريكية تجسيده بالحفاظ على حلف الناتو، كتحالف يضم معظم الدول الفاعلة في النظام الدولي من اجل تامين الأمن القومي الجماعي ضد اعتداء أي عدو آخر فاعل في النظام الدولي.

وبالتالي نجد هنا أن النظرية الليبرالية قد تنجح في تفسير مجريات الأمور على الساحة الدولية بعد الحرب الباردة، وتفسير كيف أن الولايات المتحدة الأمريكية وانطلاقا من رؤيتها بان مصدر أمنها هو الأمن الأوروبي وقيامها بإنشاء حلف شمال الأطلسي وهو منظمة دفاعية جماعية قامت من اجل احتواء المد الشيوعي، أما بعد انتهاء الحرب الباردة وإصرار أمريكا على الحفاظ على حلف شمال الأطلسي والقيام في تغير أهدافه وآلية عمله، وذلك حتى يناسب التغيرات التي حصلت على الساحة الدولية، حيث أن التوسع الذي يشهده حلف شمال الأطلسي بضم العديد من دول أوروبا الشرقية إليه، وهو الذي يمثل منظمة دفاع مشتركة ضد أي عدو متوقع أو غير متوقع،  يشكل تعبيرا عن الرؤية الأمريكية القائمة بملأ الفراغ الاستراتيجي في وسط أوروبا بالإضافة إلى اقتناعها أن الديمقراطيات لا تحارب بعضها البعض. 1

في النهاية إن المنظور الليبرالي يرى أن توسع الناتو قد يساهم في تعزيز الديمقراطيات الناشئة في أوروبا الشرقية، ويساهم في توسيع نطاق الآليات الأطلسية لإدارة النزاع إلى منطقة تبقى فيها الاضطرابات أمرا ضروريا.

في هذه الأطروحة تم مراجعة العديد من المراجع والدراسات السابقة، حيث تم الاعتماد على العديد من الكتب باللغتين العربية والإنجليزية، وكذلك تم الرجوع إلى العديد من المقالات من خلال دوريات ومجلات من أهمها:

 International organization, international security, foreign affair, and foreign policy

والعديد أيضا من المراجع الأخرى بما فيها شبكة الإنترنت.

1 Gaddis, John Lewis 1992, International Security 17, “international relations theory and the end of the cold war”.p 50.

1 Ibid: 52.

1 Ibid: 53.

2 Laferrer, Eric.1999. International relations theory and ecological thought. London: Roulledge. P88

1 Donnelly, Jack. 2000. Realism and international relations. U. K: Cambridge University Press. P27.

2 Ibid: 32

1 ميرل، مارسيل.1999. العلاقات الدولية المعاصرة: حساب ختامي، ترجمة حسن نافعة، القاهرة: دار العالم الثالث، ص 31.

2 أبو، عامر. 2004.  العلاقات الدولية الظاهرة والعلم الدبلوماسية والاستراتيجية، رام الله: دار الشروق، ص 131.

1 دورتي، جيمس. 1985. النظريات المتضاربة في العلاقات الدولية، ترجمة وليد عبد الحي، الكويت: كاظمة للنشر والترجمة والتوزيع، ص 60.

2 المرجع السابق: 61.

1 يامورا، تاكايوكي. مفهوم الأمن في نظرية العلاقات الدولية

http://www.geocities.com/adelzeggagh/secpt.html, (accessed apr 14, 2005)

1 ibid:4.

1 Lebow, Richard Ned. 1994. International organization 48, “The long peace, the end of the cold war, and the failure of realism”.p 250.

1 Ibid: 251.

1 Ibid: 256.

2 Ibid: 260.

1 Ibid: 270.

1Robert B. McCall 1996. International organization 50. “NATO’s persistence after the cold war”. P476.

Wohlforth, William 1995. International security 19. “Realism and the end of the cold war”. P125.2

1 Ethan Kapstein 1995. International organization 49.”Is realism dead? The domestic sources of international politics”. P 754

1 أبو عامر 2004: 128.

2 المرجع السابق: 129.

1 Kegly, Charls.1995. Controversies in international relation theory: realism and neoleberal challenge. New York: St. Martin’s press. P 83.

2  يامورا، تاكايوكي. مفهوم الأمن في نظرية العلاقات الدولية

http://www.geocities.com/adelzeggagh/secpt.html, (accessed apr 14, 2005)

1 ibid: 2004.

2 يامورا، تاكايوكي. مفهوم الأمن في نظرية العلاقات الدولية

http://www.geocities.com/adelzeggagh/secpt.html, (accessed apr 14, 2005)

1 يامورا، تاكايوكي. مفهوم الأمن في نظرية العلاقات الدولية

http://www.geocities.com/adelzeggagh/secpt.html, (accessed apr 14, 2005)

” من اجل مصلحة الولايات المتحدة القومية ومن اجل الاستقرار في أوروبا، على الولايات المتحدة  أن تبقى في أوروبا”

Richard Hhalbroks1

1 السكرتير المساعد للولايات المتحد للشؤون الكندية الأوروبية.

 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button