قراءة في أوضاع الصومال في القرن الأفريقي وأثرها على الأمن في إقليم البحر الأحمر

البحر الأحمر في التاريخ والجغرافيا:

مثل البحر الأحمر منذ القدم حلقة وصل بين الحضارات التي قامت بمحاذاة سواحله من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب.. فمن حضارات اليمن القديمة وأرض الشام إلى حضارات حوض النيل وبلاد القرن الأفريقي.

وهو يمثل اليوم جسر عبور بين أوروبا وشمال أفريقيا المطلتان على البحر الأبيض المتوسط وبين جنوب وجنوب غرب آسيا وشرق أفريقيا المطلة على المحيط الهندي؛ حيث تنتقل سفن البضائع التجارية وناقلات النفط والغاز وسفن النقل والسياحة والصيد.. بل وحتى السفن والقطع الحربية الغازية، فقد وجدت في البحر الأحمر أقصر طريق!

وقد أخذ البحر الأحمر أهميته في العصر الحديث عقب افتتاح قناة السويس (عام 1869م)، ولا نبالغ إذا قلنا أنه من أنشط البحار العالمية في مجال الحركة والملاحة البحرية، إلى الحد الذي أصبحت معه قناة السويس مصدر دخل قومي مهم لدولة مصر التي تتحكم منفردة بهذا الممر البحري الحيوي.

وقد جاءت أهمية البحر الأحمر للمنطقة العربية من كونه معبراً مهماً للملاحة الدولية.

وقد تنافست الدول الاستعمارية في سبيل التحكم بمنافذه والاستيلاء على أهم المدن المطلة عليه، كما وضعته إسرائيل * في أجندتها الإستراتيجية منذ قيامها، لكنها بدأت في توسيع نفوذها عليه بعد حرب أكتوبر 1973م.

ولعل أهم نقطتين إستراتيجيتين فيه هما قناة السويس ومضيق باب المندب، لأنهما تتحكمان في دخول السفن إليه وخروجها منه، وهما لذلك بوابتاه الأمنيتان.

ويأخذ البحر الأحمر أهميته في الأمن القومي العربي في ظل تهديدات التوسع الإسرائيلي والاحتلال الأمريكي القادم إلى المنطقة والتنافس الأوروبي في إيجاد موطن نفوذ عليه. وإذا كان الأمن القومي العربي قد تعرض للتهديدات نظرا لأسباب كثيرة منها الثروات الطبيعية التي تتمتع بها الأراضي العربية، والموقع الجغرافي الذي بموجبه تسيطر المنطقة العربية على جسور بحرية وبرية مهمة تربط قارات العالم، بل وتشكل معابر استراتيجية مهمة فيما بينها، فإنه اليوم يواجه أشد هذه التهديدات على دوله المحيطة بالبحر الأحمر ليفقد قدرته على التحكم بخطوط التجارة بعد أن فقد مصادر الثروة في العراق!

لقد أصبح الوجود العسكري الأجنبي في البحر الأحمر ضمن الإستراتيجيات الكبرى للقوى الدولية وبالذات منها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإسرائيل.

البحر الأحمر والأمن القومي * العربي:

إن الأمن القومي العربي يجسد وحدة واحدة، ولا يمكن بحال التحدث عنه كأجزاء منفصلة أو مترابطة، ذلك أن تاريخ المنطقة ومنظومتها الثقافية والاجتماعية وهويتها الحضارية ومصالحها ومصيرها غير منفك عن بعضه البعض؛ وبدون مبالغة مثلت هذه المنطقة واقعا ملموسا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”.

والأمن القومي العربي يمثل الأمن القومي لقلب العالم الإسلامي باعتبار موقعه المكاني والتاريخي والحضاري. وإذا كان الأمن القومي لدولة ما -أو مجموعة دول- يشمل الميادين السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية والثقافية والتقنية؛ ومرتبط بحركة وتغيرات المحيط الخارجي له، فمن باب أولى أن يرتبط بحركة وتغيير أعضائه الذين يشكلون جسده.

لقد كان الوطن العربي برمته بأرضه ومنافذه وثرواته محط أطماع وصراع بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية سابقا، وقد أعطت له ظروف الحرب الباردة مجالا للمناورة والموازنة في العلاقات والتهديدات، لكنه اليوم عاجز -كما يبدو- عن الاستقلال بإرادته والتحكم بمصيره، نظرا لغياب مفهوم الوحدة الحقيقية على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي! ووجود دوافع الفرقة والشقاق التي ولدتها الصراعات السياسية والولاءات الفكرية.

لقد عمل الغرب على ربط الدول العربية بشبكة استثمارات اقتصادية -يدور معظمها حول النفط- ليوجد غطاء مناسبا لوجوده في المنطقة؛ وفي الوقت ذاته عمل على إيجاد موطن قدم له في دول غير عربية مثل أريتريا وإثيوبيا لتأمين وجود قواته مقابل المنافذ البحرية للبحر الأحمر. وفي خطوة أبعد من ذلك جعل من وجود قواته ضرورة عربية قبل أن تكون ضرورة أمريكية.

ويتفق الباحثون على أن أهم أهداف القوى الاستعمارية في البحر الأحمر اليوم هي:

– تأمين استمرار تدفق النفط والغاز من الدول المنتجة في الخليج العربي.

– تأمين طرق الملاحة العالمية بالمنطقة لصالح الغرب.

– تحقيق النفوذ الاقتصادي في المنطقة واستغلال الموارد الخام والثروات الطبيعية والوصول إلى الأسواق العالمية بيسر وسهولة.

– تكريس الوجود الأمني والعسكري وتسهيل حركته في سبيل تحقيق الرؤى السياسية والخطط الاقتصادية.

وبالتالي عززت الإدارة الأمريكية إبان حرب الخليج الأولى من وجود أساطيلها البحرية على منافذ البحر الأحمر وبالأخص منفذه الجنوبي؛ وقد سعت مرارا في الضغط على اليمن للحصول على تسهيلات وقواعد بحرية في جزرها المتحكمة بباب المندب أو قبالة عدن أو في جزيرة سقطرة!

وهي أيضا في مقابل سعيها الحثيث لإقناع دولة كاليمن للحصول على تسهيلات أو قواعد عسكرية، تدفع بالنزاعات الإقليمية التي تهدد قدرة حكومة كاليمن على التأثير والسيطرة على منافذها المطلة على باب المندب وخليج عدن.. وما منازعة إريتريا لجزر حنيش إلا جزءا من هذا السيناريو، الذي يراد من ورائه تدويل هذه النزاعات وفرض وجود القوى الدولية -والتي غالبا ما تكون في مثل هذه الظروف أمريكية وأوروبية!

هذه النزاعات بالطبع أثرت على تعاطي الحكومة اليمنية تجاه تقديم تسهيلات للأساطيل الحربية للقوات الأمريكية المرابطة في المحيط الهندي أو العابرة، كما وقع في حرب واشنطن على أفغانستان وعلى العراق! خاصة وأن دول القرن الأفريقي المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن مغيبة تماما عن التأثير بل لا وجود لها كما هو الحال مع الصومال!

وفي حين تمهد الولايات المتحدة لبناء قواعد إستراتيجية في المنطقة العربية بالبحر الأحمر، أبدت واشنطن اهتماماً مكثفاً في الآونة الأخيرة بالقرن الأفريقي باعتبار تأثيره الأمني على المنطقة وأمن الملاحة فيها! لذا جاءت تحركات الإدارة الأمريكية مع المجتمع الدولي –الذي تحركه من ورائها- لإنجاح المصالحة الصومالية وإعادة الأمن والاستقرار وإقامة دولة مركزية.

الصومال.. خلفية عامة:

تقع الصومال شرقي أفريقيا، وهي مطلة على المحيط الهندي وخليج عدن، وقريبة إلى حد كبير من باب المندب. ويبلغ الطول الكلي لسواحلها 3.025 كم.

حصلت الصومال على استقلالها عام1960م؛ وانضمت للأمم المتحدة في العام ذاته؛ وجاء انضمامها للجامعة العربية متأخرا (1974م).

تتوزع الصومال على 18محافظة، وعاصمتها مقديشو، ومن أهم مدنها: هرجيسة وكسمايو وبربرة وزيلع وميركا.

وتبلغ مساحة الصومال 637.657 كم2، يحدها من الشمال جيبوتي (58كم)، ومن الشمال الغربي إثيوبيا (1.626كم)، ومن الغرب كينيا (682كم). أما تعداد سكانها فهو8.025.190 نسمة وفق تقديرات سنة 2003م؛ نسبة الذكور 51%؛ ونسبة النمو السكاني تصل إلى 3.43%، بحسب التقديرات ذاتها!

توزعت القوى الاستعمارية (إيطاليا وبريطانيا وفرنسا) هذا البلد وشتت شمله، ففيما اقتطعت فرنسا الجزء الشمالي منه “جيبوتي”، ظل الجزء الغربي والغربي الجنوبي تحت الاحتلال الإيثوبي والكيني كمنحة بريطانية للقوى الصليبية في المنطقة. وقد خاضت الصومال –بعد توحد جزئيه الإيطالي والبريطاني ونيل الاستقلال في يونيو 1960م- حربا مع إثيوبيا عام 1961م لاستعادة منطقة “الأوجادين”.. وقطعت علاقتها ببريطانيا إلى حين استعادة الأراضي التي وهبتها لكينيا.

اللغة العربية هي اللغة الرسمية في الصومال بالإضافة إلى اللغة المحلية، كما يتم استخدام اللغة الإنجليزية والإيطالية. ولا يوجد في الصومال أقليات دينية أو طائفية فشعب الصومال مسلمون سُنَّة 100%؛ وغالبيتهم يلتزمون المذهب الشافعي؛ أما من حيث العرقيات فـ 98% من الشعب صوماليون و1.5% بانتو وعرب.

يهتم غالبية الشعب الصومالي بالمواشي ورعايتها، ويتمتع بروابط عائلية وقبلية قوية، حيث تمثل القبيلة السلطة الفعلية للمجتمع، كما أنه شعب معتز بدينه الإسلامي وعروبته، لذا فهو شعب متدين وحريص على تعلم القرآن وتعليمه لأبنائه.

الأوضاع الاقتصادية:

تمتلك الصومال موارد طبيعية محدودة جداً، تذكر المصادر منها: اليورانيوم والحديد الخام والقصدير والنحاس، لكن لا توجد دراسات أو أرقام وبيانات معلنة عن حجمها وجدواها الفعلية في النهوض باقتصاد البلد. هذا إضافة إلى الملح والجبس وهما مستغلان بشكل بسيط؛ ولا توجد إشارات واضحة حول النفط أو الغاز الطبيعي!

ومعظم إمكانيات البلاد الاقتصادية خربت خلال الحرب الأهلية، كما أن الصناعة مشلولة لغياب البنى التحتية وتدمير الكثير مما كان قائما منها. والقطاع الصناعي -الذي كان قائما- كان يعتمد على معالجة المنتجات الزراعية التي تراجعت مع استمرار الحرب؛ وتسبب ذلك في حدوث مجاعات واسعة النطاق. وهناك صناعات أخرى كصناعة: الجلود والسكر والمنسوجات.

وتعتبر الزراعة أهم القطاعات الحيوية للشعب الصومالي، وتقدر بعض المعلومات نسبة الأراضي الصالحة للزراعة بـ 2%، ويمثل الموز والذرة والقمح والمانجو وقصب السكر أهم المحاصيل الزراعية. وهي وإن كانت تزرع أساساً للسوق المحلية لكن منها ما يصدر إلى الخارج كالموز والسكر والبخور.

وكانت الصومال تمتلك ثروة حيوانية هائلة -باعتبار مساحة الأرض الرعوية (69%)- معظمها من: الأغنام والماعز والإبل؛ وقد تراجعت هي الأخرى نتيجة الحرب والنزاعات وعوامل الجفاف والتصحر. بالإضافة إلى ذلك، تمتلك الصومال ثروة حيوانية بحرية غير مستغلة!

ووفقا لتقديرات سنة2001م يبلغ إجمالي الناتج القومي (بالمليون دولار): 4100؛ بمعدل 550 دولار للفرد! حصة قطاع الزراعة من إجمالي الناتج القومي: 65%؛ وحصة قطاع الصناعة:10%؛ وحصة قطاع الخدمات: 25%. أما إجمالي الصادرات (بالمليون دولار): 126؛ وإجمالي الواردات (بالمليون دولار): 343؛ وفقا للتقديرات ذاتها.

وتفيد بعض التقارير بأن معدل نمو الناتج المحلي يصل: 2%.

الصادرات والواردات: تصدر الصومال بعض المنتجات الزراعية والحيوانية إلى الدول المجاورة لها إقليميا كاليمن والمملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج. وتستورد مشتقات البترول والمواد الغذائية والأجهزة ومعدات النقل ومواد البناء وغير ذلك.

ويعاني الصوماليون إلى جانب الحروب الأهلية الطاحنة التي أكلت الأخضر واليابس، ونشرت الخوف والرعب، من قلة الطعام والماء، والفقر المدقع، وتفشي الأمراض والأوبئة، وانعدام الرعاية الصحية والخدمات التعليمية. هذا إضافة إلى الجفاف والتصحر اللذان يفقدان الأرض قدرتها على العطاء!

وفي العموم تعتبر الصومال -اليوم- أشد دول العالم فقراً و تخلفاً، وتعد حركة التجارة فيها راكدة إلى حد كبير، باعتبار الأوضاع الداخلية التي تعاني منها، وباعتبار غياب الدولة المركزية الحاكمة. وتحتاج محاولات الإصلاح الاقتصادي إلى قضايا كثيرة من أهمها توفر الأمن والاستقرار.

الدين والتدين في الصومال:

الصوماليون مسلمون سنة، وهم مجتمع قبلي محافظ ومتدين. والإسلام في الصومال قديم جدا، ولا يزال حاضرا في المجتمع الصومالي من خلال التعليم التقليدي، والذي يقام في المساجد والزوايا ومدارس تحفيظ القرآن الكريم، أو ما يعرف بالكتاتيب؛ وهنا يدرس القرآن الكريم للأطفال، ولا تطال الحروب -كما هي العادة- هذه الأماكن ومرتاديها؛ فلا يجوز قتل مدرس القرآن كعرف قبلي!

وعلى عكس ما هو الحال في عدد من البلدان العربية فإن العودة إلى ممارسة الشعائر الإسلامية وتعلم مبادئها أصبحت ظاهرة لدى الفئات الشبابية من الطبقات الميسورة والمتوسطة، وهذه الظاهرة تنامت في العقد الأخير؛ حيث إن الموظفين وصغار التجار من الشباب مهتمون بتعلم العلوم الإسلامية ويرتادون المساجد أكثر من غيرهم. وعلى رغم الظروف الصعبة إلا أن الصوماليين حريصون على أداء فريضة الحج سنويا.

وتنتشر في الصومال المحاكم الشرعية التي أصبح يرجع إليها الناس في فض النزاعات وتحقيق العدل وإقامة الحدود وإجراء عقود الزواج والطلاق وغير ذلك. كما يشارك الصوماليون المسلمون في أنحاء العالم مشاعرهم وآلامهم، فقد شهدت العاصمة مقديشو عددا من المظاهرات الشعبية، لأيام متتالية.. وفي وكبريات المدن الصومالية الأخرى، ضد الحرب الأمريكية على العراق، وصام الناس في بعض المدن سبعة أيام وقرأوا صحيح البخاري كتقليد صومالي لنصرة العراقيين إبان الحرب! كما شهدت المساجد أدعية وخطبا بهذه المناسبة.

وهناك جهود حثيثة لتنصير اللاجئين الصوماليين في دول مختلفة تحت غطاء المساعدات الإنسانية. بل هناك العديد من المنظمات العاملة في الصومال من أجل تنصير المسلمين. وقد حاول البعض تمرير محاولة إثبات وجود طائفة نصرانية في مؤتمر المصالحة؛ فقد تقدمت منظمة مسيحية تطلق على نفسها اسم “المجتمع المسيحي” بطلب تمثيل المسيحيين الصوماليين بالمؤتمر المنعقد في مدينة الدوريت الكينية في فبراير 2003م؛ لكن اللجنة المنظمة رفضت الطلب. وجاء في طلب رئيس منظمة “المجتمع المسيحي الصومالي” أحمد عبد أحمد رغبته في الاعتراف بهم كأقلية لها حقوقها السياسية والاجتماعية في البلاد وبأنهم مواطنون كغيرهم من الأكثرية المسلمة في الصومال؛ وأن أتباع المنظمة التي تأسست عام1960م يقدرون بـ 13 ألفا يقيمون داخل الصومال وخارجها(!!)

وقد نفت رابطة العلماء في الصومال * -في بيان لها صدر بتاريخ 17/2/2003م- وجود أقلية نصرانية في المجتمع الصومالي، واصفة هؤلاء بأنهم “مرتدون يجب تطبيق أحكام الشريعة عليهم”. وأضاف بيان العلماء بأن ما حدث عبارة عن استفزاز لمشاعر المسلمين في الصومال الذين يدينون بالإسلام، وطالب الأطراف الصومالية المشاركة في مؤتمر المصالحة بعدم السماح “للمرتدين” بالمشاركة في المؤتمر وإنزال عقوبة الإعدام بهم إذا عادوا إلى البلاد أو وجدوا فيها كما تنص الشريعة الإسلامية.

لمحة تاريخية:

خضعت الصومال للإمبراطورية الحبشية خلال الفترة من القرن الثاني وحتى السابع الميلاديين. وقد دخلها الإسلام قديما من خلال هجرة بعض القبائل العربية (السُنِّية) إليها، وذلك فرارا من دولة القرامطة التي قامت في الأحساء وأجزاء من الجزيرة العربية؛ بالإضافة إلى التجار الذين كانوا يحتكون مع أهل البلاد الأصليين وينقلون الإسلام إليهم.

وقعت الصومال تحت الاحتلال البريطاني لتأمين تجارتها المارة عبر البحر الأحمر، وذلك عقب انسحاب القوى المصرية -التي كانت تحتلها منذ عام 1870م- لإخماد ثورة المهدي في السودان.

ونتيجة مقاومة الشعب الصومالي وجهاده ضد الاحتلال، انسحبت بريطانيا إلى السواحل فقط، في حين زادت إيطاليا من نفوذها في المنطقة تحت معاهدة لندن 1915م واتفاقيات أخرى تلت الحرب العالمية الأولى؛ وفي عام 1936م ضمت إيطاليا أقاليمها في الصومال وإريتريا وإثيوبيا إلى مستعمراتها شرقي إفريقيا؛ ثم لم تلبث أن هاجمت المناطق البريطانية في الصومال بعد أن دخلت الحرب العالمية الثانية كحليف لألمانيا، ونجحت في طرد بريطانيا.. التي عادت وأعلنت الوصاية على الصومال في عام 1941م.

وفي الأول من يوليو 1960م حصلت الصومال على استقلالها تبعاً لاتفاق مع الأمانة العامة للأمم المتحدة.

خاضت الصومال حرباً مع إثيوبيا منذ عام 1977م وحتى عام 1988م؛ ثم دخلت البلاد بعد ذلك في دوامة الحرب الأهلية أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، وخلال عامين قتل حوالي 500.000 شخص، و300.000 قتلتهم المجاعة!!

في ديسمبر 1992م أرسلت الأمم المتحدة قوات حفظ السلام الدولية لإعادة الأمن وحماية المنظمات الدولية التي عملت على تقديم العون الغذائي والاجتماعي للسكان، لكنها لم تتمكن من ذلك بل كانت هدفا للمليشيات المتحاربة؛ ومن ثم انسحبت الأمم المتحدة من الصومال عام 1995م.

سياد برى والحكم الاشتراكي للصومال:

قام اللواء محمد سياد برى رئيس أركان القوات المسلحة مع مجموعة من الضباط بالاستيلاء على الحكم صبيحة يوم 21 أكتوبر 1969م عن طريق انقلاب عسكري، وشكل على إثر إعلان الانقلاب (مجلس قيادة الثورة) وعلق الدستور وألغى البرلمان، وبدأ في حكم البلد حكما مطلقا، وألقى برموز السلطة السابقة في السجون، وعمل على التخلص من بعض الضباط البارزين في مجلس قيادة الثورة الذين شاركوا بفعالية كبيرة في تنفيذ وإنجاح الانقلاب، حتى لا يشكلوا عامل منافسة ضده، فقام بإعدامهم بتهمة الخيانة على دفعتين.

وانتمى نظام سياد بري في أحضان الماركسية الاشتراكية، وأعلن الاشتراكية كمنهج سياسي وفكري للبلاد *، وبدأت الحكومة الصومالية بتنفيذ ما وصف بأنه أكبر حملة ماركسية لينينية في أفريقيا.

وقد شهدت كتابات المرحلة بهذه الحملة: (ولم يكن النظام يتردد في إعلان إخلاصه للاشتراكية العلمية كما تفهمها موسكو ولكنه في الوقت نفسه كان يستوحي التجربتين الصينية والكوبية، وكان للمثقفين اليساريين الإيطاليين تأثير خاص على الضباط الصوماليين الشباب الذين كانوا يتهافتون على الصحيفة الإيطالية الاشتراكية الماركسية “أفنتى”) *

وفى أواسط عام 1976م أعلن النظام تبنيه مبدأ الحزب الواحد، ليكون “الحزب الاشتراكي الثورى الصومالي” -الذي حلت قيادته وعلى رأسها رئيس الدولة محل المجلس الأعلى لقيادة الثورة- هو الحزب السياسي الوحيد في البلاد.

في عام 1977م دخل نظام سياد بري في حرب أوجادين مع نظام “مانجيستو” الماركسي في إثيوبيا، معتمدا على الدعم السوفييتي الذي ما لبث أن خذله واتجه وفقا لمصالحه الإستراتيجية خلف النظام الإثيوبي -الذي وجد مساندة من دول المعسكر الشيوعي، فكان رد فعل سياد برى إلغاء معاهدة الصداقة مع الاتحاد السوفييتى وطرد جميع الخبراء الروس من الصومال، حيث نقلوا مباشرة إلى إثيوبيا.

ومع بداية 1978م حاولت أول مجموعة من الضباط الانقلاب على حكم سياد بري لكنها فشلت، وواجه معظمهم عقوبة الإعدام؛ فيما فر بعضهم، وكان ممن فرَّ العقيد عبدالله يوسف أحمد الذي نظّم فيما بعد أول معارضة مسلحة.

عقب عام 1978م وفشل نظام سياد بري في حربه مع إثيوبيا وإدارة البلاد وكثرة الثورات المعارضة لحكمه، بدأت تلوح في الأفق ملامح سقوط النظام الذي عمل على تحميل عدد من الحكومات المتعاقبة الأوضاع المتردية.. وكانت الديون الخارجية للصومال قد بلغت عام 1988م قرابة 20 مليار دولار!

وبحلول شهر ديسمبر 1990م بدأت الاضطرابات في العاصمة مقديشو وزاد الضغط الشعبي على سياد برى للتخلي عن السلطة ومغادرة البلاد، وفي مساء 27 يناير 1991م اضطر الرئيس بري -الذي حكم الصومال 21 عاما- إلى الهروب من العاصمة مقديشو، التي لم يتسنى له العودة إليها إلى حين وفاته في نيجيريا طريدا ولاجئا منسيا.

لم يغادر سياد بري السلطة إلا بعد أن أشعل فتيل حرب دامية دامت قرابة عقد ونصف من الزمان وكلفت الصومال والصوماليين الكثير، ففي 18 و25 يناير على التوالي من عام 1990م نشرت منظمة العفو الدوليةAmnesty International ومنظمة أميركان واتش American Watch تقارير عن ذبح النظام من 50.000 إلى 60.000 من المدنيين منذ بداية الحرب الأهلية في مايو 1988م.*

(في نهاية 1991م قدر عدد ضحايا الحرب بحوالي 20.000 شخص ونحو 600.000 لاجئ إلى الخارج، وبضع مئات من الألوف نزحوا من مناطقهم إلى أماكن أخرى في الداخل بحثا عن الأمان) * و(من نوفمبر 1991م إلى فبراير 1992م اندلعت المعارك الشرسة بين علي مهدي وعيديد فى مقديشو حيث نسف وسط المدينة والبنية التحتية والمرافق، ونتج عن القصف العشوائي المركز والمستمر ليلا ونهارا لمدة ثلاثة أشهر كارثة بالنسبة للسكان المدنيين وكتب مراسل الواشنطن بوست الأمريكية أن المدافع التي تتساقط كالمطر على الأحياء المكتظة بالسكان تحصد نحو 1.000 ضحية أسبوعيا في مقديشو).*

(لقد أصبح مليون طفل و4 مليون ونصف من الكبار مهددين بالموت من الجفاف والمجاعة، ونفقت نحو 40% من المواشي، كما أصبح المزارعون لا يستطيعون العمل في مزارعهم. وفى منتصف 1992م بلغ عدد اللاجئين المسجلين في كينيا وحدها 350.000، وفي إثيوبيا 357.000، وفي جيبوتي 20.000، وفي اليمن 10.000، ونزح نحو 300.000 آخرين من مناطقهم في الداخل وبمعدل 1000 شخص يعبرون الحدود الكينية يوميا هربا من الحرب) *.

في نوفمبر 1991م أفاد الصليب الأحمر -في تقرير له- بأن الوضع في الصومال: “يشكل كارثة إنسانية وألوف الجرحى والقتلى يسقطون يوميا”.

بداية الحرب الأهلية:

استولت قوات “المؤتمر الصومالي الموحد” بزعامة اللواء محمد فارح عيديد (وهو التنظيم السياسي العسكري لقبيلة الهوية بكل فروعها) على العاصمة مقديشو، في يناير 1991م؛ وأعلنت الإذاعة بيانا صادرا عن الاجتماع الطارئ لأركان حزب المؤتمر، تضمن تعيين علي مهدي محمد-أحد رموز المؤتمر وتاجر معروف- رئيسا مؤقتا للبلاد، وتثبيت رئيس الوزراء عمر عرته غالب في منصبه، على أن يعقد مؤتمر وطني تحضره كافة الفصائل في غضون شهر للاتفاق على شكل الحكومة النهائي، لكن شيئا من ذلك لم يقع وبدأ النزاع على السلطة، فعقد المؤتمر الأول للمصالحة في جيبوتي حيث جدد لعلي مهدي في الرئاسة، الأمر الذي لم يرق للجنرال فارح عيديد.

في هذه الأثناء بدأت مليشيات المؤتمر الصومالي الموحد في مواجهات مسلحة مع قبيلة الدارود (التى ينتمي إليها الرئيس السابق سياد بري)؛ سواء من كان في الحكومة أو من المدنيين، وحصلت مذابح عشوائية، وعمّت العاصمة فوضى عارمة، ونهبت جميع مؤسسات الدولة، والهيئات الدبلوماسية، ولم يستطع المؤتمر الصومالي الموحد أن يضبط الأمن ويلجم جماح المليشيات؛ ، وتحولت حملة حزب المؤتمر من حملة للسيطرة على الحكم إلى حرب قبلية!

ثم تفجر الصراع سريعا بين اللواء محمد فارح عيديد والرئيس علي مهدي محمد من أجل السلطة، وفي هذه الحرب التي استمرت أكثر من أربعة أشهر ودارت رحاها بين فرعي قبيلة الهوية الموالين للطرفين تعرضت العاصمة مقديشو وبنيتها التحتية للتدمير، وشهدت هذه الفترة أعنف المعارك وأكبر الخسائر المادية والبشرية، وتفتت الوحدة السياسية والاجتماعية للبلد لتدخل في حرب ضروس أتت على كل شيء أمامها!

نتائج عقد ونصف من الحرب الأهلية:

على الصعيد السياسي:

لقد كان من أعظم نتائج الحرب على المستوى السياسي ذهاب الدولة المركزية ذات السيادة وغيابها عن الحضور إقليميا وعالميا، وبالتالي لم يعد للسفارات الخارجية للصومال وجود أو دور يذكر في ترتيب أوضاع المغتربين في أنحاء العالم، بل أصبح الصوماليون كشعب في العراء وبدون أي غطاء يستندون إليه أو يلجأون له.. مما دفع إلى انتهاك حقوقهم وإهدار كرامتهم.

وغاب الصومال عن جميع الهيئات والمنظمات الدولية والإقليمية كالأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي ومنظمة الوحدة الإفريقية وغيرها، وهذا يعني غياب قضاياه وهمومه وممثليه الشرعيين في هذه المؤسسات.

ووقعت قضية الصومال في أيد خارجية تتداولها بما يتلاءم مع مصالح هذا البلد أو ذاك! وأصبحت الصومال محل أطماع دول إقليمية وأجنبية!

على صعيد البنى التحتية للدولة:

بلا شك، فإن مقدرات أي دولة مهما كانت ضعيفة تظل ملكا للشعب وحقا عاما لأفراده، وعند تدمير ممتلكات الدولة يفقد الشعب مقومات النهوض والسير، وهذا ما حدث في الصومال!

لقد دمرت الحرب جميع البنى التحتية: الكهرباء والبترول والمياه والهاتف والطرق والمصالح العامة والمباني الحكومية والمنافذ والمطارات والموانئ…!

لقد تعطلت جميع مؤسسات الدولة بدءا من الحكومة والجيش والأمن الداخلي والصحة والتعليم والمواصلات وغيرها، فلا مستشفيات أو مراكز صحية ولا مدارس أو جامعات أو محاكم …!

كما أن المصانع ومصفاة البترول ومحطات توليد الكهرباء إما دمرت أو نهبت!

على الصعيد الأمني:

– انتشر السلاح بأيدي الناس عموما.

– كثر قطاع الطرق واللصوص.

– كثرت العصابات المسلحة ذات الأهداف المختلفة.

– غياب الأمن في القرى والمدن والطرقات.

– ارتفع معدلات الجريمة من قتل ونهب واغتصاب!

على الصعيد الاقتصادي:

– دمرت جميع مقدرات الدولة والمؤسسات والأفراد.

– غابت التجارات والصناعات والزراعة نظرا لغياب الأمن واشتغال الناس بالقتال.

– تصحرت الأراضي الزراعية وتخريب البيئة ونفوق العديد من الحيوانات والماشية!

– انخفض مستوى العملة إلى حد 8.000 شلن صومالي مقابل الدولار.

– غابت فرص التعليم والتدريب والعمل.

على الصعيد الاجتماعي:

– انقطع عشرات الألوف من الأطفال عن التعليم، وانخراطوا في الحروب والقتال والمليشيات.

– تفشت البطالة في أوساط الرجال واشتغل النساء بالعمل!

– فر مئات الألوف من الصوماليين من الحرب إلى بلدان أخرى، كإثيوبيا وكينيا واليمن وعدد من الدول العربية والأوروبية. وعاش الكثير منهم في مخيمات اللاجئين، أو انخرطوا في أعمال شاقة أو مهينة، أو تلقفتهم مؤسسات تنصيرية.

– مات مئات الآلاف نتيجة الحروب أو المجاعة أو الأوبئة والأمراض أو محاولات الهجرة عبر البحار في قوارب غير صالحة وآمنة للنقل.

– نزح مئات الآلاف من الصوماليين بعيدا عن قراهم التي دمرتها الحرب إلى مناطق أخرى داخل الصومال، وعاشوا في ظل ظروف معيشية قاسية.

– تفككت الأسر، وبلغ عدد الأرامل واليتامى ممن لا عائل لهم عشرات الآلاف.

– انتشرت حالات الاغتصاب من قبل رجال المليشيات أو في إطار مخيمات اللاجئين، وانتشرت تجارة الدعارة بالنساء!

– اشتعلت النعرات القبلية والثارات والعدوات.

– تشتت الشعب الصومالي كلاجئين أو مهاجرين في العديد من الدول العربية والأفريقية والآسوية والأوروبية وفي الولايات المتحدة.

على الصعيد الثقافي والهوية الحضارية:

لقد هاجر أكثر من مليون صومالي -أو أكثر بقليل كما ترجح بعض المصادر- إلى أوروبا وأمريكا ودول أخرى بعضها عربية وأخرى أفريقية، وتتوزع الجالية الصومالية على أكثر من مائة قُطْر في أنحاء العالم، ومن المؤكد أن يكون لهذه الهجرة –كما يرى البعض- تأثير مباشر على هؤلاء اللاجئين والمهاجرين بالنسبة للتقاليد والعادات والثقافة واللغة وربما الدين؛ وبالتالي فهناك خلل سيحدث في مستقبل ثقافة المجتمع الصومالي؛ وإذا عرفنا أن الغالبية العظمى للمهاجرين هم من الأطفال والنساء بشكل عام فإننا ندرك مدى ما سيتعرض له هؤلاء الضعفاء من التذويب والاستغلال مستقبلا.

السياسة الأمريكية تجاه القارة الأفريقية *:

استحوذت اعتبارات الحرب الباردة على اهتمامات صانعي القرار الأمريكي حتى عام 1989م، وكانت قائمة المصالح والأهداف القومية -التي تشكل محددات السياسة الأمريكية تجاه إفريقيا- تشمل “أربع قضايا أساسية هي:

– احتواء الشيوعية (وهو تهديد لم يعد له أي وجود اليوم).

– حماية خطوط التجارة البحرية من التهديدات المحتملة.

– الوصول إلى مناطق الثروات الطبيعية.

– دعم ونشر قيم الليبرالية.

“وإذا كانت خبرة العلاقات الأمريكية الإفريقية منذ الستينيات تعكس رؤى أمريكية متباينة تجاه القارة الإفريقية”، و”تجسد غياب الرؤية الشاملة والمتكاملة بشأن موقع إفريقيا في عملية صنع السياسة الخارجية الأمريكية” فإن نهاية الحرب الباردة أحدثت تغيرات جذرية؛ هذه التغيرات الجديدة التي سارت باتجاه العولمة الأمريكية “أفضت إلى إعادة توجيه السياسة الأمريكية نحو إفريقيا من خلال التركيز على دبلوماسية التجارة كأداة للاختراق بالإضافة إلى دعم قادة أفارقة جدد. وقد اتضحت ملامح هذه السياسة منذ بداية عام 1998م؛ حيث سعت إدارة كلينتون إلى تأسيس شراكة أمريكية إفريقية جديدة”.

كما أن أحداث 11 سبتمبر عززت من الاتجاهات والأفكار المطروحة -في أوساط النخبة الحاكمة في واشنطن- في سبيل دفع ودعم دور ومكانة الولايات المتحدة في شتى أنحاء العالم.

وقد خضعت السياسة الأمريكية تجاه أفريقيا في الآونة الأخيرة لتقويم وإعادة ترتيب للأهداف والأولويات، نتيجة مجموعة من العوامل والمتغيرات لعل من أبرزها:

– الموقع الإستراتيجي للقارة والثروات الطبيعية التي تمتلكها، مع غياب القوى المنافسة عليها؛ هذا مع إمكانية السيطرة عليها نتيجة ضعف دولها وفقرها وكثرة الصراعات الداخلية بين دولها وقواها الاجتماعية والسياسية.

– وصول عدد من القيادات الموالية لواشنطن إلى السلطة.

– تزايد اهتمام الشركات الأمريكية بغزو الأسواق الإفريقية التي تضم نحو سبعمائة مليون نسمة.

– المخاوف الأمريكية من تزايد الوجود الإسلامي وتنامي الحركات الأصولية في القارة، الأمر الذي يهدد مصالحها الحيوية في المنطقة.

وبفعل هذه العوامل أصبحت سياسات الإدارة الأمريكية في القارة الأفريقية تتوجه نحو تحقيق الأهداف التالية:

– دعم النظم التي تأخذ بمفاهيم التحول الديمقراطي وفقًا للتصور الأمريكي، وبالأخص تلك الواقعة في المناطق ذات الأهمية الإستراتيجية بالنسبة للمصالح الأمريكية في القارة. مع التركيز على مناطق إقليمية معيَّنة واختيار دولة أو أكثر تمارس دور القيادة مثل جنوب إفريقيا في الجنوب ونيجيريا والسنغال في الغرب وأثيوبيا في الشرق؛ في حين تسعى -كذلك- إلى تشكيل نخب جديدة في إفريقيا موالية للغرب عموماً وللولايات المتحدة بشكل خاص، وإلى تسويق نمط الحياة الأمريكية.

– العمل على إيقاف الصراعات وإنهاء الحروب بما يحقق الأمن والاستقرار وفقًا لمنظور المصلحة القومية لواشنطن! وليس للقارة! فتحقيق الاستقرار والسيطرة الأمنية في منطقتي البحيرات العظمى والقرن الإفريقي مع الاعتماد على قيادات إفريقية جديدة تتسم بولائها الواضح لواشنطن أصبح جزاء من السياسة الأمريكية الساعية إلى محاصرة الدول وحركات التحرر الإسلامية في المنطقة بما في ذلك السودان أو في إريتريا؛ ومن دلائل هذا التوجه العلاقات الدافئة بين الولايات المتحدة ونظام “زيناو” بـ”أديس أبابا”، وبينها وحركات التمرد وأركان المعارضة السودانية وعلى رأسهم “جون قرانق”.

– حماية المصالح الأمريكية الحيوية من الاستهدافات الأمنية، خاصة وأنها باتت معرضة لمزيد من الهجمات التي يمكن أن يخطط لها من تصفهم واشنطن بالجماعات الإرهابية! ويعد المجال الأمني بعد أحداث 11 سبتمبر من أبرز ملامح السياسة الأمريكية الجديدة، وحيث أن الوجود الأمريكي في أفريقيا قد تلقى ضربتين قويتين في نيروبي ودار السلام عام 1998م، كما أن العمليات الأخيرة لتنظيم القاعدة (بما فيها 11 سبتمبر) أثبتت تواجدا حقيقيا له في إفريقيا، * فإن على واشنطن أن تتحمل أعباء المحافظة على أمنها القومي، الذي يشمل أماكن مصالحها الإستراتيجية في الخارج وعلى امتداد القارات المختلفة!

– إخضاع جميع دول القارة للإرادة الأمريكية.. والعمل على محاصرة النظم غير الموالية لها، والتي تدعم التطرف والإرهاب من وجهة النظر الأمريكية مثلما هو الحال مع السودان! وليبيا –سابقا!

– تعزيز الشراكة الأمريكية الإفريقية بما يحقق مصالحها ونفوذها وسيطرتها على السوق والموارد الطبيعية وفرص الاستثمار. فقد أوصى التقرير -الذي صدر في منتصف عام 1997م بعنوان “تعزيز العلاقات الاقتصادية للولايات المتحدة مع إفريقيا”، حيث أعده فريق مستقل من الخبراء بتكليف من مجلس العلاقات الخارجية- بأن تكون الولايات المتحدة في مقدمة الدول الصناعية الكبرى المستفيدة من الفرص الجديدة في إفريقيا. واستنادًا إلى ذلك سعت الإدارة الأمريكية إلى الانتقال بالعلاقة بين الطرفين من مستوى المساعدات من أجل دعم جهود الإصلاح الاقتصادي والسياسي-حسب المتطلبات في المنطقة- إلى مستوى التبادل التجاري؛ دون أن يعني ذلك إلغاء أو تخفيض المساعدات الأمريكية المقدَّمة للقارة؛ بالإضافة إلى تشجيع الاستثمارات الأمريكية في القارة؛ والاستفادة من التجمعات الاقتصادية الإقليمية في إفريقيا، مثل جماعة تنمية الجنوب الإفريقي “السادك”، والجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا “الأكواس”.

– تشكيل قوة تدخل إفريقية لمواجهة الأزمات بالوكالة *، بحيث يقتصر الدور الأمريكي على التمويل والتدريب فقط والاتصال لتحقيق الترابط بين الوحدات في الدول المختلفة، ما لم تضطر أمريكا -تحت غطاء دولي أو بدون- إلى التدخل المباشر! وبحسب المبادرة الخاصة بمواجهة الأزمات الإفريقية (ACRI) تتألف هذه القوة من وحدات قوامها ما بين عشرة آلاف إلى اثني عشر ألف جندي إفريقي بقيادة ضباط أفارقة مؤهلين؛ ومن الدول المشاركة في هذه القوة السنغال وأوغندا ومالاوي ومالي وغانا وأثيوبيا.

———————

* إن من واجبنا تجاه حقائق التاريخ ومعطيات الواقع وموضوعية البحث العلمي عدم الاعتراف بإسرائيل كدولة؛ لأنها كما هي في الواقع شعب منبوذ أقام كيانه على أرض مغتصبة.. والزمن مهما تقادم لا يعطي للغاصبين المعتدين الشرعية مهما كان أصحاب الحق ضعافا أو أبيدوا عن الوجود! ولنا أن نصف إسرائيل بأي مسبة إلا أن نشهد لها بأنها دولة فهذا بداية التطبيع مع نفايات الشعوب وطرش الأمم!

* الأمن القومي هو تأمين سلامة الدولة ضد أخطار خارجية وداخلية قد تؤدي بها إلى الوقوع تحت سيطرة أجنبية نتيجة ضغوط خارجية أو انهيار داخلي. انظر موسوعة السياسة، ج1 ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط4-1999م.

* تأسست رابطة علماء الصومال رسميا عام ً2002م ، ومن أهم أهدافها رعاية الدين الإسلامي في الصومال الذي دمّرته الحروب الأهلية، خاصة وأن هناك جهات تبذل جهودها لنشر المسيحية في أوساط الصوماليين.

* في العام الأول للثورة 21/10/1970م قال سيد بري: (إن بلادنا صارت دولة اشتراكية ماركسية لينينية)، قسمات العالم الإسلامي – ص 410؛ وفي 16/7/1972 أدلى سياد برى ببيان رسمي بثته الإذاعة جاء فيه قوله: (إن مسيرتنا تطبق على البلاد الاشتراكية العلمية التي أسسها ماركس وطبقها لينين العظيم)، مجلة الرابطة فبراير 1975م؛ وجاء في افتتاحية صحيفة نجمة أكتوبر الناطقة بلسان الثورة في 16/8/1972م قول زياد بري في خطاب ألقاه في إحدى المدارس: (إننا نريد أن نعلن هنا وفي هذه اللحظات الحاسمة والتاريخية من مسيرتنا لبناء مجتمعنا أن الاشتراكية التي نطبقها في بلادنا هي الاشتراكية العلمية التي أسسها ماركس وأنجلز وطورها لينين العظيم.. الماركسية اللينينية وليست الطوباوية المجردة، إنها الاشتراكية التي ناضل من أجلها لينين وآخرون لتطبيقها)، مجلة المجتمع – 7/11/1972م.

* موسوعة السياسة، ص676.

* المصدر السابق.

* الصومال وعملية إعادة الأمل- جون هيرش وروبرت أوكلى، ص18.

* المصدر السابق، ص15.

المصدر السابق نقلا عن تقرير الأمين العام للأمم المتحدة.

* انظر مقالا بعنوان (جولة أولبرايت: السياسة الأمريكية بعد الحرب الباردة)، أ.د. حمدي عبد الرحمن – أستاذ العلوم السياسية المشارك بجامعة القاهرة وآل البيت بالأردن؛ نقلا عن موقع إسلام أون لاين.

* استطاع تنظيم القاعدة توجيه ضربتين للمصالح الغربية عرض البحر، ففي عام 2000م هوجمت المدمرة الأمريكية (يو إس إس كول) عرض البحر قبالة سواحل عدن، كما هوجمت ناقلة النفط (لينبورج) الفرنسية عرض البحر أيضا وقبالة ساحل المكلا عام 2002م.

* أوصت قمة دول الاتحاد الأفريقي التي عقدت في يوليو 2003م في موزمبيق بإرسال قوات عسكرية أفريقية إلى الصومال في إطار المساعي الأفريقية الرامية إلى إنهاء الأزمة الصومالية، وتُعَدّ هذه الخطوة بداية لتقليد أفريقي جديد يتمتع بآلية تدخل عسكرية للمناطق المتوترة في القارة الأفريقية.

الاهتمام الأمريكي بالصومال:

في عهد الحرب الباردة، توجه النظام الصومالي بزعامة سياد بري شرقا صوب الاتحاد السوفيتي، وتم توقيع معاهدة تعاون وصداقة بين الجانبين عام 1974م. وهو العام الذي شهد قيام الثورة الاشتراكية في أثيوبيا ضد “هيلاسلاسي” بزعامة “منجستو”.

وفي حين توجه نظام “منجستو” إلى الشرق تغير اتجاه التحالفات الخارجية للنظام الصومالي بزعامة سياد بري إلى الغرب، خاصة بعد هزيمته أمام أثيوبيا في حربهما على إقليم “أوجادين” عام 1978م، والتي فضل فيها المعسكر السوفييتي الوقوف إلى جانب نظام “أديس أبابا”. وبالرغم من توجه سياد بري إلى الغرب إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية تعاملت مع نظامه بتحفظ، وذلك لعدة أسباب، منها: خلفية النظام الاشتراكية وطبيعته الاستبدادية، وغياب المؤهلات التي تسمح للصومال القيام بدور شرطي المنطقة.

لذلك وعلى الرغم من توقيع الاتفاقات العسكرية والاقتصادية مع واشنطن عام 1980م لم تقدم الولايات المتحدة الأمريكية لنظام بري الدعم اللازم لبقائه، مما ساعد في إسقاط نظامه أوائل التسعينيات بعد اندلاع الحرب الأهلية. بل تذكر بعض المصادر أن واشنطن كانت هي الممول للمعارضة؛ وحين قررت الأمم المتحدة -بعد سنة من انهيار نظام بري- إرسال قوات إلى الصومال باسم (إعادة الأمل) أراد بطرس غالي* أن ينتهز هذه الفرصة ويأمر القوات بنزع الأسلحة من المليشيات؛ إلا أن هذا الطرح قوبل بالرفض من قبل الولايات المتحدة!

ولحاجة في نفس الإدارة الأمريكية لم تتدخل في الشأن الصومالي إبان هذي الحرب، بل تركت الأمور تسير في سيناريو متوقع ومعد له من دول إقليمية؛ في حين أدارت هي حرب الخليج الثانية من مكان غير بعيد عن مقديشو.

وبعد عام ونصف من الحرب الأهلية في الصومال، قرر الرئيس الأسبق جورج بوش (الأب) التدخل ضمن قوات إعادة الأمن في الصومال بهدف حفظ السلام وتأمين وصول المساعدات الإنسانية للمحتاجين –كما قيل في حينها!

إلا أن هذه المهمة المعلنة فشلت عقب اتحاد الفصائل المتحاربة من أجل إخراج القوات الأمريكية من البلاد، ومقتل 18 جنديا أمريكيا على يد رجال المليشيات، والتمثيل بجثثهم على مرأى من وسائل الإعلام العالمية في أكتوبر 1993م، وبالتالي انسحبت هذه القوات في 1994م تجر وراءها أذيال الخيبة والهزيمة!

ومنذ ذلك الحين وواشنطن تعمل على مراقبة الصومال من بعيد، أو بالوكالة عن طريق أثيوبيا، حيث تزود الإدارة الأمريكية نظام أديس بالمعدات العسكرية لمطاردة القوى الإسلامية في المنطقة!

وعقب حادث تفجير السفارتين الأمريكيتين في كينيا وتنزانيا عام 1998م عاد الاهتمام الأمريكي بالصومال، فقد اتهمت واشنطن حركة الاتحاد الإسلامي في الصومال بتنفيذ عملية تفجير السفارتين؛ بل اعتبرت الحركة قاعدة تمويل خلفية لحركة “طالبان” و”تنظيم القاعدة” بعد هجومها على أفغانستان على خلفية أحداث 11سبتمبر.

وتعتبر كينيا ودول القرن الأفريقي في نظر الإدارة الأمريكية من مراكز أنشطة تنظيم القاعدة الذي تحمله مسؤولية الهجمات على سفارتيها في كل من نيروبي ودار السلام بتنزانيا في أغسطس عام 1998م. وقد تعرضت مصالح وأهداف أمريكية أو إسرائيلية إلى عدة تهديدات أو عمليات تم تنفيذها.. وهذا ما أكده “فيليب ريكر” المتحدث باسم الخارجية الأمريكية بقوله: إن التهديدات في منطقة القرن الأفريقي مازالت ماثلة.

بل لقد اتهم تقرير الأمم المتحدة، بشأن الهجمات التي شُنت على فندق وطائرة ركاب إسرائيلية في كينيا في (28/11/2002م)، مقاتلون من تنظيم القاعدة تم تسليحهم وتدريبهم في دولة الصومال! وربط التقرير بين اليمن والصومال حيث أشار بأن الصاروخين اللذين استخدما في الهجوم على طائرة العال الإسرائيلية أرسلا إلى الصومال من اليمن!

لقد رشحت هذه الأحداث الصومال لأن يكون المحطة الثانية بعد أفغانستان في حرب الولايات المتحدة على ما تصفه بالإرهاب. وقد نشرت الولايات المتحدة عددًا كبيرًا من سفنها البحرية في منطقة القرن الأفريقي تساندها تسع دول غربية أخرى، وأقيمت قاعدة عسكرية أمريكية ضمت قرابة 1.800 جندي في جيبوتي المجاورة، ونفذت طائرات الولايات المتحدة وقوات التحالف والبواخر الحربية دوريات استطلاعية على الصومال والمنطقة.

وبالتالي فإن واشنطن تتعامل مع قضية الصومال من زاوية تأثير الأوضاع فيها على الجانب الأمني في القرن الأفريقي وفي خليج عدن، وكان من أبرز أنشطة الولايات المتحدة خلال هذه الفترة ما يلي:

– إرسال الجواسيس والمخبرين لتتبع أي تجمعات أو تحركات ذات طابع إسلامي معادي لها، وذلك بالتعاون مع عدد من زعماء الميليشيات الصومالية الذين يمتلكون مطارات خاصة في الصومال. ووفقا لبعض المصادر: “فإن عناصر من مكتب التحقيقات الاتحادي (الفيدرالي) الأمريكي وجهاز الاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (الموساد) تقوم بزيارات منتظمة للعاصمة الصومالية مقديشو عبر هذه المطارات تحت غطاء أنهم رجال أعمال”.

وقد هاجم الرئيس الصومالي السابق عبد القاسم صلاد حسن، في مؤتمر صحفي بالعاصمة مقديشو 23/11/2003م، واشنطن بقوله: إن “أمريكا تتعامل مع المجرمين في الصومال للوصول إلى مآربها”؛ وجاء تصريحه هذا تعليقا على قيام عناصر من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية الـ “سي آي إيه” باختطاف مواطن عربي يشتبه في تورطه بتفجيرات “مومباسا” في كينيا في نوفمبر 2002م من على سرير مستشفى بمقديشو بالتعاون مع أحد قادة الفصائل الصومالية ونقله إلى كينيا.

وكان مما قاله: “كان من اللائق بدولة مثل أمريكا إذا كانت تحترم نفسها أن تتعامل مع السلطة الشرعية في البلاد إذا كان لديها أدلة على مشتبه فيهم تريد محاكمتهم، وليس مقبولا أن تتوجه إلى مجرمين محترفين للقبض على أشخاص بزعم أنهم متورطون في أعمال إرهابية”، ودعا الولايات المتحدة إلى الكف عن سياسة “الدخول من الشباك في البيت الصومالي”، والتوجه نحو البوابة الشرعية المتمثلة في الحكومة الانتقالية.

– توزيع الأدوار بين إثيوبيا وكينيا في لعب دور بارز في الشأن الصومالي، يقول مسئول شؤون القارة الأفريقية بوزارة الخارجية الأمريكية، بعد زيارة له إلى إثيوبيا وكينيا وجيبوتي وجنوب أفريقيا حيث أدلى بتصريح صحفي: “لولا مخافة إزعاج بعض أصدقائنا من العرب لكلفنا إثيوبيا ملف الصومال”. ويؤكد قائد القوات الأمريكية في جيبوتي أثناء زيارة له في أديس أبابا: “قررنا أن تكون إثيوبيا مندوبتنا لحماية الحدود الصومالية من تسلل الإرهابيين منها وإليها، والترصد لتحركاتهم”.

وقد نقلت صحيفة “ذا إيست أفريكان” الكينية الأسبوعية في عدد 8/12/2003م: أن الساحل الكيني يخضع لمراقبة ثلاثية مشتركة من عناصر الاستخبارات الأمريكية والكينية والإسرائيلية.

ويعد مؤتمر المصالحة الصومالية في العاصمة الكينية نيروبي المؤتمر الوحيد الذي تحضره واشنطن بصفتها من الدول المهتمة بالصومال، وعلى مستوى مسئول مساعد شؤون الصومال التابع للسفارة الأمريكية في نيروبي، حيث جلس بجانب السفراء المعنيين بصفته سفير بلاده للصومال.

– متابعة الشركات الاستثمارية والمصرفية العاملة في الصومال، حيث نظم برنامج الأمم المتحدة للتنمية في الصومال مؤتمرا في لندن (في ديسمبر 2003م)، بإيعاز من الولايات المتحدة وبريطانيا، شاركت فيه 14 شركة صومالية تعمل في مجال تحويل العملات من وإلى الصومال بمشاركة ممثلين عن الولايات المتحدة ودول أوروبية من بينها بريطانيا وألمانيا والسويد وهولندا، وناقش المؤتمر عمل شركات الحوالات الصومالية، وكيفية ضمان عدم اختراقها من قبل من تصفهم واشنطن بالإرهابيين.

وقد فرضت كل من الولايات المتحدة وعدد من دول أوروبا جملة من الشروط الجديدة على شركات الحوالات المالية الصومالية، من بينها تصوير هويات ووثائق من يحولون النقود عن طريقها إلى الصومال!

وأشار برنامج الأمم المتحد للتنمية في بيان صحفي أصدره بعد انتهاء المؤتمر إلى أن الاجتماع كان فرصة للشركات الصومالية والمشرعين الماليين الدوليين لمناقشة القوانين والأطر الجديدة التي تبنتها الولايات المتحدة والدول الأوروبية في مجال تحويل العملات ودور الشركات الصومالية إزاء ذلك باعتبار الصومال “منطقة تحوم حولها الشكوك في مصير العملات التي تحول إليها”. وبحسب تقديرات الأمم المتحدة فإن شركات الحوالات الصومالية تقوم بتحويل مبالغ مالية تتراوح بين 700 مليون إلى مليار دولار سنويا إلى الصومال!!

وكان الرئيس الأمريكي جورج بوش (الابن) قد أعلن في 7/11/2001م تجميد أرصدة شركتي “البركات” و”التقوى”، المتخصصتين في تحويل الأموال من وإلى الصومال، بتهمة أنهما “تجمعان الأموال للقاعدة، وتقومان بإدارة واستثمار وتوزيع هذه الأموال لصالحها”.

من جهة أخرى اضطرت بعض المؤسسات العاملة في الصومال والمتهمة بدعم الإرهاب، إلى إغلاق مكاتبها والتخلي عن أعمال الإغاثة والدعم الإنساني كما حدث مع “مؤسسة الحرمين الخيرية” السعودية!

لقد استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية اتفاقياتها الثنائية مع كل من كينيا وأثيوبيا وأوغندا في مجال التعاون الأمني والعسكري كمدخل لتكثيف وجودها الأمني في تلك البلدان، علاوة على اختيار جيبوتي لتكون مركز تغطية لجانبي البحر الأحمر الإفريقي والآسيوي بالتنسيق مع حلفائها من الدول الأوروبية، فأعطت ألمانيا القيادة العامة لقوات التحالف المسئولة عن مراقبة الأوضاع في تلك المنطقة، حيث أقامت الأخيرة قاعدة عسكرية لها في جيبوتي إلى جوار القاعدة الفرنسية القائمة هناك منذ استقلال جيبوتي. ويقدر تعداد القوات الأمريكية المرابطة في جيبوتي بـ (10.000)، وتعتبر القوات الدولية على أرض جيبوتي الأكبر من نوعها التي شهدتها دولة أفريقية منذ الاستقلال.

وشهدت إريتريا في عام 2002م سلسلة من الزيارات العسكرية الأمريكية، كان أبرزها زيارة “تومي فرانكس” قائد القيادة المركزية في مارس، وزيارة وزير الدفاع “دونالد رامسفيلد” في ديسمبر، والتي التقى خلالها بالرئيس الإريتري أسياس أفورقى، وبحثا خلالها السماح للقوات الأمريكية باستخدام المنشآت العسكرية والموانئ والمطارات الإريترية، وتبادل المعلومات في مجال مكافحة الإرهاب، وجاءت تلك الزيارة في إطار الجولات التي قامت بها الوفود الأمريكية لدول المنطقة المختلفة التي شملت كينيا وأوغندا وإثيوبيا، بهدف تنسيق الجهود لتحقيق الأمن والاستقرار ومكافحة الإرهاب في شرق أفريقيا.

وقد اجتمع الرئيس جورج بوش بكل من الرئيس الكيني “دانييل أراب موى” ورئيس الوزراء الإثيوبي “ميليس زيناوى” أثناء زيارتهما لواشنطن في ديسمبر 2002م في لقاء ثلاثي تناول سبل تدعيم التعاون على الأصعدة سالفة الذكر، حيث أعلنت الإدارة الأمريكية أنها سوف تقوم بتغطية التكاليف المادية والمالية اللازمة لمكافحة الإرهاب لهاتين الدولتين باعتبارهما لا تملكان الموارد اللازمة لهذا الغرض. وعقب عودة رئيس الوزراء الأثيوبي من زيارة الولايات المتحدة صرح بأن الجماعات الإرهابية لا تزال نشطة في الصومال، وأن تفجيرات مومباسا تم التخطيط لها داخل الصومال على يد خلايا تابعة لتنظيم “القاعدة” في معسكرات تدريب على الحدود بين الصومال وكينيا!

وتنطلق محاولات إثيوبيا لإقناع واشنطن بضرب الصومال من الاعتقاد بأن النكسات السياسية، التي هددت مقومات الإنسان الصومالي منذ الحكم الماركسي، وما تلاها من حروب أهلية ومجاعات مدمرة لم تؤد إلى تفريغ الإنسان الصومالي من مضمونه الإسلامي، ولا تقليص ثوابته التاريخية في وجدانه؛ الأمر الذي بات يشكل مصدر إحباط وإزعاج للنظام الإثيوبي؛ حسب تصريحات رئيس وزراء إثيوبيا لوكالة الأنباء (رويترز) في نهاية فبراير 2002م.

الأرض المباحة:

شنت مقاتلات أمريكية عدة غارات على جزر صومالية في يوليو 2003م، بزعم وجود “إرهابيين” على تلك الجزر؛ ويعتقد أن المقاتلات أقلعت من قاعدة “ليمونييه” العسكرية في جيبوتي أو من إحدى حاملات الطائرات الأمريكية الموجودة في البحر الأحمر.

وقد استنكرت الحكومة الانتقالية الصومالية الهجوم -الذي يعد أول عملية عسكرية من نوعها تنفذها القوات الأمريكية في الصومال منذ انتشار القوات الأمريكية في القرن الأفريقي بداية عام 2003م- في حينه؛ وكانت أغلب عمليات القوات الأمريكية مقتصرة على مراقبة السواحل والجزر الصومالية وتفتيش السفن التجارية المتجهة من وإلى الصومال.

وفي معرض رد الجنرال “جون ساتلر” -قائد القوات الأمريكية في منطقة القرن الأفريقي المتمركزة في جيبوتي- على استنكار الحكومة الانتقالية لخطوات كهذه صرح (في فبراير 2003م) بـ”أن القيام بأي عمليات لمكافحة الإرهاب في الصومال لا يستدعي الرجوع للمسئولين بالصومال، حيث لا توجد سلطة مركزية هناك يمكن التعامل معها، وأنه يتم الاكتفاء في هذه الحالة بالأوامر الصادرة من القيادة العليا في الولايات المتحدة”؛ مؤكدا بأن واشنطن لديها إمكانيات استخباراتية كافية في جميع دول منطقة القرن الأفريقي الأخرى، وأنها تأخذ موافقتها قبل قيامها بأي عملية موجهة ضد من أسماهم بالعناصر الإرهابية في المنطقة.

وأعرب “ساتلر” عن ارتياح بلاده لتعاون أثيوبيا معها في مكافحة الإرهاب وقال: “أثيوبيا شريك مهم في الحرب الموجهة ضد الإرهاب العالمي في هذه المنطقة؛ وهذا يعني أننا ملتزمون بتقديم مساعدات متنوعة لأثيوبيا، ونلبي طلبات القيادات الأثيوبية فيما يتعلق بالتدريبات العسكرية المتقدمة لمكافحة الإرهاب والإرهاب المضاد”؛ وأضاف بأن هناك تعاون مع أثيوبيا في مجال تبادل المعلومات الاستخباراتية، وخاصة المعلومات التي تتعلق بما يحدث في الصومال، مشيراً إلى أنه “بإمكان القوات الأثيوبية تنفيذ عمليات ضد هذه الأهداف في الوقت المناسب”.

وقال “ساتلر”: “استُقبلنا استقبالا حارا في كل دول المنطقة من واقع أنه في حالة تعاوننا الجمعي يمكن أن ننجز في هذه الحرب الموجهة ضد الإرهاب أفضل مما ينجزه كل بلد بمفرده”.

هذه الأرض المباحة أعطت إسرائيل فرصة النفوذ والتوغل في القرن الأفريقي، فقد طلب وزير الخارجية الإسرائيلي “سيلفان شالوم” من وزير الخارجية الكيني “كالونزو ماسيوكا” -على هامش زيارة الأخير لتل أبيب- مشاركة إسرائيل في مؤتمر السلام الصومالي الذي عقد في العاصمة نيروبي عن طريق منحها صفة مراقب، وفقا لما ورد في صحيفة “الحرية” اليومية الصومالية بتاريخ 23/9/2003م. ونقلت الصحيفة عن مصادر كينية -لم تسمها- قولها بأن الحكومة الإسرائيلية بصدد منح مبلغ مالي غير معلوم لصالح تمويل المؤتمر الصومالي الذي تتعثر فيه المفاوضات بين الفصائل الصومالية المتناحرة!

بل حاولت الحكومة الإسرائيلية مرارا المشاركة في مؤتمرات المصالحة التي عقدت حول الصومال في الأعوام الماضية، لكنها لم تتمكن من المشاركة بفعالية سوى في مرة واحدة بمؤتمر المصالحة الذي عقد في أديس أبابا عام 1993م، وقدمت في حينه تبرعا بمقدار 3 ملايين دولار كمساعدات إنسانية للاجئين الصوماليين الذين نزحوا إلى البلدان المجاورة، لكنها لم تحصل على إذن بالمشاركة في المؤتمرات الأخرى التي عقدت في القاهرة عام 1997م وطرابلس بليبيا عام 1998م، وجيبوتي عام 2000م.

وتحاول إسرائيل التغلغل إلى الصومال عبر عدة منافذ منها:

– الدعم المالي للحكومة وللفصائل والمليشيات القائمة.

– دخول الشركات التجارية إلى الساحة الصومالية وإيجاد موطن قدم لها هناك.

– التواصل مع قيادات الفصائل وزعماء القبائل وكسب ولائهم لها.

يشار إلى أن الوجود الإسرائيلي في منطقة القرن الأفريقي يقتصر على تمثيل دبلوماسي محدود في كل من إثيوبيا وإريتريا وكينيا، إلى جانب نشاط استخباراتي مشترك ومكثف مع أجهزة الأمن في هذه الدول. وقد حذر يوسف حسن إبراهيم -وزير الخارجية الصومالي السابق- في مقابلة مع موقع “إسلام أون لاين” في 15/8/2002م من “سعي إسرائيل للتوغل في المجتمع الصومالي”!

الصومال والفشل العربي:

شكلت الجامعة العربية عقب اندلاع الأزمة الصومالية لجنة سباعية عربية (مصر والسودان والسعودية وقطر وجيبوتي واليمن وتونس) لمتابعة الملف الصومالي، إلا أن هذه اللجنة لم يعرف عنها نشاط يذكر منذ ذلك التاريخ.

وظل التنافس فيما يتعلق بسبل تسوية المشكلة خفيا بين القوى الإقليمية المتمثلة في توجهين: توجه عربي وآخر أفريقي متحالف مع الغرب.

وعلى الرغم من جهود جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي في تحقيق المصالحة بين الفصائل المتناحرة، إلا أتهما فشلتا في تحقيق نجحات تذكر، واكتفت المنظمتان بدعم ومساندة الجهود الفردية التي بذلتها بعض الدول الأعضاء كمصر وجيبوتي واليمن، هذا إلى جانب إصدار عدد من القرارات والخطط لحل المشكلة لكنها لم تجد طريقها للتطبيق!

ولم تنس قرارات وبيانات الجامعة العربية على مستوى القمة أو الوزراء أو المندوبين ذكر الصومال طيلة فترة الحرب الأهلية، مؤكدة على الوحدة والسلامة الإقليمية للصومال ورفض التدخل في شئونه الداخلية، ودعوة الفصائل المتقاتلة للجلوس إلى طاولة الحوار، لكنها جميعا ظلت حبيسة الأدراج؛ وبقيت الجهود العملية جهودا ذاتية ومبادرات فردية من بعض الدول الأعضاء؛ مما أطال من أمد الحرب الأهلية ووضع الملف الصومالي على طاولة “اللئام” إن جاز التعبير!

وعلى الرغم من عقد عدد من الاجتماعات لبحث مبادرات السلام الصومالية في عدد من العواصم العربية (القاهرة وصنعاء وطرابلس وجيبوتي) فإن هذه التحركات كانت مبادرات فردية من قبل هذه الدول ولم تكن مبادرة عربية جماعية. حتى الالتزامات التي خرجت بها القمة العربية في 2001م بإنشاء “صندوق دعم الصومال” ذهبت أدراج الرياح.

كما أن الجهود العربية لتحقيق المصالحة تعثرت ولم تحقق شيئا يذكر على أرض الواقع، نظرا لانعدام الدعم وتأثير الدول الإقليمية في إفشال الجهود السائرة بعيدا عن مصالحها ومطامعها في الصومال؛ وبعد أحداث 11 سبتمبر بدت الدول العربية منشغلة بنتائجها على الصعيد السياسي والأمني والعسكري؛ وهو ما أتاح لدول الجوار التفرد بملف القضية بعيدا عن الجامعة (والدول) العربية!

وقد وجهت أطراف صومالية عدة انتقادات واسعة إلى الجامعة العربية لعدم اتخاذها مبادرات فعالة تجاه القضية الصومالية، حيث اقتصر دورها فقط على مباركة المبادرات الخارجية الهادفة إلى إحلال السلام في الصومال.

لقد بذلت دولة جيبوتي بالتنسيق مع الفصائل المتصارعة والمتحاربة جهدا في انعقاد المؤتمر الثالث عشر للمصالحة الصومالية، والذي عقد بمنتجع عرته بجيبوتي عام 2000م، وخرج بإعلان “الميثاق الوطني” واختيار قاسم صلاد حسن رئيساً لما سمّي بالحكومة الوطنية الانتقالية، بالإضافة إلى تشكيل مجلس برلماني مؤقت لمدة 3 سنوات غير قابلة للتمديد.

وقد حظيت هذه الخطوة في حينها بدعم قوي من مصر واليمن وأطراف عربية أخرى، وكان أن شغل مقعد دولة الصومال في مجلس جامعة الدول العربية والمؤتمر الإسلامي والأمم المتحدة بعد فراغ دام قرابة عقد كامل!

ومن الملحوظ أن محادثات المصالحة الصومالية والسودانية كلاهما انعقدت في كينيا، بدلاً من أي بلد عربي، وهو ما يعكس برأي المراقبين فشل وعجز الجامعة العربية والدول العربية في حل أزمات الدول الأعضاء، وتسليمها للإرادة الخارجية.

وقد عُقد 14 مؤتمر مصالحة صومالية منذ 1991م، كلها في عواصم عربية وأفريقية، لكن لم ينجح واحد من هذه المؤتمرات في احتواء الخلافات بين الأطراف الصومالية، وكان أكثر المؤتمرات قربا من الوفاق هو مؤتمر عرتة.

ويذكر أن مصر وليبيا هما البلدان العربيان الوحيدان اللذان احتفظا بسفارتيهما مفتوحتين في مقديشو، حيث تعمل فيهما بعثات دبلوماسية مقيمة، وذلك منذ انهيار الحكومة المركزية، كما تعتبر مصر وليبيا من أكبر الداعمين للحكومة الانتقالية (السابقة) بقيادة عبد القاسم صلاد! رغم قلة ما قدماه!

وتأتي اليمن في مقدمة الدول التي حرصت على إنجاح جهود المصالحة بين الأطراف الصومالية، معتبرة أن أمن واستقرار الصومال ينعكس بالضرورة على الأمن في المنطقة عموماً، خاصة وأن اليمن هي من أوائل الدول التي تأثرت بمضاعفات الصراع بحكم جوارها للصومال، فقد تدفق إليها آلاف النازحين! ومثلوا عبئا إضافيا على أوضاع الدولة المأساوية!

وقد قدمت حكومة اليمن للحكومة الصومالية المؤقتة برئاسة صلاد معونات مادية وأسلحة؛ لكنها وبحسب تصريح يوسف حسن إبراهيم وزير الخارجية في الحكومة الصومالية المؤقتة لصحيفة “البيان” الإماراتية في 23/1/2004م لم تدم!

الصومال وعلاقاته الإقليمية*:

1. جيبوتي – الصومال:

اتخذت العلاقات الجيبوتية الصومالية منحى عكسياً للعلاقات الإثيوبية الصومالية حيث وقفت جيبوتي بقوة إلى جانب الحكومة الصومالية الانتقالية في مواجهة محاولات إثيوبيا اعتبارها مجرد فصيل من الفصائل المتناحرة في الصومال، وكذا في مواجهة تجاوز مقررات مؤتمر عرتا في أي جهود مصالحة تالية، وقد أدى ذلك التعارض في المواقف بين الجانبين الجيبوتي والإثيوبي وتمسك جيبوتي بموقفها إلى انسحاب جيبوتي من اللجنة الفنية الثلاثية التي شكلتها منظمة الإيجاد بعضوية إثيوبيا وكينيا وجيبوتي لتنظيم مؤتمر للمصالحة وإعداد الترتيبات اللازمة له. وهو ما أدى إلى تبادل إثيوبيا وجيبوتي الاتهامات بالسعي إلى إفشال مؤتمر المصالحة الصومالية، حيث أكد إسماعيل عمر جيلى رئيس جمهورية جيبوتي مرات عديدة إن إثيوبيا تعرقل جهود المصالحة الصومالية، وفي المقابل ادعت إثيوبيا أن جيبوتي تتمسك بحكومة غير معترف بها وتريد أن تفرضها على منظمة الإيجاد.

وقد شهد العام 2002م العديد من المباحثات الثنائية الجيبوتية الصومالية على مختلف المستويات، وجرت لقاءات بين عبد القاسم صلاد رئيس الحكومة الصومالية الانتقالية وإسماعيل عمر جيلى رئيس جمهورية جيبوتي لتنسيق المواقف فيما يتعلق بمجريات الأحداث الداخلية والإقليمية وبخاصة على صعيد مؤتمر المصالحة.

وكانت جيبوتي أول دولة يقوم بزيارتها الحاكم الجديد لجمهورية “أرض الصومال” طاهر ريالى كاهن الذي تولى الحكم بعد وفاة محمد إبراهيم عقال في مايو 2002م، وذلك على خلاف كافة التوقعات بأن تكون أول زيارة خارجية له صوب إثيوبيا الحليف الرئيسي للإقليم.

ومن ناحية أخرى، وعلى أثر هزيمته أمام عبد الله يوسف واستيلاء الأخير على إقليم “بونت لاند” فر جامع علي جامع أحد قادة الفصائل المتنازعة على السلطة في ذلك الإقليم إلى جيبوتي قبل أن يبدأ من جديد حشد قواته لاستعادة نفوذه في الإقليم.

2. إريتريا – الصومال:

أرتبط الموقف الإريتري من الأزمة الصومالية ومساعي تسويتها بطبيعة العلاقات الإريترية الإثيوبية، حيث أن الدولة الإريترية قد نشأت في ظل انهيار دولة الصومال، وبالتالي لم تكن هناك علاقات بين الطرفين. وقد عبرت القيادة الإريترية عن رؤيتها لأسباب الأزمة الصومالية فأكدت على أن التدخلات الإثيوبية لها دور كبير في المشاكل الداخلية في الصومال لحرصها على أن يظل الصومال مهمشاً ولا يمثل خطراً على إثيوبيا، ومن أجل فرض الهيمنة الإثيوبية في المنطقة ككل، وفي ضوء تلك الرؤية الإريترية لحقيقة الأزمة الصومالية وفي ظل استمرار تردى العلاقات الإثيوبية الإريترية، وقفت الدولتان على طرفي نقيض فيما يتصل بالحل الواجب اتباعه في التعامل مع هذه المشكلة. حيث وقفت إريتريا إلى جانب الحكومة الانتقالية في الصومال؛ وحرصت وسائل الإعلام الإريترية على إبراز التعاون الإثيوبي مع القوى الصومالية المناوئة للحكومة المؤقتة في الصومال ودعم إثيوبيا لقوى الانفصال وأمراء الحرب هناك.

وشهد عام 2002م قيام علاقات دبلوماسية بين إريتريا والحكومة الانتقالية الصومالية حيث قدم السفير الإريتري أوراق اعتماده إلى رئيس وزراء الصومال في شهر فبراير 2002م مع كونه يتخذ نيروبى مقراً له. كما قام الجنرال إسماعيل قاسم قائد القوات المسلحة الصومالية بزيارة لإريتريا في شهر مارس أجرى خلالها مباحثات مع المسئولين الإريتريين.

3. إثيوبيا – الصومال:

واصلت حكومة إثيوبيا استغلال شعار مكافحة الإرهاب لتبرير ممارساتها تجاه الصومال، والتي وصلت إلى حد التدخل العسكري المباشر في بعض المناطق الحدودية بزعم مطاردة عناصر إرهابية والدفاع عن مصالح إثيوبيا الحيوية، مما أدى إلى مزيد من تردى العلاقات بين الحكومة الانتقالية الصومالية والنظام الإثيوبي، حيث تقدمت الحكومة الصومالية بشكوى إلى المنظمات الدولية والإقليمية ضد التدخلات الإثيوبية في شئونها الداخلية ودعمها قوى المعارضة المناوئة للحكومة الصومالية الانتقالية، وعرقلتها مساعي المصالحة في البلاد والسعي لتدمير الصومال.

وعلى الرغم من نفي الحكومة الإثيوبية الاتهامات الصومالية، إلا أن الشواهد تشير إلى تدخل إثيوبي فاعل ومؤثر في الساحة الصومالية اتخذ عدة صور وأشكال منها:

مواصلة دعم زعماء الفصائل الصومالية المناوئة للحكومة الانتقالية، وكذا الأقاليم الانفصالية في كل من الشمال الشرقي والغربي للبلاد أو ما يعرف بجمهورية أرض الصومال وبونت لاند.

التوغل العسكري والأمني لنظام إثيوبيا تحت ما اعتبره رئيس الوزراء الإثيوبي غياب حكومة قوية تبسط قوتها وهيمنتها على جميع أجزاء الصومال، معتبرا أن من حق إثيوبيا الحفاظ على أمنها والدفاع عن نفسها حتى ولو تطلب الأمر التفاوض مع الفصائل الأخرى، مؤكدا أن القوات الإثيوبية عبرت الحدود في مناسبات متعددة عندما كانت مصالح البلاد الأساسية في خطر.

مواصلة نظام إثيوبيا اتهامه للحكومة الانتقالية الصومالية بدعم الإرهاب وأنها ضمت إلى قوات شرطتها عناصر كثيرة من المحاكم الإسلامية المنتمية إلى تنظيم الاتحاد الإسلامي المدرج في قائمة الإرهاب الأمريكية، كما طالبت إثيوبيا دول الإيجاد بمعاملة الحكومة الانتقالية كفصيل من الفصائل الصومالية، الأمر الذي أدى إلى مواجهة ساخنة بين الوفد الصومالي والوفد الإثيوبي في إطار اجتماعات منظمة الإيجاد.

وتجدر الإشارة أن الحكومة الإثيوبية تحتفظ بصلات قوية ووثيقة مع القوى الصومالية المناوئة للحكومة الانتقالية وكذا مع كل من إقليم بونت لاند وأرض الصومال التي وقعت اتفاقات تعاون تجارية وأمنية معها في فبراير 2002م!

4. كينيا – الصومال:

طرحت كينيا خلال العام 2002م استضافة مؤتمر مصالحة يضم مختلف الفصائل الصومالية المتناحرة والأطراف الإقليمية والدولية المهتمة بالمشكلة.

ويمثل ذلك الطرح استكمالاً وامتداداً لجهود كينيا السابقة على هذا الصعيد والتي كان آخرها استضافتها مؤتمراً للمصالحة بين الحكومة الانتقالية والفصائل المعارضة في نوفمبر نهاية عام 2001م، والذي أعقبه مؤتمر موسع في ديسمبر من نفس العام أسفر عن توقيع اتفاقيات منفصلة بين الحكومة وثلاثة من الفصائل المعارضة.

وإعمالاً لمقررات قمة الإيجاد بعقد مؤتمر موسع للمصالحة الصومالية عاودت كينيا من جديد عرض استضافة ذلك المؤتمر الذي سعت السودان من جانبها إلى عقده على أرضها باعتبارها رئيس دورة الإيجاد، كما شاركت كينيا في اللجنة الفنية الثلاثية المسئولة عن الإعداد لمؤتمر المصالحة الذي تقرر -وتم عقده- في نيروبي في أكتوبر 2002م. وفي هذا الإطار قامت حكومة كينيا بالسعي إلى إزالة الخلافات التي نشبت بين جيبوتي وإثيوبيا بشأن طبيعة تمثيل الفصائل الصومالية والأطراف المشاركة في المؤتمر، وكذا وضع مقررات وقرارات مؤتمر عرتا في إطار الترتيبات الخاصة بالأعداد للمؤتمر.

وتعتبر قضية اللاجئين الصوماليين في كينيا إحدى القضايا الحرجة في العلاقات بين الدولتين في ظل ما تسفر عنه المواجهات المسلحة بين الميليشيات الصومالية من تدفق للاجئين على الحدود الكينية، وما يصاحب ذلك من ضغوط على الحكومة الكينية اضطرتها في العام 2002م إلى استخدام القوة لإعادة آلاف اللاجئين الصوماليين إلى بلداتهم تخلصاً من أعبائهم.

5. السودان – الصومال:

استمر موقف السودان من القضية الصومالية مؤيداً للحكومة المؤقتة ومؤكدا على ضرورة التوصل إلى حل سلمى يحقق الاستقرار والوحدة للبلاد، وعلى الرغم من أن السودان ليس له دور فاعل في عملية التسوية الصومالية فإن التداعيات الدولية في المنطقة قد دفعت بالجانبين الصومالي والسوداني إلى ركن واحد في ظل الاتهامات الموجهة للجانبين بدعم وإيواء عناصر إرهابية، فضلاً عن اتهام السودان بدعم تنظيم الاتحاد الإسلامي الصومالي وتسهيل انتقال أفغان عرب إلى الساحة الصومالية، وهى الاتهامات التي ترجع بجذورها إلى ما قبل أحداث 11 سبتمبر، وأعادت إريتريا إحياءها والتأكيد عليها في إطار إدارتها للأزمة التي اعترت العلاقات بينها وبين السودان، في الوقت الذي نفت فيه حكومة السودان أي علاقة لها بالتنظيمات الإرهابية.

وقد بذلت السودان جهودا حثيثة من خلال المنظمات المختلفة للمساهمة في حل القضية الصومالية، فقد قررت قمة دول المنظمة الحكومية لتنمية شرق أفريقيا، التي عقدت في يناير 2002م في الخرطوم، عقد مؤتمر للمصالحة الصومالية في العاصمة الكينية نيروبي في غضون شهرين يضم جميع الأطراف المتحاربة في الصومال. كما أعربت القمة الرابعة لدول تجمع الساحل والصحراء -ومنها السودان، التي عقدت في مارس 2002م بمدينة سرت بالجماهيرية الليبية، عن تأييدها الحكومة الصومالية الانتقالية ومناشدة المجتمع الدولي الأمم المتحدة والمنظمات الأفريقية توحيد الجهود لتحقيق المصالحة الوطنية في ذلك البلد. كما أنها تبذل بالشراكة مع مجلس اتفاق صنعاء الثلاثي، سبل تحقيق الاستقرار والأمن في المنطقة.. ومنها قضية الصومال.

إثيوبيا.. والوكيل المعتمد:

تضم الإيجاد في عضويتها كلا من السودان والصومال وجيبوتي وأثيوبيا وإريتريا وكينيا وأوغندا. وهي تحظى بدعم أمريكي واضح في جهودها تجاه الصومال رغم انحيازها الواضح لكل من كينيا وأثيوبيا، اللتان تسعيان لتحقيق مصالحهما الإقليمية ومصالح الغرب الصليبي في المنطقة.

والعداء بين إثيوبيا والصومال عداء قديم، وهو يقوم على أساس اختلاف الدين والهوية، وقد عمل الاستعمار على تعزيز هذا العداء وتوفير المبررات لاستمراره على الأرض. كما أن إثيوبيا لا تخفي أطماعها في الصومال، وقد حاولت احتلال الصومال عسكريًا أواخر عام 1996م، حيث سيطرت على ثلاث مناطق في الجنوب؛ لكنها تراجعت عسكريًا نتيجة ضغوط دولية بعد أن قدم رئيس الوزراء الصومالي السابق في الحكومة الانتقالية الدكتور علي خليف جلير شكوى إلى الأمم المتحدة بهذا الخصوص.

وعلى عكس ما كان متوقعا، ومنذ بداية المشكلة الصومالية، كلفت منظمة الوحدة الأفريقية إثيوبيا أن تكون المسئولة عن المصالحة الصومالية؛ وقد عقدت بدورها مؤتمرات عدة في أديس أبابا لهذا الغرض لكنها جميعا لم تثمر؛ لأن القصد منها لم يكن حل القضية! فإثيوبيا لديها أهداف محددة من وراء المصالحة الصومالية تريد تحقيقها، من بين هذه الأهداف:

1- صياغة دستور الصومال وفق رؤية علمانية، تستبعد هوية هذا البلد الإسلامية والعربية:

وقد كشف السفير الصومالي بالقاهرة عبد الله حسن محمود عن تعرض الفصائل الصومالية لضغوط من قبل منظمة “الإيجاد” المشرفة على مفاوضات السلام الصومالية من أجل علمنة الدستور الانتقالي الجديد للبلاد، لكنه أكد على أن الفصائل أصرت على جعل الشريعة الإسلامية أحد مصادر التشريع!! مشيرا إلى إمكانية تعديل مسودة المشروع مرة أخرى لجعل الشريعة المصدر الرئيس للتشريع.

وقال السفير في ندوة عقدها معهد البحوث والدراسات الأفريقية بجامعة القاهرة في 15/3/2004م: إن الإيجاد طرحت مسودة دستور جديد للصومال، خلال الجولة الثالثة من مباحثات السلام الجارية حاليا بين الفصائل الصومالية في العاصمة الكينية نيروبي؛ مضيفا بأن كينيا وأثيوبيا مارست ضغوطا على الفصائل الصومالية من أجل أن يصبح دستور البلاد علمانيا تماما، لكن الفصائل رفضت هذا الطرح وأصرت على أن يكون الإسلام هو المصدر الرئيس للتشريع كما كان الحال من قبل، وقال محمود: “هذا الدستور قابل للتعديل من الصوماليين أنفسهم بعد العودة لمقديشو، خاصة أن الدول التي صاغته ترغب في سلخ الصومال عن هويته العربية والإسلامية”. كما أضاف السفير: بأن “كينيا وأثيوبيا حاولتا إقناع قادة الفصائل بجعل الإنجليزية اللغة الرسمية في الدستور الجديد، وأن تأتي العربية في المرتبة الثالثة بعد الصومالية، إلا أنهم اعترضوا بشدة على اعتبار أن العربية هي لغة القرآن الكريم، وبالفعل تمت الاستجابة لطلبهم”.

لقد صرح الكولونيل “تسفاي” عام 2001م عن نوايا إثيوبيا الدفينة، حين شدد على أن النظام الإثيوبي لن يسمح بقيام دولة عربية إسلامية في الصومال.

2- تقسيم الصومال إلى عدة أقاليم، كل إقليم له سيادته وإدارته الخاصة، وذلك باسم -الجمهورية الفيدرالية الصومالية، وسيكون ذلك على حساب حكومة مركزية قوية، مع تنازل الفصائل الصومالية عن طموحها في استعادة إقليم “أوجادين” التابع حاليًا لإثيوبيا.

في 5/7/2003م اتفق عدد من قيادات الفصائل الصومالية في نيروبي على تشكيل حكومة فيدرالية تتولى إدارة شؤون البلاد لمدة أربع سنوات، وتشكيل حكومة فيدرالية انتقالية وبرلمان من 351 عضوًا للفترة ذاتها؛ وقد اعترض الرئيس الصومالي عبد القاسم صلاد في مؤتمر صحفي عقده في نيروبي في 29/7/2003م على الاتفاق، وقال: إن “الاتفاق الذي وقعته الأطراف الصومالية -من جانب واحد- والدستور الانتقالي الذي عُرض على المفاوضين يمسان هوية الصومال العربية، ويؤديان إلى بلقنة الصومال وتفتيتها إلى دويلات صغيرة تحت اسم الفيدرالية”، واتهم الرئيس الصومالي إثيوبيا -وهي إحدى الدول الثلاثة المنظمة للمؤتمر- بأنها السبب في انهيار المفاوضات؛ حيث أصرت على صياغة أجندة المؤتمر بما يتفق وسياساتها الرامية إلى الهيمنة على مستقبل الصومال من خلال “عملاء” موالين لها.

وقد اتهم رئيس الوزراء السابق حسن أبشر (في مقابلة أجرتها معه الإذاعة البريطانية -القسم الصومالي) النظام الإثيوبي بمحاولة القضاء على الدولة الصومالية كلياً!

3- اختيار قيادة موالية أو قريبة لها:

يقول يوسف حسن إبراهيم وزير الخارجية في الحكومة الصومالية المؤقتة لصحيفة “البيان” الإماراتية في 23/1/2004م: إن هذا المؤتمر (نيروبي) لا يدار من خلال الصوماليين، فمنذ البداية حرصت الدول المجاورة للصومال على أن تدير شئونه بشكل مباشر مما خلق حالة تخبط في الإدارة ومن ضمن هذه التخبطات أن هذه الدول لم تكن حيادية فيما يتصل بالفصائل والأطراف، فكانوا يفضلون بعض القيادات ولا يتقبلون الآخرين.

لقد صرح الرجل الأول في الصومال اليوم -والذي تباركه إثيوبيا- عبد الله يوسف بأن الصومال لا تمت بأية صلة إلى المنطقة العربية، وزاد في تصريح آخر له بأنه قد يلجأ إلى إسرائيل بدلاً من العرب مؤكدا على أن انضمام الصومال إلى جامعة الدول العربية جاء بفعل انتهازية سياد برى وأطماعه على حساب انتماء الصومال الإفريقي!!

4- الحد من جميع الأنشطة الإسلامية في الوطن، حتى قال مليس زيناوي: “لا بد من تغيير مناهج التعليم في الصومال، وإلا ستصبح يومًا ما (طالبان) جديدة في القرن الأفريقي”؛ وفي حديث صحفي أدلى به لوكالة رويترز (في 19/2/2002م) أشار إلى وجود أدلة عنده تثبت “علاقة الحكومة الصومالية بالاتحاد الإسلامي”، في محاولة للتحريش بالحكومة الصومالية في حينه!

وقد حرصت إثيوبيا رغم فشل جهودها على حضور مؤتمرات المصالحة التي كانت تعقد في العاصمة الكينية نيروبي وبشكل مكثف. ويأتي ذلك حرصا منها على أن تكون الوكيل المعتمد لواشنطن في المنطقة والشريك الرئيس لها في حملتها على “الإرهاب” لتصفي في ظلها الخصوم التقليديين لها في الصومال أو “الأوجادين” أو “شعب الأرومو المسلم”!

—————–

* راجع كتاب ” خمس سنوات في بيت من زجاج” لبطرس غالي.

* يراجع التقرير الإستراتيجي العربي، نقلا عن موقع مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بمؤسسة الأهرام.

جهود المصالحة الصومالية:

عقد لغرض المصالحة الصومالية 14 مؤتمرًا باستضافة إثيوبيا وكينيا ما عدا مؤتمر القاهرة وجيبوتي وطرابلس، وجميع هذه المؤتمرات لم تكلل بالنجاح غير مؤتمر جيبوتي الذي تمخضت عنه حكومة انتقالية؛ ولم تكن المشكلة كما يرى المراقبون من الصوماليين بل من بعض دول الجوار والقوى الدولية!

وهذه أبرز محطات المصالحة الصومالية:

في ديسمبر عام 1997م رعت القاهرة مبادرة للمصالحة الصومالية، وفي عام 1998م رعت ليبيا مبادرة مماثلة، وكان بينهما نوع من التنسيق في تحقيق السلام في الصومال، غير أن المبادرتين لم تثمرا وقتها.

في عام 1999م، قدم الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيلي في الأمم المتحدة مبادرة للمصالحة الصومالية، عرفت بـ (مبادرة جيلي) للمصالحة، وبالفعل استطاعت جيبوتي جمع أكثر من 2000 شخص من جميع مناطق الصومال، ليشكلوا -بعد مشاورات استغرقت شهورًا- أول حكومة حظيت باعتراف العالم، وترأسها عبد القاسم صلاد حسن؛ إلا أن بعض الفصائل الصومالية رفضت الاعتراف بهذه الحكومة، وشكلت “مجلس المصالحة الصومالي” المعارض الذي اتخذ من إثيوبيا مقرًّا له.

في عام 2001م، جرت عدة محاولات للمصالحة: ففي مارس اعتمدت جامعة الدول العربية قراراً حثت فيه الفصائل الصومالية على دعم الحكومة الوطنية المؤقتة. في حين اجتمع عدد من قادة الفصائل المناهضة للحكومة الوطنية الانتقالية في إثيوبيا، وشكلوا “مجلس المصالحة وإعادة البناء الصومالي”؛ وكان هدفهم المعلن هو عقد مؤتمر في العام 2002م يفضي إلى تشكيل “حكومة انتقالية تمثيلية للوحدة الوطنية”. وفي مايو أعلنت الحكومة الوطنية الانتقالية أنها عينت لجنة وطنية للمصالحة. وفي ديسمبر استضافت الحكومة الكينية مؤتمراً شارك فيه رئيس الحكومة الوطنية الانتقالية وعدد من قادة الفصائل بهدف تحقيق المصالحة بين الطرفين؛ إلا أن قادة الفصائل الرئيسية المنضوية تحت مجلس المصالحة وإعادة البناء الصومالي قاطعت المحادثات ورفضت النتائج.

في 15/12/2002م، عقدت منظمة الإيجاد مؤتمرا للمصالحة في مدينة الدوريت الكينية، وهو المؤتمر الخامس عشر الذي يعقد في الخارج بشأن الصومال، كما أنه أوسع المؤتمرات الصومالية التي عقدت لحل المشكلة الصومالية منذ اندلاع الأزمة الصومالية عام 1991م. وقد شارك فيه للمرة الأولى جميع الأطراف الصومالية بما فيها الحكومة الانتقالية وعشرات من قادة الفصائل المسلحة المعارضة؛ ولم يتغيب عن المؤتمر سوى طرف واحد هو ما يعرف بجمهورية “أرض الصومال”.

في يناير 2003م دخلت المفاوضات الصومالية بكينيا مأزقا حادا بعد أن أصدرت اللجنة الفنية المنظمة للمؤتمر قائمة جديدة بأسماء المشاركين في المرحلة الثالثة من المفاوضات، التي تختلف عن القائمة السابقة التي اعتمدتها اللجنة. وأعلن اثنان من قادة الفصائل الصومالية المشاركة في المؤتمر الانسحاب من المفاوضات بسبب عدم تحقيقها لأي نتائج ملموسة منذ افتتاحها في منتصف أكتوبر 2002م –حسب زعمهم؛ وهما “موسى سودي يلحو” رئيس جناح المؤتمر الصومالي الموحد الذي يسيطر على أجزاء من العاصمة، و”بري هيرالي” زعيم تحالف وادي جوبا الذي يسيطر على محافظتي جوبا السفلى وجوبا الوسطى في جنوب الصومال؛ واعتبر الرجلان في تصريح لهما في 13/1/2003م بأن المفاوضات الجارية –في حينه- عبارة عن مضيعة للوقت، وانتقدا ما وصفاه بتدخلات جهات خارجية للتأثير على سير المفاوضات.

كما انسحب من المفاوضات الرئيس الصومالي السابق علي مهدي محمد بعد أيام قليلة من بدايتها في مدينة الدوريت الكينية؛ وقال مهدي الذي كان يتحدث لوسائل الإعلام آنذاك بأن المشاركين في المؤتمر غير مطلقي الأيدي في التوصل إلى ما يريدونه، واتهم مهدي الحكومة الإثيوبية بأنها تتدخل بشكل مباشر في تسيير المؤتمر وتوجيهه إلى أن يسفر عن نتيجة توافق مصالحها في الصومال من خلال حلفائها داخل الفصائل الصومالية.

وفي أبريل 2003م رفض الرئيس الصومالي السابق عبد القاسم صلاد دعوة وجهتها إليه الحكومة الكينية للمشاركة شخصيًا في مفاوضات مؤتمر المصالحة الذي كان منعقدا في نيروبي؛ تمهيدا لجولة ثالثة من المفاوضات. وقد نشب خلاف حاد بين الأطراف المشاركة في المؤتمر حول التقسيم النهائي للسلطة المركزية في البلاد؛ فمعظم قادة الفصائل يطالبون باقتسام السلطة على أساس فصائلي تخضع له حكومة صلاد مثل باقي الفصائل، ووفقًا للحجم العسكري والقبلي لكل طرف من هذه الأطراف، ويطالب آخرون باقتسام السلطة على أساس قبائلي بحت مثلما حدث في مؤتمر جيبوتي للمصالحة الصومالية قبل ثلاث سنوات.

ونتيجة الانشقاقات والتحالفات التي حصلت داخل أروقة مؤتمر المصالحة، على صعيد المعارضة أو الحكومة الانتقالية، بدى بأن المؤتمر يسير باتجاه الفشل، وبعد مساع مكثفة من حكومة نيروبي المضيفة ورئيس اللجنة الفنية المنظمة للمؤتمر، عاد ممثلو المعرضة والحكومة إلى المؤتمر مرة أخرى.

في 5/7/2003م اتفق عدد من قيادات الفصائل الصومالية في نيروبي على تشكيل حكومة فيدرالية تتولى إدارة شؤون البلاد لمدة أربع سنوات، وتشكيل حكومة فيدرالية انتقالية وبرلمان من 351 عضوًا للفترة ذاتها؛ وقد اعترض الرئيس الصومالي عبد القاسم صلاد في مؤتمر صحفي عقده في نيروبي في 29/7/2003م على الاتفاق، وقال: إن “الاتفاق الذي وقعته الأطراف الصومالية -من جانب واحد- والدستور الانتقالي الذي عُرض على المفاوضين يمسان هوية الصومال العربية، ويؤديان إلى بلقنة الصومال وتفتيتها إلى دويلات صغيرة تحت اسم الفيدرالية”، واتهم الرئيس الصومالي إثيوبيا -وهي إحدى الدول الثلاثة المنظمة للمؤتمر- بأنها السبب في انهيار المفاوضات؛ حيث أصرت على صياغة أجندة المؤتمر بما يتفق وسياساتها الرامية إلى الهيمنة على مستقبل الصومال من خلال “عملاء” موالين لها.

وعلى إثر انسحابات متتالية من عدد من الأطراف الرئيسية قامت حكومة كينيا بتعليق المفاوضات في 13/8/2003م، تفاديا لانهيار المفاوضات.

وقد أخذت الحكومة الانتقالية على الاتفاق جملة من القضايا: من بينها نظام الفيدرالية الذي ترفضه الحكومة باعتباره تجزئة للبلاد، وإقصاء اللغة العربية من كونها اللغة الرسمية للبلاد كما كانت سابقا، وإسناد صياغة الدستور الصومالي إلى خبراء أجانب. وطالبت الحكومة بالمقابل بتشكيل لجنة صومالية خالصة لوضع دستور يترجم هوية وإرادة الصوماليين.

وإضافة إلى ما سبق ظهر على الساحة السياسية صراع بين شيوخ القبائل وزعماء المليشيات حول الأحقية في تعيين أعضاء البرلمان. ففيما طالب بها شيوخ القبائل باعتبارهم القيادة الشرعية والتاريخية في الصومال، رفض زعماء المليشيات -الذين وجدوا دعما خارجيا من مصادر ودول متعددة وارتبطت مصالحهم بها- هذا المطلب نظرا لتراجع وتقلص دور المشائخ -حسب زعمهم.

في 15/9/2003م عرضت لجنة الوساطة الميثاق الانتقالي للصومال (الدستور المؤقت) الذي تمت صياغته للتصويت على الفصائل الصومالية المشاركة بالمؤتمر دون حضور ممثلي الحكومة و9 من الفصائل المتحالفة. الأمر الذي دفع صلاد إلى اعتبار مؤتمر المصالحة الصومالية منهار بالكامل.

وفي 16/9/2003م أصدرت الحكومة الصومالية والفصائل المتحالفة معها بيانًا مشتركًا دعت فيه إلى عقد مؤتمر بديل عن مؤتمر نيروبي في داخل البلاد لانتخاب برلمان وحكومة يحلان محل الحكومة التي انتهت فترة ولايتها في منتصف أغسطس 2003م.

في 28/9/2003م أعلنت جيبوتي انسحابها من لجنة الوساطة -التي تسعى لإبرام اتفاق سلام بين الفصائل الصومالية- احتجاجًا على عدم مشاركة كل الأطراف الصومالية في المحادثات؛ وقال سفير جيبوتي لدى كينيا: إن محادثات السلام في كينيا لم تتمخض عن تحقيق مصالحة حقيقية بين مختلف الفصائل الصومالية، وإنها قد توقع البلاد في حرب جديدة بسبب الخطوات الانفرادية التي اتخذتها كينيا. واعتبرت جيبوتي أن المؤتمر لن يكون في مصلحة الشعب الصومالي في ضوء ما يشهده من “انحياز واضح لتحقيق مصالح دول بعينها”.

وعلى إثر ذلك، أعلن “باثويل كيبلجات” -المنسق الكيني لمؤتمر السلام الصومالي- تعليق المفاوضات بين الأطراف الصومالية حتى 21 من أكتوبر 203م. فيما رفض عبد العزيز أحمد -مندوب إثيوبيا في المؤتمر الصومالي- ما قاله المنسق الكيني، وأفاد في حديث صحفي له (1/10/2003م) بأن المؤتمر مستمر وعملية تقاسم السلطة جارية، وليس مقبولا ما نقل عن المنسق الكيني؛ معتبرا أن انسحاب جيبوتي من المؤتمر “غير مبرر”، وأن المؤتمر لن يتأثر بهذا الانسحاب.

لقد كشفت هذه المواقف في حينها عن عمق الخلافات القائمة بين الدول الثلاث المشرفة على أعمال المؤتمر بتفويض من منظمة “الإيجاد” التي ترعى مباحثات السلام الصومالية.

في 25/10/2003م دعت قمة الإيجاد الدورية -التي عقدت في كمبالا- لعقد اجتماع طارئ لمجلس وزراء خارجية دول الإيجاد في نيروبي، لتقييم مفاوضات السلام الصومالية القائمة منذ 15 أكتوبر 2002م، وإعطاء دفعة جديدة لهذه المفاوضات التي لا تزال معلقة منذ مطلع الشهر. وتم الاجتماع الطارئ لوزراء خارجية دول (الإيجاد) في نيروبي بتاريخ 28/10/2003م.

في 28/10/2003م اجتمع وفد الحكومة الصومالية برئاسة صلاد ووفد المجلس الوطني لإنقاذ الصومال بقيادة موسي سودي وبحضور الزعيم الليبي معمر القذافي في طرابلس بليبيا فيما بدا أنه مبادرة ليبية جديدة بشأن الصومال.

في 23/11/2003م وصف صلاد مؤتمر السلام الصومالي الذي يعقد في كينيا بأنه مؤتمر “يديره قس كيني يدعى باثويل كيبلجاد يضمر الشر للإسلام وأهله ويفعل فيه ما يشاء”.

في يناير 2004م قال “كالونزو ماسيوكا” وزير الخارجية الكيني في تصريحات صحفية: “إن صبر المجتمع الدولي قد نفد تجاه تعنت الأطراف الصومالية إزاء المصالحة”؛ وهدد في حديثه بأن أي زعيم يتغيب عن المشاركة في اجتماع المراجعة “سيواجه عقوبات وسيتم اعتباره عقبة في وجه السلام في الصومال”.

لقد كانت كينيا غير جادة من أجل المصالحة الصومالية؛ ففي زيارة للرئيس الكيني السابق ” دانيال أرب موي” لكلية عسكرية في واشنطن، في أكتوبر 2003م، سأله خبير عسكري: لماذا لا يوجد في الصومال دولة؟ فأجاب الرئيس: “كينيا وإثيوبيا لن تكونا صادقتين في المصالحة الصومالية، لأنهما تخافا إذا وجدت دولة صومالية أن تعيد نزاعها معهما، أن يكون هدفها أن تضم الصومال بعض المناطق التابعة حاليًا كلاً من كينيا وإثيوبيا”.

كما انقسم الصوماليون -أنفسهم- إزاء مؤتمرات السلام في نيروبي إلى معسكرين:

الأول: “مجلس المصالحة والإحياء الصومالي” وهو يضم 13 فصيلا معارضا لحكومة صلاد، وأعلن عنه في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا عام 2001م.

والثاني: الحكومة الانتقالية وإلى جانبها “المجلس الوطني الصومالي” الذي أعلن عنه في 30/9/2003م، حيث يضم 9 فصائل، إضافة إلى مجموعة من القادة القبليين، وهذا المعسكر رفض ما جرى في مؤتمرات نيروبي، على اعتبار أنه يسيء إلى الثوابت الوطنية للصومال.

ولقي هذا الاتفاق ترحيبا من قبل الولايات المتحدة والجامعة العربية. حيث استقبلته واشنطن بارتياح حذر. ونقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن وزير الخارجية الأمريكي كولن باول الجمعة 6/2/2004م قوله: “إن الصومال يستعصي على الحكم منذ زمن طويل، ونود أن نلعب دورا لإعطاء قوة دفع لهذه العملية”.

ومن الملاحظ غياب العلماء والدعاة والحركة الإسلامية في الصومال عن المصالحة الصومالية والمؤتمرات التي عقدت من أجل السلام وتشكيل هياكل الدولة المستقبلية في نيروبي، وغيرها من المدن والعواصم التي تنقلت بينها المؤتمرات! وترك المجال السياسي في يد زعماء الحرب أنفسهم –من قادة ميليشيات وزعماء قبائل- الذين خرّبوا البلاد، وكانوا سببا في الأزمة والفتنة التي استمرت لعقد ونصف من الزمان.

التحديات المستقبلية للحكومة الحالية:

انعدام الموارد:

لا تمتلك الحكومة الجديدة موارد مالية لتسيير شئونها، كما أنها لا تمتلك البنى التحتية والإمكانيات التي تساعدها على القيام بمهامها كدولة تقيم الأمن وتحمي الحدود وترعى مصالح المجتمع وتنهض بالتنمية. في حين أن المساعدات الدولية المقدمة لا تفي بمتطلباتها لإدارة شئونها وتوظيف كوادرها في مختلف المؤسسات الرسمية للدولة!

وفي الوقت ذاته يعاني الشعب الصومالي من حالة فقر شديدة، وقد أعلنت الأمم المتحدة في 15/1/2004م عن نتائج أول مسح اجتماعي واقتصادي يُجرى في الصومال منذ اندلاع الحرب الأهلية عام 1991م، والذي تم بمبادرة مشتركة بين البنك الدولي وعدد من وكالات المنظمة الدولية منها البرنامج الإنمائي، حيث أظهر المسح أن نحو 43% من الصوماليين يعيشون في فقر شديد بمعدل دخل يومي يعادل دولارًا أمريكيًّا واحدًا أو أقل.

ولا تمثل الإمدادات الإنسانية التي تقدمها المنظمات الدولية شيئا يذكر إلى جانب ما تعاني منه البلاد من أزمات، خاصة إذا أضيف لها غياب المنظمات الإسلامية الفاعلة وتعطيل الحوالات المالية التي يرسل بها من الجاليات الصومالية في الخارج إلى أهليهم في الداخل تحت ذريعة مكافحة تمويل العناصر الإرهابية.

ورغم تعهد المجتمع الدولي بالعمل لإعادة الأمن والاستقرار إلى الصومال وتقديم الدعم اللازم لإعادة الإعمار، إلا أن شيئا من ذلك لم يحصل!! فدول الجوار عاجزة عن تقديم أي دعم، وكذلك هو الحال للدول الأفريقية. أما الدول العربية فقد عبر الرئيس الصومالي عبد الله يوسف عن خيبة أمله نتيجة لما وصفه بـ”المبلغ الهزيل” الذي قررت تقديمه لمساعدة الحكومة الصومالية الحالية على نزع أسلحة الميليشيات؛ وقال في تصريح له في «الشرق الأوسط» اللندنية -من مقر إقامته في نيروبي في يناير 2005م- إنه كان يتوقع حصول بلاده على أكثر من مائة مليون دولار أمريكي وليس ما تم الإعلان عنه في ختام اجتماعات اللجنة الوزارية العربية التي عقدت في القاهرة على هامش اجتماعات المجلس الاستثنائي لوزراء الخارجية العرب.

هذا في حين أوضح شيخ إسماعيل وزير خارجية الصومال -في تصريح لصحيفة “الشرق الاوسط” بشأن عرض الملف الصومالي على القمة العربية السابعة عشرة التي عقدت في الجزائر خلال شهر مارس 2005م- أن التقديرات الأولية لمشروع إعادة إعمار الصومال تصل مبدئيا إلى نحو ثلاثة مليارات دولار، مشيرا إلى أنه يتعين إعادة بناء كافة مؤسسات الدولة الصومالية من تحت الصفر!

وفي حين يقدر الخبراء الدوليون في الأمم المتحدة تكاليف إعمار الصومال بخمسة مليارات دولار، لم يقدم الاتحاد الأوروبي أكثر من عشرين مليون دولار! وعليه خسر عبد الله يوسف أول طلب تقدم به إلى المجتمع الدولي كرئيس للصومال ألا وهو تقديم المساعدات الخارجية لحكومته من أجل تحسين أوضاع أبناء الشعب الصومالي وكسب ثقتهم.

كميات السلاح:

يشكل انتشار السلاح في يد الفصائل والمليشيات الصومالية أحد أهم مشاكل الدولة، وهي تهرب عبر الحدود البرية والبحرية وبمساندة دول مجاورة.. كإثيوبيا؛ في 29/12/2003م اتهم الرئيس الصومالي السابق عبد القاسم صلاد حسن في مؤتمر صحفي له إثيوبيا بتقويض الاستقرار في الصومال، وذلك عن طريق مساندتها قادة الحرب الصوماليين وتزويدهم بالأسلحة والذخيرة لتحقيق أهدافها الرامية إلى تقسيم الصومال إلى كانتونات قبلية متناحرة؛ وأكد بأن إثيوبيا “تنتهك باستمرار الحظر الذي فرضه مجلس الأمن الدولي على توريد السلاح إلى الصومال”.

وقد أفاد “ستيفن تافروف” -رئيس لجنة خبراء الأمم المتحدة المكلفة بمراقبة الحظر الدولي المفروض على الصومال- في مؤتمر صحفي في نيروبي في 18/11/2003م بأن السلاح لا يزال يدخل إلى الصومال بصورة ملحوظة على الرغم من الحظر الذي فرضه مجلس الأمن الدولي عام 1992م، كما أن التجارة فيه نشطة جدًّا سواء في الأسلحة التي في داخل البلاد أو تلك التي تأتي من خارج الصومال. وربط المسئول الدولي بين التطبيق الصارم لهذا الحظر وبين إيجاد حل سياسي للمشكلة الصومالية، وقال: “إن الفشل في تطبيق الحظر المفروض على توريد السلاح إلى الصومال من شأنه أن يعرقل أية محاولة لإيجاد حل يمهد الطريق لإنشاء حكومة مركزية قوية في الصومال والتي تفتقدها البلاد منذ 13 عامًا”.

وكانت لجنة متابعة الحظر الدولي المفروض على توريد السلاح إلى الصومال قد أصدرت في 7/11/2003م تقريرًا مطولاً عن حركة توريد السلاح إلى الصومال ومصادرها، بالإضافة إلى المواني التي يتم إفراغ شحنات السلاح والذخيرة فيها في طريقها إلى أيدي المليشيات التابعة لأمراء الحرب في الصومال. وأكد التقرير أن السلاح يتدفق إلى الصومال من جهات كثيرة؛ داعيا الخبراء إلى إصدار “قائمة سوداء” للدول والجهات التي تنتهك الحظر تمهيدًا لمعاقبتها مستقبلاً. وأكد تقرير خبراء الأمم المتحدة بأنه على الرغم من انخفاض استخدام السفن الكبيرة وطائرات النقل العملاقة في إيصال السلاح إلى الصومال، فإن مئات من الأطنان منه تنقل بواسطة سفن الصيد والطائرات الصغيرة التي وجدت طريقها إلى الصومال بطرق مختلفة منطلقة من عدد من الدول في المنطقة مثل اليمن وأثيوبيا وإريتريا وجيبوتي والإمارات العربية المتحدة.

وتأتي المسائل الأمنية –بما فيها السلاح- في أولويات حكومة عبدالله يوسف، ففي إشارة منه إلى مشكلة السلاح المنتشر في أيدي زعماء الحرب الذين أصبحوا أعضاء في البرلمان والحكومة أيضًا قال الرئيس الصومالي عبد الله يوسف: “يجب أن يتم وضع جميع الأسلحة في يد الحكومة”! وقد خصصت الحكومة الجديدة ميزانية قدرها 95 مليون يورو، سيستخدم جزء من هذه الأموال في الشئون الأمنية غالبا وتجميع المليشيات التي سيتم استيعابها ودمجها في الشرطة أو الجيش.

وفي خطوة أخرى في الاتجاه ذاته أطلق الرئيس الصومالي عبدالله يوسف مشروعا يطلب فيه من الاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية إرسال نحو 7.500 جندي إلى الصومال للقيام بمهام نزع السلاح ومساعدة الحكومة في تثبيت الأمن؛ جاء ذلك عقب إصدار مجلس الأمن الدولي قرارا بالإجماع (رقم 1587في 16/3/2005م) الذي شجب استمرار وصول الأسلحة والذخائر إلى الصومال، وأبدى عزم المجلس على محاسبة المسئولين عن ذلك!

يذكر أن بعض التقديرات تشير إلى وجود نحو (20) مليون قطعة سلاح في الصومال!

النزاعات القبلية:

تعد التركيبة القبلية في الصومال أقوى من جهاز الجيش والأمن، كما أن الرأي العام في الصومال تحكمه الانتماءات القبلية، وقدرة زعيم القبيلة على حشد أكبر عدد ممكن من مليشيات قبيلته -التي تشكل الدعامة الأساسية لنفوذه السياسي والعسكري- خلفه.

وفي ضوء ذلك كان الارتكاز على القاعدة القبلية والعشائرية هو الأساس في الصراع وفي المصالحة وفي تشكيل الدولة وسلطاتها، بما يعني ضمنياً أن يبقى قادة القبائل وزعماء الفصائل المسلحة هم أصحاب الكلمة الأخيرة في صياغة الأوضاع الحالية والرؤى المستقبلية.

والقاسم المشترك للحروب الطاحنة التي شهدتها الصومال يكمن في محاولة كل طرف تقوية موقفه في المفاوضات السياسية الدائرة، وهو ما لا يتأتى إلا بالمزيد من المواجهات بغية السيطرة على مساحة أكبر من الأرض.

وفي حين لم تنجح حكومة صلاد حسن خلال أربع سنوات في السيطرة على العاصمة مقديشو، وفشلت تماماً في نزع أسلحة القبائل والميليشيات، وفي تشكيل جيش أو قوى أمن داخلي ذات تأثير في البلد، فإن حكومة البروفيسور علي محمد جيدي التي شكلها عبد الله يوسف لن تكون بأوفر حظا من سابقتها؛ فقد أعادت مؤتمرات المصالحة القبائل والمليشيات إلى مركزها القديم في كونها معيارا لتقاسم السلطة السياسية في الصومال.

مشكلة الدويلات المنفصلة:

إن من التحديات العاجلة للحكومة أمراء وزعماء الحرب الذين أثبتت التجارب عدم استعدادهم للتنازل عن نفوذهم أو التخلي عن مصالحهم الخاصة ومصالح قبائلهم ومليشياتهم التي يتزعمونها.

فقد عمقت الحروب من الانقسامات في المجتمع الصومالي تحت تأثير عوامل محلية وإقليمية، أدت فعليا إلى تقسيم البلاد إلى مجموعة من الدويلات والولايات على أسس إقليمية وقبلية وعرقية وثقافية. إذ اجتاحت أثيوبيا منطقة جنوب غرب الصومال و أقامت منطقة أمنية هناك بحجة مكافحة العناصر الإسلامية، بينما دعمت كينيا وإريتريا جهات صومالية بحثا عن الدور والنفوذ الإقليميين.

في مايو 1991م تم الإعلان عن أول حكومة إقليمية في الشمال الغربي للصومال، وهى حكومة “جمهورية أرض الصومال” وعاصمتها “هرجيسا”؛ وكانت برئاسة عبد الرحمن تور، ثم تلاه إبراهيم عقال الذي توفي في يونيو 2002م، ثم تلاه “طاهر ريالي كاهن” الذي فاز في أول انتخابات رئاسية تجرى في جمهورية “أرض الصومال” في 14/4/2003م. وفي حين لم يعترف المجتمع الدولي بالجمهورية الانفصالية حاول “كاهن” العزف على وتر الولايات المتحدة، متهما شبكات إرهابية دولية بالمسؤولية عن مقتل ثلاثة أوروبيين في بلاده، ومطالبا المجتمع الدولي، الذي لا يعترف باستقلال جمهوريته عن الصومال، بالمساعدة. جاء ذلك في تصريح أدلى به كاهن لإذاعة الـ(بي بي سي) عقب قراره طرد كل المهاجرين غير الشرعيين.

وقد حققت جمهورية “أرض الصومال” استقرارا سياسيا وأمنيا بالمقارنة مع بقية المناطق الصومالية التي تجتاحها الحرب الأهلية وخلافات قادة الفصائل المسلحة.

وفي أغسطس 1998م تم الإعلان عن قيام حكومة إقليمية في الشمال الشرقي للصومال، وهي حكومة “بونت لاند” وعاصمتها “جروي”؛ برئاسة عبد الله يوسف، الذي طالب بإقامة نظام فيدرالي في الصومال. وعقبه في الحكم يوسف حجي تور ثم جمعة علي جمعة.

وعقب انهيار محادثات السلام بالقاهرة جرت محاولات لإقامة حكومة إقليمية أخرى بالجنوب الصومالي بعنوان “جوبا لاند”؛ وتصاعدت ظاهرة إعلان قيام دويلات جديدة في الصومال، كان أبرزها في إقليم شبيلى الوسطى، وفي أقاليم جنوب غرب البلاد..كما تصاعدت ظاهرة الاقتتال بين الفصائل لتوسيع النفوذ والوصول إلى السلطة في تلك الدويلات! وخطورة هذا الأمر لا تكمن فقط في بروز أقاليم لها هوية مميزة بقدر ما تكمن في زيادة تأثير البعد الإقليمي في المعادلة الوطنية الصومالية انطلاقا من الإقليم المعني!

لقد ظلت الحكومة الانتقالية السابقة برئاسة صلاد تحظى باعتراف جزء من جنوب البلاد فقط، بينما تواجه معارضة من حكومتي أرض الصومال وأرض البانت المعلنتين من طرف واحد ومن الفصائل المسلحة التي كانت تسيطر على جزء من مقديشو والجنوب. واستمر القتال من أجل السيطرة على الأراضي بين الفصائل والحكومة الوطنية الانتقالية، وفيما بين الفصائل نفسها.

يذكر أن حسين عيديد الذي تشكل منظمته (الاتحاد الوطني الصومالي) إحدى المنظمات التي يتكون منها مجلس المصالحة يناصب الحكومة الانتقالية العداء ويتخذ من أثيوبيا مقرا له ولم تفلح حكومة مقديشيو حتى الآن في ضمه إلى جهود المصالحة الوطنية التي شرعت فيها منذ تشكيلها عقب توقيع اتفاق عرتا في جيبوتي عام 2000م.

انتشار الإيدز:

تقول إحصاءات الأمم المتحدة: إن معدلات انتشار الإيدز تتزايد بسرعة في دول القرن الأفريقي: إثيوبيا وإريتريا وجيبوتي والصومال. وعلى الرغم من عدم وجود إحصائية رسمية أو غير رسمية عن معدل الإصابة بمرض الإيدز في الصومال فإن الأمم المتحدة أصدرت في ديسمبر 2003م تقريرا يفيد بأن 1% من سكان الصومال البالغ عددهم 10 ملايين نسمة يحملون الفيروس الحامل للمرض أو مصابون بالمرض فعلا. ومما يزيد من مخاوف انتشار المرض في الصومال أن الدول المحيطة به مثل: كينيا وإثيوبيا وجيبوتي، من أكثر الدول الأفريقية إصابة بالعدوى حسب تقارير الأمم المتحدة.

زراعة الحشيش:

تعرض بيان المنظمات المدنية في 12/2/2004م إلى استخدام بعض المليشيات الصومالية الأراضي الزراعية في زراعة الحشيش والمخدرات الأخرى التي تدر عليهم أرباحا طائلة لتمويل عملياتهم العسكرية. وأكد البيان أن “عددا من المزارع وكلها في المناطق الزراعية الخصبة بجنوب الصومال، تم تحويلها إلى مزارع للحشيش بالكامل تحرسها المليشيات، وأُجبر السكان المحليون على العمل فيها بالقوة”.

النفايات النووية:

في 9/3/2005م دعا مسئولو الحكومة الصومالية الأمم المتحدة إلى إزالة أطنان من النفايات الخطرة التي نقلتها موجات المد الآسيوي “تسونامي” من أعماق السواحل الصومالية إلى الشاطئ، حيث تسببت في حدوث أمراض فتاكة و”زيادة الوفيات بين البشر والحيوانات، تبعها انقراض على نطاق واسع للحياة البحرية والبرية”..

وأكد تقرير للأمم المتحدة صدر في شهر فبراير أن موجات المد أخرجت مواد خطرة في الصومال الذي استخدم على مدى سنوات كمقلب للنفايات النووية للدول الأخرى. وأوضح التقرير أن دفن النفايات أصبح أكثر سهولة بعد الإطاحة بنظام سياد بري.

الصومال وتجربة قوات حفظ السلام:

أطلق الرئيس الصومالي الجديد عبدالله يوسف كأول مبادرة لإعادة الأمن والاستقرار إلى الصومال مشروعا يطلب من الاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية إرسال نحو 7.500 جندي للقيام بمهام نزع السلاح ومساعدة الحكومة في تثبيت الأمن والاستقرار في الصومال؛ وقد ووجه المشروع الذي لا يمانع من إرسال قوات من دول الجوار الجغرافي خاصة: إثيوبيا وكينيا بمعارضة شعبية واسعة. وقد تزعم المعارضة الشعبية رابطة علماء الصومال واتحاد المحاكم الإسلامية، وتوعد الآلاف ممن شارك في مظاهرات عمت بعض المدن الصومالية بمقاومة أي وجود عسكري إثيوبي بقوة السلاح. وقد صرح الشيخ شريف شيخ أحمد رئيس اتحاد المحاكم الإسلامية في الصومال لـ”الشرق الأوسط” الأحد 13/2/2005م بالقول: بأن تدخلا عسكريا من هذا القبيل سيعقد الوضع في الصومال، وسيجعله مهيأ لاندلاع حرب أهلية جديدة، باعتبار أن قطاعات كثيرة من الشعب الصومالي ترفض التدخل الأجنبي من الأساس. كما قال الشيخ إبراهيم سولي أمين عام رابطة علماء الصومال: إن الجنود الأفارقة المقرر أن يصلوا في الأشهر القادمة إلى البلاد غير مقبولين في أرض الإيمان (الصومال). وأضاف في بيان للرابطة (11/2/2005م) بأنه يرفض كل أشكال التدخل الأجنبي ويطالب البرلمان بعدم إقرار مهمة السلام التي تسمح لقوات أفريقية بدخول الصومال؛ وأضاف أنهم مختلفون في الدين، ولذلك لا يمكن قبولهم.

ووصل الأمر في مناقشة مشروع القرار إلى حد نشوب عراك دام في البرلمان الصومالي (بنيروبي) بعد تصويت البرلمانيين ضد المشروع. كما عارضت الولايات المتحدة تدخل قوات أجنبية من الدول المجاورة لحفظ السلام في الصومال، في خطوة يبدو أنها تسعى إلى تطبيع السلطة القادمة من مؤتمرات نيروبي!

الخلاصة:

من خلال هذا التتبع والاستقراء والعرض للقضية الصومالية ومراحلها ومحطاتها وعوامل التشابك والتداخل فيها نخلص إلى نتيجة مفادها أن الصومال مثال واضح –ضمن كثير من الأمثلة- على تفكك الروابط الإسلامية والعربية بين دول العالم الإسلامي والعربي، وعلى أن الإرادة الاستعمارية القديمة والحديثة تسعى إلى تجزئة الجسد لتنفرد بكل جزء على حدة، تصيغه وفق أهدافها ومصالحها وتحالفاتها في المنطقة. وقد دفع الشعب الصومالي ضريبة التخاذل العربي والإسلامي وترك فريسة سائغة للقوى المعادية للإسلام والعروبة يشكلون حاضره ويرهنون مستقبله. ولم يعد خافيا على أحد أن جميع الضغوط مورست وبذلت كافة الجهود لإقصاء أي إرادة صادقة أو سعي جاد لحل الأزمة من قبل الدول العربية وجاء الحل مرسوما ومعدا من دوائر صنع القرار الغربية بالاتفاق مع حلفاء المنطقة: إثيوبيا وإريتريا وكينيا وإسرائيل!

إن الصورة بهذه الملامح تؤكد خطورة النتائج المستقبلية لهذا التدخل السافر والسياسات الاختراقية لبلد عربي مسلم. وما لم تبذل الدول والشعوب العربية جهودا حقيقية في تأكيد هوية الشعب الصومالي العربية والإسلامية وتقدم له الدعم الإنساني والمساندة بالمال والإمكانيات المادية والخبرات المختلفة لنهضة البلاد وعمران الأرض وتنمية المجتمع.. وإلا فإن الاختراق الثقافي والفكري والسياسي سيتمكن من هذا البلد الذي يعد البوابة الجنوبية للبحر الأحمر شريان الأمة ووريدها!!

———–

المراجع:

تم الرجوع لإعداد هذا الموضوع إلى أكثر من 100 مادة، ما بين أخبار وتقارير ومقالات، منشورة على الإنترنت.

بالإضافة إلى:

-التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية 2002م

-الحصاد المر: تجربة الصومال بين الحكومة الجائرة والحرب الأهلية، بقلم/ محمد إدريس أحمد. (متوفر على الإنترنت).

تحضير عملية تغيير الهوية بعد التفكيك السياسي في الصومال، بقلم / إبراهيم عبد الله محمد

حوار مع (حسين عيديد) في مجلة (المجلة) بتاريخ 3/3/2002م.

 

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button