قراءة في مفهوم الاستراتيجية كعلم

أولاـ مجال علم الإستراتيجية

عندما نحدد الإستراتيجية من خلال إعطاء تعريف لها فإن هذا لا يعني بالضرورة تحديد أو حصر المجال للإستراتيجية كعلم. فالإستراتيجي كمنظر والإستراتيجي الذي يطبق المخططات الإستراتيجية كلاهما يستطيع استخدام جميع الوسائل. والإستراتيجية تختلف عن جميع العلوم،حيث بإمكانها الاستفادة من جميع العلوم: فهي بحاجة للعلوم التجريبية من أجل تطوير وتقييم قاعدتها التقنية،بحاجة للاقتصاد لتطوير إمكاناتها،للعلوم السياسية بسبب علاقتها الخاصة مع السياسة،لعلم الاجتماع من أجل وضع الصراع على أي مستوى في سياقه العام،للتاريخ للاستفادة من أمثلته والمعلومات التي يقدمها.

بشكل آخر،يمكننا أن نضع في المكتبة الإستراتيجية جميع الكتب. بداية مع التاريخ،وخاصة تاريخ الحروب. ثم مذكرات كبار القادة وكبار المؤرخين،فمن الصعب مثلا أن نقرأ الإستراتيجية القديمة من غير العودة إلى Thucydide ، César و Tacite. أما في العصر الحديث فإن مذكرات Turenne هي إجبارية لفهم الإستراتيجية.

تطور النظرية الإستراتيجية في الحياة المعاصرة لم يرفض هذا المصدر القديم: فمذكرات المارشال Von Manstein ( Verlorene Siege) الصادرة في عام 1955 بالإنكليزية،وعام 1958 بالفرنسية، و”دفاتر” المارشال Rommel هي جميعها تعتبر مصادر أساسية للإستراتيجية. ولكن معلوماتها تستخرج بصعوبة حيث على القارئ نفسه أن يبذل جهدا من أجل فهمها وفهم النظرية التي أراد الكاتب قولها. وأخيرا نريد القول أن علم الإستراتجية اليوم لا يمكنه استبعاد أي مجال من مجالات العلوم.

 ـ علم عسكري وعلم إستراتيجي.

إذا الإستراتيجية ليس مجالا مستقلا. فهي فرع من مجال ضخم جدا،إنه قيادة الحرب، وبشكل أعم اليوم، قيادة الصراع، حيث كانت تدعي في الماضي “علم عسكري” (خاصة في العصر الروماني)، أو “فن الفروسية” (في العصر الوسيط)، ” فن الميليشيات أو الوحدات” (مع بداية العصر الحديث)، “فن الحرب”( تسمية بدأت تفرضها نفسها مع بداية القرن الثامن عشر). والسؤال: هل يمكننا فك ارتباط الإستراتيجية من كل هذا التاريخ الذي يعطيها اليوم معناها؟ في الواقع وحتى وقت متأخر،الإستراتيجية كانت دائما ضمن فن الحرب بمعنى أنها داخل الفكر العسكري،وهي اليوم تشغل المرحلة العليا في هذا الفكر.[1]

إن علم الإستراتيجية يحتاج مساندة علم التكتيك من غير أن يتضمن الأول جميع ما يتعلق بالثاني. في القرن السابع عشر والثامن عشر تم تطوير فكر تكتيكي مستقل، ولكن معظم الكتاب العسكريين ركزوا بشكل كبير على جدلية السلام والحرب. [2] بعد ذلك تم انتشار الإستراتجية من خلال اتساع التنظير للتكتيك،ولكن كان لديها في البداية مفهوما يربط الحرب بالسياسة. والمشكلة هنا أن جميع هذه الفئات أو التصنيفات المختلفة لم يتم تحديدها أو تظهر معالمها الخاصة إلا ببطء شديد، وهذا ما رأيناه عندما درسنا في البداية مفهوم الإستراتيجية وتطور مفهوم هذا المصطلح. إذا لا يمكننا الادعاء وكما يشير الكثير من منظر ي هذا العلم،أنه بالإمكان تحديد مجال أو حقل البحث في الإستراتيجية من خلال الاستناد فقط على مراجع أو مؤلفات إستراتجية “نقية أو خالصة”. فلا بد من تبني رؤية متطورة تنطلق من العلم العسكري من أجل الوصول، حاليا، إلى علم الإستراتيجية.

ـ هل هناك عالمية لعلم الإستراتيجية؟

الحرب هَمٌ و انشغال عالمي ونرى ذلك في معظم الأدبيات التي أنتجتها الحضارات المختلفة التي أُرخت بالكتابة، ولكن هذا لا يعني أن جميع الحضارات أنتجت أدبيات إستراتيجية تشير إلى الإستراتيجية كعلم. أشهر المؤلفات التي تتحدث عن عالمية علم الإستراتيجية هو ما قدمه Gérard Chaliand في مؤلفه “الانطولوجيا العالمية لعلم الإستراتيجية” ( l’Anthologie mondiale de la stratégie). [3] فهو ينقلنا في هذا الكتاب من أيام العبريين إلى الإستراتيجية النووية مرورا ببلاد ما بين النهرين و الشرق الأقصى،ولكنه لا يصل إلى نتيجة إلا بعد أن يدرس العديد من النصوص التي لا يتفق معه العديد من المنظرين أنها نصوص تتعلق بعلم الإستراتيجية. طبعا يتحدث في كتابه عن التوراة و عصر غلغامش (بلاد ما بين النهرين قبل 2000 عام تقريبا من الميلاد)، ثم يصف الصراعات التي سادت آنذاك، ولكنها لا تشكل قاعدة لبناء علم للإستراتيجية ولو تضمن العديد من فنون الحرب.

 ويعتقد Hervé Coutau :”أنه لا المصريين القدماء ولا الأشوريين،ولا حتى الفرس لم ينتجوا اتفاقيات عسكرية أو مفاهيم تقترب ولو من بعيد من مفهوم الإستراتيجية أو التكتيك”. فيما يتعلق بالشرق الأقصى،فقد تحدث الهنود عن مفاهيم اقرب للسياسة منها إلى الإستراتيجية. أما الحضارة اليونانية، تحدثت من خلال مؤرخيها عن وعي بالأبعاد العليا والراقية لفن الحرب وعن العلاقة بين الحرب والسياسة وهذا ما ندعوه اليوم “إستراتيجية”،ولكن هذا لا يعني صياغة علم أو نظرية للإستراتيجية. في الواقع،الفكر الاستراتيجي ليس عالمي،إلا إذا أردنا إضعاف محتواها بإدخال نصوص كثيرة عن فنون الحرب وبأي طريقة داخل “الإستراتيجية”. علم الإستراتيجية لديه تاريخ غير مستمر أو غير متصل. ومن بين الحضارات التي طورت فنا للحرب معقدا وعميقا حتى أننا يمكن أن نسميه إستراتيجية ،العديد منها لم تنتج أية أدبيات إستراتيجية يمكنها أن تحمل هذا الاسم.

ـ دور العوامل الاجتماعية في علم الإستراتيجية.

تحدثنا في الفقرة السابقة وقلنا أن علم الإستراتيجية لديه تاريخ متقطع، في الواقع هذا التقطع ليس من السهل حصر أسبابه وفهما بشكل كامل. ولكن مع ذلك هناك خمسة عوامل مشتركة بين معظم الذين أرخوا لهذا العلم وأكدوا في نفس الوقت أنها تحتاج إلى تعميق معرفي وتاريخي.

1ـ الفكر الاستراتيجي يجب أن يستجيب إلى حاجة معينة،كما يقول Hervé Coutau في كتابه عن علم الإستراتيجية (مرجع سابق،صفحة 146). أما المؤرخ الأمريكي Everett L. Wheeler قام بدراسة مقارنة ،للظهور المتزامن تقريبا،للنظرية العسكرية في اليونان القديم وفي الصين أثناء القرن الرابع قبل الميلاد. وصل المؤرخ الأمريكي إلى نتيجة أن: ” رغم الاختلافات الثقافية الكبيرة،إلا أنه وجدت عوامل متشابهة سهلت تطور النظرية العسكرية في قلب هاتين الحضارتين،وأدت في الواقع بين أولى النظريات في الغرب و أولى النظريات في الشرق إلى بناء مواضيع مشتركة”.[4]

من بين العوامل المشتركة، أن الصين و اليونان لم تعرفا استقرارا سياسيا بل على العكس كان فيهما الكثير من الحروب، في الصين حروب Royaumes Combattants وفي اليونان حروب Péloponnèse.بمعنى آخر كان هناك طلب كبير على الخبرات العسكرية. ففي اليونان وجد ما يسمى الأساتذة أو Hoplomachoi وهم يعلمون فن القيادة،أما في الصين فقد أحاط الملك نفسه بمجموعة من المستشارين العسكريين مثل الاستراتيجي الشهير Sun Zi أو Sun Bin.

2 ـ الفكر الاستراتيجي يفترض انفتاحا، حيث يتوجب عليه الاستفادة من مختلف الخبرات مهما كانت وأينما كانت. مع ذلك عبر التاريخ، تحفظ القادة العسكريون والسياسيون على مخططاتهم، وخير مثال على ذلك ما كان يفعله الفينيقيون والقرطاجيون من إخفاء لسير رحلاتهم البحرية بغرض عدم كشفها أمام المنافسين لهم. ومن الصعوبات الأخرى التي كانت أمام انتقال مبادئ علم الإستراتيجية هي وجود مجتمعات لم تعرف الكتابة،وعملية تناقل الأفكار الإستراتيجية كانت شفهية وهذا ما أعاق عملية الانفتاح والمعرفة.

3 ـ الفكر الإستراتيجي يفترض،في نفس الوقت، خبرة عملية و نزوع أو ميل للتفكير والتأمل الذي لا يتكرر عادة عند نفس الشخص. فأكبر قادة الحروب كتبوا رؤيتهم النظرية بعد أن استطاعوا التفرغ لذلك وأصبح لديهم القدرة على المراقبة من خارج الحدث. ولكن التنظير الاستراتيجي يفترض كما يرى الكثير من المؤرخين،مستوى من التعليم و التكوين،كما يفترض أيضا الكثير من الابتعاد عن الذات أو النظرة الشخصية الضيقة.

4 ـ الفكر الاستراتيجي يفترض شكلا من أشكال العقلية القادرة على التجريد. فاليونان القدماء ومعهم البيزنطيون صاغوا أدبا إستراتيجيا لأنهم كانوا مفتونين و معجبين بالفلسفة وعلم اللاهوت. أما الرومان فلم يكتبوا شيئا في هذا الصدد لأنهم ابتعدوا عن التنظير الاستراتيجي و استندوا فقط على الممارسة العملية. في العصر الحديث،وبعد الانفتاح الذي حصل على العالم في القرن التاسع عشر، الأدب الاستراتيجي الياباني بقي فقيرا،مقارنة بالإنتاج الغني لهذا النوع من الدراسات في الصين،وقبل انتصار الإيديولوجية الكنفشيوسية.

5 ـ أخيرا، الفكر الاستراتيجي “ربما” يفترض شكلا من أشكال العقلية المحكومة بمبدأ الفعالية. فالفكر الاستراتيجي،كما الفكر الاقتصادي، يتطلب تصرفا عقلانيا لشخص يمركز عمله بالكامل حول هدف واحد. فمثلا الرجل الاستراتيجي لن يبحث سوى عن النصر على العدو. وكل ما يمكن أن يؤدي إلى النصر يمكن وضعه في خدمة الإستراتيجية من غير الانتباه إلى الاعتبارات الأخلاقية أو احترام العدو. والفكر الاستراتيجي المعاصر يشارك في “إزالة الأوهام” عن العالم، وقد حلله السيسيولوجيون منذ “ماكس فيبر” و أسس على الفصل بين النشاطات الإنسانية و محاولة عقلنتهاrationalisation .

  ـ ندرة علم الإستراتيجية.

يمكننا القول أن علم الإستراتيجية بقي محصورا في المجتمعات المتطورة،والتي كانت في حالة مواجهة مع الحروب،فيها نقاشات مفتوحة ومحكومة بالبحث عن الفائدة و الأداة. وعمليا،كما يرى بعض منظري الإستراتيجية، هذه الشروط ليس متوفرة بشكل دائم. فالعصر الوسيط،على سبيل المثال،لم يكن قادرا على إنتاج المرحلة الجنينية لعلم الإستراتيجية،بينما أوصل الفكر اللاهوتي إلى القمة مع saint Bonaventure و saint Thomas d’Aquin وآخرين. مع ذلك يمكننا أن نجد كتابا معزولين هنا وهناك أو أعمال إستراتيجية بأشكال أخرى،ولكنها لم تكف لبناء فكر إستراتيجية مبني بشكل علمي. وأخيرا نستطيع القول أن الفكر الاستراتيجي تركز حول ثلاثة مدارس إذا صح التعبير: المدرسة الصينية،المدرسة اليونانية القديمة بامتداداتها الرومانية و البيزنطية، ثم أوربا الحديثة والتي صدر عنها الفكر الاستراتيجي المعاصر.( Hervé Coutau، المرجع السابق، صفحة 150).

ثانيا ـ نماذج من العلوم الإستراتيجية.

1 ـ الفكر الإستراتيجي الآسيوي القديم.

ـ نموذج الفكر الصيني.

كان للكتابة مكانة رفيعة في الصين،وقد كرس الكثير منها للأشياء العسكرية. ففي القرن الخامس والرابع قبل الميلاد بدأ تشكل الفكر الاستراتيجي الصيني،ولكن اليوم هناك الكثير من هذه الكتاب التي فقدت.[5] ومن أهم أعلام الفكر الاستراتيجي الصيني نجد “المعلم Hsün”، ” المعلم Kuan”، Lao Zi, Mo Zi.[6]

أما أشهر الاستراتيجيين الصينيين فكان Sun Zi، ويعتقد أنه عاش في القرن الخامس قبل الميلاد. تجاهله الكثير من المؤرخين والبعض الآخر لم يعترف إلا بعد وقت متأخر. ولكن هناك كتابات جادة تشهد بقدم إنتاجه حول الفكر الإستراتيجي،أهمها : ثلاثة عشر مقالا حول”فن الحرب” استفاد منها معظم القادة في الجيش الصيني قديما.

بعد Sun Zi يأتي Sun Bin وهو حفيده. فقدت أعماله لفترة استمرت ألفي عام،والسبب أن أعماله لم توضع مع أو من بين “الأعمال السبع” الكلاسيكية التي جمعت في عصر Song. اعتقد المؤرخون أن الاثنين هما شخص واحد،ولكن عمل الثاني اكتشف في مقبرة صينية عام 1972وهو يدور حول “الاتفاقية العسكرية”. يغلب الطابع العملي على رؤيته الإستراتيجية أكثر من جده. أيضا تحدث عن الدعم اللوجستي و دوره في زيادة فعالية إطالة الحملات العسكرية. وأخيرا يمكن القول أنه كان أقل اهتماما بالتنظير الإستراتيجية من جده.

ـ تكون الثقافة الإستراتيجية.

أسس Sun Zi فكرا إستراتيجيا هاما.ثم بعد عقود عدة جاء إستراتيجيون آخرون مثل الجنرال Cao Cao وهو من أهم العسكريين في عصر أسرة Han، و Li Quan الذي عمل في ظل وجود الأسرة المالكة Tang في القرنين السابع و الثامن بعد الميلاد، ويأتي بعده He Yanshi و Zhang Yu في صر الأسرة المالكة Song. معظم هؤلاء وجد في عصر Royaumes Combattants، أي قبل توحيد الإمبراطورية، حيث عرف الفكر الإستراتيجي تيارين أساسيين: تحليلا عميقا للعلاقة بين الحرب والسياسة من قبل التيار الأول، أما التيار الثاني فقد كان لديه اتجاها ضد “العسكرة” وشارك بشكل متناقض في تطوير الفكر العسكري، فهو يرفض الحرب ويقبل حق الدفاع عن النفس.

في نهاية القرن الحادي عشر،الإمبراطور Shen Zong أوقف ما سمي قائمة “السبعة أعمال” وليتم التعامل مع قائمة جديدة من المؤلفات الإستراتيجية،وهي:( Hervé Coutau، مرجع سابق،صفحة 156)

ـ Wu Zi Bingfa، كتاب وضعه جنرال من القرن الرابع قبل الميلاد،يتألف من عشرة فصول تتركز جميعها على تحقيق المصالحة بين الأخلاق الكنفشيوسية و الشؤون العسكرية.

ـ Sima Fa، وهو نص مختصر ظهر في نفس العصر ويمكن أن يترجم عنوان كالتالي” كتاب معلم الفروسية”. يتحدث على إدارة الجيش،ضرورة أن تكون الحرب عادلة و يحلل قليلا المناورات العسكرية وقيادتها.

ـ Wei Liao Zi، كتاب أعده مشرع صيني في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد،ويتحدث فيه عن تنظيم الجيش.

ـ San lüe، أو “الإستراتيجيات الثلاث”لمؤلفه Huang Shegong ، يحلل في سيطرة الحكومة و الأبعاد السياسية للإستراتجية.

ـ Tai Gong Liutao، أو ” التعليمات السرية العشرة”، كتبها Taigong ،ويقيم هذا الكتاب بأنه الأكثر قوت وإنجازا للمدرسة الإستراتيجيين.

ـ Tang Li Wendui ،” سؤال و جواب بين Tang Taizong و Li Weigong”، ظهر في القرن السابع الميلادي،يركز على الأمور العسكرية بشكل كبير، ثم يدرس الإستراتيجية والتكتيك.

إن عملية انتشار الثقافة الإستراتيجية لم تتوقف على النخبة الإدارية،بل دخلت إلى الأدب والمسرح الشعبي لدرجة أنه من الصعب أن تجد مثلها في الدول الغربية.

ـ الفكر الإستراتيجي الصيني و الغرب.

وجد اتجاه دائم عند الغربيين يعتقد أن الفكر الصيني هو حكمة أكثر مما هو علم،بمعنى أن الصينيين يفضلوا أن يقترحوا أكثر مما يحددوا بدقة ما يريدون. في الواقع هذا الرأي يتناسى السياق الثقافي العام التي ظهرت فيه الكتابات الإستراتيجية الصينية.

مع بداية القرن الثامن عشر،أحد اليسوعيين الفرنسيين وهو الأب Amyot قدم الأفكار الصينية إلى أوربا، وذلك عبر كتابه “الفن العسكري عند الصينيين”،ويعود بكتابه إلى التحليلات حول الحرب في الصين والتي سبقت العصر المسيحي،والكتاب هو أيضا تقديم للعديد من الجنرالات الصينيين،وتمت ترجمة هذا الكتاب من الفرنسية إلى الألمانية في عام 1779. ولكن عمليا يمكن القول أن الروس وحدهم قدموا ترجمة كاملة للإستراتيجي الصيني الشهير Sun Zi في عامي 1860 و 1889. وعلينا أن ننتظر بداية القرن العشرين حتى نرى الاهتمام الأوربي الحقيقي بالفكر الاستراتيجي الصيني عبر الترجمة الإنكليزي التي قدمها الجنرال Calthorpe للكتاب الذي ذكرناه سابقا وترجمه الروس[7].ثم عاد الروس،الألمان و الإيطاليون بتقديم ترجمة جديدة لنفس الكتاب في أعوام 1950،1957 و 1950. أما بالنسبة للعرب فليس هناك أي اهتمام على الإطلاق بالفكر الإستراتيجي الصيني.

 2 ـ الفكر الاستراتيجي الغربي القديم.

ـ التكتيكيون و الإستراتيجيون اليونان القدماء.

في الواقع لم يبق الكثير من التراث العسكري اليوناني القديم،وما نقل منه على اللغات الأوربية الأخرى مثل الإنكليزية والفرنسية لا يساعدنا في التعمق به، بل نحتاج لمعرفة اللغة اليونانية حتى نستطيع التوسع أكثر في هذا التراث. مع ذلك يمكن القول أن اليونان امتلك العديد من التحليلات التكتيكية والإستراتيجية في عصرها القديم. ووفق كتاب نشر في أحدى المدن الفرنسية [8] ،فإن “الإسبارطيون” كانوا أول من كتب،بالاستناد إلى تجاربهم في الصراع والحرب، تحليلا لهذه الصراعات، وكانوا أول من علم هذه الأفكار لشبابهم من خلال معلمين عسكريين سموهم بالتكتيكيين. (الصفحة 57، من الكتاب الفرنسي المذكور أعلاه).

يعتبر Enée الأقدم والأكثر شهرة كما يعتقد المؤرخون من بين هؤلاء الإستراتيجيين و التكتيكيين. عاش في القرن الرابع قبل الميلاد وليس هناك الكثير عن حياته. ألّف موسوعة عسكرية في عدة أجزاء. بعد Enée علينا أن نقفز من فوق ثلاثة قرون حتى نجد تحليلا تم الاحتفاظ به. يعود هذا التحليل للإستراتيجي اليوناني Asclépiodote الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد. يقول Alphonse Dain في كتابه “الإستراتيجيون البيزنطيون”،وفي الصفحة 326 منه:” لم يكن Asclépiodote عسكريا في مهنته،بل اهتم بالتدوين وبمنطق إدارة الصراعات،لقد نظر لوحدات الجيش وتنظيم المعارك في مقدونيا”.

في نفس الفترة ظهر استراتيجي آخر وهو Onesandros لم يكتب كثيرا حول الحروب أو العلوم العسكرية بل ترك لنا كتابا حول وظائف ومهام الجنرال. جاء بعده Elien وهو أيضا عاش في القرن الأول قبل الميلاد، وقد ألف كتابا أهداه إلى “طروادة” وكان الهدف منه فهم الكتاب الذين عاشوا من قبله. نستنتج أن الفكر الإستراتيجي اليوناني القديم اعتمد بشكل كبير على الممارسات العملية أكثر من التنظير.مع ذلك يمكن متابعة التنظير للفكر الإستراتيجي مع Xénophon و [9]Thucydide. فقد تحدث Thucydide عن “تاريخ حرب Péloponnèse” مبينا من دون أدنى شك أو غموض،أن البعد الإستراتيجي كان حاضرا ومفهوما من قبل اليونان القدماء. أيضا Xénophon كان أول كاتب عمق دراسته التاريخية من خلال التفكير النظري وخاصة حول التكتيك،وذلك في كتابه “تحليل الفروسية” والذي ينطلق من مفاهيم إستراتيجية.

ـ المقاربة البراغماتية عند الرومان.

يعتقد الكولونيل “رتبة عقيد” Reichel أن الرومان :”كان لديهم فكرا عسكريا أصيلا وجديدا،وصل إلى عمق الأشياء كما وصلنا في محتوى العديد من النصوص الرومانية”[10]. أما التفوق التكتيكي والاستراتيجي الروماني خلال قرون متتالية لم يكن من غير هذه البنية التنظيمية الدقيقة للعقيدة العسكرية الرومانية. هذه البنية كانت ثمرة للممارسة والخبرة كما يقول Polybe:” المرشحون للوظائف العامة كان عليهم المشاركة في عشر حملات عسكرية قبل اختيارهم من قبل المواطنين” [11]. رغم ذلك لم تحول الخبرات الروماني إلى مؤلفات استطاعت أن تشكل أدبا إستراتيجيا رومانيا في النهاية.

لكن يوجد بعض التحليلات للتكتيك و الإستراتيجية. ففي القرن الثاني قبل الميلاد كتب أحد أشهر الرومان في ذلك العصر وهو Caton مؤلفه ” De Re militari” ولم يبق منه شيئا. أما Polybe فكتب “Taktika” واليوم يعتبر من الكتب الرومانية المفقودة. والكاتب الأكثر شهرة في الإمبراطورية الرومانية كان Frontinus فقد قدم مؤلفا خصصه للتعليق على “تعليقات عسكرية عند هوميروس”. أما Arrien كان يعتبر من ورثة التكتيكيين اليونان، وقد قدم أيضا عمله الخاص به ” فن التكتيك” الذي قارن فيه بين التكتيك اليوناني و المقدوني القديم و التكتيك الروماني[12].

ظهرت بعض الانتقادات للفكر التكتيكي والإستراتيجي الروماني كان أهمها ما كتبه Brian Campbell:” الرومان لم يكن لديهم أكاديمية عسكرية،ولا يوجد عملية مؤسساتية للتكوين و التدريب فيما يتعلق بالإستراتيجية والتكتيك،ولم يكن لديهم وسائل منظمة ومنهجية لتقييم المرشحين للوظائف العليا”[13].

يعتبر القيصر الروماني من المعلمين النادرين لفن الحرب خاصة انه كان في نفس الوقت منظرا للإستراتيجية وممارسا لها.لقد حقق انتصارات عسكرية كبيرة وقدمها في مؤلفات تتحدث عنها،حيث لاقت هذه المؤلفات نجاحات واسعة في عصرها،ونذكر منها (حرب Alexandrine،حرب إسبانيا،حرب أفريقيا). ما يميز مؤلفاته أنها جمعت التحليل العسكري للحرب الأهلية و تحليل السياسات القائمة،بمعنى تحليل الإستراتجية من خلال ظروف سياسية أو سياق سياسي قائم.

بعد القيصر،جاء مؤرخو الإمبراطورية، ومن أهمهم Tacite.وهو كاتب عسكري،قدم مؤلفا يحتوي على معلومات كثيرة موضوعية ومتماسكة حول إستراتيجية الدولة العظمى أو الإمبريالية.[14]

ـ الفكر البيزنطي.

ترك البيزنطيون العديد من المؤلفات التي تحدث عن المؤسسات العسكرية،ونجد فيها أدبا إستراتيجيا مزدهرا في الكثير من الأحوال،رغم تركيزهم الكبير على قيادة المعاركة أكثر من أي شيء آخر. ولكن التراث الإستراتيجي البيزنطي فقد في معظمه. من الأسماء الإستراتجية المعروفة عن تلك الحقبة اسم Syrianos القاضي والذي كان صلة وصل بين اليونان القدماء و بيزنطة، حتى أن الإمبراطور Constantin السابع طلب من ولده أن يحمل معه في حملاته العسكرية كتب كل من Polyen و Syrianos. يذكر هنا أن مجموعة من الدراسات المجهولة في الإستراتيجية يرجعها المؤرخون في بعض أجزائها إلى Syrianos. [15]

اليوم تهدف مجمل الدراسات عن الفكر الإستراتيجي البيزنطي إلى إعادة ترميم و التعرف على النصوص المفقودة أو المجهولة.ومن هذه الدراسات “مجموعة الإستراتيجيين” التي تهدف للتعرف على التراث الإستراتيجي البيزنطي.[16]

3ـ الفكر الإستراتيجي العربي/الإسلامي.

تأثر العرب و الفرس كثيرا بالكتاب البيزنطيين.لكن العلوم الدينية التي لها طابع الإجبار في القرآن أعاقت ظهور فكر إستراتيجي حقيقي عند العرب. في كل الأحوال وبعد مراجعاتنا للعديد من الكتب الغربية حول هذا الموضوع (حيث لم يتوفر لدينا مراجع عربية)،وجدنا إجماعا على أن أهم المخطوطات أو التراث الفكري الإستراتيجي العربي فقد في بغداد بعد أن سقطت بيد المغول. وفي القرن الرابع عشر،كتب المؤرخ العربي الشهير ابن خلدون عن الحروب والطرق المستخدمة في المعارك من قبل مختلف الشعوب، ويقول ابن خلدون في هذا الصدد:”ليس من المؤكد وجود نصر في الحرب،حتى ولو وجد تفوق في التسليح والفعالية.النصر و التفوق في الحرب يعودان للحظ و الصدفة”.( نص مقتبس من كتاب Gérard Chaliand، بعنوان “الانطولوجيا العالمية للإستراتيجية”،الصفحة 499).

في مصر العهد المملوكي،القرن الثالث عشر و السادس عشر،وضعت العديد من المؤلفات التي تقترب من التكتيك والإستراتيجية من بينها كتاب “تعليمات رسمية للتعبئة العسكرية” لصاحبه “ابن منقولي”(لدينا شك في صحة الاسم أو طريقة كتابته). هذا الكتاب يعالج الحملات البرية ويتحدث باختصار عن المعارك البحرية[17]. في إمارة غرناطة وضعت العديد من الآداب العسكرية والتي حاولت فهم آليات فن الحرب عن المسيحيين، وفي القرن الثامن عشر تم الكشف عند العديد من المخطوطات كان أهمها مخطوطة بعنوان”الفن العسكري” كتبها محمد بن عبد الله، و “الفن العسكري والفروسية” كتبها علي بن عبد الشامان بن هزيل،أيضا “تحليل ومعالجة الصراع” مؤلفه مجهول حتى اليوم. أما ابن هديل الأندلسي فقد ألّف في القرن الرابع عشر مجموعة حول فن الحرب تضمنت مبادئ لقيادة المعارك و الحروب.(وردت هذه المعلومات في كتاب ” الانطولوجيا العالمية للإستراتيجية”، مرجع سابق، الصفحة 484 ـ486، و الصفحات 519 ـ 522).

ثالثا ـ الفكر الإستراتيجي الأوربي الحديث.

يعتبر الفكر الإستراتيجي في العصر الوسيط فقيرا جدا.ولم يتطور هذا الفكر بشكل حقيقي إلا في النصف الثاني من القرن الخامس عشر.الفكر الإستراتيجي العسكري بدأ الإعلان عن نفسه بشكل واضح في إسبانيا،مع كتاب “Libro de la Guerra” (كتاب الحرب) حوالي عام 1420،وقد كتبه الماركيز Vellena،أيضا كتاب”le Tratado de la PERFECCIÓN del triunfo militar” ( تحليل الانتصار العسكري) حوالي عام 1459،وكتبه Alfonso Hernandez.

في فرنسا،نجد العديد من الكتاب مثل Robert de Balsac وكتابه ” مبادئ الصراعات النبيلة” في عام 1502،وفي إنكلترا في نفس الفترة الزمنية نجد كتاب “تحليل لفن الحرب” وضعه Béraud Stuart،وفي ألمانيا كتاب “Kriegsbuch” (كتاب الحرب) لمؤلفه Philippe von Seldeneck نحو نهاية القرن الخمس عشر. في إيطاليا بعد كتاب ” Semideus liber tertius de re militari” عام 1438 لمؤلفه Catone Secco، نجد كتاب “De Re militari” لمؤلفه Roberto Valturio،وكان أول كتاب يتحدث عن التحليل العسكري ويتم طبعه. [18]

ـ ميكيافلي: التكتيكي و الإستراتيجي.

المؤلف الأكثر شهرة في القرن السادس عشر هو مؤلف ميكيافلي الذي يحمل عنوان ” L’arte della Guerra” (فن الحرب)وفي الواقع هو كتابه الوحيد الذي نشر أثناء حياته. كما في كتاب “الأمير”،الكتابات العسكرية عند ميكيافلي “هي بشكل أساسي كتابات سلبية،أو نقد للمؤسسات العسكرية التي كانت سائدة في عصره”[19]. إن تأثير “فن الحرب” سيكون كبيرا وسيستمر طويلا:” لقد أصبح من الأركان الأساسية للآداب العسكرية.وتمت إعادة طباعته سبع مرات في القرن السادس عشر،ثم ترجم إلى معظم اللغات الأوربية،في فرنسا عام 1546،في إسبانيا عام 1536،في إنكلترا عام 1560،في ألمانيا عام 1623،في اللاتينية عام 1610″[20]. بعد ذلك سيعاد طبعه باللغة الروسية في عام 1839. في هذا الكتاب تحدث ميكيافلي عن العديد من المحاور الهامة ونوجزها بما يلي:الكتاب الأول،في عدم أهمية ووهم حماية الممرات،الكتاب الثاني:حول المصلحة من قيام حرب ما،الفصل العاشر من الكتاب الثاني :حول العلاقة بين المال والحرب، الكتاب الثالث: حول المعلومات وأهميتها في الحرب.أخيرا إذا وضعنا كتابي “الأمير” و “فن الحرب” جنبا إلى جنب نستطيع القول أن ميكيافلي أعلن ولادة و تسريع ظهور فكر إستراتيجي منظم ومؤسس.

ـ المفكرون الإنكليز و الفرنسيون.

عرف الفكر الإستراتيجي الإنكليزي تأخر كبيرا بعد حرب”المائة عام” وحدوث القطيعة بعد نهاية هذه العرب مع القارة الأوربية. بشكل عام لم يستطيع هذا الفكر تحقيق أي تطور بل تمسك بالإنتاج الفكري القديم أو الماضي مثل “النظرية العسكرية الإنكليزية في القرن السادس عشر”والتي ستصبح مسيطرة على التفكير العسكري الوطني. كما أن العديد من الكتاب سيلجؤون على الماضي وخاصة على “الانتصارات الشهيرة للملوك التي حملت اسم إدوارد وهنري في التاريخ الإنكليزي”[21]. وكان الكاتب الإنكليزي الأكثر أهمية والمثال على هذه الحالة هو John Smythe في كتابه “خطابات عسكرية” عام 1590، أيضا Roger Ascham و Matthew Sutcliffe في كتاب ” The Practice, Proceedings and Laws of Arms” عام 1593.

ويمكننا أيضا أن نذكر بعض المفكرين و مؤلفاتهم بشكل متسلسل كالتالي:

 ـ Roger William (A Briefe Discourse of Warre, 1590).

 ـ Humphrey Barwick (A Briefe Discours, concerning the force and Effect of all manual Weapons of Fire, 1594).

ـThomas Smith ( The Art of Gunnery, 1600).

ـRobert Barret ( The Theorike and Practike of Moderne Warres, 1598).

يشار هنا إلى أن الحرب الأهلية أثرت بشكل كبير على إنتاج الفكر العسكري في إنكلترا، خاصة أنها استمرت لوقت طويل جدا.

أما الفرنسيون فقد استفادوا كثيرا من الحروب الإيطالية مما فتح أمامهم مجالا واسعا للخبرة،وكانت البداية مع كتاب ” أشجار ورد الحروب” في عام 1502،وقد كتب بناءا على طلب الملك لويس الحادي عشر من أجل تربية وتعليم ولي عهده،وقد استخدم ميكيافلي عنوانا مشابها لهذا العنوان في عام 1510 في كتابه “شجرة الصراعات”. بعد ذلك وضعت كتب كثيرة في فرنسا تتناول فن الحرب وكان أهمها ” معلومات أو معرفة حول تأثير الحرب” لمؤلفه Rémy Rousseau نشر عام 1548، ثم ترجم إلى معظم اللغات الأوربية.

ـ المفكرون الألمان.

أنتج الألمان العديد من المؤلفات الإستراتيجية العسكرية،خاصة أنها عرفت حروبا بين مقاطعاتها أو مع الإمبراطور نفسه. الكاتب “فيليب” وهو دوق Clèves ،في مقاطعة Flammand وكان تحت حكم Habsbourg ، أعطى ما بين عامي 1508 و 1516 “معرفة حول كل أشكال الحرب البحرية والبرية”. جاء بعده Reinhard وهو كونت Solm،وقد ألف مجموعة من ثمانية كتب من غير أن يعطي لها عنوانا،مابين عامي 1544 و 1549؛ ثم L. Fronsberger وقد قدم خمسة كتب بعنوان ” Fünff Bücher von Kriegsregiment und Ordnung” ( خمسة كتب في الحرب و نظام الأفواج أو الحشود)، ما بين عامي 1554 و 1556 وقد كانت لهذه الكتب نجاح كبير وواسع.

أما الكاتب الأكثر شهرة فكان Lazarus von Schwendi، وكان قائدا للأركان أو للجيوش في عهد الجيش الإمبراطوري،وقد تأثرا كثيرا بميكيافلي لاسيما عندما كتب Kriegsdiskurs (خطابات الحرب) بين عامي 1571 و 1577،داعيا إلى جيش دائم و منظم. بعد ذلك جاءت حرب السنوات الثلاثين لتستخدم أدوات تكتيكية جديدة وستستمر هذه الأدوات طويلا ولتؤثر على التكوين الفكري الإستراتيجي الألماني الذي استفاد منها كثيرا، ويجب الاعتراف هنا بأن السويسريين كانون من أهم أذا لم نقل أنهم مخترعو التكتيك الحديث.

ـ ملاحظات حول الإستراتيجية في القرن السادس عشر.

يمكن القول بان الجوانب غير العسكرية،السياسية و الاقتصادية، لعبت دورا وكان لها حضورا مميزا في الفكر الاستراتيجي[22]. إنه العصر الذي فرضت فيه “الميركنتيلية” mercantilisme (نظرية اقتصادية نشأن على أنقاض النظام الإقطاعي وتفسخه وتدعو إلى تنظيم الاقتصاد)،العديد من المشاكل في العلاقات بين الحرب والاقتصاد،خاصة عندما ألحت على أهمية التجارة الخارجية والمواجهات التي يمكن أن تنشأ عنها[23]. فالحرب كانت وسيلة لإدخال المال إلى صندوق الدولة، والاقتصادي و الفيلسوف الكبير “جان بودان” لم يتردد في طلب ذلك وفي وصفه أيضا في كتابه “الجمهورية” عام 1576. أما Mendoza فقد أطلق جملة شهيرة جدا عرفت ازدهارا كبيرا وتقول :” النصر سيذهب للذي سيمتلك آخر écu” وهو عملة فرنسية قديمة”.مع ذلك،ورغم الصعوبات الكثيرة أمام ولادة علم للإستراتيجية،فإنه لن يمضي وقت طويل حتى يظهر فكر إستراتيجي حقيقي.

رابعا ـ الإستراتيجية و القرن السابع عشر.

يتميز القرن السابع عشر بإنتاجه الفكري حول التكتيك،والمشكلة الأساسية التي كانت أمام الإستراتيجية هي التخصص أو الحقل،فقد كان هناك حاجة لآليات جديدة ضرورية وتتوافق مع نظام جديد للمعارك. قدم Maurice Nassau،ضن هذا المجال،تجديدا و ودعما كبيرا للإنتاج النظري حول التكتيك. لكن هذا الإنتاج وغيره تأثرا سلبا وبشكل كبير بظهور أفكار جديدة استطاعت تغييبه وأهمها أفكار عصر الأنوار. ومن جهة أخرى كان للصراعات داخل القارة الأوربية تأثير من حيث ان الممارسة سبقت النظرية،علما أن بعض المؤرخين مثل Antonio Espino Lopez يعتبر أنه في القرن السادس عشر:”تم إنتاج أعمال نبيلة كان لها أهميتها مقارنة بالكلاسيكيات في نهاية القرن السادس عشر”[24] .

ـ صعود أوربا الشمالية.

يعتبر الكثيرون أن “النموذج الهولندي” أحدث توازنا في الآداب العسكرية لصالح أوربا الشمالية،بعد أن كانت خاضعة للمدرسة الإسبانية/الإيطالية في القرن السابق[25]. فالهولنديون هم من أهم من أسس مقاربة أكثر علمية لفن الحرب وللتنظيم العسكري. Johan Jakob von Wallhause مدير أول أكاديمية عسكرية والتي أسسها Jean Nassau ،ترك كتابا غنيا حول توظيف مختلف الأسلحة في عام 1615 وقد ترجم إلى معظم اللغات الأوربية، وهو الكاتب الأكثر قراءة في ذلك العصر.( Hervé BEGARIE،المرجع السابق).

في إنكلترا،وقبل الحرب الأهلية،ظهرت العديد من الدراسات العسكرية التي مهدت الطريق أمام “نموذج جديد للجيش في عهد كرومويل”،مستفيدة من أعمال خارجية مثل ” The principales of the art Militarie” الذي يتحدث عن الجيش الهولندي.

ـ انحطاط أوربا الجنوبية ؟

يرى مؤرخو الإستراتيجية أن بلدان أوربا الجنوبية أصابها تراجع فيما يتعلق بالفكر الإستراتيجي،وذلك لصالح توازن جديد عاد إلى البلدان الأنكلو ـ سكسونية. ولكن رأيا آخرا يرى أنه رغم التراجع النسبي لهذا الحقل الفكري في أوربا الجنوبية إلا أن إنتاجا غزيرا وجد في ذلك العصر لكنه بقي غير معروف. والأمثلة على ذلك كثيرة كما يرى هؤلاء: منها الفهرسة التي وضعها Francisco Barado، و الفرضيات الجديدة لصاحبها Antonio Espino Lopez واليت تغطي جميع حقول فن الحرب.أما التكتيك فتمت دراسته من قبل Fernando Alvia Castro و Cristobal de Rojas ثم Luis méndez de Vasconcellos.

ونجد أيضا بعض الكتاب الذي عالجوا تنظيم الجيوش والعديد منهم وصل إلى مرحلة الحديث عن الإستراتيجية،كما كان مع Francisco Melo في عام 1638 وكتابه ” Politica militar y avisos de generales” ( آراء عامة في السياسة العسكرية).

الإنتاج الإيطالي كان أقل غزارة من القرن السابق،ويظهر أن هذا منطقيا ،حيث أن إيطاليا لم تعد مسرحا للحروب الأوربية[26]. أما الكاتب الاكثر أهمية في هذه المرحلة الإيطالية فقد كان Giorgio Basta وهو من أصول ألبانية،وخاصة في كتابه ”  Il maestro di campo general” الصادر في عام 1606، ثم كتاب ” Del governo dell’artigliera”و صادر عام 1610.

ـ الفكر العسكري الفرنسي.

في فرنسا قام Louis de Montgomery بتحليل إصلاحات Maurice de Nassau وقدر ذكرناه في السابق، أيضا Jérémie de Billon تحدث عن الأنظمة المختلفة للمعركة في كتابه “مبادئ فن الحرب” الصادر في أعوام 1612،1622،1636،1641 . أما دوق Rohan وهو من زعماء الحزب البروتستانتي فقد نشر كتابه “القائد الكامل” في عام 1636 وقد كان مثله الأعلى في هذا الكتاب هو “القيصر”. وفي عام 1663 صدرت مخطوطة “كتاب الحرب” لمؤلفه Aurignac ويصف فيه ( المبادئ الخمس للعمل العسكري والتي هي : العسكرة، السير،القتال،الهجوم،الدفاع عن الأماكن). وأخيرا عمد الفرنسيون إلى ترجمة الكثير من الكتب الصادرة في الدول الأوربية الأخرى على لغتهم.

ـ Montecucculi الإستراتيجي الأول.

عرف النصف الثاني من القرن السابع عشر سيطرة المفكر الإيطالي Montecucculi [27] ، فقد كتب عن قيادة الجيوش بشكل وصل إلى الدراسات الإستراتيجية،مع تصنيف للحروب(أهلية أو خارجية،دفاعية أو هجومية، بحرية أو برية)،ثم قارن بين الحرب بلعبة الشطرنج. لكن جميع كتاباته لن تنشر بشكل حقيقي وواسع إلا بعد موته،وأهمها “الفن العسكري” الذي هر باللغة الإيطالية في عام 1653،والإسبانية 1693،أما الكتابات المتبقية لم تنشر حتى القرن الثامن عشر. كتب مذاكراته بالفرنسية وطبعت تسع مرات بين عامي 1712 و 1760. اعتبر كتابه ” Della Guerra col Turco in Ungheria” هو الأكثر شهرة وتأثيرا،حيث أنه طبع سبع مرات بالإيطالية،ست في الفرنسية،اثنتان في اللاتينية،اثنتان في الإسبانية،اثنتان في الألمانية وواحدة في الروسية.

خامسا ـ الإستراتيجية في القرن الثامن عشر.

ـ حوار التكتيك في فرنسا.

بدأ الفكر العسكري بالتفتح أكثر في القرن الثامن عشر.ويعود تطوره إلى التعقيدات المتنامية لفن الحرب،قوة الدولة وإلى حالة السلام الطويلة في القارة الأوربية. أيضا يعود هذا التطور إلى جانب فكري متطور من خلال تطور عمليات الطباعة والنشر،ازدهار الكتابات العسكرية و اهتمام العامة بالقضايا العسكرية[28]. عرفت هذه الفترة الحديث عن التكتيك أكثر من الاهتمام بالفكر الاستراتيجي بشكل عام.

من أهم الدراسات التي ظهرت في هذه الفترة ” اكتشافات جديدة حول فن الحرب” في عام 1724،ثم جاء بعده “تاريخ Polybe” ونشر منه ستة أجزاء بين عامي 1727 و 1730،وأعيد طبعه في عامي 1753 و 1774،أما مؤلف الدراستين فكان ” Folard”. [29] في منتصف القرن،ألّف المارشال Maurice Saxe دراسات ستنشر بعد موته في عام 1756 والتي تركز على ” روح قوانين التكتيك”. وقد افتتح دراساته أو مؤلفاته بجملة شهيرة سنجدها في مقدمة الكثير من الكتب التي جاءت بعده:” الحرب هي علم مغطى بالظلام،في داخلها لا نخطي خطوة واحدة مؤكدة؛تقييماتنا المسبقة هي الأساس والقاعدة.كل العلوم لديها مبادئها،بينما الحرب فقط لا تملكها حتى الآن”.

في أعوام 1770ـ1780، الحوار حول التكتيك سيبقى مكثفا في فرنسا إن كان في مجال العلوم العسكرية البحرية أو العلوم العسكرية البرية. واستمر هذا حتى بدايات تبلور الأفكار الإستراتيجية في فرنسا.

ـ ظهور البعد الإستراتيجي في فرنسا.

هذا الفكر الإستراتيجي،الذي كان مؤسسات على الكثير من التكتيك،بدأ بالتدريج الانتقال إلى الإستراتيجية. حيث أن النمو في الفعاليات العسكرية وفعاليات الجيوش سمحت باتساع ميدان المعركة وبالتالي الحاجة إلى تخطيط إستراتيجي شامل. النصف الأول من القرن الثامن عشر هيمنت عليه ثلاثة أسماء هي Folard, Feuquière , Puységur ولكنها كانت مختلفة في وجهات النظر. مع Feuquière كان هناك تطلع إلى الإستراتيجية، ومع Folard على التكتيك،أما مع Puységur فكان اللوجستيك Logistique[30]. وكلمة اللوجستيك هنا تأتي بمعنى”علم رئاسة أركان الجيوش”.

في عام 1736 نشرت ولأول مرة مذكرات الجنرال Antoine de Pas ثم أعيد طبعها بعد ذلك خمس مرات. يحاول فيها هذا الجنرال التنظير لفن المناورة عبر التاريخ الذي سبقه أو في الأنظمة القديمة.وفي عام 1748 نشر كتاب المارشال Jacques-François de Chastent “فن الحرب من خلال المبادئ والقواعد. وصف كتابه بأنه عقلاني يعتمد تنظيم المعارك وخطواتها وكيفية تطبيقها.

الموجة الثانية من تطور الفكر الإستراتيجي في فرنسا ضمت العديد من الكتاب ومن أهمهم Roy de Bosroger والذي وضع كتاب “مبادئ فن الحرب” عام 1770، وكتاب “عناصر الحرب” عام 1773. ثم يأتي كتاب ” دراسة نظرية حول الصراعات” وضعه كونت منطقة Grimorad في عام 1775، ومن بعده Paul –Gédéon والذي أدخل في المفردات العسكرية مفهوم الإستراتيجية. (Hervé BEGARIE،المرجع السابق، الصفحة 195). هذا الأخير تقوم نظريته على ” من غير نظرية مؤسسة على قواعد ثابتة،لن نتقدم نهائيا في علوم الجيش والتسلح”[31]. وفي الجزء الثالث من كتابه يتحدث عن الإستراتيجية أو جدل عمليات الحرب. إنه يبين أن “علم الحوار أو الجدل يستند دائما على حسابات الزمن والمسافة”.

ـ الكتّاب الألمان.

في رأي الكثير من الكتاب الأوربيين،يعتبر “فريدريك الثاني” أفضل محلل لنظامه. حيث وضع مؤلفا شهيرا بالفرنسية هو ” الوصية العسكرية” في عام 1768، وكان من قبل قد كتب دراستين أيضا وهما” المبادئ العامة للحرب” في عام 1746، و “تعليمات من أجل ضباطي” في عام 1747، أما في عام 1771 فقد وضع كتابه “عناصر التكتيك”. الكاتب الألماني الأكثر شهرة في حقل الفكر الإستراتيجي هو Wilhelm Schaumbourg-Lippe[32] ترك ألمانيا ووضع نفسه في خدمة ملك البرتغال الذي عينه مارشالا. كتب بالفرنسية العديد من المذكرات. ومن وجهة نظر إستراتيجية يمكن الحديث عن تنظيره لعمليات الدفاع ثم إعطاءه دورا كبيرا لعلم النفس في الحروب.

ـ الإنتاج البريطاني.

ترك Henry Lloyd كتابا غنيا وغزيرا بالمعرفة تحت عنوان “A Political and Military Rhapsody on the Invasion and Defence of Great Britain and Ireland” وذلك في عام 1790،وقد تمت طباعته سبع مرات بمختلف اللغات الأوربية. ومن كتبه الأخرى ” The History of the late War between the King og Prussia and the Empress of Germany and her Allies” صدر في عام 1763.

ويمكن أن نذكر أيضا من بريطانيا، Humphrey Bland في كتابه “A Treatise of Military Discipline” وقد طبع تسع مرات ابتداء من عام 1727 وحتى عام 1762. وقد تحدث العديد من الكتّاب البريطانيين عن “الإستراتيجية الكبرى” في مختلف إنتاجهم المعرفي في هذا المجال. [33]

سادسا ـ الفكر الإستراتيجي المعاصر.

ما بين عامي 1789 و 1815،عرفت أوربا حروبا مستمرة تخللها بعض الاستراحات هنا وهناك. في هذه الفترة أصاب فن الحرب تحولات عميقة. بدأ التحول مع Lazare Carnot الذي أخذ بوضع إستراتيجية جديدة لم يوضحها إلا بملاحظات و كتابة مختصرة جدا. أما مؤلفه الأكبر فقد عالج موضوعا أكثر تحديدا: “الدفاع عن المراكز القوية” وكتبه في عام 1809،ترجم إلى العديد من اللغات الأوربية.

في هذه الفترة عرف الإنتاج الفرنسي قوة اكبر: مع كتاب “مدخل إلى دراسة فن الحرب” وضعه Roche-Aymon بين عامي 1802ـ1804 وتحدث فيه عن التكتيك فقط؛ ثم كتاب “المعالجة الأساسية للفن العسكري” كتبه Simon-François Gay في عام 1805 وترجم لمختلف اللغات العالمية. بعد ذلك جاء كتاب Reveroni de Saint-Cyr وهو كتاب غني جاء تحت عنوان”دراسات حول آلية الحرب”كتبه في عام 1808 وقد نشر فيما بعد بعنوان جديد هو “سكونية الحرب أو مبادئ الإستراتيجية والتكتيك” وذلك في عام 1826.

المقاربة الهندسية للفكر الإستراتيجي وصلت إلى ذروتها مع كتاب Prussien Dietrich الذي نشر في مدينة هامبورغ الألمانية كتابه ” Geist des neuern Kriegs Systms” (روح نظام الحرب الحديثة) في عام 1799، ويتحدث فيه عن طرح مسلمات أو بديهيات معينة يمكن الحصول عليها بالمنطق و الاستدلال ثم توضيحها فيما بعد بواسطة التجربة.وفي كتابه الثاني يتحدث الأسبقية الفكرية عند نابليون بونابرت زجاء الكتاب تحت عنوان” Lehrsätze des neuen Krieges oder reine und angewandte Strategie” (نظريات الحرب الحديثة أو الإستراتيجية الخالصة والمطبقة) ووضع الكتاب في عام 1805.

أيضا في ألمانيا، كتب الأرشيدوق Charles العديد من المؤلفات : ” Grundsätze der grosse Kriege” (مبادئ الحرب الكبيرة) في عام 1808، ” Grundsätze der Strategie erläutert durch die darstellung des Feldzugs von 1796 in deutschland” (مبادئ الإستراتيجية المطورة من خلال حملة 1796 في ألمانيا) في عام 1813.

ـ الآباء المؤسسون للفكر الإستراتيجي المعاصر.

أولا ـ Jomini

وهو Henri-Antoine Jomini الذي سيعمل على الموافقة بين إرث كتاب القرن الثامن عشر وتعليمات المأخوذة من نموذج نابليون. ومعه بدأ بشكل حقيقي يتأسس علم الإستراتيجية المعاصر[34]. ولد في سويسرا عام 1779 خدم في الجيش الفرنسي وأصبح رئيس أركان المارشال Ney في عام 1805. وفي هذا العام نشر كتابه الأول “معالجة التكتيك الكبير أو علاقة حرب السنوات السبعة”،وهو في الواقع تطوير لعمل سابق كان قد كتبه الجنرال Tempelhof من بروسيا في عام 1783، والذي كان بدوره تطويرا لعمل سابق هو للجنرال Lloyd وكان يحمل العنوان “تاريخ حرب السنوات السبعة”.

الفرق بين هذه المؤلفات هو أن Jomini أدخل تعديلات مبنية على مقارنات مع العمليات التي حضرها او شارك فيها. في السنوات التالية نشر العديد من المؤلفات التي تحلل الحروب النمساوية ثم حروب “ثورة الإمبراطورية”،وفي النهاية وصل مؤلفه إلى ثمانية أجزاء كان آخرها في عام 1816، وقد عاد ليعيش في فرنسا،ثم توفي في عام 1869 عن عمر 90 عاما. ( من كتاب تاريخ الإستراتيجية، Hervé Bégarie  الصفحة 200 إلى 210).

في الشكل النهائي لمؤلفه يمكننا ملاحظة جزأين رئيسيين : ” تحليل العمليات العسكرية الكبرى” وقد كرّسه لحروب فريدريك الثاني؛ ثم ” تاريخ النقدي والعسكري لحروب الثورة” ويتألف من 15 مجلدا. ربما يكون هذا المؤلف الكبير منسيا إلا أنه من أهم الآباء المؤسسين للفكر الإستراتيجي المعاصر[35] . لقد كان له تأثير كبير على جميع منظري الفكر الإستراتيجي من روسيا إلى الولايات المتحدة ومرورا بالقارة الأوربية،وقلما تجد لغة لم يظهر فيها كتاب عنه أو ترجمة لأعماله. وبشكل خاص كان له تأثير واضح على الكتاب الأوائل للفكر الإستراتيجي الأمريكي الممثل بكل من William Duane و John Armstrong ،ثم Dennis Hart Mahan أستاذ التكتيك في West Point ، و Alfred Thayer Mahan ( ابن Dennis)، و المعروف بتحليله للقوة البحرية والذي ستتحول تعليماته و أفكاره إلى إستراتيجية بحرية. ولم يعرف تاريخ الثقافة الإستراتيجية الأمريكية تأثرا بكاتب آخر كما عرف تأثره بالكاتب Jomini[36] .

 ثانيا ـ Clausewitz.

يعتبر اليوم الأشهر من بين جميع المفكرين العسكريين. وضع كتابا شهيرا تحت عنوان Vom Kriege وهو يقابل كتاب “الأمير” عند ميكيافلي،ولقد أصبح مرجعا لمعظم المفكرين الإستراتيجيين،وقلما نجد كتابا إستراتيجيا لم يأخذ منه. ولد Clausewitz في عام 1780[37]. لديه خبرة عسكرية طويلة وتجارب من خلال مشاركته في الحروب. أول كتابة إستراتيجية له كانت بعنوان ” نقد عميق لنظام الحرب عند von Bülow. في عام 1806 بدا بالإعداد لأكبر مؤلف له ثم بدأ كتابته بعد عام 1815، عندما وصلت حياته العسكرية إلى طريق مسدود.

كتب العديد من المؤلفات التاريخية حول الحملات العسكرية لكل من Turenne, Frédéric II و ثورة الإمبراطورية. ومن خلال القاعدة التاريخية التي يمتلكها استطاع وضع كتابه opus magnum ويضم ثلاثة كتب هي: تحليل للحرب الكبرى أو الإستراتيجية، تحليل للحرب الصغرى، وأخيرا تحليل للتكتيك. بسبب موته المفاجئ، لم يستطع Clausewitz إكمال هذا المشروع الضخم حول الفكر الإستراتيجي.فمن كتاب “تحليل التكتيك”، لم يبق إلا بعض الصفحات التي لم تشد انتباه أحدا .إما كتاب “الحرب الصغرى” فد فقد بكامله، ولم يبقى منه سوى المحاضرات التي ألقيت عنه في Kriegsakademie في عام 1810. وأخيرا كتاب “تحليل الحرب الكبرى” فقد استطاع إكماله، ولكنه يشير في أعلى المخطوطة وبوضوح: إلا أن الفصل الأول من الكتاب هو وحده كامل أو منجز من الناحية الفكرية.

ووفق ملاحظة تمت كتابتها في 10 تموز عام 1827، Clausewitz حقق مرحلة جديدة في تفكيره الاستراتيجي،حيث تركز على الحرب كاستمرار للسياسة ولكن بوسائل أخرى وعلى قاعدة التمييز بين الشكلين أو وجهي الحرب. وأخيرا نقول بان القراءات الدوغمائية للفكر الإستراتيجي عند  Clausewitz أدت إلى تعليقات و تحليلات مختلفة ومتغايرة ومن ثم إلى نتائج مختلفة زادت من تعقيد نظريته. و نضيف أخيرا أن كتابه السابع كان حول “الهجوم”، وكتابه الثامن حول “مخطط الحرب”، وهما غير مكتملين.

ثالثا ـ New- clausewitziens.

إن Clausewitz لم ينشر شيئا من دراساته وهو على قيد الحياة، لأنه كان يعتقد بأنها لم تصل بعد إلى مرحلة الإتمام والكمال. وبعد وفاته عمدت زوجته إلى نشر مخطوطاته في عشر أجزاء ما بين عامي 1832 و 1837. ردة الفعل حول فكره الإستراتيجي كانت متغايرة كما أشرنا سابقا، وهذا لم يساعد في نفاذ 1500 نسخة من كتاباته كانت قد طبعت خلال 15 عاما. في فرنسا مثلا لم يكن معروفا بشكل جيد إلا بين قلة من الأفراد. وفي عام 1880 نشر بحث عنه في دورية فرنسية شهيرة le Spectateur militaire من قبل ضابط من أصول بولونية وهو Louis de Bystrzonowski .

وسننتظر حتى عام 1870 حتى نرى انطلاقة Clausewitz وانتشار سمعته كمفكر إستراتيجي،ويعود هذا لأسباب قومية أكثر منها أسباب فكرية. فالإمبراطورية البروسية المنتصرة في Sadowa عام 1866 وفي Sedan عام 1870،كانت تبحث عن شرعية نظرية لتفوقها الميداني ودراسات Jomini التي تحدثنا عنها سابقا لم تكف هذه الإمبراطورية أو ترضيها، خاصة لأنه سويسري وكان في نفس القوت منظرا للاستخبارات و المعلومات عند نابليون، ونضيف أنه كان ينتقد فريدريك الثاني من وقت لآخر. Clausewitz كان بروسيا حقيقيا ورأى فيه فريدريك الثاني نموذجا له، كما كان مرضيا للقراء الألمان.

إذا بعد الانتصارات الألمانية، حاولت الكثير من البلدان تقليد النموذج الألماني والمعلم الجديد للنظرية الإستراتيجية. من هنا تمت ترجمة Clausewitz للكثير من اللغات. وفي ألمانيا نفسها أصبح  Clausewitz مرجعا قانونيا لهذا الفكر، أما كتابه Vom Kriege فقد قام أكبر القادة آنذاك Schlieffen بكتابة مقدمة له،وذلك في عام 1905. ولكن لا بد من الإشارة إلى أن تركيز Clausewitz على السياسة كحل ومن ثم ثانيا على الدفاع تم رفضه من قبل الكثيرين أو تم تجاهله. فالمعجبين بكتاباته بحثوا فيها عن الحجج التي تدعم أفكارهم في الهجوم أثناء المعارك الفاصلة.

في فرنسا التي كانت ضحية لألمانيا وخصما مصنفا في أي حرب جديدة، أظهرت الكثير من المصلحة في قراءة Clausewitz وخاصة بعد هزيمة عامي 1870/1871. ومنذ عام 1880 إلى 1905، ستظهر فيها موجة عارمة من أنصار مدرسة  Clausewitz. وكانت البداية مع قائد الجيوش Cardot في”المدرسة الحربية العليا” حيث حاضر عن Clausewitzمنذ عام 1884، وبعد ذلك من خلال دراسة للكابتن Georges Gilbert في عام 1887. وقامت المدرسة الحربية فيما بعد بترجمة معظم الحملات العسكرية التي كتبها Clausewitz. أما الكتاب الألمان والفرنسيون فقد اختلفوا حول شرح حروب نابليون من قبل Clausewitz، فالفرنسيون يقولون أن الإستراتيجي الألماني لم يحلل نابليون بشكل كاف أو صحيح،والألمان يباركون هذا الشرح والتحليل.

بالنسبة للعالم الأنكلو ـ سكسوني فقد بدا أنه أكثر تحفظا وتكتما تجاه كتابات [38]Clausewitz.ففي عام 1834 ترجمت وفي مرجع إنكليزي وآخر أمريكي بعض الصفحات التي لم تتجاوز العشرين والتي أخذت من كتاب Vom Kriege. أما الأعمال الكاملة فلن تترجم إلا مع العقيد Graham في عام 1873 وسوف يتخلل الترجمة الكثير من الأخطاء والتي ستصحح على يد F.N Maude في عام 1908. لكن هذه الأعمال أصابها فشكل كبير في العالم الأنكلو ـ سكسوني، حيث لم يطبع منها سوى 69 نسخة خلال 12 عاما.

فالشكل الفلسفي لأعمال  Clausewitz اصطدم بالبراغماتية البريطانية. فبالنسبة للإستراتيجي Corbett الذي أيد المقاربة التي وضعها Clausewitz حول الإستراتيجية البحرية،فقد بقي حالة استثنائية. أما Fuller و Liddell Hart،وبعد قراءة  Clausewitz لم يجدا العناصر التي تتوافق مع نظريتهما[39]. في الولايات المتحدة كان هناك ازدراء عام لكتابات الإستراتيجي Jomini وبقي هذا الوضع قائما حتى النصف الثاني من القرن العشرين. وقد كتب “ريمون آرون” في عام 1976 عن هذه الوضع قائلا:” من بين الأسماء الكبيرة التي تعمل في الحقل الإستراتيجي في الولايات المتحدة، فقط Bernard Brodie هو الذي قرأ Clausewitz بشكل عميق”[40].

في إيطاليا، لم يقرأ  Clausewitz إلا بشكل قليل في القرن التاسع عشر. واكتشافه بشكل حقيق كان على يد الكاتب الإستراتيجي Emilio Canevari،عندما كتب عنه مؤلفه ” Clausewitz e la guerra odierna” (Clausewitz  و الحرب اليوم)[41] . وفي إسبانيا، كان العقيد Banus Comas في كتابه “Estrategia” الصادر في عام 1887 واحدا من النادرين الذين قرؤوا Clausewitz. وسوف ننتظر حتى عام 1908 لنرى ظهور أول ترجمة لأعماله في الإسبانية.أما الترجمة الكاملة فلم تظهر ألا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. ولم يصبح Clausewitz معروفا في هذا البلد بشكل جيد حتى عام 1970. وبعد هذا العام انتشرت ترجمته إلى معظم اللغات الأوربية،وحتى الصينية،العبرية،الاندونيسية،والعربية بشكل بسيط أو جزئي. أما الروس فقد أولوا اهتماما خاصا لكتاباته وكان له تأثير كبير على المكتبة الإستراتيجية الروسية[42] .

 سابعا ـ الإستراتيجية في القرن التاسع عشر.

أولا ـ المدرسة الألمانية.

يشير Jomini في كتاباته و ينقل عن Bavarois Xylander, Wurtembergeois Theobald, Müller, Valentini, Decker, Hoyer وهؤلاء كلهم من الجنرالات، ونسي أن يضيف عليهم الماجور جنرال Hôheren Kriegskunst. وفي نفس الوقت يرى الكثير من مؤرخي الإستراتيجية أنه أيضا نسي أن يذكر أكبر استراتيجيين سبقا Clausewitz وهما الجنرالان Von Lossau و Rühle von Lilienstern[43]. ولكن لا بد من القول هنا أن  Clausewitz هو الذي أنقذ المدرسة الألمانية من جمودها.

ثانيا ـ المدرسة الإيطالية.

عرفت إيطاليا إنتاجا إستراتيجيا غزيرا في هذا القرن. تركز هذا الإنتاج بشكل كبير عند Joseph Pougni-Guillet وخاصة في عمله ” عناصر للإستراتيجية والتكتيك” كتبه في عام 1832، و Paul Racchia في مؤلفه ” تحليل دقيق لفن الحرب” كتبه في عام 1832. ثم جاء Enrico Giustiniani في “دراسة حول تكتيك الأسلحة الثلاثة بشكل منعزل ومجتمع” في عام 1848.أما الكاتب الإستراتيجي الأكثر شهرة في إيطاليا النصف الأول من القرن التاسع عشر كان Luigi Blanch ،ويعتقد أنه كان فيلسوفا للحرب أكثر مما هو إستراتيجي. إلى جانب هؤلاء ظهر تصنيف آخر للإستراتيجيين الإيطاليين،الأول سمي Scolastiques أو المقرّب من الأوساط الرسمية، والثاني Laïc وهم مجموعة من المفكرين المستقلين كان صوت النقد “نقد الحرب” لديهم مرتفعا بشكل أكبر.

ثالثا ـ المدرسة الروسية.

تابعت المدرسة الروسية تقلباتها بين طريق وطني حصرا، وطريق فيه بصمات أجنبية[44]. الجنرال Nicolas Medem في كتابه ” Obozrenie isvestnjchich pravil i sistem strategii” (دراسة حول القواعد والأنظمة المعروفة للإستراتيجية) صادر في عام 1836،يحلل كتابات كل من Lloyd, Bülow, Jomini, Clausewitz ؛ ثم في كتابه Taktika في عام 1837، يعلن العودة إلى Souvorov الذي سينتشر في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر. أما العقيد M .I Bogdanovich فقد كرّس كتابه Zapiski strategii (دراسة الإستراتيجية) 1847،من أجل دراسة نابليون.

ثم يأتي الجنرال Astafev ليحلل “فن الحرب الحديثة”،في كتاب تم وصفه بأنه من التيار الإصلاحي الذي ظهر بعد الهزيمة،وقد صدر الكتاب تحت إشراف Dimitri Milioutine ،وهو مؤرخ عسكري معروف في روسيا ووزيرا للحرب في عام 1861 وحتى 1881. وأيضا سنقرأ مع الجنرال Okounieff كتابه “مذكرات حول مبادئ الإستراتيجية” 1831،وتعليقاته الإستراتيجية حول حملة عام 1812،هذه التعليقات التي ترجمت إلى الفرنسية في عام 1841،وإلى الألمانية في عام 1876.

رابعا ـ المدرسة الفرنسية.

يلاحظ أن الإنتاج الاستراتيجي الفرنسي كان تحت هيمنة كتاب ألفه المارشال Marmont تحت عنوان “روح المؤسسات العسكرية” وظهر في عام 1845 ثم أعيد نشره في عام 1865. ذهب اليوم ضحية للنسيان،ولكن عمله يتركز في الواقع حول النظرية العامة للفن العسكري،تنظيم الجيوش،العمليات المختلفة للحرب،وأخيرا فلسفة الحرب[45]. عمليا، السنوات الممتدة من 1815 على 1870، عرفت استقرارا سياسيا في فرنسا[46]. فالنقاش حول الجيش لم يكن على مستوى عميق أو واسع.مع بدايات القرن العشرين ستعرف فرنسا إنتاجا آخرا للعلوم الإستراتيجية،سوف نتطرق إليه في الفقرات القادمة.

ثامنا ـ  القرن التاسع عشر و مأسسة العلم العسكري.

 بدأت التغيرات تظهر على التفكير الإستراتيجي وفي كل أبعاده بعد عام 1870. فبعد أن كان هذا التفكير مقتصرا على أقلية من الضباط والجنرالات “باستثناء ألمانيا”،أصبح عنصرا أسياسيا من عناصر تكوين الضباط الكبار في الجيش. لهذا السبب انتشرت المدارس العسكرية في معظم الدول والتي شجعت على ما يسمى التفكير الاستراتيجي. أيضا بعد عام 1870 ازداد عدد المطبوعات و الكتب الإستراتيجية في معظم أنحاء أوربا بالإضافة للمخطوطات و المراجع الكبيرة[47]. ولكن علينا القول هنا،أن معظم المطبوعات أعطت مساحات كبير للحديث عن الجغرافية العسكرية والتكتيك،لكن التقدم نحو العلوم الإستراتيجية كان بطيئا.

ـ إعادة اكتشاف الإستراتيجية.

بعد تراكم الدراسات حول التكتيك، بدأت وفي عام 1880 تظهر دراسات أخرى تعطي الفكر الإستراتيجي أبعادا أخرى أعمق و اشمل. ففي ألمانيا أخذ الفكر الإستراتيجي هذه الأبعاد الجديدة مع المارشال Colmar von der Goltz وهو من أشهر الكتاب في تلك المرحلة لاسيما في كتابه ” Das Volk in Waffen” ( الشعب في الجيش) والذي صدر عام 1883،ثم ترجم إلى الفرنسية ام 1884،الإنكليزية 1887،الإسبانية ،التركية،السويدية 1887. أيضا كتاب العقيد Wilhelm von Blume ” Die Strategie” 1882،وترجم إلى الفرنسية في عام 1884،السويدية عام 1887،الروسية عام 1899.

لكن الحوار حول الإستراتيجية بعد ذلك أخذ طابع الجدل وأحيانا الصراع الفكري مع كتاب ” تصارع الإستراتيجيات” الذي وضعه المؤرخ Hans Delbrück والذي يفسر فيه الحروب التي قام بها فريدريك الثاني. ومع بداية عام 1910 سنعود بسرعة مع الجنرال Friedrich von Bernhardi إلى التأليف حول الأفكار الإستراتيجية في كتابه ” Vom heutigen Kriege” (الحروب الحالية) والصادر في عام 1912، ترجم إلى الروسية عام 1912،الإنكليزية عام 1912،الفرنسية عام 1913،اليابانية 1914. عمليا،الكتابات الإستراتيجية سوف تنتشر في معظم القارة الأوربية و الولايات المتحدة : في بريطانيا مع W.H. james وكتابه ” Modern Strategy” صادر عام 1904؛ H. Tovey وكتابه ” Elements of Strategy”؛ ثم F.N Maude وكتابه ” The Evolution of Moderne Strategy from the XVIII Century” صادر في عام 1905. وفي الولايات المتحدة مع John Bigelow في كتابه” Principles of Strategy” الصادر في عام 1891؛ ثم Arthur Wagner في كتابه ” Strategy” الصدر عام 1903.

تاسعا ـ الإستراتيجية في القرن العشرين.

بدأ في عام 1914 نقاش حاد حول التغيرات الجذرية للفن العسكري،مع هيمنة مسبقة للجانب العملي على النظري. والعديد من الملفات عن هذه الفترة تشهد بالأفكار التي فرضتها الأحداث[48] ،خاصة أن معظم العسكريين لم يكن لديهم الوقت للكتابة،فإما كانوا على الجبهات أو في قيادة الأركان الخاصة بالعمليات العسكرية. وهذا عمليا ما يفسر الغياب شبه الكلي للمنشورات و المطبوعات العسكرية في تلك الفترة. ومع بدء الحرب العالمية الأولى كانت العلوم الإستراتيجية قد أصبحت طيّ النسيان،ولكن هل يعني أنها اختفت تماما ؟

في الواقع، الكثير من المفكرين والكتاب تحدثوا عن العلوم الإستراتيجية ولكن ليس في كتب أو مراجع،بل في مقالات صحفية ظهرت هنا وهناك،وفي بعض الكتب غير العسكرية أو غير المتخصصة. من بين هؤلاء كان البريطاني Charles الذي كتب في صحيفة Times وقد قدم فكرا إستراتيجيا حقيقيا في بريطانيا والولايات المتحدة. أيضا Spenser Wilkinson الذي ترك العمل الصحفي في عام 1909 ليصبح أستاذ “التاريخ العسكري” في جامعة أكسفورد،وقد كتب أثناء الحرب “First lessons in War 1914″، ثم ” Gouvernment and the War 1918″.

في ألمانيا، قام Lucia Frost بإدخال بعض التعليقات حول أعمال Clausewitz في مرجع يهتم بالأدب بشكل عام. وفي فرنسا، يمكننا متابعة دراسات عسكرية منتظمة في المرجع ” La Revue des deux-mondes، La Revue de Paris ، La Revue universelle… . في سويسرا، كتب العقيد Ferdinand Feyler مجموعة من التعليقات حول الحرب العالمية الأولى منها ( مدخل إستراتيجي عام 1915؛ و مشاكل إستراتيجية مستفادة من الحرب الأوربية عام 1918). ولا بد من الإشارة هنا إلى “المرجع العسكري السويسري” الذي بقي له تأثير مهم، كما هي مجموعة “المراجع العسكرية الأمريكية”.

مع انتهاء عام 1918،كانت المفاهيم الإستراتيجية النظرية قد أعيد بناؤها. فكل القناعات و التأكيدات السابقة تعرضت للانهيار مع نهاية الحرب الأولى. أما سيتركز من هذا التاريخ بين الذين يأخذون بالمذهب العسكري الجديد حول الجبهة المستمرة وتفوق العمل الدفاعي ،و المجددين الذي يريدون استثمار الإمكانيات الجديدة المفتوحة بواسطة الأسلحة الجديدة التي استخدمت أثناء الحرب،وأهمها الدبابة والطائرة[49].

ـ الفكر الإستراتيجي في الثلاثينات: بين التجديد و الجمود.

في الثلاثينات من القرن الماضي بدا وكأنه هناك نزعة للتشدد فيما يتعلق بهذا الفكر.ففي إيطاليا كتب الجنرال Visconti-Prasca كتابا أخذ شهرة كبيرة تحت عنوان ” La Guerra decisiva” (الحرب الحاسمة) في عام 1934،ترجم للألمانية والفرنسية في عام 1935. يدعو الجنرال في هذا الكتاب إلى العودة لعقيدة الهجوم. وفي فرنسا أيضا لم يتوقف التيار المتشدد في الفكر الإستراتيجي عن الظهور كما يتبين ذلك مع كتاب الجنرال Chauvineau بعنوان “هل الاقتحام مازال ممكنا؟” وقد صدر في عام 1939، وهو مثال جيد على عودة المحافظين إلى داخل هذا الفكر.

أيضا في ألمانيا، فقد أخذ هذا الاتجاه توسعا كبيرا مع العديد من منظريه وأهمهم: Wilhelm Reinhardt, Alfred Krauss, Waldemar von Erfurth, Herman Foertsch. وفيما يتعلق بعقيدة الهجوم،فقد أحدث الألمان تطورا كبيرا بعد تصنيعهم وامتلاكهم بشكل كبير لكل من الطائرة و الدبابة. ونذكر هنا أن الإستراتيجيين الألمان تأثروا كثيرا بالمنظرين الإستراتيجيين البريطانيين مثل Azar Gat [50] . أما في روسيا فقد حاول السوفييت تطوير نظرية أصيلة وخاصة بهم. والكاتب الأكثر شهرة في هذا المجال كان الجنرال Alexandre Svechin في كتابه ” Strategija” الصادر عام 1926. ويصنف اليوم كمؤلَّف كلاسيكي. ساهم كتابه بتأسيس ما يسمى بالمذهب”الواقعي”، وقد دعم الماركسي الشهير “تروتسكي” هذا المذهب قائلا :” لا يمكننا بناء قاعدة للحرب مع الماركسية”.

عمليا اصطدم هذا المذهب ومعه تروتسكي بكتابات Mihail Frounze المدعوم من قبل المارشال Toukhatchevski الذي يدعو إلى “مذهب عسكري واحد لا يتغير”، والذي يجب أن يكون ” التعبير عن الإرادة الواحدة للطبقة الاجتماعية في السلطة”. هاجم  Toukhatchevski  خصومه من الجانب الإيديولوجي مما أدى فيما بعد لتصفيته ومعه أيضا Svechin. في عام 1939،وصل الفكر الإستراتيجي إلى حالة مختلفة تماما عما كان عليه في عام 1914، حيث لم يعد هناك إجماع عقيدي،بل على العكس أصيب بفجوة كبيرة وقعت بين المحافظين و المحدثين.

ـ الفكر الإستراتيجي خلال الحرب العالمية الثانية.

الحرب التي اندلعت في سبتمبر 1939 أحدثت انقلابات جذرية في المذاهب الإستراتيجية التي كانت سائدة بين الحربين. فالخطط الإستراتيجية لم تعد على مستوى حرب صغيرة أو كبيرة بل أصبحت على مستوى العالم ككل،ومن أهم أسباب هذا التغير هو التطور الحاصل في جميع صنوف الأسلحة المستخدمة. إذا أصبحت الأسلحة تفرض قوانينها ،أما الإستراتيجيات فتجرب جميعها في ميادين المعارك. مع ذلك،التفكير و التنظير الإستراتيجي لم يختف من البلدان الأوربية،حيث استمرت العديد من المراجع والمطبوعات الإستراتيجية النظرية بالظهور خلال الحرب.

إن الحدث الأهم الذي عرفته الحرب الثانية هو الصعود القوي للولايات المتحدة الأمريكية.وهذا ما ترافق أيضا في ميدان التفكير الإستراتيجي النظري. ومن المعروف أن هذا البلد لم يكن بعد قد أنتج تلك المراجع الكبرى في العلوم الإستراتيجية،طبعا إذا استثنينا Mahan. خروج الولايات المتحدة منتصرة في الحرب الثانية جعلها تهتم كثيرا بالميدان النظري للعلوم الإستراتيجية ولاقى هذه الاهتمام اتساعا كبيرا على المستوى العالمي. فقد بدأت الجامعات الأمريكية بوضع البرامج البحثية التي تقرأ وتحلل الفكر الإستراتيجي الأوربي: مثلا Edward Mead Earle أطلق دراساته حول كبار الإستراتيجيين الأوربيين في كتاب له تحت عنوان ” Makers of Strategy” صدر في عام 1943،وترجم للفرنسية في عام 1982،وقد استمر هذا المرجع نصف قرن من الزمان كأحد أهم المراجع في هذا المضمار.

أيضا Stephen Possony أدار برنامجا ضخما للترجمة لجميع الإستراتيجيات الكلاسيكية. والعددي من المحللين درسوا تحولات وتغيرات الحروب البرية و البحرية. ومن هنا بدأت تظهر ملامح تيار جديد في العلوم الإستراتيجية،هذا التيار سيؤسس لما سنسميه فيما بعد بالجيوإستراتيجية. ويمكن القول هنا،إن القوة العالمية للولايات المتحدة ليست فقط وليدة ظروف معينة،بل هي أيضا ناتجة عن برنامج ناضج من التفكير والبحث قبل أن يوضع في التنفيذ. حيث بالنسبة لهم النظرية توجه وتغني التطبيق العملي.

[1] ـ انظر : Jean Pierre Bois ،” فن السلام في العصر الحديث”، بالفرنسية، باريس، 1997، أيضا ، Hervé COUTAU ، “الإستراتيجية”،مرجع سابق،الصفحة 144.

[2] ـ انظر : Jean Pierre Bois، المرجع السابق.

[3] ـ صدر هذا الكتاب عن دار نشر Laffont، باريس 1990.

[4] ـ Everett WHEELER، ” The Origins of Military Theory in Ancient Greece and China”، عن المجلة العسكرية الدولية للتاريخ العسكري، العدد 5، بوخارست، 1980، الصفحة 75.

[5] ـ تشير بعض الدراسات البيبلوغرافية إلى وجود فهرس عسكري صيني وضعته الصين حاليا ويحصي أكثر من 4000 عنوانا حتى تاريخ ثورة عام 1911.

[6] ـ عاش هؤلاء في منطقة “شانغ يونغ”، وقدر صدر في باريس كتاب بعنوان ” كتاب أمير شانغ”، عن دار Flammarion،عام 1981.

[7] ـ انظر : Frank A. Kierman and John K.Fairbank،”  Chinese Ways in Warfare”، جامعة كامبردج و جامعة هارفرد، 1974.

[8] ـ Flavius Végèce، ” الفن العسكري”،بالفرنسية، Bordeaux، Ulysse، 1998.

[9] ـ Xénophon،” الرسائل الجميلة”، ترجمة M. Bizos and E. Delebecque، باريس،نشر مجموعة الجامعات الفرنسية،1971ـ1978.

[10] ـ Daniel REICHEL،” الصدمة”، منشورات الجيش السويسري، قسم الخدمات التاريخية، 1984، الصفحة 38.

[11] ـ William V. HARRIS،” War and Imperialism in Republican Rome، الصفحة من 327 إلى 370، منشورات جامعة أكسفورد، Clarendon Presse، 1985.

[12]  ـ P .A . STADTER، ” The Ars Tactica of Arrian”، ترجمة عن النص الأصلي، صدر عن Classical Philology. 1987.

[13] ـ Brian CAMPBELL ،” Teach Yourself to Be a General” ،صدر في صحيفة ” الدراسات الرومانية”،1987، الصفحة 22.

[14] ـ انظر: Pierre LAEDRICH،” حدود الإمبراطورية، إستراتيجيات الإمبريالية الرومانية كما جاءت في كتاب Tacite”،بالفرنسية،صدر في باريس عن دار نشر Economica،المكتبة الإستراتيجية 2001.

[15] ـ انظر: Constantine ZUCKERMAN،” The Military Compendium of Syrianus Magister”، 1990.

[16] ـ انظر: Walter E. KAEGI،” Some Thoughts on Byzantine Strategy”، Brookline، The Hellenic Studies Lecture،1983.

[17] ـ انظر: Vassilios CHRISTIDES، ” Ibn al-Manqali and Leo VI : New Evidence on Arabo-Byzantine Ship Construction and Naval Warfare”، Byzantino-Slavica، LVI، 1995.

[18] ـ انظر : Philippe CONTAMINE،” مرجع مجتمع أصدقاء متحف الجيش”، بالفرنسية، صادر عام 1997،الجزء الثاني، العدد 114، الصفحة 50؛ أيضا : لنفس الكاتب ” الحرب في العصر الوسيط”، بالفرنسية،باريس، المطابع الجامعية لفرنسا، 1980،الصفحات 356 ـ 357؛ أيضا: René Quatrefages،” الفكر العسكري الكتلاني وتأثيره على الحرب في بداية العصور الحديثة”، مدريد ـ إسبانيا،1990،الجزء الثاني،الصفحة 215.

[19] ـ انظر :Félix GILBERT، ” ميكيافلي: ولادة فن الحرب”،ضمن كتاب Edward Mead EALE،”معلمو الإستراتيجية”، الجزء الأول، الصفحة،23. (بالفرنسية).

[20] ، المرجع السابق، الصفحة 30 ـ 31.

[21] ـ انظر: Claude GAIER: “جيوش ومعارك في عالم القرون الوسطى”، صادر في بروكسل،بلجيكا، جامعة De Boeck، 1995،الصفحة 331.

[22] ـ Philippe CONTAMINE، مرجع سابق، الصفحة 364.

[23] ـ انظر: Edmond SILBERNER، ” الحرب في الفكر الاقتصادي في القرن السادس عشر والقرن الثامن عشر”،بالفرنسية، صدر في باريس،دار نشر Sirey،1939.

[24] ـ Antonio LOPEZ ،” الحرب والثقافة في العصر الحديث”،بالإسبانية،إسبانيا،الصفحة 77.

[25] ـ Hervé BEGARIE، مرجع سابق، الصفحة 180 ـ 190.

[26] ـ انظر: Gregory Hanlon، ” The Twilight of a Military Tradition : Italian Aristocrats and European Conflicts 1560-1800 ،صادر في لندن، دار نشر UCL Press – Taylor and Francis،1997.

[27] ـ كتب عنه الكاتب الفرنسي Jean Thiriet في بحثه ” إعادة اكتشاف رجل للحرب والحرف: Montecucculi” ،صادر في مجلة “إستراتيجي” الصفحة 60،فرنسا، 1995.

[28] ـ انظر : Hervé BEGARIE،المرجع السابق، الصفحة من 190ـ200.

[29] ـ انظر : Jean Chagniot، ” إستراتيجية عدم التأكد،فروسية Folard”، بالفرنسية، دار نشر Rocher، فرنسا 1997.

[30] ـ انظر: Henri – Antoine JOMINI،” فن الحرب”، لم نجد لا تاريخ الشر ولا دار النشر.

[31] ـ انظر : Joly de Mazeroy،” نظرية الحرب”، صدر في نانسي،فرنسا، دار نشر Leclerc،1777، الصفحة 18.

[32] ـ كان غائبا تماما من تاريخ الفكر الإستراتيجي ،ثم تم التذكير به من قبل البروفسور Curd Ochwadt الذي أعاد نشر كتابته.

[33] ـ انظر : D. GRUBER،” British Strategy : the theory and practice of eighteenth century warfare”، لندن، دار نشر Greenwood Press، 1978.

[34] ـ انظر: Bruno COLSON، ” حروب الثورة 1792 1797″،بالفرنسية ، باريس، دار نشر hachette و Pluriel 1998.

[35] ـ ظهرت العديد من المؤلفات عنه أهمها : ” عظمة و تراجع Jomini”، لمؤلفه Emile MAYER،بالفرنسية؛ وكتاب John I ALGER ” Jomini : A Bibliographical Survery” ، صادر عن US Military Academy، 1975.

[36] ـ انظر : Bruno COLSON، ” الثقافة الاستراتيجة الأمريكية، تأثير Jomini” ، بالفرنسية ، صادر في باريس، دار نشر Economica، المكتبة الإستراتيجية.

[37] ـ أفضل تأريخ له كتبه Peter Paret، ” Clausewitz and the State”، Princeton University Press،1976.

[38] ـ انظر : Christopher BASSFORD،” Clausewitz in English : The Reception of Clausewitz in in Britain and America 1815-1945، نيويورك، مطابع جامعة أكسفورد، 1994.

[39] ـ Jay Luvaas،” Clausewitz, Fuller and Liddell Hart”، من كتاب Michael Handel،” Clausewitz and Modern Strategy” ، من الصفحة 197 حتى 212.

[40] ـ Raymond ARON،” التفكير بالحرب”، بالفرنسية، الصفحة 347.

[41] ـ أيضا ظهرت الترجمة الإيطالية للإستراتيجي البروسي على يد الجنرال Bollati، ثم كتاب Ferruccio Botti ” Clausewitz في أيطاليا”، من مجلة Stratégique الأعداد ، 78ـ79، 2000ـ2/3.

[42] ـ انظر : Olaf ROSE ،” Carl von Clausewitz, Wirkungsgeschichte seines Werkes in Russland und der Sowjetunion 1836-1995″، ميونخ، دار نشر Oldenbourg Verlag، 1995، (Clausewitz تأثيره في روسيا والاتحاد السوفييتي).

[43] ـ لمعرفة أهم أعلام المدرسة الإستراتيجية الألمانية يمكن العودة إلى بحث Herbert ROSINSKI :” the Rise and Decline of Germn Military Thought”، في مجلة Naval War College Review، صادر في صيف 1976،الصفحة 83.

[44]  ـ انظر: Carl Van DYKE،” Russian Imperial Military Doctrine and Education”، صادر عن Westport Greenwood Press، 1990 و Walter Pinter، ” Russian Military thought :the Western Model and the Shadow of Suvorof”، بحث في مجلة Makers of Modern Strategy.

[45] ـ كتب عن هذا المارشال، الكاتب Bruno Colson في كتابه الصادر بالفرنسية ” Maréchal Marmont, De l’esprit des institutions militaires”، باريس، دار نشر Economica، المكتبة الإستراتيجية 2001.

[46] ـ هناك كتابات أخرى بالفرنسية : أهمها Sainte-Hélène و خاصة ما تمت كتابته منها بإيعاز من نابليون الثالث نفسه مثل ” ملاحظات لنابليون الأول” وهو من ستة أجزاء، صدر في باريس عام 1867.

[47] ـ في فرنسا مثلا،كان هناك ” صحيفة العلوم العسكرية، و ” القارئ العسكري”،ثم أضيف ” المرجع العسكري للجيوش الأجنبية”في عام 1871، بعد ذلك ظهر “مرجع تاريخ قيادة الأركان للجيوش” في عام 1899، وأيضا “المرجع العسكري العام” في عام 1907.

[48] ـ من هذه الملفات والكتابات، كتاب الفرنسي Lucas والذي كان تحت عنوان “تطور أفكار التكتيك في فرنسا و ألمانيا خلال الحرب ما بين 1914ـ1918″، صدر في باريس،دار نشر Berger-Levrault، 1924.

[49] ـ ظهرت العديد من الدرسات حول هذا الموضوع وبلغات أوربية مختلفة . نذكر منها : Barry R. Posen،” The Sources of Military Doctrine, France, Britain and Germany between the World Wars”، Ithaca، Cornell University Press، 1984. أيضا ، Brian Holden Reid،” Military Thinker”، لندن، دار نشر Macmillan، 1987. و بالفرنسية نقرا مع الجنرال Camon،” La Motorisation de l’Armée et la manœuvre stratégique”، صادر في باريس،دار نشر Berger-Levrault،1926.

[50] ـ Azar GAT، ” British Influence and the Evolution of the Panzer Arm : Myth or Reality ?”، صادر في جزأين.

 

 

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button