دراسات اقتصادية

قراءة في تحولات النظام الرأسمالي وإشكالية تفاقم الدين العالمي

يُعتبر ارتفاع حجم الدين العام العالمي أحد المخاطر التي تُهدد الاستقرار المالي العالمي خاصة عند مقارنة حجم الدين العام بحجم النمو في الناتج المحلي الإجمالي (GDP)، ما يُحذّر منه صندوق النقد الدولي في تقاريره، وفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي فقد بلغ معدل الدين العام العالمي خلال عام 2016 مستويات غير مسبوقة تصل إلى 164 تريليون دولار بما نسبته 225% من الناتج المحلي الإجمالي، ووفقاً لأخر تقرير لمعهد التمويل الدولي، تناهز الديون نحو233 تريليون دولار في الربع الثالث من عام 2017، بزيادة تقترب من 70 تريليون دولار عن عام 2016، فهل ارتفاع حجم الدين العام العالمي في الفترات الأخيرة دليلاً كافياً على استقبال أزمة مالية جديدة؟

الاتجاه للاقتراض

إن الأصل في الاقتراض أن تقوم الحكومات بالاقتراض لتغطية العجز في الموازنة على المدى القصير أو تمويل المشروعات الحيوية، وكل التزام مالي يتضمن الدين له أصل مالي مماثل، وهذه الأصول جميعها مملوكة في النهاية من قِبل شخص معين، فعندما تضع أموالك في حساب مصرفي، يقوم البنك بإقراض هذه الأموال لشخص آخر بغرض معين سواء استهلاكي أو استثماري وبذلك تُصبح أموالك المالية مسئولية مالية لشخص آخر، لذا يُعد الدين شكل من أشكال الثروة، وتقترض الأسر والشركات من أجل تمويل إنفاقها الاستهلاكي والاستثماري، ونعتبر هذا الاستخدام للدين إيجابياً في حالة استخدام الأموال المُقترضة لتوسيع القدرة الإنتاجية المستقبلية مثلاً من خلال إنفاقه على التعليم أو زيادة قدرة الشركات، ولكن يظهر أثره السلبي عندما يرتفع مستوى الدين ولا يوازيه تحسن القدرة على سداده بالإضافة إلى صعوبة خدمة فائدة الدين أو تسديد المدفوعات ما قد يؤدي إلى خطر إفلاس المقترضين وفقدان الثروة للمقرضين.

قد تكون مستويات الديون العالمية المرتفعة هي أحد الدوافع الأساسية لقيام أزمة جديدة ولقد حذّر صندوق النقد الدولي من ذلك، حيث أن العجز والدين الحكومي المرتفعين أصبحا مصدراً للقلق على الاقتصاد بشكل عام، فكلاهما يزيد من عمق الركود واستمراريته مثلما يحدث في أعقاب الأزمات المالية. فالدول ذات المديونية المرتفعة أكثر عرضة للتشديد المالي بشكل مفاجئ، حيث يتعرض تمويل الحكومة لتغيرات مفاجئة في سياساتها وتحد من قدرة الحكومة على تقديم الدعم للاقتصاد حال حدوث أزمات أو تباطؤ في حركة النشاط الاقتصادي، كما يُعطل الوصول إلى الأسواق.

تقسيم الدين العام العالمي

المصدر: Blomberg Businessweek

يُوضّح الشكل السابق تقسيم الديون العالمية منذ عام 1999 حتى الآن وبالتركيز على عام 2017 نجد أنه قد تضمّنت الديون العالمية ديون الشركات غير المالية بقيمة 68 تريليون دولار وهي صاحبة النصيب الأكبر، وديون الحكومات في جميع أنحاء العالم بقيمة 63 تريليون دولار، وديون المؤسسات المالية بقيمة 58 تريليون دولار، بالإضافة إلى ديون الأسر الذي بلغ 44 تريليون دولار، ويبلغ نصيب الفرد من الديون في العالم أكثر من 30000 دولار وفقاً لحسابات الأمم المتحدة للسكان التي بلغت 7.6 مليار نسمة، ويُمثل دين القطاع الخاص غير المالي ما يقرُب من 63%، ودين القطاع العام 37%، ولقد تجاوز الدين في الاقتصادات المتقدمة مستويات الديون في الأسواق الناشئية، حيث بلغ متوسط الديون بالنسبة للاقتصادات المتدقمة ما يقرُب من 105% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين أنه في الأسواق الناشئة والبلدان متوسطة الدخل بلغت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي ما يقرُب من 50% ولم تشهد مستويات مرتفعة منذ أزمة الديون في الثمانينات.

ارتفعت تكلفة خدمة الدين العام في البلدان النامية منخفضة الدخل، فقد تضاعف عبء فوائد الدين في العشر سنوات الماضية حتى بلغ ما يقرب من 20% من الضرائب، ولقد بلغ متوسط الدخل لدى البلدان منخفضة الدخل والبلدان النامية أكثر من 40% بعد أن ارتفع بأكثر من 10 نقاط مئوية في السنوات الخمس الأخيرة، ومن بين أسباب ارتفاع التكلفة هو زيادة الاعتماد على الديون المُيسرة، حيث أصبح بمقدور البلدان النفاذ إلى الأسواق المالية الدولية وتوسعت في إصدار أدوات الدين المحلي لغير المقيمين.

قد تكون الديون في بعض الأحيان وسيلة فعّالة لحفز النمو وخلق فرص العمل حال استخدامها في توسيع القدرة الانتاجية وإقامة المشروعات، ولكنها إذا تعدت الحدود الآمنة يظهر خطرها الحقيقي والأثر السلبي، هذا الحد الآمن يتوقف على قدرة الدول المقترضة على سداد هذا القرض ما يرجع إلى كيفية استخدام أموال القروض في مشروعات قادرة على سداد القرض وفوائدها في المواعيد المحددة، ما تبرزه الأرقام الحالية من تعدي حجم الدين العالمي للحد الآمن ويظهر ذلك في تحذيرات صندوق النقد الدولي التي تُمثل نوع من أنواع الضغط على صُنّاع السياسة في جميع أنحاء العالم للسيطرة على خطط الإنفاق.

ما وراء ارتفاع حجم الدين العام العالمي:

وفقاً لتقرير كريدي سويس العالمي للثروة لعام 2017، اتضح أن إجمالي الثروة العالمية قد ارتفع ليصل إلى 280 تريليون دولار عام 2017 بنسبة 6.4%. وبالنظر للجانب الآخر المقابل للثروة نجد الدين العام، من المعروف أن “صافي الثروة- الأصول– الدين”، وفي حين ارتفع حجم الثروة العالمي بمقدار 16.7 تريليون دولار فقد ارتفع الدين أيضاً بمقدار 16 تريليون دولار، خلال عام 2017. وأوضح التقرير أن الدين العالمي يرتفع بـ 3 أضعاف معدل زيادة الثروة العالمية.

اجتمعت العديد من العوامل وراء ارتفاع حجم الديون العالمية خاصةً في الدول المتقدمة، فالسبب الرئيسي في دورة الديون المغلقة التي يتعرّض لها الاقتصاد العالمي هو الانهيار الاقتصادي خلال الأزمة المالية العالمية، ولقد أثرت الأزمة المالية العالمية على الاقتصاد العالمي خاصة على المالية العامة للاقتصادات المتقدمة، ففي الفترة بين 2007-2008 كان هناك تراكم سريع في الديون في الاقتصادات المتقدمة، واستخدام الدين لدفع عجلة النمو الاقتصادي فازداد الاستهلاك والاستثمار الفوري مقابل وعد بسداد الاقتراض في المستقبل فتم تسريع الانفاق بسبب توافر الديون، وارتفع الدين العام بشكل حاد ليصل إلى ما يقرُب من 100% عام 2009، ليصل إلى 225% عام 2017. بالإضافة إلى تأثيرات انهيار أسعار السلع عام 2014، كما ساهم النمو السريع في الإنفاق في الأسواق الناشئة والبلدان النامية ذات الدخل المنخفض في ارتفاع حجم الديون، وكان ارتفاع معدلات التضخم واستجابة البنوك المركزية برفع أسعار الفائدة يؤدي إلى زيادة مشكلة الديون، بالإضافة إلى تأثيرها على أسعار الأصول المالية. وكلما ارتفعت أسعار الفائدة ارتفع عبء خدمة الدين العام، وتختلف أسباب الديون باختلاف البلدان، ففي الصين غالباً ما يرجع ارتفاع حجم الديون إلى الإنفاق على مشاريع البنية التحتية، وفي الاقتصادات المُتقدّمة خاصةً في أوروبا يرجع إلى تضخم العجز من أجل تمويل أنظمة الرعاية.

بالنظر إلى تركيبة الديون عبر القطاعات (الأسر-الحكومة- الشركات غير المالية- القطاع المالي) نجد أن التضييق على أي من هذه القطاعات يؤثر بشكل مختلف على الاقتصاد، وتعتبر الديون الأسرية المفرطة مليئة بالمخاطر لأن الصدمة في أسعار الأصول (خاصة العقارات) يتم ترجمتها بشكل سريع ويظهر أثرها في انخفاض الاستهلاك لأنها تُضعف النمو والعمالة والاستثمار.

ثلاث دول كبرى تتصدر ارتفاع حجم الديون:

عندما يكون الاقتصاد في حالة ركود يتطلب ذلك حزمة من الإجراءات التي تهدف إلى التحفيز المالي أي المزيد من الإنفاق الحكومي أو خفض الضرائب أو كليهما إذا لزم الأمر، ولقد أصبحت مخاطر الاقتصاد العالمي أكثر عمقاً مما كانت عليه قبل الأزمة المالية العالمية عام 2008، ويُمثّل ارتفاع الدين العام أحد أهم هذه المخاطر، فقد بلغت نسبة الدين الحكومي العالمي إلى إجمالي الناتج الاقتصادي العالمي 75% مقارنة مع نسبتها منذ عشر سنوات أي وقت الأزمة المالية التي بلغت 57%، وقد نتجت أزمة عام 2008 عن تراجع الدائنين عن السداد مع ارتفاع مستوى الديون العالمية.

مقارنة بين الدين العام العالمي خلال الأزمات المالية والحروب العالمية

المصدر: IMF Blog.org

تُعتبر الدول الكبرى الثلاث الصين والولايات المتحدة الأمريكية واليابان هي أكثر الدول المسئولة عن نسبة كبيرة من الديون في العالم تصل إلى نصف هذه الديون، فهذه الدول وراء ما يقرُب من 55.8% من إجمالي الديون العالمية، حيث بلغ إجمالي الدين الحكومي للدول الثلاث معاً ما يقرُب من 91.8 تريليون دولار بنهاية 2016، بأكثر من 85% من الناتج المحلي الإجمالي، وقد ساهمت الصين وحدها في زيادة الدين العالمي حوالي 3 أرباع الزيادة في الدين منذ الأزمة المالية العالمية بنسبة 43% في حين أن مساهمة الدول النامية منخفضة الدخل لا تُذك، وقد وصلت ديون الشركات الصينية إلى 165% من الناتج المحلي الإجمالي، وارتفعت ديون الأسر بنسبة 15% من الناتج المحلي الإجمالي على مدى السنوات الخمس الماضية.

تجاوزت الديون العالمية إجمالي معدل النمو الإجمالي لأفضل 100 من الاقتصادات المتقدمة بينها المملكة المتحدة بقيمة 7.9 تريليون دولار، وفرنسا بقيمة 5.4 تريليون دولار، وألمانيا بقيمة 5.1 تريليون دولار، وأصبحت ديون القوة العظمى الآسيوية مصدر قلق متزايد بالنسبة للاقتصاد العالمي، لذلك تمتلك كل من الصين وروسيا وكوريا الجنوبية والبرازيل جدول زمني لسداد الديون خلال عام 2018. وبالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية فهي الاقتصاد المتقدم الوحيد الذي يتوقع صندوق النقد الدولي أن يشهد زيادة أخرى في نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، فقد توقّع أن ترتفع نسبة الدين إلى الناتج من 108% من الناتج عام 2017 إلى 117% من الناتج عام 2023، وقد أرجع الصندوق توقعات هذا الإرتفاع إلى خطة الإنفاق التي أقرّها ترامب بالإضافة إلى التخفيضات الضريبية الأخيرة. كما شهدت خدمة الديون ارتفاعاً سريعاً خاصةً في البلدان ذات معدلات التضخم المرتفعة كما تضاعف عبء الفائدة في السنوات العشر الماضية إلى 20% من الضرائب.

سيناريوهات متوقعة:

تضمّنت تحذيرات صندوق النقد الدولي، أن البلدان ذات الديون الحكومية المرتفعة عرضة للتضييق المفاجيء لظروف التمويل العالمية. ويترتب على ارتفاع مستويات الديون أن تتعرض البلدان للسلوك المتقلب للمستثمرين وزيادة مخاطر الاستثمار، كما يرى الصندوق أن الحكومات تستطيع تحسين أوضاعها المالية عندما يكون الأداء الاقتصادي قوياً، حيث يُمكنها استخدام تخفيضات الضرائب أو زيادة النفقات لمواجهة الانكماش المستقبلي. كما يُمكن للحكومات جمع الأموال من خلال الضرائب وبالتالي السيطرة الفعالة على دخلها، كما أنهم في كثير من الأحيان يقترضون المال بعملة يطبعونها بأنفسهم أي أنه في حالات التطرف يُمكنهم ضمان أن يتم سداد المقرضين عن طريق طباعة النقود.

بالنسبة للاقتصاديات الناشئة فقد تنخفض قيمة عملتها، ولكن الزيادة السريعة في نفوذ هذه الاقتصادات الناشئة يُمكن أن تؤدي إلى مخاطر بالنسبة للاقتصاديات المتقدمة إذا زادت تكلفة إعادة تمويل الدين بسرعة أكبر من المتوقع.

المصدر

“تخفيض الدين المرتفع”، مدونة صندوق النقد الدولي.“Michael Spence on the risks of increasing global debt”, World Economic Forum.” Global debt now worse than before financial crisis, says IMF”, The Guardian. “Global debt is spiralling out of control”, Independent.“Global debt is at historic highs and governments should start cutting levels now” CNBC.” Global debt has reached a record high, IMF says, and three countries are to blame. Market Watch.” Mounting global debt a risk to world economy: IMF” The Economic Times.“Institute of International Finance: Global Debt Hits Record High”, Asharq Al-Awsat.” IMF: Global debt now higher than before financial crisis”, Sky News.” Global debt now at $164 trillion, or 225% of GDP, International Monetary Fund warns”, USA Today.” World Debt Is Rising Nearly Three Times As Fast As Total Global Wealth”, SRSrocco Report.

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى