حل النزاعات الدولية ومسألة التوقيت المناسب: مراجعة لنظرية لحظة النضج

عادل زقاغ

مجلة العلوم الاجتماعية والانسانية، جامعة باتنة 1
العدد 18، 2008

عادة ما تركز الأدبيات التي تتناول النزاعات الدولية على التوليفة الإتيولوجية التي تجتهد في البحث عن أسباب اندلاع النزاعات. وفي مقابل ذلك فإن حجم الأدبيات التي تهتم بحل النزاعات يعتبر قليلا نسبيا، وقد دأب هذا الاتجاه على الربط بين المضي قدما نحو التسوية ومدى توفر مقترحات جدية للحل، أو وجود طرف ثالث يمتلك رافعة فعالة، تسمح له بجر أطراف النزاع بعيدا عن المواقف المتصلبة ومن ثمة إيجاد مخارج مناسبة. وفي هذا الصدد يرى “بول ستيرن” Paul Stern أن النزاع مثله مثل المرض الذي يقتضي التعامل معه الحصول على تشريح دقيق للوضع، ومن ثمة تحديد الجرعات العلاجية المناسبة. فصانع السلام بحاجة إلى تشخيص دقيق للوضعية التنازعية؛ ويتعلق الأمر بأطراف النزاع (الدول في حالة النزاعات الدولية وهي تستدعي اللجوء إلى الآليات التقليدية لفض النزاعات، أو مجموعات داخل الدولة الواحدة وهي تستدعي آليات ابتكارية)؛ أو طبيعة القضايا التنازعية (إن كانت مصلحية interest-based قابلة للتوفيق، أو مبدئية قائمة على قيم غير قابلة للتفاوض value-based تقتضي عملا “تسهيليا” facilitative سابقا لعملية صنع السلام).

لكن مع أهمية هذه الجوانب إلا أن ويليم زارتمان William Zartman يطرح نقطة أخرى تتعلق بتوقيت جهود السلام بشكل مناسب، والذي يعتبره القضية الأكثر حيوية بالنسبة لصناع السلام. فإذا تقدم صناع السلام بمقترحاتهم في مرحلة معينة من النزاع، فإن فرص نجاحهم في إقناع المتنازعين تكون كبيرة جدا إذا ما قورنت بفترات أخرى. لكن هل يتعلق الأمر بلحظات زمنية قصيرة أو فترات بعينها والتي يكون خلالها حل النزاع أمرا متيسرا. يقول “ويليم زارتمان” في هذا الصدد أن:

“نجاح عملية الوساطة مرتبط ببلوغ لحظة النضج وإدراكها من قبل المتنازعين، ويكون ذلك بوقوع أطراف النزاع في المأزق الضار المتبادل الذي تلوح في أفقه كارثة وشيكة؛ أو عندما تسد جميع الطرق أمام الحلول الانفرادية بحيث تبدو الحلول المشتركة بمثابة المخرج الوحيد؛ كما تحدث لحظة النضج أيضا لدى تغير موازين القوى ضمن كل طرف وقيام القيادات الصاعدة والقيادات المنتكسة بإعادة النظر في حساباتها. لكن إدراك لحظة النضج هذه من قبل أطراف النزاع قد لا يتأتى إلا بمساعدة طرف ثالث يعمل على التوفيق بين المتنازعين.”

       إذن، يفترض زارتمان أنه وخلال مرحلة معينة من النزاع، دون غيرها، تظهر الأطراف المتحاربة استعدادها للتداول بشأن مقترحات التسوية التي طالما تغاضت عنها في السابق، ويعود ذلك إلى إدراكها بأن أي بديل عن التفاوض سيؤدي إلى كارثة، فضلا عن أنه لا تلوح في الأفق أية علامات لإمكانية الحسم العسكري. وهنا نكون إزاء ما يسمى بلحظة النضج Ripe moment والتي تحسّن وبشكل مفاجئ من فرص النجاح لجهود الوساطة. حيث يتحول قادة أطراف النزاع عن عقلية الانتصار Winning Mentality لصالح عقلية التوفيق Conciliating Mentality. وحسب تعبير Campbell فإن القبول بالحل التفاوضي لا يعود إلى إتباع إجراءات معينة فحسب، ولكنه يعود بالأساس إلى مدى جاهزية الأطراف لاستغلال الفرص، ومواجهة الخيارات الصعبة، وتقديم تنازلات متبادلة ومتكافئة، باختصار يجب أن تفعل الشيء الصحيح في الوقت المناسب.

       ومع أهمية تصور النضج عند “زارتمان”، حيث من التصورات الابتكارية، فقد ساهم في بلورة أربعة نماذج لتوقيت التدخل اثنان منهما طورهما زارتمان نفسه وآخرون، في حين جاء النموذج الثالث -المصيدة- تحويرا لمفهوم النضج. أما النموذج الرابع تصور نافذة للأمل، فقد طرحه “ميتشل” و”كروكر”. إلا أنه تظل هناك نقطة إشكالية:  تنطوي على مدى أخلاقية الدور السلبي الذي يناط بصانعي السلام وفق النموذجين الأولين، ومدى أخلاقية إنضاج النزاع باستعمال الرافعة، مع ما تنطوي عليه من مخاطر على حياة الأفراد وذلك جنبا إلى جنب مع النموذجين الأولين. وهنا نتساءل هل يمكن إيجاد صيغة عملية لتوقيت مساعي السلام بحيث يتم أخذ الاعتبارات الأخلاقية بعين الاعتبار، وبالأساس عدم اتخاذ موقف سلبي إزاء المآسي الإنسانية، دون أن إغفال الاعتبارات العملية، وبالذات بلوغ الحالات التنازعية مراحل متفاوتة، ووجود صانعي سلام متفاوتي القوة والنفوذ والدور؟

نموذج المأزق الضار والنموذج الكارثي:

       إن دمج النموذجين الذين اقترحهما “زارتمان” ضمن نموذج واحد يعود إلى أنهما دعامتان جوهريتان لمفهوم لحظة النضج، إذ يصنعان وبشكل متكامل الظروف المواتية والسياق الملائم للحل، ومن هنا فإن التمييز بينهما هو لأغراض تحليلية وليس لأسباب مفهوماتية. واستعمالها بشكل مترابط يمدد من فرص نضج النزاع لجهود الحل.

       وعلى هذا الأساس، فإن تصور لحظة النضج يقوم على إدراك أطراف النزاع بأنهم يعيشون مأزقا ضارا متبادلاHurting Stalemate  Mutually، والذي يمكن التعبير عنه مجازا بما يشبه سطحا مستو ليس له نهاية، أو لا تبدو في الأفق أية نهاية له، وحيث لا يمكنك الحصول على النجدة ولا تظهر هناك أية إمكانية لتصعيد حاسم يحقق النصر. بينما تماثل الكارثة المتبادلة Imminent Mutual Catastrophe تخطي حافة الهاوية Precipe أو النقطة التي تسوء فيها الأمور بشكل مفاجئ.

       إدراك أطراف النزاع بأنها في مأزق، ولو بدرجات متفاوتة، يجعلها تحس بأنها محتجزة ضمن وضعية لا تكون لهم معها أية مكاسب من خلال الاستمرار في التصعيد، وهنا يدركون بأنه يتعين عليهم البحث عن سياسة بديلة أو مخرج لهذا النفق المسدود deadlock. ويؤكد هنري كيسنجر، مهندس عملية السلام في الشرق الأوسط ذلك، بإقراره بأن المأزق [المتبادل] هو إحدى الشروط الأساسية لنجاح التسوية.

       ويستند إحساس أطراف النزاع بأنها أمام مأزق إلى المعاناة وتزايد الخسائر التي ترتبط باستمرار التصعيد وعندما يرتفع معامل التكاليف نسبة إلى المكاسب بشكل دراماتيكي، تشعر بالاحتجـاز وتبحـث عـن بديـل آخـر. ويـرتكز ذلك على خاصية التعلم حيث أن المجموعات الإثنية المتنازعة تعتبر بدروس الماضي، وفي خياراتها المستقبلية، فإنها تأخذ بعين الاعتبار معاناتها السابقة والتكاليف التي تحملتها.

       ومن منظور نظرية المباريات، يمكن التعبير عن المأزق بالانتقال من “ورطة السجين” Prisoner Dilemma Game إلى “ورطة الجبان” Chicken Dilemma Game أي من المحصلة السلبية التي تميز الوضع القائم أو التفاوض إلى محصلة إيجابية.

       غير أنه من المهم التوضيح بأن حدوث المأزق لا يعني توفر شروط ملموسة ومؤشرات مادية له، كارتفاع نسبة الخسائر لدى أطراف النزاع، بل يرتبط بإدراك أطراف النزاع لحدوثه، ويرتبط أيضا بتعبير الأطراف عن اعتقادهم في إمكانية التوصل إلى حل تفاوضي ويعتمد ذلك على تصريح الناطقين الرسميين باعتقادهم إمكان الحصول على تنازلات متبادلة.

       ونظرة سريعة على النزاعات الإثنية تظهر أهمية توقيت جهود الوساطة بشكل مناسب، فقد فشلت مؤسسة الرئيس جيمي كارتر في مساعيها لتسوية النزاع الإثيوبي- الإريتري أوائل التسعينات، وعرفت مصيرا مماثلا جنوب السودان في نفس الفترة، ومع المهارات والسمعة التي اكتسبتها المؤسسة فإن عدم نضج النزاع يبدو عاملا محددا للفشل. ونفس الملاحظة تنسحب على النزاع في البوسنة عام 1994. وتنسحب كذلك على مسار السلام السوري –الإسرائيلي، فقد فشل مبعوث السلام “إيتامار رابينوفيتش” Itamar Rabinovich في جلب الطرفين إلى مائدة المفاوضات. وصرح إثر ذلك بأن “نجاح المفاوضات يعتمد على نضج النزاع أكثر من اعتمادها على توفير الشروط الملائمة للشروع في التفاوض.”

       وبمقابل هذه الإخفاقات يوضح نموذجا السلفادور والبوسنة بعض جوانب تصور المأزق الضار المتبادل. في السلفادور، قاد “ألفارو دو سوتو” Alvaro de Soto سلسلة من محاولات الوساطة بين الحكومة والمعارضة إلا أن جميعها مني بالفشل. ولكن بعد التصعيد الخطير الذي بادرت به المعارضة ممثلة في FMLN ، والذي شمل أغلب المدن، واعتبر الأعنف منذ بداية الصراع، أدرك طرفا الصراع بأن استراتيجياتهم وصلت إلى نفق مسدود، فمن جهة لم تستطع FMLN تقويض أركان الحكومة رغم اتساع نطاق هجماتها، وفشلت كذلك في تحقيق انتفاضة شعبية. ومن جهة أخرى، وبمرور الوقت، أظهر ذلك للعناصر اليمينية داخل الحكومة، وللنخبة الحاكمة بشكل عام بأن الجيش لن يستطيع سحق المعارضة ولا حتى الدفاع عنهم. وظهر الطرفان محتجزان ضمن مأزق يقضي باستحالة الحسم العسكري لصالح أي منهما. وبتزايد التصعيد لدى الجانبين أصبح النزاع ناضجا للمضي نحو تسوية تفاوضية.

       أما في البوسنة فقد تطلب الأمر الانتظار حتى أكتوبر عام 1995 للحصول على توازن عسكري هش في الميدان للسماح لمجهودات الوساطة بأن تكلل بالنجاح فإثر الجولة التي قام بها “جيمس بيكر” وزير الخارجية الأمريكية آنذاك في يوغسلافيا عام 1991، صرح بأنه لا يمكن إجراء حوار جدي دون أن يكون هناك إحساس مشترك لدى جميع الأطراف بالخطر والاضطرار. لقد اعترف “بيكر” بأهمية نضج النزاع، وأثبت وسيط السلام المعروف، ريتشارد “هولبروك”، ذلك في تقاريره عن مهمته الناجحة التي أفضت إلى التوقيع على اتفاقية “دايتون”. وفعلا، انجر الجميع إلى التفاوض عندما أحسوا بمأزق، ونجم ذلك عن تزامن الغارات التي شنها حلف شمال الأطلسي مع تراجع صربي وتقدم كرواتي نسبي. ومع فقدان الأمل في الحسم العسكري لم يعد من بديل سوى التفاوض.

       وإذا كان المأزق الضار المتبادل يعبر عن انسداد في الوضع فإن النموذج الكارثي يعني أساسا مدة زمنية معينة  Deadlineيمكن للأمور بعدها أن تسوء بشكل مأساوي، وهذا بحسب تقديرات الأطراف. والإحساس المفاجئ لأطراف النزاع بإمكانية السقوط في الهوة إن لم تعمل على إنهاء التعبئة. وترتكز تقديرات حصول الكارثة على “زيادة كبيرة جدا” في تكاليف الاستمرار في الحرب أو إدراك “متأخر” باستحالة الحسم العسكري.

       غير أن شمولية الإحساس بالكارثة ضروري لنضج النزاع لمساعي الحل، فإذا اقتصر إدراك الكارثة على طرف واحد فقط، فإن ذلك سيحفز الخصم على الوقوف جانبا ورفض التفاوض في انتظار سقوط الطرف الآخر في الهوة، والحظوة بجميع غنائم النزاع أو الحرب.

       ويقدم نموذج روديسيا مثالا جيدا على ذلك، إذ وصل مسار السلام إلى حافة الهاوية إثر صعود حكومة “مارغريث تاتشر” في بريطانيا، فقد هددت هذه الأخيرة بالاعتراف بنظام “موزيراوا” Muzerawa في “ساليسبوري” مما اعتبر موقفا مكلفا جدا للقيادة في زيمبابوي، وفي المقابل شكل الرفض الإفريقي لنظام “موزيراوا” والتصعيد الناجح لحرب العصابات ضد البيض كارثة من ناحية التكاليف للأقلية البيضاء في “ساليسبوري”. ولتفادي السقوط في هوة تزايد التكاليف بمتتالية هندسية اضطر الطرفان للجوء إلى تسوية تفاوضية.

ومع وجود نماذج تدعم تصور لحظة النضج، وفق تصور “زارتمان” في نموذجيه، إلا أن هناك بعض المشاكل العملية، فأحيانا يتطلب الحصول على لحظة النضج القيام بضغوطات قد تصل حد الإلزام العسكري لأحد الأطراف لدفعه إلى الطريق التفاوضي، وذلك عادة يصطدم باشتداد المقاومة بل ويعطي مبررا إضافيا يمكن الأجنحة المتطرفة من الاستمرار في التعبئة. ويظهر بذلك أنه عندما يكون الوسطاء إزاء نوع من الأطراف أو نمط محدد من القضايا التنازعية، فإن أغلب استراتيجياتهم ومهاراتهم تصاب بشلل كلي.

ويؤدي المزيج من القضايا غير القابلة للتفاوض (كتلك التي تمس بشكل مباشر القيم الدينية) والمجموعات التي تمتلك قدرة هائلة على التعبئة واحتواء التكاليف والخسائر مهما ارتفعت واعتبارها بمثابة تضحيات يجازى عليها، إلى قيام جدار غير قابل للاختراق حول دائرة النزاع ويجعله مستعص على الحل، وفي هذه الحالة لا يوجد سوى حل واحد وهو تخفيف المعاناة عن الجانب الأضعف أو رفع تكاليف الجانب القوي. ويجب مواصلة العمل بالاستراتيجيات الإلزامية لدفع المتشددين إلى الإقرار بوجود خطأ في طريقة معالجتهم للقضايا الخلافية، وبتنامي نفوذ الجناح المسالم فإن ذلك يسمح بإدارة النزاع بشكل بناء. 

مشكل آخر يتمثل في أن النزاعات المزمنة تتطلب بلوغ مستويات عالية من العنف أو الحدة لكي تصبح ناضجة للحل، وحتى تظهر الأطراف المعنية استعدادها لتقديم تنازلات متبادلة. وتعتبر لحظة النضج المجال الذي يمكن الوقوف فيه قبل الانحدار إلى الهاوية، لذا فإن على الوسطاء استغلال هذه اللحظة، وإلا فسيدخل المتنازعون دوامة من العنف المستديم ويعودون إلى الانطباعات والصور النمطية السلبية عن بعضهم البعض، وهو ما حصل في الشرق الأوسط [فمع تفويت الفرصة منتصف التسعينيات وعدم البت في قضية القدس] عاد الأطراف إلى مواقفهم الأولية المتمثلة في عدم القبول بأقل من دولة فلسطينية أو إسرائيلية وعاصمتهما القدس.

وأخيرا، لابد من الإشارة إلى أن عجز مفهوم لحظة النضج عن تقديم تفسير للكثير من حالات نجاح جهود التسوية والحل قاد بعض الباحثين إلى إحداث تعديلات على التصور العام للنضج. فـ “جون ستيفن ستيدمان” John S. Stedman، ومن خلال بحثه حول زمبابوي أظهر أن نجاح عملية الوساطة لا تستدعي حصول مأزق ضار متبادل بل يكفي أن يتم إدراك المأزق من قبل الراعي الذي يقف وراء طرف معين. وأضاف لهذا الطرح عنصرا آخر وهو أن الجناح العسكري هو أهم طرف معني في المعادلة بتلقي أو إدراك المأزق، ثم أنه يجب أن يقتنع الأطراف بأن المفاوضات بديل جيد لتحقيق النصر.

وزيادة على “ستيدمان” Stedman أثار “ليبرفيلد” Liberfield، في دراسته المقارنة بين الشرق الأوسط وجنوب إفريقيا قضية البنية الداخلية للمجموعات المتنازعة، فبروز تهديدات من داخل الأطراف يمكن أن توفر الشروط النفسية الكفيلة بتحويل اتجاه القيادات نحو التسوية كمخرج للحيلولة دون تضييعها للزعامة، كما أن تغيير القيادة قد يؤدي إلى محصلة مماثلة. فالقيادات الجديدة التي تَلِجُ للسلطة أو الزعامة في حالات الاضطراب نادرا ما تتمتع بالإسناد الكافي للاستمرار في التعبئة، وهي بهذا تميل إلى مخرج تفاوضي.

بناء على طروحات “زارتمان” وتعديلات “ستيدمان” وآخرين، يبدو جليا أن الحسابات العقلانية لصانعي القرار على مستوى كل طرف من أطراف النزاع تعتبر متغيرا حاسما، إلا أنه يجب الانتباه للاعقلانية التي تميز بعض الحالات التي لا يتعلم فيها الأطراف من خسائرهم في الماضي، بل تزيد شراسَتُهُم بتزايد التكاليف، والنقطة الثانية المثيرة للجدل هي الدور السلبي المنوط بصانع السلام في ظل نموذجي “زارتمان”. ولتغطية هاتين النقطتين صيغ نموذج المصيدة، الذي يركز على الجانب الإدراكي لصانعي القرار.

نمـوذج المصيـدة:

       في نموذج المصيدة، وعكس نموذج المأزق الضار والنموذج الكارثي، ينتفي عامل التعلم من الخسائر السابقة، وعوضا عن ذلك فإن أطراف النزاع يسقطون في فخ السعي المستمر لتحقيق النصر، رغم أن تكاليف الاستمرار في التصعيد تبدو غير قابلة للتحمل، على الأقل بالنسبة للأطراف الملاحظة. إذن يقوم هذا النموذج على وضع يتسم باللاعقلانية حيث الخسائر ينظر إليها كثمن للحصول على الانتصار الحاسم، وهذه اللاعقلانية تتجلى في أن الأضرار تصبح مبررا للاستمرار في التصعيد، فكلما اتسع نطاق الأضرار زادت الحاجة إلى السعي دون هوادة لتحقيق الانتصار الشامل بغية تبرير التضحيات النفسية والسياسية التي قدمت.

       ويعرف “بروكنر” Brockner و”روبين” Rubin المصيدة بأنها نوع من التصعيد تتزايد فيه الضغوط على المتنازعين للانسحاب من النزاع وللحفاظ على الوضع القائم في نفس الوقت، وهي “عملية لصناعة القرار يظهر من خلالها الفاعلون التزامهم بسياستهم السابقة، رغم فشلها اعتقادا منهم بأنهم “سيقطفون ثمارها لاحقا” ويقوم هذا الاعتقاد على كون الرجوع عن العنف سيسبب لهم فقدان ماء الوجه أو تشويه سمعتهم.

       ومع ذلك فإن هناك من يرى بأن المصيدة ليست بالوضعية اللاعقلانية الصَّرفة، إنما يمكن تفسيرها عقلانيا بواقع أن التضحيات السابقة تجعل أطراف النزاع يصرون على التمسك بواقع أن أي بديل عن الانتصار الكامل غير ممكن، إذ لا يمكن مقايضة تلك التضحيات بأية اتفاقية مهما كان شكلها، أضف إلى ذلك أن:

– قيادات أطراف النزاع ترى في الصدام بمثابة جسر يربطهم بتحقيق أهداف معينة، أما التكاليف والتضحيات، مهما عظمت فهي دعائم ضرورية لهذا الجسر؛

– أطراف النزاع تتصور عادة بان التضحيات التي ستقدمها في المستقبل قابلة للتحمل وهامشية، ما دامت قد تمكنت من تجاوز مراحل ترى بأنها أصعب مقارنة بما سيأتي.  

والخاصية العقلانية الأخرى للمصيدة هي أن أطراف النزاع وصانعي القرار على وجه التحديد، لا يرون السلام أو التسويات التفاوضية إلا من خلال أسوأ السيناريوهات المحتملة. ويمكن استشفاف ذلك في عنصر واحد على الأقل من التسوية، وهو نزع السلاح الذي يشكل رهانا كبيرا للبعض، فهذه المسألة بالذات جعلت من الحصول على ثقة مسلمي البوسنة في التسوية التفاوضية صعب المنال لغاية خريف 1995، فنزع سلاح مسلمي البوسنة مثلا سيعود وبالا عليهم حال انهيار مسار السلام. ومقابل نجاح صانعي السلام في بناء الثقة في حالة يوغسلافيا السابقة، فإن أيرلندا الشمالية أظهرت حالة من الاستعصاء، إذ يرفض الجيش الجمهوري الأيرلندي نزع أسلحته وبشكل مستمر. وفضلا عن نزع السلاح توجد عدة عناصر أخرى تفسر استمرار النزاع في المصائد الاجتماعية، رغم أنها تبدو منطقيا ذاتية-الدحض. وفي فترة ما بعد الحرب تقدم أحداث العنف بين الفصائل المتناحرة في أفغانستان والحملة ضد الإرهاب في الجزائر نماذج جيدة عن المصيدة. وهي الوضعية ذاتها التي توجد عليها قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة في صراعها مع من تسميهم بالمسلحين في العراق، فالبيت الأبيض يصر على نجاح وشيك لجهود إقرار الأمن والنظام في العراق، وفي غضون ذلك فهي تصطدم بمقاومة شديدة من طرف المسلحين الذين قوضوا بإصرارهم الاستراتيجية الدعائية لقوات التحالف. وبين رفض كلا الطرفين الاستسلام، فإن تكاليف الحرب البشرية والمادية وصلت مستويات قياسية دون أن تثني من عزيمة أي من الطرفين.  

ولكن إذا كانت الأضرار الناجمة عن النزاع تعطي مبررا للاستمرار في التصعيد بدل الرجوع عنه، فأين تكمن “لحظة النضج” التي تسمح بإدارة النزاع باتجاه التسوية؟

       يفترض منظرو المصيدة أن صانعي القرار في النزاعات المستعصية يمرون عبر أربعة مراحل:

  • في المرحلة الأولى يركزون على تحقيق إنجازات محددة؛
  • في المرحلة الثانية يتم استنزاف الموارد عبر تقديم التزامات معينة للمكونات الداخلية Domestic Constituents ؛
  • أما في المرحلة الثالثة فيعملون على تعظيم صور الخسائر التي لحقت بالخصم، والتقليل من شأن خسائرهم؛
  • وفي المرحلة الرابعة يتم البحث عن مخرج بسبب استنفاذ الموارد.

وبناء على هذا السُّلَّم، فإن المنعطف الحاسم لنضج النزاع يكمن في المرحلة الانتقالية بين المرحلتين الثالثة والرابعة أين يكف صانعوا القرار عن اعتبار التضحيات بمثابة ثمن للنصر وبدلا من ذلك يقتنعون بضرورة إنقاذ ما يمكن إنقاذه. ومن الناحية السيكولوجية، فإن ذلك يتم عبر تحول تفكير صانعي القرار نحو وقف النزيف والتخلي عن الوعود المقدمة للنصر.

لكن إعادة النظر في السياسات التصعيدية المتبعة يحتاج إلى تغيير في نمط تفكير صانعي القرار، وهو يحتاج إلى إحداث تغيير ذا معنى في السياق الموضوعي أو البيئة المادية لصناعة القرار، وتعتبر الرافعة عنصرا حاسما لتحقيق ذلك، ولذا فإن نموذج المصيدة يتيح للطرف الثالث مجالا واسعا للتأثير في مسار النزاع. وفي هذا الصدد يقول Crocker أن “الافتقاد إلى لحظة النضج لا يعني أن ننصرف ونترك النزاع وشأنه”، وبدلا من ذلك يجب على الطرف الثالث حسب Rubin : “أن يخلق الشروط الملائمة للتسوية، عوض انتظار ظهورها.”

وللقيام بذلك يجدر بالطرف الثالث أن يساهم في جر الأطراف المتنازعة إلى مأزق أو استغلاها إن كانت قائمة، وينوه Mitchell في هذا الخصوص بوجود وضعيات أخرى يحس فيها المتنازعون بالورطة، فزيادة على المأزق الضار لدى زارتمان هناك أشكال أخرى للمأزق:

1 – مأزق اليأس: حيث يستنزف أطراف النزاع مواردهم ومع ذلك لا تبدو في الأفق إمكانية لتحقيق النصر؛

2 – مأزق التآكل: وهنا لا يتضرر أي طرف من الأطراف بشكل كبير إلا أنه لا يبدو أن أيا منهم لديه إمكانية لتدمير أو هزيمة الخصم؛

3 – مأزق الإحباط: حيث يكتشف المتحاربون أنهم لن يتمكنوا من تحقيق الحسم العسكري مهما تعاظمت جهودهم والموارد التي يخصصونها.

وعلاوة على استغلال هذه المآزق إن وجدت، فإنه يناط بصانعي السلام في ظل نموذج المصيدة القيام بصياغة تفعيل وساطة تأخذ بعين الاعتبار إيجاد الطرق المثلى لمساعدة المتنازعين على وقف النزيف في الموارد عبر تبني سياسات ملائمة، وعبر تحرير صانعي القرار من الأجنحة المناوئة للسلام.

ولا شك أن اتساع هامش المناورة للطرف الثالث، وفق التحليل السابق، يجعل من نموذج المصيدة ذا جاذبية عندما تتوفر لدى المجموعة الدولية الإرادة والموارد الكافيين لمباشرة عمليات تدخل بناءة في النزاعات الإثنية وذلك مقابل نموذج المأزق الضار والنموذج الكارثي اللذين يمنحان مبررات للاّفعل الناجم عن العجز أو الافتقاد إلى الإرادة الكافية. فنموذج المصيدة لديه بعد عملي أكثر لصناع السلام الذين يتمتعون بالإرادة، ولا يتخذون موقفا سلبيا من “لحظة النضج” وهو ما يتقاسمه مع “نموذج الفرص الجذابة المتبادلة.”

نموذج الفرص الجذابة المتبادلة:

إن سلبية المأزق الضار واستناد “المصيدة” إلى القوة طرح تصور “لحظة النضج” محل استفهام. وبتطور مقاربات تحويل النزاع والمقاربات “عملياتية التوجه” process-based لبناء السلام فقد التصور أهميته لأغلب الباحثين والممارسين. ويعود ذلك إلى مجموعة من العوامل أهمها بروز تدخلات الأطراف الثالثة من خلال المسلك الثاني للدبلوماسية track-two diplomacy وتحول التركيز إلى تجند طويل المدى، وذلك لتأسيس بنى متساندة لبناء السلام خاصة مع تعدد التدخلات الدولية وتنسيق الجهود فيما بينها. وأفضى ذلك إلى تعدد ليس فقط في توقيت التدخلات ولكن في مجالاته أيضا، مما فتح آفاقا واسعة صناع السلام، فزيادة عن استخدام الرافعة بشكل إيجابي، زادت إمكانية الإدارة البناءة للنزاع بظهور منافذ تدخلية جديدة غير المسالك التقليدية المعتادة.

       هذا التحول الجديد عن منطق إدارة النزاع لصالح منطق تحويل النزاع قوض دعائم تصور “لحظة النضج” وأبرز إجماعا بين الباحثين حول ضرورة إبداله بتصور نافذة للأمل، فلحظة النضج، تشير إلى فترة زمنية قصيرة جدا وبالتالي فرصة محدودة للتدخل، بينما النوافذ تفتح وتغلق وهي بذلك تعكس حقيقة أن حظوظ نجاح مساعي السلام ليست ثابتة لذا يجب مراقبتها وتحليلها واستغلالها بشكل أمثل عبر عرض فرص جذابة للتسوية. وفي هذا الصدد يقول “تشيستر كروكر”Chester A. Crocker :

“من الواضح أن عملية صناعة السلام تكون مثمرة أكثر عندما يكون النزاع ناضجا للحل. غير أن عدم بلوغ النزاع مرحلة النضج لا يعني أن ننأى بأنفسنا بعيدا ولا نقوم بأي شيء حياله. بل يساعدنا ذلك على تحديد العقبات التي تحول دون المضي قدما لحل النزاع، ومن ثمة اقتراح الطرق التي يمكن من خلالها التعامل مع هذه العقبات وإدارة المشكل إلى أن يصبح الحل ممكنا. إن كل وضعية تنازعية تمثل حالة فريدة، كما أن كل صانع سلام يعمل وفق إيقاع خاص به. ولذلك فإنه عندما يصل نزاع ما إلى نفق مسدود فإن إنضاجه للحل قد يكون ممكنا من خلال منح أطراف النزاع مقترحا جديدا ليتداولوا بشأنه.”

       وبتعبير آخر، فإن نوافذ الأمل تناسب المقاربات الجديدة التحويلية-التوجه transformative-oriented، والتي تشير إلى أن على المتدخلين ألا ينتظروا أن تفتح المنافذ بشكل كامل لأنها قد تغلق قبل أن يكون صانعوا السلام جاهزين لطرح صيغ التسوية. وبناء على ما سبق، يتبين أن نوافذ الأمل تحتاج إلى تجند طويل المدى على كل المسالك الدبلوماسية الرسمية وغير الرسمية، وفي كل مراحل النزاع، وربط ذلك بالقيام بتحليلات مستمرة لرصد أية نوافذ أمل قائمة وانتقاء صيغة التسوية الملائمة لها.

       ويعد “كريستوفر ميتشيل” Christopher Mitchell أول من اقترح هذا التصور، وبلور على أساسه نموذجه الخاص بتوقيت جهود التسوية وصنع السلام المسمى “نموذج الفرص الجذابة المتبادلة”Mutual Enticing Opportunities. ويرى من خلاله أن صانع السلام يمكنه التحكم بشكل إيجابي في هذه الفرص، والتي تعود جاذبيتها، في اعتقاده، إلى عدة عوامل سياقية (الشيء الذي يجعلها قابلة للتأثير)، ومن ذلك:

1 –  بروز إمكانية الحصول على مكاسب بتكاليف أقل، من خلال التفاوض؛       

2 – ظهور إمكانية تقاسم السلطة، وهي ما لم يكن قائما في السابق؛

3 – ظهور النزاع بصيغة جديدة كنتيجة لتدخل الطرف الثالث؛

4 – تغير في بيئة النزاع، ما يعني اختفاء الأسباب النظمية التي تبرر التمسك بنمط سلبي من العلاقات مع الخصم ومجازا، يعبر Crocker عن نموذج الفرص الجذابة المتبادلة التي تقوم على تصور نافذة للأمل باستخدام مصطلح كواكب موصولة ببعضها البعض، وهو مستلهم من خطوط السكك الحديدية التي تتقاطع في نقاط معينة تمكن القطار من التحرك بحرية تجاه أية محطة، بحيث تعبر مرونة حركة القطار عن العلاقات الحسنة بين أطراف النزاع، بينما يتمحور دور الطرف الثالث في إنشاء التقاطعات بين خطوط السكك، والتي تعبر مجازا عن قنوات التواصل.

       أما الشاهد الإمبريقي لتصور “كروكر” فهو وساطته في النزاع الأنغولي بصفته مساعدا لوزير الخارجية الأمريكي للشؤون الإفريقية (19981–1989). فقد أفضت وساطته إلى توقيع اتفاقية عام 1988 تقضي بانسحاب القوات الكوبية الموجودة في أنغولا، وانسحاب القوات الجنوب-إفريقية من ناميبيا. إلا أنه من المهم الإشارة إلى أن هذا النجاح لا يقوم على نضج النزاع بالمفهوم التقليدي، فأطراف النزاع عاشت مأزقا ضارا متبادلا طيلة سنتي 1987–1988 دون أن يجرها ذلك إلى التفاوض. وهكذا فإن الدور الرئيس لعبته اللقاءات التي نظمها “كروكر” في لندن والتي ضمت ممثلين عن أنغولا، وكوبا وجنوب إفريقيا. وعرفت استخداما إيجابيا للرافعة الأمريكية، وقد وصف “كروكر” انعكاس السير الإيجابي للمحادثات على الأوضاع على الأرض بأنها تماثل كواكب تتجه تدريجيا نحو الانتظام في حركتها.      

       وتاريخيا، يقدم النموذج “الروديسي” Rhodesia  (أو زيمبابوي حاليا) مثالا جيدا عن مثل هذه الفرص، ففي سنة 1964 واجهت الأقلية البيضاء خيارين كلاهما مر، فإما أن تقبل بحكم الأغلبية الإفريقية مع ما يعني ذلك من فقدانها لجميع امتيازاتها، وإما أن تدخل في صراع للإبقاء على الوضع القائم. وبسلوكها للخيار الثاني، فقد دخلت “روديسيا” دوامة من العنف والدمار لم ينته إلا مع قدوم السبعينات حيث اتجه طرفا النزاع نحو خيار ثالث، كان ليجنب زيمبابوي الدمار لو تم تنبيه بادئ الأمر، ويتمثل في احتفاظ الأقلية البيضاء على امتيازاتهم الاقتصادية وبحصول الأغلبية الإفريقية على السلطة السياسية.

       أما حديثا، فيشير “ميتشل” إلى حقيقة أن بعض النجاحات التي حققتها تدخلات الطرف الثالث في الشرق الأوسط كمعاهدة السلام بين الأردن وإسرائيل عام 1994، إضافة إلى تسوية بعض المشاكل الحدودية في المنطقة لا يعود إلى وصول أطراف النزاع إلى مأزق ضار متبادل، بل هو ناجم عن بروز فرص جذابة متبادلة.  

       وبشكل عام يقول “ميتشال” أنه وحتى تكون جاذبية فرص السلام مقنعة لأطراف النزاع فيجب على صانعي السلام يقنعوا قادة الأطراف المتنازعة واتباعهم الرئيسيين بأهمية المكاسب التي سيجنونها من خلال تفضيلهم للحل التفاوضي. ومن ذلك تقديم ضمانات لهم بأنهم سيستمرون في لعب دور قيادي بعد التسوية. أما النقطة المحورية في تصور “نافذة للأمل” فتتمثل في تحويل قناعات الزعامات من كل أطراف النزاع بأنهم سيتمكنون من تحقيق أهدافهم بتكاليف أقل إذا ما اتجهوا نحو تسوية تفاوضية تعقبها انتخابات حرة. ففي زيمبابوي مثلا التزم “نكومو” Nkomo و “موقابي” Mugabe  و “موزيراوا”  Muzerewa الذين يقودون الأطراف المتحاربة في هذا البلد بالقبول بالنتائج التي تسفر عنها الانتخابات، خاصة بتقديم ضمانات بعدم تهميش المرشحين اللذين سيخفقان في العملية.

       ويعتبر تقاسم السلطة إحدى الفرص الأكثر جاذبية مثلما أظهره نموذج جنوب إفريقيا عام 1994 إذ أن تقديم ضمانات لـ ANC ، والإنكا والحزب الوطني بمشاركتهم في السلطة السياسية، ترك انطباعات جيدة قبل الانتخابات وسهل الانتقال السِّلْمي للسلطة لصالح الأغلبية الإفريقية.

       ومع تعدد إسنادات تصور “نافذة للأمل” إلا أن “ميتشل” نفسه يقر بأن جوهر هذا التصور يحمل في طياته جوانب غير عملية، فالتأثير بشكل إيجابي في إدراكات وتقديرات قادة الأطراف دون اللجوء إلى استخدام الرافعة ببعدها غير الإيجابي المتمثل في القوة، في خضم تصاعد حدة العنف – يعتبر هدفا صعبا إن لم يكن مستعصيا. وفي هذا الصدد يرى زارتمان أنه ومع أهمية الفرص الجذابة المتبادلة MEO لاستمرار المفاوضات ولإنجاح عملية السلام إلا أن هناك نماذج إمبريقية قليلة تدعمه عندما يتعلق الأمر بجذب الأطراف المتنازعة إلى مائدة التفاوض.

خاتمة:

       من خلال استعراض النماذج الأربعة التي تم تطويرها على ضوء نظرية نضج النزاعات الدولية للحل بدا واضحا أن هناك ضرورة ميدانية لتقسيم العمل بين النماذج الأربعة، فمثلا لا يمكن للمسارات (السلام) التفاوضية التي بوشر بها  في ظل المأزق الضار المتبادل MHS أن تكون مستقرة حتى ولو توصلت إلى اتفاقات لوقف العنف، دون أن تكون هناك فرص جذابة متبادلة لتسوية دائمة، ويقدم “زارتمان” بهذا الشأن أمثلة اتفاقات لوزاكا عامي 1984 – 1999 ووقف إطلاق النار في كاراباخ عام 1994.

       ويشير ذلك إلى ما يدعو إليه “ميتشل” من ضرورة التمييز بين نضج النزاع للتسوية النهائية ونضجه للشروع في عملية بناء سلام دائم. وعلى هذا الأساس، فقد ظهرت الحاجة ملحة إلى نموذج ديناميكي تتكامل فيه النماذج التي تم عرضها، بحسب سياق النزاع. ولكنه يجب التأني قبل الحديث عن نظرية موحدة لنضج النزاع للحل، وذلك للاعتبارات الجدلية التالية:

– بلوغ “لحظة النضج” بوصول استراتيجيات الأطراف المتنازعة إلى مأزق، يعتبر مهما جدا، لأن حدة المعاناة سوف تردع الأطراف لاحقا عن اللجوء إلى العنف، فصور الخسائر والدمار والتكاليف المرتفعة الناجمة عن تبني استراتيجيات تصعيدية كفيلة بتثبيت دعائم السلام والاستقرار؛

– ومقابل ذلك، فإن تصور “الفرص الجذابة المتبادلة”، وحتى وإن لم تدعمه شواهد إمبريقية كافية، فإن أهميته تكمن في أنه يتيح الفرصة لتسويات مستديمة تنبذ الدمار وتتبنى الإدارة البناءة للنزاعات؛

– “لحظة النضج” فتقوم على اعتبار بأن التضحية بعدد من الأفراد بهدف إقرار السلام في المجموعة، يعتبر عملا عقلانيا مقبولا، لأن المجموعات المتصارعة ستعتبر بخسائرها؛

– أما “الفرض الجذابة المتبادلة” فتقوم على اعتبار أن أي سلام يستند إلى تصور كهذا سيكون هشا، لأن أعمال العنف يترتب عنها صدمات نفسية وضغائن لا تنتهي بالتوقيع أو حتى بتنفيذ اتفاقيات السلام، ومسألة وقت فقط لتفضي إلى أعمال انتقامية، وحتى مساعي تحويل النزاع ستصبح شاقة.

       وللخروج من هذا الجدل العقيم يقول “قولدين” Goulding، موافقا بذلك على طرح “ميتشل”، أنه يجب تقسيم العمل بين النماذج الأربعة، فالأمم المتحدة التي تعاظمت الأعباء الملقاة على عاتقها في ظل عجز في الموارد المتاحة لها، ليس لها من خيار غير اللجوء إلى معيار النضج، أي انتقاء النزاعات التي تبدي إمكانيات للتسوية. سيحسن ذلك من أداء الأمم المتحدة وسيحُول في نفس الوقت دون تبديد غير مجد للموارد، في حين تُنَاطُ مهمة التدخل في النزاعات المستعصية التي وقع أطرافها في “المصيدة” إلى الأطراف الثالثة التي تملك من الموارد ما يسمح لها باستخدام الرافعة. بينما النزاعات التي تشهد مساعي وساطة وصنع السلام على المسالك الثلاثة للدبلوماسية فيجدر أن تحسن من التنسيق فيما بينها لإنجاح المرحلة التمهيدية التي تسبق الوساطة، والكفيلة بإبراز فرص جذابة متبادلة من وراء الحسم التفاوضي والتسوية الاتفاقية.

بقلم الباحث عـادل زقــاغ

حل النزاعات الدولية ومسألة التوقيت المناسب مراجعة لنظرية لحظة النضج

عادل زقاغ

مجلة العلوم الاجتماعية والانسانية، جامعة باتنة 1
العدد 18، 2008

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button