دراسات سياسية

قراءة في مفهوم ﺍﻟﺘﺤﻮﻝ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻲ

لقد شكّلت قضيّة التحول الدّيمقراطي أو ما يعرف ب”الدمقرطة”، مبحثاً أساسياً هاماً في علم السّياسة منذ النّصف الثّاني من سبعينيات القرن العشرين. وعلى أثر هذا الدّفع باتجاه الديمقراطية ظهرت دراسات وكتب وبحوث، صبّت جلّ اهتمامها بهذه العمليّة فتناولتها بمختلف جوانبها، بدءاً بالأسباب الدّاعية لهذا التّحول، مروراً بطرق التحوّل، وانتهاءاً بطبيعة النّظم السّياسيّة بعد حدوث هذا التّحول. وجاءت هذه الدّراسات بالتزامن مع ما سمي ب “الموجة الثّالثة للتحوّل الدّيمقراطي”، والّتي انطلقت منذ منتصف سبعينات القرن العشرين من (إسبانيا، اليونان، البرتغال) ثم امتدت خلال عقدي الثّمانينات والتّسعينات لتشمل العديد من بلدان أميركا اللاتينيّة وآسيا وافريقيا وشرق وسط أوروبا.

وكون هذه القضيّة قد احتلّت أولويّة في النّظم السّياسيّة العالميّة لابدّ لنا من تسليط الضّوء على مفهوم التّحول الدّيمقراطي، فماذا يعني هذا المفهوم؟، وماهي الطرق التي من خلالها يتم التحول إليه؟، ولماذا تتباين وجهات النظر إزاءه؟. هذا ما سنتناوله في مقالنا هذا. إن عملية التحوّل الديمقراطي من الناحية النظرية هي عمليّة الإنتقال من النّظم التّسلطيّة إلى أخرى غير تسلطيّة أو تعدّديّة، والتّخلص من نظم الهيمنة نحو صيغ أكثر ديمقراطيّة في الحكم يكون عمادها مبدأ المساواة بين المواطنين ومشاركتهم الحرة في الحياة العامة، وتوسيع هامش الحريّة واحترام حقوق الإنسان. أما من الناحية العملية، فيمكننا دراسة التحوّل الديمقراطي من النّاحية العمليّة من خلال مجموعة من المؤشّرات الهامة تساهم في قياس درجة هذا التحوّل. فتعرّف هذه الظاهرة من خلال الاتجاه العملي على أنّها تراجع نظم الحكم غير الديمقراطية لتحلّ محلّها نظم حكم ديمقراطيّة، وتعتمد على ثلاث مبادئ أساسيّة يمثل توافرها المعيار الأساسي لقياس مستوى التحوّل وهي:

– مبدأ الحريّة التنظيميّة والفكريّة: يشمل ذلك حقّ التنظيم الحزبي ،وحرية التعبير، والتعددية السياسية.

– مبدأ التّداول السّلمي للسلطة: طبقاً لقواعد قانونيّة وإجرائية معروفة، ومحدّدة بما في ذلك حق الأغلبية في تسلّم مسؤولية الحكم من خلال الإنتخابات العامة الحرة النزيهة والمباشرة، ومنع احتكار السلطة من قبل شخص أو جماعة.

– ومبدأ المساواة: الذي يتضمّن المساواة وتكافؤ الفرص أمام الجّميع، ويجعل من القانون الصّادر عن السّلطة التشريعيّة المنتخبة هي المرجع الرئيس في التعامل بين جميع أفراد الشّعب فيما بينهم.

فإنّ تطبيق هذه المبادىء، إضافة إلى مبادىء أخرى مثل: احترام حقوق الانسان، وحرية الصحافة، وسيادة القانون، كلها تشكل في مجملها المؤشرات الرّئيسة على وجود التّحول الدّيمقراطي.

أما عن مراحل التحول الديمقراطي: يتّفق الباحثون على أنّ عمليّة التحول عمليّة متعددة المراحل إذ تمرّ بثلاث مراحل أساسية هي تنقسم حسب الترتيب زمنيا لها :

– مرحلة ماقبل التحول: تتميز بمجابهة النظام السلطوي والتصدي له وحدوث نزاعات واضطرابات بين من يسعى للتحول والنخبة الحاكمة الرافضة له. – مرحلة الانهيار: تتضمن مرحلة انهيار النظام السلطوي وتفكك مؤسساته وظهور نظام ديمقراطي جديد وإرساء قواعد قانونية ونظام سياسي جديد، تنتهي هذه المرحلة مع ظهور أول انتخابات.

– مرحلة التماسك الديمقراطي: التي يحدث فيها حالة من التناغم والتماسك بين مختلف مؤسسات الاجتماعية والسياسية في الدولة. وعليه، إنّ عمليّة التحول والإنتقال إلى نظام حكم ديمقراطيّ وترسيخه على النّحو الّذي يضمن استمراريّته واستقراره، هي غالباً ما تكون عمليّة معقّدة وتستغرق فترة زمنية طويلة نسبياً، ولذلك فإنّ مجرّد الإنتقال من نظام حكم غير ديمقراطي لا تعنى بالضّرورة قيام نظام ديمقراطي راسخ ومستقر، حيث أن ذلك له شروط ومتطلّبات عديدة لابدّ من توافرها مثل: التعددية السياسية، والتداول السلمى للسلطة، والفصل بين السلطات مع تحقيق التوازن فيما بينها استنادا إلى مرجعية دستورية واضحة ومستقرة، وقدرة الحكومة المنتخبة على ممارسة السلطة والحكم، وسيادة حكم القانون، وفاعلية مؤسسات وإجراءات الشفافية والمساءلة، ووجود مجتمع مدنى فاعل ومستقل، وكفالة الحقوق السياسية والحريات المدنية لجميع المواطنين على قاعدة المواطنة المتساوية، وتعدد مصادر المعلومات مع حرية الوصول إليها.

أما عن طرق التحول الديمقراطي أو اتجاهات التحول الديمقراطي فيقسم لأربع أنواع وهي: – التحول من الأعلى: ويتم من داخل النظام القائم، وعادة ما يبدأ عندما تتوفر عوامل وأسباب موضوعية تؤثر سلباً على شرعية السلطة، وتخلق لدى النخبة الحاكمة قناعة مفادها أن كلفة الانفتاح والتحول الديمقراطي أقل من كلفة الاستمرار في الممارسات التسلطية.

– التحول من الأسفل: هو التحول الذي يقوده الشعب متمثلاً باحتجاجات مطالبة بالتغيير وكسر قيود التسلط واحتكار السلطة. – التحول من خلال التفاوض بين النخبة الحاكمة وقوى الشعب: يحدث نتيجة اتفاق أو تعاقد ناجم عن المفاوضات بين النخبة الحاكمة وقوى المعارضة، وغالباً ما يأتى ذلك كمحصلة لوجود نوع من التوازن النسبي في ميزان القوى بين الطرفين، فالنخبة الحاكمة تصل إلى قناعة مفادها أنها غير قادرة على الاستمرار في السياسات المغلقة والممارسات القمعية بسبب الضغوط الداخلية والخارجية، وأن كلفة الانفتاح السياسي أقل من كلفة الاستمرار في السياسات غير الديمقراطية.

– التحول من خلال التدخل العسكري: غالبا ما ارتبط هذا النمط من الانتقال بحروب وصراعات، تؤثر فيها وتحكمها مصالح وتوازنات داخلية وإقليمية ودولية. وهو يحدث في حالة رفض النظام الحاكم للتغيير، وعدم بروز جناح إصلاحي داخله، وعجز قوى المعارضة عن تحديه وإطاحته بسبب ضعفها وهشاشتها.

أصبح مجال التحول الديمقراطى تخصصا محددا داخل مجال العلوم السياسية، وقد شهد خلال العقود الثلاثة الماضية ثراء نظريا وتطبيقيا كبيرا، وبعد مفهوم عفى عليه الزمن عن «الاستثناء العربى» دخلت هذه المنطقة منذ 2011، وما يسمى الربيع العربى هذا المجال، فى الممارسة السياسية فيما يتعلق بتحديات مرحلة الإنتقال، وكذلك فى التحليل العلمى من إجترار المفاهيم الأساسية ومحاولة تطبيقها فى الإطار العربى – الوافد الجديد على هذه التجربة.

تنقسم هذه المقالة- الرؤية إلى خمس أقسام تتناول: مركزية هذا المجال الحديث نسبيا، وماهية الاستثناء العربى وتقييم أسسه، ثم غياب الرؤية الشاملة فى محاولة معالجة التحول الديمقراطى، ممارسة وبحثا، واقتراح مفهوم intermesticsلمعالجة هذا النقص ، ثم تطبيقه فى الجزء الخامس -وهو الأطول – على «الربيع العربى» فى الحالة المصرية.

1ـ تدفق التحول الديمقراطى سياسيا وبحثيا:

فى الثلاثين عاما الأخيرة قليل جدا من مجالات التحليل السياسى التى حظيت بمثل هذا الاهتمام العلمى -النظرى والتطبيقى- مثل موضوع التحول الديمقراطى. ومؤشرى على هذا الاهتمام هو عدد الدراسات والأبحاث المنشورة ، وكذلك ورش العمل والموائد المستديرة فى المؤتمرات الدولية للجمعية الأمريكية للعلوم السياسية AmericanPoliticalScienceAssociation، وما يماثلها فى أوروبا وحتى فى دول الجنوب العالمى، أصبح مجال التحول الديمقراطي تخصصا بحد ذاته فى داخل الحقول العلمية، مثل العلوم السياسية بالطبع ولكن أيضا فى علم الاجتماع، وحتى فى بعض الدراسات الاقتصادية، أصبح مجالاِ يتخصص فيه طلبة الدراسات العليا وتكون له دوريات علمية خاصة به، مثل مجلة الديمقراطية هنا فى الأهرام، ويقترب الآن من مجالات التخصص الأخرى مثل الدراسات الاستراتيجية، والاقتصاد السياسى، ودراسات التنمية .

2 – استثناء عربى ؟

دخلت المنطقة العربية هذا المجال متأخرة بعض الشئ ، أساسا بسبب ما يطلق عليه «الاستثناء العربى»، أى باختصار شديد عدم وجود تجارب عربية كجزء مما أسماه هنتنجتون «موجات التحول الديمقراطى » ، والذى تتبع ظهورها منذ القرن التاسع عشر فى أوروبا الغربية ثم فى القرن العشرين فى أمريكا اللاتينية، جنوب أوروبا (إسبانيا، البرتغال، اليونان)، ثم شرق أوروبا مع نهاية الحرب الباردة. وفى الواقع فإن هذا الاستثناء العربى قد يكون أكثر حضورا فى كتابات هنتنجتون ، إيلى خدورى، أو برنارد لويس أكثر منه فى الممارسة العربية نفسها، بل إن أحد أعمدة دراسات الديمقراطية ArendLijphart» -أرند ليبهارت ، الأمريكى ذا الأصل الهولندى، والذى قضى معظم حياته العلمية فى جامعة ييل- أسس مراجعته لنظرية الديمقراطية الغربية تجاه نظرية الديمقراطية التوافقية ConsociationalDemocracyبناء على حالة بلد عربى هو لبنان. كما أن الأدبيات العربية نفسها بدأت برصد ظاهرة التحول الديمقراطى ومحاولات تحليلها كما يتبين ذلك من تحليل مضمون التقرير الاستراتيجى العربى، الصادر عن مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، وكذلك مجلة المستقبل العربى الصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية فى بيروت. وفى الواقع فإنه تم الإعداد بواسطة هذا المركز لمؤتمر كبير فى بداية عقد الثمانينيات ، ولكن تعذر وجود عاصمة عربية تقبل بعقد هذا المؤتمر على أراضيها، وفى النهاية اضطر المشاركون للذهاب إلى قبرص، ولكن تم نشر كتابهم فى مجلد ضخم فى عام 1984.

الموضوع إذا ليس بالجديد تماما حتى فى الأدبيات العربية، ومع ذلك ما يحدث حاليا منذ أحداث «الربيع العربى» فى 2011 يختلف إلى حد كبير ، كميا فى عدد هذه الدراسات، وكيفيا كذلك فى محتواها والمنهجيات المتبعة، عربيا وعالميا. فالأدبيات العربية أصبحت أكثر دراية بالبعد النظرى والمنهجى فى دراسة عمليات التحول الديمقراطى . كما أن الأدبيات العالمية حول هذا الموضوع بدأت التركيز على الواقع العربى بعض الشئ بدلا من الاستمرار فى ممارسة «الاستثناء العربى» وقبول مقولات «ثقافية » cultural ، لم يتم إثباتها بالمرة، بل وحتى عفى عليها الزمن ، وكمؤشر بسيط ومن تجربة شخصية على هذا التحول فى الأبحاث العالمية أننا هنا حاولنا فى العقد الماضى دعوة بعض أعمدة مجال التحول الديمقراطى مثل ألفريد ستيبان AlfredStepanأو فيليب شميتر PhilippeSchmitter، وحتى لم نتلق ردا فى بعض الأحيان ، بينما منذ عام 2012 جاء إلينا شميتر – بمبادرة منه- مرتين!

3ـ التراكم العلمى: ما الغائب؟

هناك إذاً حاليا تراكم بحثى كبير -عالميا وكذلك عربيا -فى هذا المجال، سواء من ناحية الدراسات الميدانية أو تطوير المفاهيم الأساسية والمنهجيات المستخدمة، ولكن ما يبقى مهمشا بعض الشئ مثلا -باستثناء عمل مثل رسالة الباحث المصرى د. جمال سليم -هو «تأثير العامل الخارجى» فى عمليات التحول الديمقراطى، على أساس أن هذا شأن داخلى بحت، وقد يبدو هذا مبررا ظاهريا على الأقل . ألم نر أن شعارات الشارع أثناء هذا الربيع العربى لم تتضمن التنديد التقليدى بالاستعمار الأمريكى أو الاحتلال الإسرائيلى، بل ركزت على «خبز، حرية وعدالة اجتماعية » وإدانة الفساد والسلطوية السياسية؟ التعامل مع «التأثير الخارجى» فى عملية التحول الديمقراطى قد يبدو إذا مصطنعا ومفروضا.

هذا التوجه هو فى الواقع استمرار لتقليد فكرى راسخ وحتى ممارسة من جانب بعض الحكام تحت مسمى «السيادة الوطنية » . أكبر المدافعين عن هذا الفصل بين «الداخلى » و«الخارجى» هى نظرية الواقعية “«Realismفى العلاقات الدولية، وهو طبقا لهذه المدرسة ليس فصلا تحليليا ولكن تقر به وتؤسس عليه كحقيقة وكواقع ، وتعتبره ستارا حديديا بين هذين المجالين فى عمل الدولة، حيث تبدأ السياسة الخارجية حيث تنتهى السياسة الداخلية ، والعكس أيضا.

طبقا لهذا المنظور فإن حدود الدولة هى ليست نقاط تماس مع الدول الأخرى ، ولكن ستار حديدى. بل وقطيعة، وحتى عندما قام كينيث والتز KennethWaltzبتطوير هذه المدرسة الواقعية نحو الواقعية الجديدة فى نهاية السبعينيات ، وفعلا أضاف إليها من الناحية النظرية والمنهجية ، فإنه لم يغير من هذا الفصل القطعى بين «الداخلى » و«الخارجى» بل فى الواقع أكد على وجوده باعتبار أن الدولة كائن صلب، مغلق على نفسه ، قادر على إقامة حدود كستار حديدى، حيث تكون له السيطرة فى الواقع والممارسة هذا هو موقف مستمر متواصل فى هذه المدرسة الواقعية، ولم تستطع مدرسة الاعتماد المتبادل منذ السبعينيات ثم تزايد تأثير العولمة دفع مؤيدى مدرسة الواقعية إلى تغيير موقفهم، ولذلك يبدو أن أخذ العامل الخارجى فى الحسبان لا يزال غير مقبول .

4 – رؤية مغايرة: Intermestics

ويبدو أن رئيسة التحرير تنبهت إلى هذا النقص فى الدراسات عن التحول الديمقراطى فدعتنى مشكورة لمعالجة هذا التداخل والتشابك العضوى بين الداخل والخارج فى هذا المجال ، على أساس أنى استخدمت هذا التعبير فى مشروع مع جامعة أكسفورد عن العلاقات الدولية فى الشرق الأوسط ، وذلك منذ عشر سنوات تقريبا، ونشرت طبعته الأولى فى عام 2005 وستظهر طبعته الرابعة العام القادم.

وهذا التعبير المهجن Intermestics،يجمع الحروف الأولى من كلمة internationalأى دولى مع الحروف الخمس الأخيرة من Domesticsأى داخلى أو محلى، وقصدت باستعماله التأكيد فى تحليل العلاقات الدولية فى المنطقة العربية والجنوب العالمى عموما على أهمية التشابك العضوى بين ما نسميه «داخلى» و«خارجى» تشابك عضوى يتعدى ما تم إستعمال التعبير عند إطلاقه من جانب الباحث السنغفورى وعميد كلية الحقوق «بايلس ماننج» للتركيز على مشكلة أو موضوع معين. هو توجه عام فى دراسة العلاقات الدولية فى الجنوب العالمى لا نستطيع فهم هذه العلاقات دون استخدامه. وهو تطوير لما أسماه جميس روزناو فى السبعينيات linkagepoliticsأى الارتباط بين بعض المشاكل الداخلية والخارجية، كما هو الحال فى تحليل الصراعات، ولكن يذهب مفهوم Intermesticsأيضا أكثر من ذلك لتبيان أهمية هذا الربط -بل الترابط- بطريقة هيكلية وكإطار فكرى ورؤية للعلاقات الدولية لهذه المنطقة، على أساس أن عملية الاختراق هى دائمة وعلى مستويات عدة : اقتصادية سياسية، إعلامية وثقافية. وفى مواجهة مدرسة الواقعية السياسية ، إعتمدت أكثر على مدرسة «البنائية الاجتماعية» SocialConstructivismالتى تؤكد على أهمية «القيم » وكذلك «الهوية» فى دراسة العلاقات الدولية، ثم جاء تعبير مهجن آخر ليؤكد نفس الرسالة من التشابك العضوى بين «الداخل» و«الخارج» وهو تعبير مستوحى من زيادة وتيرة العولمة مع مقاومة «المحلى» وهذا التعبير المهجن الآخر هو Glocalization أى الترابط العضوى بين ماهو محلى localizationو عولمى Globalization.

وقد تكون هذه المفاهيم المهجنة غير مألوفة، وحتى لغويا غير مستساغة ، ولكنها تبين أهمية التركيز على واقع جديد تزداد وتيرة تأثيره رغم سيولته وعدم رؤيته بوضوح، وبالتالى وجب لفت النظر إليه، بل حتى تبيان أهميته.

5 – Intermesticsوالربيع العربى:

عودة إلى أحداث «الربيع العربى» ولنرى عما إذا كان مفهوم intermeticsيعطينا شيئا جديدا فى النظر إلى هذه الظاهرة أى عما إذا كان هناك إضافة حقيقية فعلا. وللإجابة على هذا التساؤل ، أركز على ثلاث نتائج يساعدنا هذا المفهوم على رؤيتها بدلا من إغفالها: تداول الأفكار وهديرها ، العنصر التونسى فى الربيع المصرى، وأخيرا أهمية العنصر المالى الخارجى فى الوضع المصرى الحالى. وبالرغم من أهمية هذه الأمثلة / البنود الثلاث، إلا أنها تقتصر على التأثير «الخارجى» على «الداخل»، أى outside-in، فى حين أن المعنى المراد من Intermestics المستعمل هنا هو أيضا تأثير «الداخل » على «الخارج» أى inside-outمثل ما يحدث من داعش مثلا حاليا، ومن القاعدة قبل ذلك أو تأثير الوضع الليبى أو الإيرانى على الإمدادات البترولية ولكن ضيق المساحة تسمح لى بالتركيز على جانب واحد .

أ- هدير الأفكار وتداولها :

بالرغم من أن المدرسة الحديثة نسبيا فى العلاقات الدولية -البنائية الاجتماعية social constructivism أكدت أهمية انتشار المعايير والقيم الدولية وتأثيرها فى السلوك الخارجى للدول وجماعات المجتمع المدنى، إلا أن عامل الأفكار ليس بالجديد. فالكلام كثير وتم إثباته فيما يتعلق مثلا بتأثير الثورة الفرنسية منذ أكثر من قرنين وشعاراتها فى الحرية والمساواة والعدالة والإخاء، كما أن نظريات التحديثModernizationونقيضتها نظرية التبعية إختلفا فى الكثير جدا ولكنهما إتفقا على تأثير الأفكار الواردة من الخارج، وكتاب أحد أعمدة الفكر الثورى ضد الاستعمار- فرانز فانو Fanon، القادم من جزيرة الكاريبى، ولكنه انخرط فى صفوف الثورة الجزائرية ليصبح أول سفير لهذه الدولة فى غانا -تكلم باستفاضة عن هؤلاء ذوى البشرة ا لسمراء، ولكنهم فى أفكارهم وسلوكياتهم مثل البيض.

ماذا تغير منذ هذه المناقشات حول تداول أفكار نظريات التحديث أو اختراق الأفكار وتبنيها كما تقول نظرية التبعية وكتابات فانو منذ أكثر من 50 عاما؟ ومع وتيرة العولمة المتسارعة وانتشار تكنولوجيا الاتصال Communicationtechnologyووسائل التواصل الاجتماعى الجديدةNewSocialMedia لم يكن هناك نتيجة أخرى غير زيادة تأثير الأفكار «الخارجية» «داخل» المجتمعات حتى أكثرها انغلاقا، فقد انتهت الحرب الباردة نفسها وتحطم حائط برلين المنيع ليس عن طريق غزو الجيوش بين الشرق والغرب مع الانتحار المؤكد عن طريق تصادم نووى، ولكن إنتهت هذه الحرب بواسطة تداول الأفكار وسرعتها التى لم تستطع الكتل السياسية المغلقة تجنبها.

وبالنسبة لموضوعنا عن التحول الديمقراطى والجدال الدائر حول توجهاته وتحدياته، فإن أهم الاستخلاصات التى يتفق عليها الجميع هو رواج هذه الظاهرة ليس عدديا فحسب، بل أيضا سرعة وتيرتها، وكذلك سهولة القبول بها فى معظم نظم الحكم من أمريكا اللاتينية إلى جنوب وشرق أوروبا، ثم تلحق المنطقة العربية بهذا الركب العالمى، رغم بعض التباطؤ والتحديات وحتى الإنتكاسات.

التقارير السنوية لأهم بنوك البيانات فى هذا الصدد مثل فريدم هاوس FreedomHouse،لا تترك مجالا للشك فيما يتعلق بزيادة عدد الدول التى تصارع الحكم السلطوى لتبدأ العملية الطويلة والعثرة فى التحول الديمقراطى .

كما إن أحد أهم التحديات التى تواجه عملية الديمقراطى هذه، هى أيضا وليدة تداول الأفكار وكذلك سرعتها المتناهية حاليا، وأقصد بهذا التحدى الفجوة التى تتعرض لها عملية التحول فى بدايتها :الفجوة الناتجة عن ثورة التوقعات والتزايد اللانهائى للمطالب بعد طول انتظار لأن الصبر نفد، فى الوقت الذى يعانى فيه النظام الجديد من مخاض الولادة، وإيجاد الوسيلة اللازمة لتجميع القوى السياسية المتناحرة ، فثورة التوقعات هذه، والمطالبة بإشباع المطالب السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتراكمة فى أقصر وقت ممكن إن لم يكن فورا هى أساسا بالمقارنة بالآخرين ، ما يراه الفرد فى المجتمعات الأخرى، وكيف تحصل هذه الجماعات فى «الدول الأجنبية » على مستحقاتها أو كيف تطورت على مر السنين .

ب- العنصر التونسى فى الربيع المصرى :

قد يبدو هذا العنوان الفرعى غريبا بعض الشئ ، لأننا نتكلم عادة عن عامل أمريكى، أو أوربى، بينما ليست تونس بالدولة الكبرى أو حتى من الدول المؤثرة والفاعلة فى النظام العربى . المقصود بالطبع هو تأثير الانتفاضة التونسية الشعبية إثر إضرام الشاب التونسى العاطل النار فى نفسه لمحاولة البحث عن الرزق عن طريق أن يكون بائعا جوالا،ومنعه من ذلك،ثم إهانة كرامته وإذلاله بواسطة البوليس. لقد كان الإقدام من شاب على حرق نفسه، كاشفا للكثير من عورات النظام السياسى السلطوى ليس فى تونس وحدها، ولكن أيضا فى الكثير من النظم السلطوية أصبح هذا الحدث الفردى ليس فقط شرارة لإطلاق هدير الاحتجاجات، ولكن رمزيته ونتائجه امتدت لتطلق ما يعرف الآن «الربيع العربى». أصبح إحراق هذا الشاب العاطل النار فى نفسه مرادفا لما يسميه الاقتصاديون DemonstrationEffectأى دافع التقليد والانتشار .

يعترف وائل غنيم فى كتابه عن الثورة بأن الدعوة للتجمع والاحتجاج فى يوم الشرطة 25 يناير 2011 كان يشوبها التردد والخوف من الفشل وحتى الشعور باليأس والإحباط لأن مثل هذه التجمعات الشبابية لم تستطع فى السنوات الماضية تعبئة إلا الأعداد القليلة جدا، وانتهت بطريقة مهينة تلقى بظلال شك كثيرة على قدرة الشباب فى التعبئة والحشد. صحيح نعرف أن وائل غنيم كان رئيسا لتجمع جديد» كلنا خالد سعيد» هذا الشاب الإسكندرانى الذى قبض عليه البوليس وعذبه حتى الموت، ثم إدعى أنه مات بسبب تعاطيه كميات كبيرة من المخدرات. ومع ذلك كانت القيادات الشبابية متوجسة من الفشل.

نعرف الآن أن ماحدث يوم 25 يناير 2011 جاء بنتائج مختلفة : تدفقت الأعداد الرهيبة من المحتجين فى مدن مصر الكبرى من الإسكندرية إلى القاهرة إلى بعض مدن الريف المصرى. نعم شهدت مصر فى السنوات السابقة عددا من الاحتجاجات بين عمال المحلة الكبرى ، موظفى الضرائب العقارية، وظهور منظمات معارضة خارج الأحزاب السياسية، مثل الجمعية الوطنية للتغيير، ومجموعة كفاية، ولكن لم تستطع هذه الجماعات أن تصل بالاحتجاجات لتعم مدن مصر الكبرى كما حدث إثر 25 يناير .2011 كان هدير الجماهير الاحتجاجية هذه المرة عاما وجارفا . ومن هنا أهمية المثل التونسى .

تكمن هذه الأهمية التى جاءت من بلد صغير نسبيا فى أنها أوضحت قدرة الجماهير فى بلد عربى سلطوى على الاحتجاج والحشد، أى أن الجماهير العربية قادرة على التعبئة من أجل التغيير، وأنه ليس هناك «استثناء عربى» فى هذا الصدد. ولكن المثل التونسى أظهر أكثر من ذلك على عكس مقولة الديمومة السلطوية authoritariandurability أظهر هشاشة النظام السلطوى نفسه ، رغم اعتماده على جهاز أمنى يقوم بقمع منظم، وتزييف الإعلام ، وإنشاء قواعد اجتماعية له تقوم على الزبائنية وتبادل المنفعة. كانت عدة أيام كافية لكى ينهار هذا النظام السلطوى وأن يضطر زين العابدين بنعلى وزوجته للهروب السريع على متن طائرة عسكرية.

وبالرغم من بعض الكتابات الصحفية آنذاك من الموالين لنظام مبارك بأن مصر ليست تونس ، فإن المثل التونسى أرسل رسالة هامة إلى شباب المحتجين مفادها أن النظام السلطوى ليس من القوة التى يدعيها أو يحاول إظهارها ، وأن جماعات المحتجين -إذا توحدت وأصرت- تصبح طوفانا هادرا تكون له الغلبة، وتكسر فى النهاية ذراع النظام السلطوى وركيزته الأمنية .

هذا هو فى الواقع ما حدث فى مصر بدءا من يوم الخميس 27 يناير 2011 فى المساء، خاصة يوم الجمعة 28 يناير. وكما يشهد عبد اللطيف المناوى -رئيس قطاع الأخبار السابق فى التليفزيون المصرى -أنه فى تجواله فى القاهرة ، فإنه لم ير فى قوات الأمن إلا جماعات منفصلة عن قياداتها، أشبه بالفلول التى وصل بها الإنهاك مداه على مدى ثلاث أيام من القتال فى الشارع أمام جماهير المحتجين المتزايدة ، عددا وإصرارا.بل إن الداخلية اعتذرت عن توفير بعض قوات الأمن لحماية سيارات التليفزيون ومراسلى الإذاعة لتغطية الأحداث، وهو ما أثبت للمناوى عجز وإنهيار القيادات الأمنية وضعفها المتزايد أمام جماهير المحتجين . المثل التونسى إذاً أصبح رمزا عاما لهشاشة النظام السلطوى، وهو ما يعطى الأمل بأن مسيرة الاحتجاج الشعبى تستطيع إحراز النتائج المطلوبة فى سقوط النظام القمعى، وهو ماحدث فى مصر بإعلان مبارك تنحيه عن الحكم فى 11 فبراير2011.

ج – العنصر المالى الخارجى :

بالرغم من أهمية العنصر السياسى فى «الربيع العربى» إلا أن الجماهير الغفيرة كانت تحركها أيضا ما قد نسميه المشاكل الاقتصادية ، خاصة البطالة المتزايدة والمتراكمة بين شباب الخرجين، فى وقت يزداد فيه التفاوت فى الدخول وتزايد كل من عدد الفقراء وعدد الأغنياء والهوة بينهما، وكان إحدى عوامل هذا التفاوت التعاون والصفقات المشتركة بين بعض أعمدة الحكم وحلفائهم من رجال الأعمال أو مايطلق عليه حاليا فى الاقتصاد السياسى رأسمالية المحاسيب، cronycapitalism.

بالنسبة لكبرى المدارس الماركسية، فإن العامل الأساسى فى قيام الثورات ثم بناء المجتمعات هو الاقتصاد، وحتى إذا تحفظنا على هذا الإخترال، فإن تجارب التاريخ القديم والحديث تبين فعلا أن العامل الاقتصادى كان حاسما فى توجه السياسات والمجتمعات من التدخل فى لصالح مجموعة دون أخرى أو حتى شراء دعم من هم فى الحكم ونستطيع أن نقول أن عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى انتهاء الحرب الباردة قد تشكل إلى حد كبير بإسهام ضخم من العامل الاقتصادى . وكانت البداية مع مشروع مارشال الأمريكى فى أربعينات القرن الماضى، والذى قام على خطة محكمة لتحييد التغلغل الشيوعى فى دول أوروبا الغربية، وإثبات أن «الطريق الرأسمالى للتنمية» هو الأفضل، واستمر هذا التخطيط المالى والفكرى من جانب واشنطن حتى استطاعت معظم دول أوروبا الغربية الوقوف على قدميها ومواجهة «النموذج الشيوعى »، وفى الواقع منافسة الولايات المتحدة اقتصاديا فيما بعد.

نعرف أيضا تأثير المنظمات الاقتصادية العالمية، وتطوير مفهوم الشروطية «والحوكمة الرشيدة» فيما عرف فيما بعد بإسم «توافق واشنطن» إشارة إلى التوافق بين البنك الدولى، صندوق النقد الدولى )ومقرهما واشنطن( وسياسات الرئيس الأمريكى فى الثمانينات ، رونالد ريجان.

وفى هذا السياق العالمى، كان على نظام الحكم الجديد فى مصر مواجهة المطالب الاقتصادية التى يطالب المحتجون بتحقيقها فورا . وبدأت المفاوضات فى ربيع عام 2011 مع صندوق النقد الدولى، ولكن هذه المفاوضات تعثرت وبسرعة ، أساسا بسبب الشروط العويصة التى يفرضها صندوق «النكد » الدولى، والتى لم يكن من السهل تطبيقها بالمرة فى السياق السياسى والاجتماعى بعد الثورة، خاصة فى سياق داخلى يتسم بتفتت أجهزة القرار، وعدم الاستعداد لاتخاذ قرارات تزيد من فوضى الشارع المصرى أنذاك.

فأصبح البديل لمواجهة الأزمة الاقتصادية هو تدفق «المال الخليجى » الذى كانت مشروطيته أسهل بكثير من التعامل مع صندوق «النكد » الدولى، والذى تستطيع مصر فى إطاره استخدام أكبر لما يسمى رأس المال التفاوضى ، أى مزايا مصر من حجم كبير ومكانه إقليمية قد تحدد توجه المنطقة بأسرها فى اتجاهدون آخر . كانت البداية المعلنة لهذا المال الخليجى هو مايقرب من 5 مليارات دولار من قطر فى صورة منح وودائع وقروض ميسرة، ولكن مع عزل الرئيس المصرى السابق مرسى توترت العلاقات مع قطر، وتوقفت مدفوعاتها، بل المطالبة برد جزء من معوناتها. ولكن هذه القطيعة مع قطر لم توقف المالى الخليجى ، حيث قامت السعودية والإم ارات،وكذلك الكويت بمبادرة لملأ الفراغ الاقتصادى الخارجى، والإعلان عن تدفق مالى يزيد على 15 مليار دولار على مدى السنوات الخمس القادمة، بل هناك توجه معلن لتطوير هذا التدفق المالى الخليجى ناحية مشروعات معينة مثل بناء المدارس، والإسكان أو حتى تطوير البنية التحتية، أى مشروعات ذات بعد اجتماعى. ولذلك قد يصبح هذا المال الخليجى إذا إستمر على نفس المنوال أحد العوامل الرئيسية التى ستشكل مسيرة «الربيع العربى»، ليس فى مصر وحدها، ولكن أيضا على امتداد المنطقة العربية وما بعدها.

المصادر: -د.حسنين توفيق إبراهيم، الانتقال الديمقراطي، مركز الجزيرة للدراسات، 2013. – د.هايل ودعان الدعجة، مفهوم التحول الديقراطي، الرأي، 2003

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى