دراسات استراتيجيةدراسات جيوسياسيةنظرية العلاقات الدولية

قراءة لكتاب رقعة الشطرنج الكبرى لزبيغنيو بريجنسكي (ملخص بسيط في 12 صفحة)

صدر الكتاب العام 1997 أي في الفترة التي اتهمت فيها الولايات المتحدة بعدم امتلاكها لرؤية استراتيجية واضحة. وبأن السياسة الأميركية تتعامل مع الأحداث العالمية بصورة تكتيكية.
تكتسب كتابات بريجنسكي مصداقيتها من كتاب سابق له صدر في العام 1986 يرى فيه أهمية استراتيجية للحزام الأوراسي من أجل احتواء روسيا والصين. وها هو يعيد التأكيد على أهمية هذا الحزام بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.
إنه يعرض وجهة نظر مخالفة للآراء السائدة لدى الجمهور (الميديا) كمثل نهاية التاريخ وصدام الحضارات وترشيحات أوروبا للعب دور البديل.
محتويات الكتاب ومحاوره وأفكاره الرئيسة:
أ- انتخاب عدو لأميركا بطريقة الصواب والخطأ.
وطريقة الصواب والخطأ تقتضي تجربة مختلف الاحتمالات لغاية مصادفة الاحتمال الصحيح. ويبدو المؤلف وكأنه يستبعد كافة الاحتمالات المطروحة دون أن يجد الاحتمال الصحيح. وإن كان يؤكد ضرورة وجوده.
فالاتحاد الأوروبي بعيد جداً عن إرساء قواعد الائتلاف الصحيحة بين أعضائه. حتى أن قراء فرضية جاك آتالي (مستقبلي فرنسي)، حول قيام الاتحاد الأوروبي كقطب بديل، يجدون في آراء بريجنسكي وتحليلاته ازدراءً ليس بـ»آتالي» وحده وإنما بكل من قبل هذه الفرضية. ولو نحن راجعنا سلوك دول الاتحاد الأوروبي أثناء حرب كوسوفو وموافقتها على تعديلات حلف الناتو لوجدنا أن المؤلف كان مدركاً لهذه النتيجة قبل سنتين من وقوعها. بل أكثر من ذلك فإن برجينسكي يرى في تعزيز السيطرة الأميركية على حلف الناتو جسراً للعبور إلى القوقاز. كونه يرفض رفضاً قاطعاً فرضية قدرة دول الناتو على تصدير الليبيرالية إلى ما وراء بحر قزوين والحزام الأوراسي.
ثم ينتقل المؤلف لبحث احتمال لعب اليابان لدور القطب البديل. فيستبعدها أيضاً لجملة أسباب منها: خلافاتها مع محيطها وحاجتها الملحة للآخرين عدا عن مشاكلها الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية وانتهاءً بمجاورتها للصين.
والصين بدورها مستبعدة من قبل المؤلف (أقله على المدى المنظور كما يقول)، وذلك لأسباب متداخلة أهمها تناقضاتها بين نظام متشدد وانفتاح اقتصادي مقنن وبين الفوارق بين سكانها على صعيد المستوى المعيشي والرفاهية ونمط الحياة اليومية. وأيضاً التناقضات الدينية والفكرية بين سكانها. مع إيلاء المؤلف الأهمية الأكبر لاعتقاده بعجز الصين عن الاحتفاظ بمعدل التنمية الراهن والذي يعتبر شرطاً ملزماً لإمكانيات تطورها وفق التزامها بخطة إنفاق عسكري ضمن الحدود الراهنة (سوف تضطر لزيادة الإنفاق العسكري لو أنها سعت للعب دور القطب البديل). ويصل إلى تشبيه الأوضاع الاقتصادية الراهنة للصين بمثيلاتها في الاتحاد السوفياتي المؤدية لانهياره. بهذا يتطرف برجينسكي في استبعاده للصين وصولاً لإيحائه بقرب انهيارها وفق النموذج الكارثي السوفياتي. ويصل الكاتب إلى أندونيسيا الغارقة في فقرها وفي تعددية أعراقها بما يكفي لاستبعادها أيضاً.
أما الهند فهي تداري فقرها وزيادتها السكانية بملكيتها للسلاح النووي. الذي يؤهلها لمجابهة الصين (أي أنها في حالة احتواء مزدوج- بحسب القاموس السياسي الأميركي وإن تجنب المؤلف استخدام هذا المصطلح). ومع ذلك فهو يرى أن من مصلحة الهند أن تبقي على علاقاتها الجيدة مع الولايات المتحدة.
ب – الحزام الأوراسي:
بعد هذه الاستبعادات المتتالية يصل المؤلف بقارئه إلى نتيجة قوامها الضعف الآسيوي الشامل. وهو إذ يستعير كناية «رقعة الشطرنج الكبرى» للقارة الآسيوية فهو يجد أنها مليئة بالبيادق مما يجعلها قابلة للانفجار على دفعات متتالية. وهو يستعير لهذه التفجيرات مصطلح «البلقنة». مؤكداً أن تناقضات الدول الـ35، التي تؤلف الحزام الأوراسي، كفيلة بتفجير سيرورة بلقنة أكثر حدة من البلقنة الأساسية.
وبمعنى آخر فإنه يكشف عن منطقة متفجرة تضم 400 مليون إنسان مهددين بالوقوع ضحايا الحروب والصراعات (تقتضي التدخل الإنساني الأميركي لإنقاذهم. إنها كوسوفات جديدة تحتاج لدورات تربوية بالأسلحة الأمريكية المتطورة -لم يقل المؤلف ذلك إلا أنه التفسير الوحيد لطرحه- وعلى غرار كوسوفو فإن التدخل الإنساني يحتاج إلى طلبات رسمية للتدخل على أن تأتي من دول المنطقة الأقوى! بما يعادل تورط هذه الدول وخضوعها لشروط الحلول الإنسانية الأمريكية). هذا ويهتم المؤلف بتحديد المنطقة الأوراسية الأهم استراتيجياً (لاحتوائها على ثروات نفطية وذهب) فيجدها تضم الدول التالية: تركيا وإيران وكازاخستان وقرغيستان وطاجكستان وأوزبكستان وأذربيجان وأرمينيا. (بالتالي فإن الصراعات التي تفتح أبواب التدخل الأمريكي يجب أن تكون في بعض هذه البلدان).
خلاصة القول إن المؤلف يركز على الفراغ الاستراتيجي الهائل في هذه المنطقة من رقعة الشطرنج الكبرى. وهي منطقة ثروات ضخمة لا يجوز إهمالها. وإن كانت من أعمال الاتحاد السوفياتي الزائل ووريثه الاتحاد الروسي المتعثر. حيث تميل روسيا تاريخياً نحو الاتجاه الامبراطوري. مما يجعل آمال الديموقراطية، خصوصاً بالمفهوم الأمريكي، مستبعدة. وبالتالي فإن على الولايات المتحدة أن تتصرف.
أهمية هذا الكلام أنه يأتي في إطار منحى فكري-استراتيجي يشكل تياراً خاصاً به. كما أنه يأتي قبل حرب كوسوفو. التي نرى فيها اليوم اختبارات متداخلة. واحد للقدرة الروسية (أصيبت بالشلل ولم تتدخل بالرغم من الضغط الشعبي الروسي. وذلك مقابل الإفراج عن قرض لروسيا من البنك الدولي مقداره 50 مليار دولار فقط- أي ما يعادل 25% من التوظيفات الأميركية في القوقاز). كما تضمنت حرب كوسوفو اختبارات لتركيا (امتنان للتدخل الأمريكي) والصين (التي أظهرت ردة فعل عنيفة على قصف سفارتها في بلغراد- لكنها قابلة للاستيعاب والاحتواء). بالإضافة إلى دول العالم الإسلامي (إصلاح طرح صدام الحضارات) والاتحاد الاوروبي (أمكن دفعه للتراجع عن بعض مواد ميثاقه لصالح تعديلات الاطلسي الاستراتيجية. وهو تعديل بالغ الضرر بمستقبل اليورو) وأخيراً إيران (التي بين اختبار كوسوفو إمكانية البدء بمحاولات احتوائها ووضعها خارج دائرة التجاذبات). وهذه النتائج مجتمعة تصب في تصورات بريجنسكي الاستراتيجية. فهل يصح بعد ذلك أن ننفي وجود استراتيجية أميركية واضحة ومحددة؟. وهل يجوز الفصل بين حرب كوسوفو وحرب تيمور والحروب الأوراسية القادمة؟. وهل لنا أن نراجع بحثاً عن الطرف المستفيد من اندلاع هذه الحروب؟.
ج- الصراع بين مدرستين:
منذ أواسط الثمانينيات توزعت وجهات النظر الاستراتيجية في أمريكا على تيارين رئيسيين هما:
1. التيار الانعزالي: ويدعو إلى العزلة الأمريكية لإجراء ثلاثة اصلاحات أساسية في النظام وهي: أ- تراجع الحصة الأمريكية من الناتج الاقتصادي العالمي. وتنامي حصص اليابان وأوروبا الغربية والدول الصناعية الحديثة من هذا الناتج. ب- تراجع النفوذ السياسي الأمريكي كنتيجة لتراجع النفوذ الاقتصادي. ج- عدم جواز الاستمرار في الإنفاق العسكري لأن اقتران هذا الإنفاق مع التراجع الاقتصادي إنما يعني بداية النهاية للولايات المتحدة.
2. التيار الدولي: القائل بأن الحفاظ على الدور الأمريكي القيادي للعالم الحر يقتضي تقديم هذه التضحيات الاقتصادية. شرط قدرتها على التجدد والتطور بما يحفظ لها القيادة والنجاح في اختباراتها. فإذا ما حصل ذلك فإن هذه السلطة تعوض الاقتصاد.
وكسب التيار الدولي معركته تدريجياً. إذ انهار الاتحاد السوفياتي وبرزت الولايات المتحدة كقطب عالمي أوحد ثبت نجاحه في اختبار القوة. ثم فاز هذا التيار بالضربة القاضية العام 1998 عندما بدأ الاقتصاد الأمريكي بتحقيق الفوائض للمرة الأولى منذ العام 1956. وها هو مشروع بريجنسكي لبلقنة الحزام الأوراسي يعد الاقتصاد الأمريكي بأرباح خيالية وبحصة غير مسبوقة للولايات المتحدة في الناتج الاقتصادي العالمي.
لكن هذا كله لا يعني البتة إهمال التيار الانعزالي والتنكر له. فقد أثبت هذا التيار صدقيته عندما عجزت الولايات المتحدة عن الموافقة على الإنزال البري في كوسوفو. وهو عجز احرجها كونه يعكس انعزالية المواطن الأمريكي المقترنة مع رغبته الملحة في الرخاء. وعلى هذا الأساس رأينا الولايات المتحدة تتجنب التدخل في مسألة تيمور الشرقية تاركة قيادة القوات فيها لأوستراليا. كما وجدناها غائبة تماماً عن الصراع في الشيشان (انسحبت منه بعدما تبين أن مخزونه النفطي أقل كثيراً من المتوقع).
ولعل المراوحة بين هذين التيارين تفسر لنا تأرجح طروحات المؤلف وتفاوتها بين الاستخفاف الظاهري بالأعداء المقترحين وبين التحذير الضمني من خطرهم واحتمالات مصادمتهم للولايات المتحدة. ولقد تجلت هذه المراوحة أكثر ما تجلت في تحليل المؤلف لموقف روسيا ومستقبلها حيث تساءل صراحة هل هي صديقة أم عدوة؟ وهل ينبغي علينا مساعدتها وإلى أية حدود؟.
د- ما لم يقله بريجنسكي:
هل يقدم مؤلف مثل بريجنسكي على تقديم عرض كامل لرؤيته الاستراتيجية في كتاب موجه للجمهور؟. وإن هو رغب في ذلك فهل هو يستطيع تجاوز الخطوط الحمراء الموضوعة له ولغيره من مالكي المعلومات غير الشعبية؟. والجواب هو لا بالطبع. فالمحظورات باتت شبه محددة وإن اختلفت باختلاف المواضيع. لذلك وانطلاقاً من المسائل المطروحة في الكتاب نجد أنه من حقنا كقراء أن نطرح جملة اسئلة تتداعى إلى الذهن في سياق متابعتنا لتحليلات بريجنسكي ولعل أهمها التالية:
1. تشكل أوستراليا استنساخاً على طريقة النعجة دوللي للولايات المتحدة. وذلك بسبب تشابه ظروف النشأة والموزاييك السكاني والمنطلقات السياسية. وهذا ما جعل الأميركيين (وفي مقدمتهم نيكسون في مذكراته) يرون أوستراليا نسخة عنهم باقية بعد زوالهم. ومرشحة لخلافتهم. وتأكد ذلك في العام 1999 عندما دعيت أوستراليا للانضمام إلى حلف الاطلسي. وعندما عهد إليها بقيادة القوات الدولية في تيمور الشرقية والبقية تأتي. وهنا يطرح السؤال: لماذا تجاهل المؤلف أوستراليا كبديل للولايات المتحدة مع أنها بديل غير عدواني؟.
2. المؤلف بولوني الأصل وهو على إطلاع معمق على دور الفاتيكان في مساعدة بولندا الكاثوليكية على تحسين مستوى معيشتها أثناء الحكم الشيوعي. ومن ثم لاحقاً على دوره في إخراجها من الشيوعية ومساعدتها على التكامل في المجتمع الاوروبي الغربي. عدا التسهيلات التي أمنتها الكنيسة للمهاجرين البولون في أنحاء العالم. وعليه فإن الاتحاد الأوروبي المتعثر لا يتعارض مع وجود تجمع كاثوليكي أوروبي قابل للتعولم وقادر على لعب دور مؤثر في السياسة العالمية. والأميركية الداخلية أيضاً فلماذا هذا التجاهل؟.
3. إن ما يخيف الولايات المتحدة من الصين هو انبعاث قوميتها وليس نظامها الاشتراكي الحالي. فلماذا تجاهل المؤلف امكانية تحويل هذا النظام في الاتجاه القومي؟. وهو تحول كان نيكسون قد حذر منه في مذكراته معتبراً أن المشاعر القومية في الصين عميقة بحيث تملك القدرة على تجاوز كل التناقضات والخلافات. وهو أعرب عن دهشته من الاحترام الذي أظهره ماو تسي تونغ تجاه خصمه شان كاي تشك ( متجنباً ذمه أمام أمريكي غريب).
واليوم نحن أقدر على اكتشاف ما حاول المؤلف اخفاءه وتجنبه اظهار علائم القوة الصينية. وهي العلائم التي تبدت للجمهور، بعد صدور الكتاب، في مشاهد غاية في الصدق. منها احتجاج التايوانبين (حلفاء اميركا) على قصف السفارة الصينية في بلغراد. ومنها أيضاً تجنب حلف الأطلسي (عبر تعديلاته الاستراتيجية) الإعلان عن وجود مصالح له في المنطقة المحيطة بالصين وعلى تخومها.
4. إن الولايات المتحدة لا تزال ترتعد خوفاً من سيطرة الجنرالات الروس على السلطة. لأن هؤلاء مستعدون لفتح أبواب ترسانتهم العسكرية لدول العالم الثالث لتجنب الواقع الاقتصادي المذل لبلادهم. ولعل توريط هؤلاء في حرب الشيشان خطوة على طريق الخلاص منهم.
5. إن توازن الرعب القائم في الشرق الأوسط لم يعد مريحاً للولايات المتحدة بعد أن تولت قواتها العسكرية تأمين مصالحها في المنطقة. بحيث باتت المنطقة مصدر إحراج وإنهاك للإدارة الأمريكية. فتكاليف الدعم لإسرائيل والحصار للعراق والتعويضات التابعة لهما باتا يشكلان عبئاً على الخزانة الأمريكية. وكان السلام أحد أسهل وأقرب الحلول لهذه المشكلة. لكن قناعة أمريكية ترسخت ومفادها أن السلام الأمريكي مرفوض من جميع الأطراف. خصوصاً بعد أن فقد مصداقيته في مفترقات عدة. منها المسار الفلسطيني الذي وصل إلى حدود الاحتيال والابتزاز الإسرائيلي تحت رعاية أمريكية عبر عرابة (أولبرايت) تقود جوقة عرابين يهود في الإدارة الأمريكية.
وهذا الواقع يتطلب تدخلاً أمريكياً حاسماً لفرض تسوية (لأن السلام مرفوض) تحول الشرق الأوسط إلى الحرب الباردة ريثما ترسخ الولايات المتحدة أقدامها في الحزام الأوراسي. حيث استثماراتها القوقازية تبلغ حدود الـ200 مليار دولار مقابل 40 مليار لإسرائيل. وتلك البلاد كانت بلاد المتهودين الخزر. فهل يمكن للمؤلف أو غيره أن يخبرنا عن موقف الإسرائيلي من العودة إلى أرض الخزر لو هي أمنت له رخاءً أفضل مما يحصل عليه في أرض ميعاده؟.

تحميل الملخص

1/5 - (1 صوت واحد)

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى