المكتبة الاقتصاديةدراسات أسيويةدراسات اقتصادية

كتاب التجربة الصينية بإيجاز – محمد شاهين


حمل مجانا كتاب التجربة الصينية بإيجاز للكاتب محمد شاهين

الكتاب يتكون من 8 فصول

الفصل الأول (الوحدة الصينية)
الفصل الثاني (فرق التوقيت)
الفصل الثالث (ثقافة العمل والحياة)
الفصل الرابع (معركة البقاء)

الفصل الخامس (التسويق الصيني للصين)
الفصل السادس (التجارة الإلكترونية)

الفصل السابع (الصين تتحدى)
الفصل الثامن (الدستور الأخلاقي الصيني)


في العام 1976 توفي الزعيم الصيني ماو تسي تونج، وفي العام نفسه توفي رئيس وزرائه شوان لاي، وبعد عامين من الصراع على السلطة في الصين وصلت إلى الحكم قيادة تمتلك رؤية مختلفة عن الرؤية التي كانت تسود في الفترة السابقة. هذه الرؤية عمل بها ورسخها الرئيس دينج شياو بينج. تبعاً لذلك تغيرت الاولويات بالنسبة للقيادة في الصين ليتصدر الأولويات هدف الإصلاح الاقتصادي وتحقيق مستوى من العيش الكريم للمواطن الصيني وصولاً إلى رفاهية هذا المواطن.

إن استلام قيادة جديدة لزمام الأمور في الصين في عام 1978 كان قد اشر لبداية جديدة في مسيرة الصين والتي انتقلت فيما بعد بالصين إلى مستويات اقتصادية متقدمة قياساً لما كان عليه الحال قبل عام 1978.
وهذه القيادة تمتلك رؤية جديدة تختلف عن الرؤية الماوية والتي تذهب باتجاه الانفتاح على العالم الخارجي ولاسيما العالم الغربي، وأحداث إصلاحات اقتصادية تكون كفيلة بتحقيق الاكتفاء الذاتي للصين ومن ثم تحقيق مستويات من الرفاهية مرضية للمواطن الصيني.
تعد التجربة الاقتصادية في الصين والتي قادها الزعيم الصيني دينج شياو بينج منذ عام 1978 واستمر على نهجه من جاء بعده، تجربة فريدة من نوعها وهي محط إعجاب العالم لما حققته هذه التجربة من نجاحات كبيرة استطاعت ان تنتقل بالمستوى المعيشي للمواطن الصيني إلى مستويات افضل.

واًيضاً تكتسب هذه الدراسة أهميتها كونها تدرس تجربة لدولة تعتبر من الدول الكبرى على المستوى العالمي ودولة عظمى على المستوى الآسيوي، وهي عضو دائم في مجلس الأمن والدولة الأولى من حيث عدد السكان، كما تمتلك الصين قوة عسكرية لا يستهان بها سواء كانت النووية منها أم التقليدية.
واستطاعت هذه التجربة من خلال نجاحاتها ان ترتقي بالصين إلى مكانة متقدمة بين الدول على الصعيد العالمي، ومكنت الصين من ان تلعب حالياً – ومستقبلاً – ادواراً عالمية على قدر كبير من الأهمية، فضلاً عن دورها المؤثر والفعال في المحيط الآسيوي. فللصين أهمية لايمكن اغفالها عند الحديث عن الدول التي تلعب دوراً فعالاً في تشكيل تفاعلات السياسة الدولية. وان كان هذا الدور يختلف باختلاف المنطقة – حسب أهميتها بالنسبة للصين – ونوع القضية المطروحة.
تعتبر الصين للفترة من 1949- 1978 دولة فقيرة اقتصادياً، حيث دخل الفرد متدني جداً وكذلك مجمل ناتجها المحلي ومعدل نموها الاقتصادي. أما الاستثمار الأجنبي فلم يكن له وجود في الصين قبل عام 1978، وكذالك إسهامها في مجمل التجارة العالمية كان نسبة قليلة جداً لا تتناسب مع حجمها.
لذا تناولنا في هذه الدراسة كيف تم تسخير السياسة الخارجية لنكون في خدمة السياسة الداخلية لتحقيق الأهداف المرجوة. فكان خيار الانفتاح على العالم الخارجي خياراً اساسياً بعد عام 1978 وتطرقنا بشكل سريع إلى خصوصية هذه التجربة التي كانت كفيلة بعدم تعرضها للفشل كما حصل مع تجارب أخرى في بعض الدول الشيوعية. ومما ميز هذه التجربة هو إنها جاءت على عدة مراحل مما جعل لهذه التجربة حصانة من الفشل أو الإخفاق الذي يمكن ان يصيبها فيما لو تم العمل بها منذ البداية في عموم القطاعات ومختلف المناطق. ومن ثم استعرضنا نتائج هذه التجربة حيث سنرى الارتفاع الملحوظ في معدلات النمو الاقتصادي والتي لم تتحقق في أية دولة أخرى.
إن أكثر ما يميز هذه التجربة هو إنها استطاعت المزاوجة بين اقتصاد السوق والاقتصاد الاشتراكي بطريقة تمكنت من خلالها الاستفادة من المزايا التي يوفرها نظام اقتصاد السوق مع بقاء سيطرة الدولة على الاقتصاد.
ـ الأنفتاح على العالم الخارجي:

حتى نهاية عقد الستينات من القرن الماضي كانت الصين تُعد من الدول الفقيرة، إلا إنها استطاعت من خلال إتباع سياسات اقتصادية ناجحة أن تحتل مرتبة متقدمة ضمن ترتيب الدول الصناعية المتقدمة على المستوى العالمي.

وقد أدركت القيادة الصينية بقيادة دينج شياو بينج التي استلمت الحكم عام 1978 إن النهوض بالصين يتطلب اولاً النهوض بالاقتصاد الصيني. وهذا الأمر لا يمكن أن يتحقق من دون إتباع سياسة خارجية مفادها الانفتاح على مختلف دول العالم. فمثل هذه السياسة تكون كفيلة بتهيئة البيئة الملائمة – بيئة مسالمة – لسياسة اقتصادية ناجحة.

تأسيساً على ما تقدم، فأن صياغة جديدة لهيكلية السياسة الخارجية الصينية مفادها الانفتاح على العالم الخارجي بشكل واسع اقتضته عملية البناء الداخلي، وتسخير هذا الانفتاح لصالح عملية الإصلاح والتحديث في الصين.

لذا كان أول هدف من أهداف السياسة الخارجية الصينية يتمثل في ترتيب أوضاع الصين الداخلية، فهناك علاقة وثيقة بين ما حصل في الصين من تغيرات داخلية وتوجهات سياستها الخارجية (1).

فالتحديث الداخلي يحتل مكانة بارزة في السياسة الخارجية الصينية، وهذه المكانة ارستها القيادة التي جاءت بعد ماو تسي تونج، التي كانت تحمل توجهات للمستقبل تختلف عن التوجه الماوي (2).

إن كل ما يجري في الصين من إصلاحات اقتصادية وانفتاح على دول العالم وخصوصاً الدول الغربية، يستند إلى التجربة الاقتصادية التي كان وراءها الرئيس الصيني السابق دينج شياو بينج، وقد جسد هذا التوجه بمقولته الشهيرة ” ليس المهم لون القط ابيض ام اسود.. مادامت القطة تصطاد الفأر فهي قطة جيدة ” فهو يرى ان المهم هو ان تحصل الصين على التكنولوجيا ورؤوس الأموال التي تحتاجها الصين من اجل نهضتها. وأعلنت الصين ” ان الانفتاح على العالم الخارجي يعد من السياسات الرئيسية التي تتمسك بها الصين دون ثمة تغيير. بالإضافة إلى جذب رؤوس الأموال الأجنبية والتكنولوجيا المتقدمة، ودراسة التجارب الناجحة في التخطيط والإدارة الاقتصادية في الدول الأجنبية، وتشجيع مؤسسات الدولة للمشاركة في المنافسة بالأسواق العالمية وتعزيز تعميق الإصلاح الداخلي والتنمية الاقتصادية (3).

فبعد وفاة ماوتسي تونج (عام 1976) بعامين وخلال انعقاد المؤتمر الحادي عشر للحزب الشيوعي الصيني، تم الاتفاق على العمل للقيام بالإصلاحات الاقتصادية التي من شأنها تقليل الفجوة بين الأغنياء والفقراء من خلال استمرار المساعدات الحكومية لرفع المستوى المعاشي للفرد الصيني (4). ففي هذا المؤتمر الذي عقد في تشرين الثاني 1978، تم طرح برنامج التحديثات الأربعة. ويمكن أن نوجز هذا البرنامج بما يلي (5):

1. جعل الاقتصاد الصيني أكثر قدرة على التكيف مع التغيرات الهيكلية التي يعرفها الاقتصاد العالمي. وقد قسم احد مستشاري الأمين العام السابق للحزب الشيوعي زهاوزيانج الدول إلى أربع مجموعات من حيث القدرة على التعامل مع المتغيرات التي تصيب المجتمع الدولي في جوانب عدة وهي كالأتي:

أ- حكومات جامدة واقتصاد جامد: أي إن هيكل السلطة من ناحية وبنية الاقتصاد من ناحية ثانية ليسا مؤهلين للتكيف مع المتغيرات، ومثال ذلك الاتحاد السوفيتي.

ب- حكومات جامدة واقتصاد مرن: أي إن آليات التكيف في القطاع الاقتصادي أوفر منها في القطاع السياسي، ومثال ذلك الدول التي تدعي “النمور الآسيوية”.

جـ – حكومات مرنة واقتصاد جامد: أي إنه نمط مغاير للنمط السابق، ففي هذا النمط تكون الحكومة أكثر قدرة على التكيف من البنية الاقتصادية، كما هي الحال في الهند.

د – حكومات مرنة واقتصاد مرن: وهو النمط المتوافر في الدول المتطورة، حيث يتمتع كل من الحكومة والاقتصاد بوفرة لآليات التكيف مع التغيرات الدولية. ويرى المستشار أن الصين يجب أن تعمل على الانضمام إلى هذه المجموعة.

2. إعادة النظر في أولويات التنمية بحيث يتم التركيز على الزراعة ثم الصناعة فالبحث العلمي وأخيراً الدفاع.

3. إعادة هيكلة قطاعات الإنتاج، حيث جرى إقرار نظام المسؤولية العائلية ( اقرها الحزب عام 1980) الذي يقضي بتحويل المزارع الجماعية إلى حيازات عائلية، والسماح بمشروعات خاصة. وتحتفظ الدولة بسيطرتها على الصناعات الثقيلة وقطاع الطاقة والتعدين.

4. الإصلاحات الحضرية ( أقرها الحزب عام 1984) وتقوم على لامركزية تسيير المشروعات العامة، وبخاصة فيما يتعلق بسياسات الأسعار والعمالة، وفتح المجال أمام بناء المشروعات المشتركة مع الاستثمارات الأجنبية أو السماح لها بإقامة مشروعات خاصة بها بعد الحصول على رخصة بذلك، وأصبح من حق المقاطعات أن يكون لها ممثلون تجاريون في الخارج، ويكون هؤلاء الموظفون مسؤولين أمام السلطات المحلية وليس أمام وزارة العلاقات الاقتصادية والتجارة الخارجية.

5. منح المؤسسات الإدارية درجة من الاستقلالية عن بيروقراطية الحزب.

6. تسهيل قنوات التجارة الخارجية بتخفيض الرسوم الكمركية.

7. السعي للانضمام إلى الهيئات المالية والتجارية الدولية.

8. تشجيع المرافق السياحية والشروع في عملية واسعة لبناء هذا المرافق.

إن ما يرمي إليه هذا الزعيم الصيني هو زيادة الإنتاج والوصول بالمجتمع إلى الرفاهية الاقتصادية، وفي سبيل تحقيق ذلك فإن على الصين أن تسير في الطريق الذي يوصلها إلى ذلك بغض النظر عما إذا كان اشتراكياً أم رأسمالياً.

شهد عام 1978 بداية النهضة الاقتصادية لجمهورية الصين الشعبية، هذه النهضة التي حققت الكثير من الإنجازات وما زالت تسعى لتحقيق المزيد منها. وما يشهده الاقتصاد الصيني من معدلات نمو كبيرة جداً، وارتفاع في الناتج القومي، وتحسين في مستوى المعيشة للمواطن الصيني دليل على ذلك *. ومما لاشك فيه إن مثل هذه التطورات الكبيرة على المستوى الاقتصادي تزيد من فرص الصين إن تحتل مكانة متميزة في القرن الواحد والعشرين (6). فالرؤية الصينية للأصلاحات الاقتصادية تستند على اعتبار أن أجراء هذه الإصلاحات من أبرز أولويات السياسة الخارجية الصينية لارتباطها باستقرار المجتمـــــع وتحسن مستوى المعيشة، ولا يمكن أن يتحقـق ذلك بدون هذه الإصلاحات (7) ” لقد خرج المارد الاقتصادي الصيني من قمقمه، وأنطلق مندفعاً منافساً للقمم الاقتصادية العالمية. وجميع التوقعات تشير إلى أنه سيتفوق على هذه القمم الراسخة خلال حقبة أو حقبتين وتصبح الصين القوة الاقتصادية الأولى في العالم. إن الثورة الاقتصادية التي حدثت في الصين وظهور سوق اقتصادية في أكثر بلدان العالم تعداداً يعد أهم حدث في نهاية القرن العشرين، وتفوقها على بقية الأسواق الاقتصادية سيكون أهم حدث في بداية القرن الحادي والعشرين “(8).

ـ خصوصية التجربة الصينية:

في المؤتمر الثاني عشر للحزب الشيوعي الصيني 1982، طرح دينج شياو بينج ” نظريته لبناء الاشتراكية ذات الخصائص الصينية” التي تناولت كيفية العمل من أجل تطوير الاشتراكية، ومراحل التنمية، والظروف الخارجية (9). وعندما شارف العقد الثامن من القرن الماضي على الانتهاء، كانت الصين قد ” أذعنت أخيراً للمنطق الاقتصادي في التصنيع المتقدم… وقد قبلت الحاجة إلى الأسواق وصناعة القرار الاقتصادي غير المركزي “(10) غير إن السياسة الخارجية الصينية تتميز على سواها، خصوصاً، الدول الاشتراكية الأوربية والاتحاد السوفيتي، ذلك أنها لم تتعرض إلى تغيرات سياسية حادة، والسبب في ذلك يعود إلى ما يلي(11):

1. إن الحزب الشيوعي الصيني قد حافظ على السلطة وتصدى لكافة المحاولات لزعزعة النظام.

2. إن القيادة الصينية لم تعتمد أسلوب الانفتاح بصورة مفاجئة كما فعلت دول المعسكر الاشتراكي.

وقد ساعد ذلك في التخفيف من شدة الضغط الاقتصادي والخروج من العزلة والانفتاح على العالم وامتصاص ردود الفعل المعاكسة وثبتت أركان حكم النظام بشكل أقوى من قبل (12).

ـ مراحل عملية الإصلاح الاقتصادي:

حددت القيادة في الصين ثلاث مراحل لعملية الإصلاح والانفتاح, وهي (13):

1. تحقيق مضاعفة مجمل قيمة الإنتاج القومي خلال السنوات العشر من عام 1980 إلى 1990, من أجل حل مشكلة الغذاء والكساء للسكان.

2. تحقيق مضاعفة مجمل قيمة الإنتاج القومي مرتين أخريين عند حلول سنة 2000 مع وصول معيشة الشعب إلى مستوى الحياة الميسورة.

3. تتمثل في تحقيق عصرنة الاقتصاد الصيني في أواسط القرن الحادي والعشرين, والوصول بالاقتصاد الصيني إلى مصاف القمم الصناعية العالمية في كثير من حلقات الإنتاج الصناعي, فضلاً عن الوصول إلى مستوى الدول المتطورة فيما يتعلق بمؤشر نصيب الفرد من مجمل الإنتاج الوطني.

غير إن ذلك لا يعني إن الصين الماوية لم تشهد نمواً اقتصادياً, أو أنها عاشت في ظل ركود اقتصادي. فمعدل الزيادة في إنتاج الحنطة قد ازداد من عشرة ملايين طن في الثلاثينات إلى مائتنين وسبعين مليون طن في السبعينات ( على أرض أوسع ) قد وفر الغذاء للأعداد المتزايدة من السكان0 وأن كان هذا النمو قد تم بشكل توسعي وليس مكثفاً، ومستخدماً عدداً كبيراً من الأيدي العاملة(14).

استطاع الرئيس الصيني دينج شياو بينج الحصول على موافقة المؤتمر الحادي عشر للحزب الشيوعي الصيني على إجراء الإصلاحات. ثم حصل على موافقة المؤتمر الرابع عشر على الإسراع بعملية الإصلاح الاقتصادي. وتم استخدام مصطلح اقتصاد السوق الاشتراكي أو الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، فمصطلح الخصخصة لا يلقى قبولاً في الصين على مستوى القيادة. وكانت الإصلاحات المتجسدة في اقتصاد السوق هي (15):

1. انخفاض مساهمة الوحدات المملوكة للدولة في الصناعات التحويلية من 53% عام 1991 إلى 34% عام 1994، وارتفاع نسبة مساهمة الوحدات الفردية من 6% إلى 13.5% لنفس الفترة.

2. نجاح جيانج زيمن الرئيس الجديد في الحصول على موافقة المؤتمر الخامس عشر للحزب الشيوعي المنعقد في أيلول 1997 لبرنامجه القاضي ببيع النسبة الغالبة من الوحدات الصناعية المملوكة للدولة.

3. انضمام الصين إلى مؤسسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، وهي المؤسسات التي تبدو فيها الهيمنة الأمريكية واضحة بشكل أو بأخر.

4. إن القيادة الصينية قد درست التجربة السوفيتية وتجربة دول أوربا الشرقية، والتي نجم عنها انتهاءاً سياسياً واقتصادياً. وبموجب ذلك فقد جاءت عمليات الإصلاح الاقتصادي من داخل وتحت مظلة الحزب الشيوعي الصيني نفسه وليس انقلاباً من فئات سياسية خارجة عنه كما حصل في أوربا الشرقية. كما لم تتخلى القيادة الصينية عن أولوية القطاع الزراعي لصالح القطاع الصناعي كما هو شأن التجربة السوفياتية والأوربية الشرقية، حيث أسهم ذلك في تعجيل الفشل الاقتصادي ومن ثم السياسي والأيدلوجي في هذه التجارب.

فالعمل بأسلوب الانتقال من مرحلة إلى أخرى بشكل تدريجي هو ما يميز التجربة الاقتصادية في الصين، حيث العمل بنظام اقتصاد السوق ومغادرة نظام التخطيط المركزي. فقد اقتصرت التجربة في البداية على مناطق محدودة والعمل على نقلها إلى كل المناطق في البلاد في حال نجاح التجربة. كما إن الأسلوب التدريجي كان واضحاً أيضاً في أن تقتصر تجربة الإصلاح على قطاع معين ثم تعميمها على القطاعات الاخرى. فتم اختيار قطاع الزراعة، ثم انتقلت إلى بقية القطاعات الأخرى. أن هذا الأسلوب قد ساعد على استمرار هذه التجربة وعدم فشلها(16).

ـ تطبيق آليات السوق في الاقتصاد الصيني:

بدأت مسيرة عمليات اقتصاد السوق منذ عام 1993 والتي تهدف إلى إعادة هيكلة الاقتصاد الصيني (17). ففي تشرين الثاني 1993، وأثناء انعقاد المؤتمر الرابع عشر للحزب الشيوعي الصيني أصدرت اللجنة المركزية قراراً يدعم هذا التوجه. كما تم دعم هذا التوجه أيضاً في المؤتمر الخامس عشر للحزب (18).

وقد أصبحت هذه التجربة نموذجاً للدول الأخرى لا سيما دول العالم النامي، بعد أن أحدثت تحولات كبيرة في شعب يزيد تعداده ( 1.2 ) مليار نسمة حيث استطاعت هذه التجربة توفير الملبس والمأكل لخمس سكان العالم.

ومن المؤشرات التي تدل على ان الصين ماضية في هذا الطريق، إنشاء خمس مناطق اقتصادية * تطبق فيها سياسات اقتصادية خاصة، والتي يمكن توضيحها بما يلي (19):

1. تعتمد تنمية اقتصاد المناطق الخاصة بشكل رئيسي على اجتذاب رؤوس الأموال الأجنبية والاستفادة منها ومن منتجاتها بشكل أساسي نحو التصدير. إن اقتصاد المناطق الخاصة هو وحدة جامعة مكونة من المؤسسات المشتركة الاستثمار والمؤسسات التعاونية بين الصين والأجانب والمؤسسات الأجنبية الاستثمار بشكل أساسي إلى جانب وجود الأشكال الاقتصادية المتنوعة الأخرى، ويخضع الاقتصاد في المناطق الخاصة لقيادة الاقتصاد الاشتراكي في عموم الصين.

2. ضرورة إظهار دور التكييف للسوق ضمن الحركة الاقتصادية في المناطق الخاصة.

3. تقديم الأمتيازات والتسهيلات الخاصة في مجالات الضرائب وإجراءات تأشيرات الدخول والخروج للتجار الأجانب القادمين إليها بقصد الاستثمار.

4. تطبيق نظام إداري مختلف عن نظام المناطق الداخلية، إذ تتمتع المؤسسات فيها بالحرية الاكبر.

وقد تكللت هذه التجربة بالنجاح، ففي عام 1992 بلغ حجم التجارة الخارجية للمناطق الخمسة الخاصة (24) مليار و (280) مليون دولار. وهي تشكل نسبة ( 14.65% ) من حجم التجارة الخارجية للصين. وحققت فائضاً تجارياً قدره (490) مليون دولار. ودفع هذا النجاح الحكومة الصينية إلى فتح (14) مدينة اخرى على غرار المناطق الاقتصادية الخاصة (20). ومثال ذلك , مقاطعة (جوانج دونج) حيث حققت تطوراً اقتصادياً كبيراً للفترة 1979 -1990 فبلغ معدل النمو السنوي 11% سنوياً وبلغ متوسط دخل الفرد حوالي (1200) دولار سنوياً مقابل (240) دولار في المقاطعات المجاورة، ومعدل نمو صناعي بلغ ( 27.2%) وناتج سنوي (31) مليار دولار (21). وأيضاً مقاطعة فوجيان Fujian التي حققت زيادة في صادراتها بنسبة (21%) سنوياً للفترة 1989-1991 (22).

نتائج التجربة:

لقد حققت التجربة الاقتصادية في الصين تحولات كبيرة في الاقتصاد الصيني، ولنا ان نستدل على نجاح هذه التجربة من خلال معدلات النمو الاقتصادي العالية المتحققة والتي انعكس بشكل ايجابي في ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي في الصين مما أدى بالنتيجة إلى تحسن ملحوظ في مستوى دخل الفرد في الصين. ومن نتائج هذه التجربة ارتفاع معدل الاستثمارات الأجنبية في الصين وكذلك زيادة مساهمة الصين في حجم التجارة العالمية

من خلال ما تقدم، يتضح لنا إن التجربة الصينية تقوم على أساس إقامة سوق اشتراكي، ونشاط هذا السوق يخضع لسيطرة الحزب الشيوعي الصيني على الرغم من أن آليات السوق هي التي تحكم النشاط الاقتصادي في الصين .

غير إن هذا الانفتاح الذي شهدته الصين، وما زالت، على العالم الخارجي، لغرض الوصول إلى ما وصلت إليه من تقدم اقتصادي وتجربة فريدة من نوعها، لم يؤد إلى أن تستجيب الصين لما يريده الغرب من تغييرات في النظام السياسي الصيني. فالولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية ترى ” إن الاندماج الاقتصادي لا بد أن يصحبه اندماج سياسي – أي الاندماج مع الاقتصاد الرأسمالي – وبقدر ما يزداد اندماج اقتصاد الدول الأطراف، من موقع التبعية، في الاقتصاد الرأسمالي للمركز يزداد اندماج النظام السياسي لهذه الدول، من موقع التبعية , في النظام السياسي للمركز ” وهذا ما تسعى إليه الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يشير كولن باول في عام 1988 إلى أن هناك علاقة وثيقة بين ” التقدم الاقتصادي والحرية الاقتصادية والحرية السياسية ” .
وهذا الطرح يعني قيام نظام سياسي في الدول التابعة- التي تبنـت الحريـــة الاقتصادية – يتلائم مع الحرية الاقتصادية – مما يؤدي بالنتيجة إلى تبني نظام سياسي على نفس النمط الذي يقوم عليه النظام السياسي في المركز، والذي لا يمكن الفصل فيه بين الحرية السياسية والحرية الاقتصادية .
والحقيقة، إن هذا الطرح الغربي أو الرؤية الغربية لما يجري في الصين, تعني إحداث تغيير جذري في النظام السياسي والاقتصادي، وهذا خلاف ما موجود في الصين.
إن ما يدعم هذا الاتجاه، هو أن هناك مسارين قد ميز بينهما الأدب الاقتصادي لما جرى، ولا يزال، من متغيرات في دول أوربا الشرقية والاتحاد السوفيتي والدول النامية، في عملية الانتقال، هما:

1. التحول Transformation:

ويشير مفهوم التحول إلى إعادة هيكلة النظامين الاقتصادي والسياسي بشكل مدروس ومخطط نحو إرساء نظام اقتصادي رأسمالي يستند إلى قواعد وآليات السوق، ونظام سياسي ليبرالي ديمقراطي، بمعنى آخر فأن عملية التحول هنا تنطوي على حدوث نقلة وتحول جذري مقارنة بالماضي سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي.

2. الإصلاح Reform:

يشير مفهوم الإصلاح إلى تغيير في السياسات أو إتباع سياسات جديدة من شأنها أن تسمح بالأفكار الديمقراطية والنظام الديمقراطي ونظام السوق إلى الحد الذي يضمن سيطرة واستمرار النظم القائمة سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي، ومن ثم فان الإصلاح لا يعني بالضرورة حدوث تغيير عميق في النظم القائمة.

وفي الواقع، إن التجربة الصينية هي نوع من الإصلاح الاقتصادي، ومرد ذلك عدم ارتباط هذه العملية التي تجري في الصين بتغيير في النظام السياسي.

إن الاقتصاد بدأ منذ النصف الثاني من القرن الماضي، يحظى بأهمية متزايدة في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية. وقد أدركت القيادة الصينية ذلك فانتهجت طريق الإصلاح، الذي سيحولها من ” عملاق سكاني إلى عملاق اقتصادي تكنولوجي ” وفي فترة قياسية .

الخاتمــة

دخلت الصين بعد عام 1978 مرحلة جديدة في مسيرتها والتي قطعت من خلالها شوطاً غير قليل في المجال الاقتصادي الذي مكنها فيما بعد من ترسيخ مكانتها الإقليمية والدولية.
كان وصول دينج شياو بينج إلى السلطة في الصين عام 1978 وتطبيقه سياسة الإصلاح الاقتصادي والانفتاح على العالم بداية مرحلة جديدة في مسيرة الصين الشعبية والتي حققت لها فيما بعد نتائج مرضية، بل أصبحت نموذجاً يشار إليه من قبل بقية دول العالم. هذه السياسة انتقلت بالمستوى المعاشي للمواطن الصيني إلى مستويات أفضل قياساً مع الفترة السابقة على تطبيق هذه السياسة. فهذه التجربة كانت ولا زالت تحقق مستويات غير متحققة في أية دولة أخرى مما كان له أثر إيجابي انعكس في عدة مؤشرات مثل معدل النمو الاقتصادي، الناتج المحلي الإجمالي، مستوى دخل الفرد، حجم مساهمة الصين في التجارة العالمية وغيرها من المؤشرات.
ومن المميزات التي تميزت بها هذه التجربة هو انها سلكت منهج التدرج في تطبيق الإصلاحات، وهذا ما أعطاها حصانة ضد الفشل الذي أصاب غيرها من التجارب الاخرى. ولهذا فانها تعتبر من أرقى التجارب في هذا المجال.
أحمد عبد الأمير الأنباري


حمل من هنا

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى