دراسات سياسية

في جدلية العلاقة بين وسائل الإعلام والسلطة

مجلة الدراسات الاعلامية

مجلة علمية دولية محكمة ربع سنوية، تصدر في ألمانيا

العدد /07/، ماي / أيار 2019.

في جدلية العلاقة بين وسائل الإعلام والسلطة

In The Dialectic Relationship Between The Media and Authority

د. شاهر إسماعيل الشاهر

بروفيسور في مدرسة الدراسات الدولية- جامعة صن يات سين- الصين

Sh.alshaher77@gmail.com

008613680344968

الملخص:

هناك خلط كبير بين مفهومي السلطة والدولة في وسائل الاعلام، فالسلطة لا تعني الدولة بالضرورة، كما أن الدولة ما كانت أبداً تلك الفكرة التي تفسرها بعض النظريات ضيقة الأفق والتي سعت إلى تبني أفكار غير منهجية في محاولة منها لإرضاء الحاكم. فالعلاقة بين النظامين السياسي والإعلامي علاقة تأثير متبادل، لكن حجم التأثير يختلف بين الطرفين وفقاً لطبيعة العلاقة بينهما، وشكل النظام السياسي القائم. لذا فمن الخطأ أن نتخذ مواقف كثيرة بناءً على متابعتنا لوسائل الاعلام، ونتناسى أن إعلام ما بعد الحداثة يصنع الحدث ولا ينقله فقط، فليس كل ما هو مكتوب حقيقة، وليست كل حقيقة تكتب.

الكلمات المفتاحية:

وسائل الاعلام- السلطة- العلاقة- جدلية.

Summary:

There is great confusion between the concepts of authority and state in the media. The authority does not necessarily mean the state, The state has never been that idea, which is interpreted by some narrow-minded theories that aimed to adopt non-systematic ideas in an attempt to appease the ruler. The relationship between the political and media systems has a mutual influence, but the extent of the influence varies between the two parties according to the nature of their relationship and the form of the existing political system. So it is wrong to take many attitudes based on our follow-up to the media, and forget that the post-modern media makes the event and not only transfers it , Not everything that is written is true, and not every truth is written

key words: Media- Authority- Relationship- Dialectic.

المقدمة:

الدولة من أهم المنظمات السياسية الموجودة في المجتمع، ولا يمكن مقارنة أهميتها وسيادتها بأهمية وسيادة أية منظمة أخرى، وذلك نظراً لسلطتها العليا التي تمارسها مع الأفراد والمنظمات، ونظراً للوظائف المهمة التي تقدمها لأبناء المجتمع.

مر الاهتمام بدراسة الدولة بمراحل عدة، منها ما اهتم بتفسير نشأتها، من خلال تحليل علاقتها بالمجتمع، مثل المدرسة الماركسية الجديدة، التي ترى أن الدولة تتشكل نتيجة الصراع بين الطبقات، ومنها ما سعى لتحليل تراجع دورها لصالح فاعلين آخرين من غير الدولة. ولكن إمعان النظر في هذه المراحل يؤكد استمرار كون الدولة محور الاهتمام.

لقد اتضح أن الدولة ليست بالصورة التي تحدث عنها آنجلز، حين رآها “القوة المفروضة على المجتمع”، وليست كياناً مبسطاً، يتألف من شعب وإقليم وسيادة، حيث اتضح أن الدولة هيكل أكثر عمقاً وتداخلاً مع المجتمع، فهي ليست هياكل فقط، وإنما جماعات ومصالح وقوى. وربما هذا ما يعطي أهمية لمفهوم الدولة العميقة، الذي كثر تداوله هذه الأيام من قبل المتابعين للتطورات في دول “الربيع العربي”، في استدعاء لفكرة الدولة التركية. حيث تطرح هذه المرحلة فكرة السلطة اللامركزية في مواجهة السلطة المركزية، والدولة غير الموحدة في مواجهة الدولة الموحدة، والدولة المنهارة في مواجهة الدولة المتماسكة، والدولة الكينزية في مواجهة دولة الرفاه، والمجتمع الذي يقود العلاقة مع الدولة في مواجهة الدولة التي تقود العلاقة مع المجتمع.

ولا تنضج الدولة بدون إعلامٍ يعي ماله وما عليه، ولا يتأتّى ذلك إلا بمرجعيّةٍ سياسيّةٍ تؤمن بالعمل الإعلامي كقرينٍ أساسيّ لعمل الدولة، بل هو وجهها وأيقونتها في زحمة التنافس والمغريات . والسياسة الإعلامية الحديثة تقوم على أساس الصدق في المعلومة، والتواصل المستمر والمنتظم مع الناس، والحوار الذي يسمح بالاختلاف، والسماح للآراء المختلفة والمخالفة التعبير عن نفسها بحرية، وعدم البخل في تقديم المعلومة المفصلة لشرح وجهة نظر الحكومة. وفي ظل عصر التكنولوجيا الذي يتيح للناس الوصول إلى ما يريدونه من معلومات، لن يكتب النجاح لأي سياسة أخرى. كما أن المعلومات التي يثبت خطؤها تضعف من ثقة الناس بالحكومة فلا يعودون يصدقون أي معلومة تعطى لهم ولو كانت صادقة، وفي جميع المواضيع السياسية والاقتصادية .

أهمية البحث:

بعد أن أصبحت وسائل الإعلام تصنع الأحداث ولا تنقلها فقط، فإن مواقفنا التحليلية والسياسية معرضة بشكل كبير للتشوش. لذا فإننا أصبحنا نحتاج إلى أن نوجه الاسهامات الأكاديمية لخدمة السياسة العامة. فوسائل الإعلام هي الأداة التي عن طريقها يتم إيصال الرسائل السياسية للجماهير والترويج لأية مصطلحات سياسية تسعى الحكومات لجعلها ثقافة في الشارع، وبالتالي فإن السياسة لا غنى لها عن الإعلام.

فرضية البحث:

على الرغم من أن جميع الحكومات تنادي بحرية وسائل الاعلام، إلا أن وسائل الإعلام تتأثر كثيراً بسياسة الحكومات التي تَتْبَعُ لها، وهو ما يخرجها عن الوظيفة الإعلامية الأساسية التي ينبغي أن تقوم عليها، كما أن ظهور وسائل التواصل الاجتماعي قلل تأثير الحكومات في توجيه السياسات الاعلامية.

سؤال البحث:

يحاول البحث الاجابة على السؤال التالي: ما دمنا لم نتفق على مفهوم السياسة، فمن الطبيعي جداً أن نختلف في طبيعة ممارستها. فإذا كان من حق الإعلام أن يوجه السياسة، أليس من حق السياسة أن تضبط الاعلام..؟

إشكالية البحث:

تكمن إشكالية البحث في التعرف على تأثير السلطة على عمل وسائل الإعلام المختلفة، وخاصة بعد أن أصبح الاعلام سلاحاً خطيراً يضاهي، بل قد يزيد عن الأسلحة النارية، فالحروب اليوم إعلامية في المقام الأول قبل أن تكون عسكرية، والسلطة تجد نفسها مسؤولة عن إدارة هذه الحروب.

أولاً: الخلط بين مفهومي السلطة والدولة في وسائل الإعلام

رغم الاهتمامات المشتركة التي یولیها علماء العلوم الاجتماعیة بمختلف تخصصاتهم بموضوع الدولة، إلا أن تعریفاتهم للدولة اختلفت وتعددت تبعاً لطبیعة تلك الاهتمامات، لذلك فقد طرح علماء القانون، والاجتماع، والسیاسة، والتاریخ، والفلسفة، والاقتصاد وغیرهم، الكثیر من التعریفات للدولة، سنشیر إلى بعضها، إلا أنه من الجدیر بالذكر أن هناك تداخل كبیر بین مفهوم الدولة وعدة مفاهيم أخرى، مثل المجتمع، والسلطة، والقوة، والنفوذ، والسیادة ، وغیرها من المفاهیم التي تحتاج عند تفسیرها إلى توضیح معانیها بشكل یبین الفروقات الجوهریة التي تمیز كل منها، وقد أدى هذا الارتباط في تفسیر هذه المفاهیم بتفسیر مفهوم الدولة، إلى صعوبة وضع تعریف محدد لها، ومن هذه التعریفات:

1 ـ تعريف (ديجي): الدولة عبارة عن مجموعة من الناس الاجتماعيين بينهم: طبقة حاكمة وأخرى محكومة.

2 ـ تعريف (جارنر): الدولة كمفهوم في علم السياسة والقانون العام هي: مجموعة من الناس يزيدون أو يقلون عدداً و يشغلون بصفة دائمة قطعة محددة من الأرض ويكونوا مستقلين تماماً أو تقريباً من السيطرة الخارجية، ولهم حكومة منظمة تدين لها هيبة المواطنين بالطاعة المعتادة.

3 ـ تعريف (ماكيفر): الدولة تنظيم أعم وأشمل من الحكومة ولها دستورها وقوانينها وطريقتها في تكوين الحكومة وهيبة مواطنيها وليست مرادفة للحكومة .

4 ـ تعريف ( ماكس فيبر): الدولة تنظيم عقلي يوفر القيادة الرشيدة التي تسعى إلى استخدام القهر لتحقيق أغراضها، كما يعرفها بأنها: مشروع سياسي ذو طابع مؤسساتي تطالب قيادته الإدارية بالنجاح وفي تطبيقها للأنظمة باحتكار الإكراه أو القهر البدني المشروع ذو الصفة الشرعية.

5 ـ التعريف الذي يوجد شبه اتفاق عليه بين علماء العلوم الاجتماعية والدارسين لموضوع الدولة فهو أن الدولة هي: مجموعة من الأفراد يقيمون بصفة دائمة في إقليم معين و تسيطر عليهم هيئة منظمة استقر الناس على تسميتها الحكومة.

وربما نجد ثمة خلط بين مفهومي السلطة والدولة في التداول بين رجال الإعلام والسياسة وبعض المفكرين، على الرغم من أن الإدراك المعرفي يفترض وضع مساحة لتحديد معايير السلطة، ومعايير الدولة، باعتبار أن العلاقة بين السلطة والدولة علاقة تركيبية، فالسلطات الحاكمة قد اتخذت أشكالاً عدة عبر حركة التاريخ، وتبنت قيماً ومفاهيماً قد تعتبر متناقضة، لكنها في الأغلب لم تتبنى فهما لموقعها في مساحة الزمن، ومن هنا كانت السلطات الحاكمة تتبدل، أو تعيش مراحل تغير، بعضها يطول، والآخر يقصر، وكما أنه لا يمكن أن يتم تفسير الدولة بالسلطة، فالسلطة لا تعني الدولة بالضرورة، كما أن الدولة ما كانت أبداً تلك الفكرة المتهافتة التي تفسرها بعض النظريات ضيقة الأفق والتي سعت إلى تبني أفكار غير منهجية في محاولة منها لإرضاء الحاكم، ففسرت الدولة باعتبارها (مساحة من الأرض تسكنها مجموعة بشرية وهذه الأخيرة يقودها حاكم)، فهذا التفسير من التهافت بحيث أنه لا يمكن أن ينطبق على أدنى معايير الدولة. وإذا كان الأمر كذلك فكل عائلة أو عشيرة يمكن أن تصبح دولة. وهذا التفسير هو في الحقيقة يجافي ما اتفق عليه المؤرخون وعلماء السياسة والاجتماع في تفسير مفهوم الدولة.

ثانياً: وسائل الإعلام كمصدر من مصادر السلطة

العلاقة بين النظامين السياسي والإعلامي، علاقة تأثير متبادل، لكن حجم التأثير يختلف بين الطرفين وفقاً لطبيعة العلاقة بينهما، ووفق شكل النظام السياسي ودرجة الديمقراطية التي يتمتع بها، ودرجة الحرية السياسية المتاحة للإعلام في معالجة القضايا السياسية والاجتماعية، ودرجة استجابة النظام السياسي لملاحظات وسائل الإعلام وآرائها تجاه القضايا، وتجاه الأداء الحكومي لتلك القضايا، حيث تعد وسائل الإعلام قنوات اتصالية فعالة بين النخب السياسية الحاكمة والرأي العام، انطلاقاً من تصورات النخب الحاكمة لمجريات الأحداث وعكسها للرأي العام من خلال وسائل الإعلام، كما تعكس اتجاه الرأي العام بشأن معالجة النظام السياسي للقضايا المختلفة .

فالأفراد الأكثر وعياً بالسياسة يتلقون معظم الرسائل وهم على وعي بها وأكثر قدرة على انتقادها وممارسة العملية الانتقائية، لأنهم يقيمون هذه الرسائل في ضوء خلفياتهم الأيديولوجية، ولكن في المقابل فإنهم يكونون في حالات أخرى أكثر قابلية للتأثير. أما الأفراد الأقل وعياً بالسياسة فهم أقل اهتماماً بها، وبالتالي فهم يتلقون قدراً محدوداً من الرسائل، ويحكمون عليها من خلال خلفياتهم السابقة، لأنهم يفتقرون إلى المعلومات ذات السياقات السياسية الآنية، فينخفض بالتالي معدل التأثر بوسائل الإعلام.

وهنا سوف نستعرض الأمور التي تشكل مصادر السلطة الفردية والاجتماعية، وهي :

1- العلم: في المجتمع المتعلم لا يمكن لأي قائد أن يصل إلى السلطة أو يقوم بتطبيقها ما لم يكن يتحلى بالعلم الصحيح والمناسب.

2- التنظيم: التنظيم بحد ذاته سلطة، وما تشكيل الأحزاب السياسية في الأنظمة الديمقراطية إلا لتحقيق هذا الهدف.

3- المكانة: تعد المكانة منبع القدرة. فالمكانة الاقتصادية تساعد صاحبها على التغلب على معارضيه. كما أن المكانة الاجتماعية تساعد الآخرين من أجل كسب السلطة والنفوذ. كذلك فإن المكانة الدينية تعد أحد مصادر السلطة والنفوذ.

4- الاقتدار: الاقتدار هي السلطة المشروعة. أي الوصول إلى المكانة السياسية أو الحقوقية وفقاً للقانون وبشكل مشروع، يزيد من سلطة الفرد و نفوذه.

5- المهارة: تزيد هذه الخصلة من سلطة الفرد. حيث أن الشخص الذي يتمتع بالمهارة والتخصص في مجال من المجالات، يمكنه التفوق على الآخرين الذي لا يمتلكون المهارة في هذه المجالات.

6- الإيمان: للحفاظ على الاقتدار أو تطبيق السلطة، لا يكفي الاعتماد على القوة وحدها. لذلك فينبغي للحكومة أو القائد التحلي بالإيمان من أجل ديمومة سلطته.

7- وسائل الإعلام : فوسائل الإعلام هي أحد المصادر الهامة للسلطة. حيث يمكن لرؤساء التحرير في المطبوعات المختلفة أن يمارسوا تأثيراً كبيراً على المجتمع. كما أن للراديو والتلفزيون تأثيراً كبيراً على الأفكار العامة. لذلك تعد وسائل الإعلام مصدراً هاماً في خدمة الحكام.

ثالثاً: وسائل الإعلام في النظم الديمقراطية الغربية

ترتكز النظم الديمقراطية الغربية على عدد من المبادئ، وهي:

1- احترام مبدأ الفصل بين السلطات:

ويعد أحد أهم المبادئ التي ترتكز عليها النظم الديمقراطية الغربية أو هو مبدأ رئيسي للديمقراطية في جوهرها تماماً على نحو يماثل في ذات الأهمية مبدأ سيادة الأمة أو الشعب.

ويرجع هذا المبدأ إلى المفكر الفرنسي مونتسكيو والمتمثل في الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية، والتنفيذية والقضائية. والذي كان تأثيره على النظام الديمقراطي للثورة الفرنسية كبيراً مثلما كان تأثير المفكر الفرنسي الكبير جان جاك روسو في كتابه العقد الاجتماعي الذي أبرز فيه نظرية أو مبدأ سيادة الأمة. ويدعو هذا المبدأ إلى :

– حماية الحريات ومنع الاستبداد .

– ضمان احترام مبدأ سيادة القانون .

– حسن وإتقان أداء وظائف الدولة .

2- احترام الحقوق والحريات الفردية: تتأسس الديمقراطية الغربية على فكرة الحرية ولذلك تسمى الديمقراطية بالديمقراطية الحرة. والمقصود بهذا المبدأ هو أنه لكل فرد من أفراد الشعب حقوق وعلى قدم المساواة. والحريات الفردية منذ القرن الثامن عشر تسمى بالحريات التقليدية لكي تتميز عن تلك الحريات والحقوق الأخرى الاجتماعية والاقتصادية التي ظهرت خلال القرن العشرين . وأضاف إعلان حقوق الإنسان للثورة الفرنسية وأعطى أهم الأمثلة على الحقوق والحريات الفردية فنصت إحدى مواده الهامة على أن غاية كل نظام سياسي هو المحافظة على الحقوق الطبيعية أي الفردية للإنسان وهي :الحرية والملكية وحق الأمن وحق مقاومة الظلم. ومن الأساسيات التي ينبغي على النظام الليبرالي أن يتبعها في احترامه للحريات الفردية هو أن يسعى إلى ضمان حماية الحريات التالية لأفراد الشعب:

أ‌- الحريات الشخصية: وتحوي الحق في الوجود الإنساني، حرية وحق الأمن، حرية التنقل، حرمة المسكن …الخ.

ب‌- الحريات الفردية: وتحوي حرية العقيدة وممارسة الشعائر الدينية، حرية الرأي والتعبير، حرية التعليم، حرية الصحافة وغيرها من وسائل الإعلام، حرية التجمع في المحافل والتنظيمات الحرة في ظل ما يسمى بمؤسسات المجتمع المدني ..

ت‌- الحريات الاقتصادية: أي الحق في التملك للأموال والعقار وواجب الدولة في حماية ملكه وتأمين حقه القانوني في استعمال واستغلال هذا المال والتصرف فيه فيما يحقق الصالح الخاص ومن ناحية ثانية، حق كل فرد في مباشرة كافة الأنشطة الاقتصادية الحرة والمشروعة كالتجارة ومشروعات التجارية والصناعية والزراعية .

ث‌- الحريات أو الحقوق السياسية: وتتجمع حول فكرة أساسية هي حق المواطنين في المشاركة في الحكم والشؤون العامة للدولة والحريات السياسية التي تتضمن حق المشاركة الشعبية في الحكم أو السلطة وتشمل أيضاً حق الانتخاب والترشح.

ولكي تتمكن وسائل الاتصال من القيام بوظائفها الديمقراطية، لابد من توافر أربعة شروط أو محددات رئيسة، وهي :

1- القدرة على تمثيل الاتجاهات المختلفة داخل المجتمع: حيث إنه توجد في كل مجتمع مجموعة من الجماعات ذات الأهداف والاحتياجات والأيديولوجيات المختلفة، وحتى تستطيع وسائل الإعلام أن تمثل المجتمع في تنوعه فإنها لابد أن تتيح لكل هذه الاتجاهات فرصة الوصول إلى الجماهير، وأن تعرض أفكارها دون أية قيود من السلطة الحاكمة، وعندما يتحول استخدام وسائل الإعلام إلى نوع من الامتياز والاحتكار لبعض الأشخاص والجماعات والاتجاهات الفكرية والأيديولوجية المسيطرة تتراجع الديمقراطية، وتنتفي وظائف الإعلام الديمقراطي.

2- حماية المجتمع: فيرى Habermas أن الشرط الثاني لقيام وسائل الإعلام بوظيفتها في المجتمع الديمقراطي هو أن تتوافر لها القدرة على حماية مصالح المجتمع، بأن تكون حارساً للمجتمع. حيث يتطلع الجمهور لوسائل إعلام تراقب تركيب السلطة داخل المجتمع، وتمثل مصالح المجتمع في مواجهة السلطة، وإخبار الجمهور بأية انحرافات ترتكبها السلطة.

3- توفير المعلومات للجمهور: حيث إن توفير وسائل الإعلام للمعرفة يتم لصالح الأفراد والمجتمع في الوقت نفسه، ومن خلال ذلك يتكامل دور وسائل الإعلام مع دور المؤسسات التعليمية، فلكي يزدهر المجتمع الديمقراطي فإن أعضاءه يجب أن يتقاسموا المعرفة، وتقاسم المعرفة هو شكل من أشكال التعليم الذي يضمن أن تكون عملية صنع القرار صحيحة وقائمة على المعرفة، فيشير Habermas إلى ضرورة توفير المعرفة للجميع لكي يستطيعوا أن يتخذوا القرارات الصحيحة، ولكي تكون تلك القرارات في صالح المجتمع، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا إذا حصل كل مواطن على المعلومات عما يحدث في العالم، وأصبح هناك فهم مشترك بين المواطنين لهذه الأحداث.

4- المساهمة في تحقيق الوحدة الاجتماعية: فوسائل الإعلام تساهم عن طريق تقاسم المعرفة في تحقيق الوحدة الاجتماعية، كما تساعد المجتمع على أن يظل موحداً حيث توجد ثقافة عامة مشتركة لكل أعضاء المجتمع، ووسائل الإعلام تقوم بنشر هذه الثقافة العامة المشتركة، فكلما شعر أعضاء المجتمع بهذا المشترك الثقافي زاد توحدهم وازدادت قدرتهم على اتخاذ القرارات التي تحقق المصلحة العامة؛ فالمساهمة في تحقيق الوحدة الاجتماعية والترابط تعد من الوظائف الرئيسة للإعلام كما حددها Lasswell (حيث يرى أن من الوظائف المهمة للاتصال تحقيق الترابط في المجتمع تجاه البيئة الأساسية وقضاياها، وتفسير ما يجري من أحداث وما يبرز من قضايا بما يساعد على توجيه السلوك؛ حيث للاتصال دور في تشكيل الرأي العام الذي به تتمكن الحكومات في المجتمعات الديمقراطية من أداء مهامها.

رابعاً: علاقة الدولة بالثقافة والإعلام:

عادةً، ما ترتبط الدولة في الخيال العام بالخوف، في الشرق الأوسط على وجه الخصوص، فيما ترتبط الثقافة بالمعرفة، وبإضفاء العقلانية على الأشياء والظواهر.

ومن واجبات الدولة الديمقراطية الحديثة أن توفر مناخ الحرية للثقافة والمثقفين، فكل خنق لهذه الحرية ولو بمسميات تحاول أن تشرعن هذا الخنق، كمسمى الثقافة الموجهة، والأدب الموجه، والفن الموجه، والإعلام الموجه، ما هو إلا أساليب لقتل روح الإبداع الثقافي في الأمة، وبالتالي شل طاقتها في التقدم والازدهار. ومن لوازم الحرية التي يجب على الدولة الديمقراطية توفيرها هو وعي لازم من لوازم التقليد الديمقراطي، والالتزام المساوق للوعي بذلك التقليد، ألا وهو – أي ذلك اللازم للتقليد الديمقراطي – هو الفصل بين ما هي البرامج الثقافية والإعلامية للدولة، وما هي البرامج الثقافية والإعلامية للسلطة، باعتبار أن الدولة تمثل العنصر الثابت، بينما السلطة تمثل العنصر المتحول على ضوء مفهوم التداول السلمي للسلطة، ومن هنا لا يجوز للسلطة أن تـُؤدلج الثقافة أو تـُسيسها طبقا لإيديولوجيتها السياسية.

ولا يمكن أنْ تحلّ الدولة محل الثقافة، ولا الثقافة محلّ السلطة، وعبر التاريخ فشلت كل المحاولات إلي تحقيق ذلك. طبعاً، الدولة تسعى بقوة إلى احتواء الثقافة بكلّ الطرق المتيسرة لديها، وفعلاً تمكنت من ترويض الحصان الجامح للخطاب الثقافي، بيد أنها في المنظور الكلّي لم تستطع أنْ تحوّل الثقافة إلى رعية من رعاياها الخاضعة لإرادتها والمشمولة بعطفها.

لكنّ هذا لا ينطبق على كلّ الثقافة، وينبغي الاعتراف بأنّ قسماً منها تحوّل إلى مجرّد أداة رخيصة في يد الدولة لخداع الناس، وتمرير المشاريع المنافية لحقوق الإنسان.

ولأن الإعلام انعكاس للحالة التي يعيشها المجتمع، وجب عليه أن يقوم بالوظائف التي يتوقعها منه الجمهور، وهو ما يعطي المادة المقدمة قيمة حين يلتف حولها الجمهور. من هنا كانت أهمية قيام وسائل الإعلام بتعزيز الأدوار الثقافية عبر إتاحتها للجميع بيسر وسهولة، وهو ما يطلق عليه “ديمقراطية الثقافة”، باعتبارها تمثل للعديد من الناس الوسيلة الأيسر للتثقيف وتنمية الفكر، وتهذيب النفس، كما أنها تعد الذاكرة المرئية التي يمكن استدعاؤها كل حين .

وينبغي أنْ نذكّر باستمرار، أنّ الثقافة عين المراقبة التي لا تَطْرِف قطّ، وفي المقابل فإنّ الدولة الممثَّلة في السلطة هي عين مراقِبة أيضاً، الأولى تراقب أداء الدولة/ السلطة، والثانية تراقب الأداء التفسيري للثقافة. بمعنى آخر، الثقافة تراقب الكيفية التي تسوس بها الدولة، ومنظومة التجاوزات المصاحبة لتلك السياسة، بيد أنّ هذه المراقبة ليست حيادية مطلقاً، إنما مشاكسة، متمردة، رافضة، مؤجِّجَة ومحرِّضَة، وهنا تكمن خطورتها الأزلية. وفي الطرف الآخر، فإنّ مراقبة الدولة/ السلطة تتجه إلى فهم الشيفرات التي تخاطب بها الثقافة المجتمع. لأنّ تلك الشيفرات، إحدى أهمّ الطرائق التي تخادع بها الثقافة الدولة، لكي تمرّر خطابها الموصوف بالتحريض على مقاومة الاستبداد.

ولم تعد الثقافة محصورة في نخبة محددة، إنما ثمة ثقافة شعبية لا يمكن إهمالها أو التقليل من شأنها في حياة المجتمعات الحديثة، وهو ما أدركته حركة ما بعد الحداثة الغربية. ونظراً لذلك، فإنّ الدولة التي صارت تستثمر كلّ شيء، فإنّ بعض الأنشطة الثقافية صارت هي الأخرى قابلة للاستثمار، وهذا يعني ثمة منظور اقتصادي يمكن الإفادة منه في إدارة شؤون الثقافة الحديثة.

إنّ خسارة الثقافة التي ظلت تسير معها جنباً إلي جنب، تتمثل في عدم وضع خطط لتقريب الثقافة من الواقع، وهو ما يقتضي من الدولة الحديثة أنْ تأخذه في الحسبان، لتحويل النشاط الثقافي إلى نشاط يجري بين الناس، وإلى الناس بصورة مباشرة. بيد أنّ هذا، يتطلب وعياً جديداً من الدولة بوظيفة الثقافة الجديدة، تلك الوظيفة التي نقلت الثقافة من مفهوم ضيق إلى مفهوم تنضوي تحت مظلته جملة من النشاطات المتعددة. وبعد أنْ كانت السياحة نشاطاً اقتصادياً في المقام الأول، فإنها الآن نشاط مزدوج: ثقافي واقتصادي في الوقت نفسه. وهو ما يحتّم أنْ يعاد النظر في مفهوم الثقافة نفسه، من مجرّد تدريب على استعمال المحسنات اللغوية في الكلام إلي محاولة جادة إلى الاندماج في الحركة الناسيّة المثيرة للدهشة والجدل على نحو مستمر. وهكذا، فإنّ الثقافة تصبح عموداً من أعمدة بناء الدولة الحديثة، إذ لا تتمكن هذه الأخيرة من إنجاز أيّ مشروع دون أنْ يتمتع بأرضية من الاستهلاك الثقافي على الصعيد العام .

إنّ تخليص الثقافة من قبضة الأيديولوجية، كفيل ببناء المؤسسة الثقافية نفسها على أسس تتمكن من خلالها إنجاز مشاريعها بفضاء واسع من الحرية، ومن ثمّ تتمتع بقسط وافر من المصداقية الاجتماعية، الضرورية لنجاح المشاريع والأفكار الثقافية الجديدة.

خامساً: دور وسائل الإعلام في تعميق قيم المواطنة

يقوم مفهوم المواطنة على عدة مبادئ، في مقدمتها تساوى الناس في الحقوق والواجبات بغض النظر عن العرق أو الدين أو اللهجة أو النوع أو الوضع الطبقي. وبما أن الاعلام هو معالجة فكرية وحضور وتفاعل ومناقشة صريحة وجريئة لمشكلات البلاد، ومن بينها مشكلة المواطنة التي باتت في حاجة إلى حل ناجع وسريع، لمقاومة استراتيجيات ترمي إلى النيل من وحدة بلادنا، وتكاملها الوطني. فإن تعميق قيم المواطنة يتم من خلال تطبيق عدد من الاجراءات، ومنها:

– تطبيق مبدأ تكافؤ الفرص وحظر التمييز خاصة في مجال العمل والتي تمس حياة الناس جميعاً، متضمناً وسائل التقدم للعمل وتنظيم الاختبارات لشغل الوظيفة وحق المواطن في الحصول على شهادة تكشف النقاب عن اسباب عدم قبوله وتنظيم كافة التزامات أرباب العمل تجاه المواطن سواء كانت الحكومة أو القطاع العام أو الخاص أو الاهلي؛ لتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص وعدم التمييز بين المواطنين إلا على أساس الجدارة الحقيقية مع الاهتمام بحقوق المعاقين وأصحاب الاحتياجات الخاصة في شغل وظائف حقيقية لهم، وضرورة انتهاء المحسوبية والواسطة، فنحن في حاجة إلى مجتمع بلا معسكرات ذات نسيج واحد .

– خطورة التمييز ضد المرأة في العمل، فليس من المقبول أن يرفض البعض تشغيل المرأة بسبب حصولها علي إجازات رعاية الأطفال والحمل والولادة وغيرها. ويظهر مبدأ تكافؤ الفرص بالنسبة لعمل المرأة الكثير من التناقضات حتى في أوروبا؛ فدائماً ما تكون المرأة هي الضحية لأن المستوي التعليمي متساو بين المرأة والرجل وبالرغم من تلك لاتزال فرص العمل للمرأة أقل ولا يزال هناك عدم مساواة بالنسبة للنساء في تولي المراكز القيادية والاقتصادية والعلمية ولايزال أجر المرأة أقل من الرجل حتى وان قام الاثنان بالعمل نفسه.

– الانتهاء من مراجعة المناهج الدراسية بواسطة الخبراء المختصين لتنقية المناهج من أي تمييز بين المواطنين مهما كانت اختلافات المكانة الاجتماعية أو الجنس أو الدين.

– ضرورة رفض التهميش لفئات فى المجتمع، مع قبول مبدأ التعددية الثقافية والتعبير عنها؛ فدولة المواطنة هي دولة القانون والحرية والعدالة. يتساوى فيها المواطنون أمام القانون. وهى قوية بوحدتها، وثرية بتعدديتها.

– نشر الديموقراطية في إطار النظام العام واحترام مصالح المجتمع ومصالح الأفراد داخله، ولو اقتنعنا بحق الفرد في التعبير عن رأيه والاختلافات في الرأي والتأكيد على أنه لا يمتلك أحد الحقيقة المطلقة وهي غير موجودة إلا في الذات العليا وهي وجود الله سبحانه وتعالى فقط، وهذه هي الحقيقة الوحيدة وغير ذلك هي حقائق نسبية والفكر أيضاً نسبي، ومن حق كل فرد أن يعتقد في شيء وأن يتحاور حوله ويختلف أو يتفق مع غيره ويجب على المحاور أن يعترف بحق من يحاوره في الاتفاق والخلاف وحقه في إبداء الرأي. ولكل مواطن الحق في إبداء رأيه سواء اختلف أو اتفق مع الآخرين ويجب أن يعبر عن وجهة نظره بحرية كاملة طالما أن هذا الحوار لم يتعرض للكيان الوطني أو النظام العام أو صالح المجتمع.

– تغيير البرامج الإعلامية بشكل جذري؛ فالإعلام لا يشجع على إقرار وتأكيد أفكار المواطنة وأفكار المساواة بين الأفراد بعضهم بعضاً، فهو إعلام يفرق ويفرز بين الحاكم والمحكوم، وبين الغني والفقير، وبين المنتمي إلى مجتمع ومجتمع آخر، وهي أفكار تتنافي وفكر المساواة بين الأفراد.

سيظل مفهوم المواطنة والدولة الحديثة، مغيباً في فكر تيارات الإسلام السياسي، باختلاف تشعباتها، ما لم تحدث نقلة نوعية في بنيتها ومنطلقاتها، بحيث تتمكن من تجاوز غربتها التاريخية. إن ذلك يستدعي تغييراً في المرتكزات الثقافية والفكرية التي تستند عليها هذه التيارات، وقبول فكرة التعدد والتسامح والتعايش السلمي مع الآخر، بما يعزز مفهوم الشراكة والتوافق الوطني. وهو وحده سبيلها، إذا أرادت التخلص من غربتها، والعيش في القلب من أوطانها وليس على هوامش التاريخ. فلكي ينتصر الإعلام للمواطنة، فلا بد أن يشارك المجتمع كله بمختلف طبقاته وفئاته وشرائحه وتوجهات أفراده ومشاربهم فى صياغة السياسة الإعلامية.

سادساً: خصائص العملية الإعلامية في ظل النظم السياسية الدكتاتورية

الدكتاتورية كلمة لاتينية: ,هي شكل من أشكال الحكم المطلق حيث تكون سلطات الحكم محصورة في شخص واحد كالملكية أو مجموعة معينة كحزب سياسي أو ديكتاتورية الجيش. وكلمة ديكتاتورية مشتقة من الفعل (dictātus ديكتاتوس ) بمعنى يُملي أو يفرض أو يأمر. وللديكتاتورية أنواع حسب درجة القسوة فالأنظمة ذات المجتمعات المغلقة التي لا تسمح لأي أحزاب سياسية ولا أي نوع من المعارضة وتعمل جاهدة لتنظيم كل مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية وتضع معايير للأخلاق وفق توجهات الحزب أو الفرد الحاكم تسمى أنظمة شمولية مثل ألمانيا النازية والإتحاد السوفييتي والفاشية، ويمكن اعتبارها نسخة متطرفة من السلطوية حيث أن الأنظمة السلطوية لا تتحكم في المنظومة الاقتصادية والاجتماعية للبلد من الناحية النظرية على الأقل، والأنظمة السلطوية بشكل أدق هي الأنظمة التي لا تحكم وفق أيديولوجية سياسية محددة ودرجة الفساد فيها أعلى من تلك الشمولية.

ظهرت في تلك الفترة عدد من الأنظمة السياسية التي وصفت من قبل أصحاب المذهب الليبرالي بالدكتاتورية مثل الأنظمة الفاشية في إيطاليا وألمانيا والنظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي السابق، حيث اتسمت تلك الأنظمة حسب الليبراليين بسمات الدكتاتورية مثل نظام الحزب الواحد، تعبئة الجماهير بإيديولوجيا النظام الحـاكم، السيطرة على وسائل الإعلام وتحويلها إلى بوق للدعاية لصالح النظام، توجيه النشاط الاقتصادي والاجتماعي للجماهير توجهاً إيديولوجياً لصالح النظام الحاكم والاستخدام التعسفي لقوة الأجهزة الأمنية من أجل ترويع المواطنين. ومن الأمثلة على الحكام الدكتاتورين.

عادة ما تكون وسائل الإعلام في النظم الدكتاتورية ناطقةً باسم السلطة الحاكمة، ولا تنشر الأخبارَ إلا بما يتوافق مع أهدافها وغاياتها، ومن خلال ذلك يمكن لنا أن نطلق عليها نظرية خاصة تحت مسمى: “نظرية السلطة”، وتقوم هذه النظرية على أساس أن الحاكم والحكومة هما الدولة، وهما الصالح العام، وأن سعادة أي شعب واستقراره تكمن في التسليم المطلق للحاكم والحكومة، والانقياد بالولاء والطاعة، ومن ثَم يكون الفرد أداةً في خدمة الحاكم والحكومة، التي تعتبر نفسَها صاحبة الحق الأول في تقرير الحقائق أو المعلومات التي تصل إلى أذهان الناس” .

ويمكن إجمال أبرز خصائص العملية الإعلامية في ظل النظم السياسية الدكتاتورية بما يلي :

– الحاكم والحكومة: هما صاحبا الحق المطلق في السماح بظهور وسائل الإعلام والترخيص لها بممارسة عملها في حدود ما يُقرَّانه ويسمحان به.

– هذه الوسائل مقيدة بقيود رقابية سابقة للنشر ولاحقة عليه.

– يُحظر على وسائل الإعلام حظراً تامّاً توجيهُ أي نقد للحاكم أو سياسته أو سلوكه الشخصي.

– السلطة هي المصدر الوحيد للحقائق والمعلومات.

– الوظيفة الأساسية لوسائل الإعلام هي تأييد سياسة الحكومة، والدعوة إلى تعضيدها.

سابعاً: وسائل الاعلام والدولة العميقة

لقد أصبحت وسائل الاعلام المساندة للدولة العميقة هي من يضع أجندة اهتمامات الرئاسة والحكومة والجمهور العام، وإعلام الدولة العميقة هو إعلام انتزعت منه السلطة الرابعة وتحول لخادم مطيع يسير في أفلاك الحكومات، يحرص على استمرار إغماض الناس لأعينهم .

وكان مصطلح الدولة العميقة قد نشأ أولاً في تركيا في تسعينيات القرن الماضي للتعبير عن شبكات من المجموعات وضباط القوات المسلحة الذين أخذوا على عاتقهم حماية علمانية الدولة التركية بعد قيامها على يد مصطفى كمال أتاتورك ومحاربة أي حركة أو فكر أو حزب أو حكومة تهدد مبادئ الدولة التركية العلمانية، وكان ذلك أول تعريف وظهور لمفهوم الدولة العميقة.

تردد بعد ذلك مفهوم الدولة العميقة بين العديد من الدول، ولا سيما في منطقتنا العربية والإسلامية وخاصة فيما بعد الانتفاضات العربية التي تعاقبت على العديد من العواصم العربية وما آلت إليه الأحداث خاصة في دولة بحجم مصر، والتي شهدت تحولاً أظهر مفهوماً واضحاً للدولة العميقة التي لعبت دوراً مهماً في مجريات الأحداث، ذلك المفهوم هو أنها تمثل المؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية والإعلامية التي تجتمع على هدف الحفاظ على مصالحها ضد أي تهديد والعمل على إبقاء الوضع على ما هو عليه بما يحفظ تلك المصالح المتشابكة، كما تقوم بذلك بدعوى الحفاظ على الأمن القومي ضد التهديدات الخارجية.

يمكن تتبع تاريخ الدولة العميقة في تركيا كمثال لأنها مصدر كلمة الدولة العميقة derin devlet وهو مصطلح تركي شائع يصف ما تم ذكره في التعريفات السابقة ويرمز لها في السياسة التركية بالذئب الأغبر المعبر عن القومية التركية كما تقول الأساطير التركية.

يرجع بعض المؤرخين السياسيين الأتراك الدولة العميقة إلى اللجنة السرية التي أنشأها السلطان سليم الثالث 1761-1808 لحمايته بعد محاولة اغتياله وهو عائد من حربه مع روسيا والنمسا الجدير بالذكر هنا أن الصدر الأعظم لم يكن يعلم بوجود هذه الجمعية.

بعض المؤرخين كذلك يرجع وجودها إلى تاريخ اقرب من هذا ويدعون أن بداية تكون الدولة العميقة كان مع جمعية الاتحاد والترقي التي كانت تعمل على إلغاء السلطنة وإنشاء الجمهورية.

لقد نجحت الدولة العميقة في وقف تقدم الفكرة الإسلامية نحو كيان الدولة لعقود من الزمان. منذ إعدام الزعيم الإسلامي المعروف عدنان منداريس في ستينيات القرن الماضي بعد وصوله للسلطة بالطريق الديمقراطي. وانتهاء بحل حزب الرفاه في نهاية القرن الماضي بعد وصول الزعيم الإسلامي أربكان للسلطة بالطريق الديمقراطي أيضاً.

وارتبط مصطلح «الدولة العميقة» بمصطلح آخر، وهو «دولة داخل الدولة»، ويعني الأخير أن هناك حكومة على رأس حكومة أخرى، ويتم انتخاب واحدة من قبل غالبية الناس في حين أن الأخرى لا تمر بأي عملية انتخابية، وعادة ما تتألف حكومة ما وراء الكواليس من عناصر داخلية تتمثل في التالي:

1- كبار الموظفين الحكوميين السابقين المدنيين والعسكريين، فهؤلاء يتفقون على التناوب على السلطة، وعلى تقاسم الثروة والامتيازات، وأحياناً يتنافسون فيما بينهم.

2- النخب الرأسمالية، أي رجال الأعمال الذين يحاولون استخلاص رأس المال، واحتكار الاستثمارات، استمرار امتيازاتهم المالية.

3- عناصر من الأوساط الأكاديمية والمثقفين والتكنوقراط، لاسيما أولئك الذين يعرفون كيفية السيطرة على الدولة من خلال عملية صياغة الدستور ووضع القوانين والتشريعات الأخرى التي لديها أجندة خفية أو البنود التي تسمح لقوى الوضع القائم بالاستمرار في امتيازاتها ونفوذها. وذلك فضلاً عن الدعم الخارجي الذي يتمثل في التحالفات أو الاتفاقات مع الدول القوية خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، فيما يتعلق بحماية المنافع والمصالح المتبادلة.

وتتمثل المهمة الرئيسة لهذه «الدولة داخل الدولة» في عدم السماح بحدوث أي تطور من شأنه أن يفقدها قوتها لصالح حدوث منافسة حقيقية ديمقراطية، وكذلك تهدف الحكومة الخفية إلى:

1- خلق صورة مشوهة عن النظام السياسي الديمقراطي الجديد، وجعل الناخبين يشعرون بأنهم لا يستطيعون الاعتماد على النظام الديمقراطي.

2- جعل الحكومة الديمقراطية عاجزة، لا قيمة لها، وإذا كانت تبدو جديرة بالثقة، تُثار على الفور اتهامات بالفساد والدكتاتورية لهز ثقة المواطنين فيها.

3- تعقيد النظام البيروقراطي في الدولة، والعمل على إعاقة إنجازات النظام الجديد سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية.

4- استغلال الدعاية الإعلامية لصالح رموز النظام السابق، ومقاومة النظام الجديد.

5- التأكيد للقوى الخارجية أن ضمان مصالحها مشروط باستمرار عناصر هذه الدولة الخفية في السلطة، وأن تغييرهم من شأنه أن يهدد مصالح الدول الخارجية.

وفي سعيهم لتحقيق هذه الأهداف، يحرص القائمون على هذه الشبكة على أمرين، الأول: عدم الكشف عن أنفسهم بغض النظر عن مدى الضغط، ويتم تمرير أي أوامر تخريبية من خلال رموز لتجنب تتبع مصدر الأوامر. والأمر الثاني: تعزز السلطة من خلال خلق حالة تنافسية بين الموظفين والتابعين لهم، بحيث يتم التخلص من الذين يفشلون في تحقيق أهداف الشبكة، ويتم ترقية المفضلين دون مسؤولية أو مراعاة للصالح العام.

ثامناً: الاعلام الجديد والعلاقة مع السلطة

بعد ظهور الفضاء الإلكتروني، أصبحت هناك وسائل جديدة لتقديم الأخبار والمعلومات والصور والفيديوهات، وكل ما من شأنه أن يقدم الحقيقة للمجتمع. وهذه البيئة الجديدة والفضاء الجديد، حررا المجتمع من سيطرة السلطة على صناعة الكلمة والصورة والرأي العام. وبرز نمط جديد من الديمقراطية وانتشار القيم الليبرالية داخل المجتمع، وهو ما ساعد على إيجاد أشكال جديدة من الثقافة السياسية، وعمل على إعادة تشكيل المجال السياسي وعلاقته بعملية التداخل بين المجال العام والخاص، وما بين مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني . ومع اتساع نطاق الحرية، أصبح بالإمكان نشر معلومات غير صحيحة ومضللة للرأي العام، تتباين في اتجاهاتها وأهدافها . ومن ثَمَّ، فقد بات الإعلام الجديد بحاجة لسلطة بهدف التنظيم والضبط، لا التعقيد والسيطرة. فالممارسة الإعلامية النزيهة لا بدَّ أن تلتزم بحقين أساسيين، هما: الحق في الاطلاع والمعرفة، والثاني هو الحق في التعبير؛ ذلك أن الدور الاجتماعي للإعلام يساعد على الموازنة بين مفهوم الحرية والمسؤولية الاجتماعية، وهذين الدورين يجب على السلطة أن تكون هي الضامن لهما.

الخاتمة:

مما تقدم يمكننا القول: إن الخطاب السياسي والإعلامي مؤشر قوي على مستوى الممارسة السياسية، وأن الموضوعية المطلقة هي أكبر مغالطة ابستمولوجية، وأن الحرية السلبية هي أن يعطى لك حق الاختيار بين الأشياء السيئة فقط. لذا فإننا نحتاج إلى مثاقفة المشكلات السياسية، وليس إلى تسييس المشكلات الثقافية. كما أن على من ينتقد التضييق على حرية الرأي كوسيلة للتعبير، عليه أيضاً أن ينتقد توسيع حرية الرأي كوسيله للتغليط.

المراجع:

الكتب:

1. رياض عزيز هادي: “حقوق الإنسان (تطورها- مفاهيمها- حمايتها)”، كلية العلوم السياسية جامعة بغداد، 2005.

2. شاهر إسماعيل الشاهر، الدولة: دراسة في علم الاجتماع السياسي، ط1، عمان: دار الاعصار ، 2018.

3. شلبي: كرم، الخبر الصحفي وضوابطه الإسلامية، بيروت: دار الشروق، 2007.

4. عادل عبدالصادق: الفضاء الإلكتروني والديمقراطية بين التحولات والتحديث، القاهرة: المركز العربي لأبحاث الفضاء الإلكتروني، 2012.

5. عبد الله محمد عبد الرحمن: علم الاجتماع السیاسي، دار المعرفة الجامعية للطبع والنشر والتوزيع, 1999.

6. علي خليفة الكواري: “مفهوم الديمقراطية المعاصرة”، في: قراءات أولوية منة خصائص الديمقراطية والمبادئ العامة المشتركة للدستور الديمقراطي في المسألة الديمقراطية في الوطن العربي، (مجموعة باحثين)، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2000.

7. محمد رفعت عبد الوهاب: الأنظمة السياسية، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، 2005.

الدوريات:

1. إبراهيم أحمد إبراهيم: مفهوم المواطنة بين المحلية والعولمة: مصر نموذجاً، عرض لرسالة دكتوراه بنفس العنوان للباحث قايد دياب قايد، كلية الآداب، جامعة بنها، 2006، شؤون اجتماعية، العدد 101، ربيع 2009، السنة 26.

2. إسراء أحمد إسماعيل: “الدولة العميقة…مرجعية جديدة”، مجلة الديمقراطية، العدد 49، تاريخ 26/1/2013.

3. شاهر إسماعيل الشاهر: “من تشخيص السلطة…. إلى تأسيس السلطة…دور مؤسسة الرئاسة في عملية صنع القرار”، الفكر السياسي، العدد 50، دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 2014.

4. مروان المعشّر: “السياسة الإعلامية الناجعة ضرورة لا ترف”، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، تاريخ 16 آب 2017.

الانترنت:

1. إبراهيم السيد: ما هي الدولة العميقة؟، تاريخ 2/8/2015، مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية، على الرابط: http://rawabetcenter.com/archives/10366

2. ضياء الشكرجي: ” بين ثقافة الدولة وثقافة السلطة”، تاريخ المقال: 4/6/2006، على الرابط: http://www.nasmaa.com/ArticleShow.aspx?ID=155

3. عبد الله بن علي العليان: “الإعلام والسلطة بين التفاهم والاختلاف”، تاريخ 20/12/2015، على الرابط: https://webcache.googleusercontent.com

4. ناظم عودة: مشكل الدولة والثقافة، مركز النور، تاريخ 16/6/2007، على الرابط: http://www.alnoor.se/article.asp?id=6837

5. ياسر سليمان أبو غليون: “إعلام السلطة.. عندما يصبح الصحفي مخبر الدولة”، مدونات الجزيرة، تاريخ 13/5/2018.

الصحف:

1- خالد الخاجة: “جدلية العلاقة بين الثقافة والإعلام”، صحيفة البيان، تاريخ 28 أكتوبر 2014.

2- عبدالرحمن غيلان: “أهمية الإعلام للدولة”، صحيفة الثورة، اليمن، تاريخ 14 يوليو 2016.

3- ياسر خضير البياتي، “الأخلاقيات المهنية في الإعلام الرقمي”، جريدة العرب اللندنية، 23/3/2017،. http://cutt.us/k9iJN

المراجع الأجنبية:

• Dexter Filkins: The Deep State: The Prime Minister is revered as a moderate, but how far will he go to stay in power?, The New Yorker, March 12- 2012:

http://www.newyorker.com/reporting/2012/03/12/120312fa_fact_filkins

• Joshua E. Keating, Coups Ain’t What They Used to Be, Foreign Policy, 27-6-2012:http://www.foreignpolicy.com/articles/2012/06_ain_t_what_they_used_to_be

• Jurgen Habermas : Structural Transformation of The Public Sphere (Cambridge , MA: Mit Press ,1989) pp. 171-179.

• Peter Dale Scott: The «Deep State» behind U.S. democracy, Voltaire Network Berkeley (États-Unis) | 6 April 2011: http://www.voltairenet.org/The-Deep-State-behind-U-S

• Pipes, Richard (1995), Russia Under the Bolshevik Regime, New York: Vintage Books, Random House Inc., ISBN 0-394-50242-6 p.240–281

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى