الدبلوماسية و المنظمات الدوليةدراسات سياسيةدراسات قانونيةنظرية العلاقات الدولية

ماهية الدبلوماسية: مفهومها، المفاهيم المرتبطة بها، تطورها التاريخي و وظائفها

من أجل إدراك أفضل لمفهوم الدبلوماسية، ينبغي أن نستعرضها من عدة محاور:

أولاً:تعريف الدبلوماسية:

تتنوع وجهات نظر فقهاء القانون الدولي في تعريف الدبلوماسية، فمنهم من يعرفها بشكل محدد ومنهم من عرفها بشكل أكثر تعميماً.

فيرى البعض أن الدبلوماسية هي أداة رئيسية تستخدمها الدولة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية والتأثير على الدول والجماعات الخارجية بهدف استمالتها وكسب تأييدها، ومنهم من عرفها بعلم وفن المفاوضات، فهي علم لكونها تستند على قواعد وقوانين وأصول، وهي فن لأنها مهنة دقيقة تحتاج إلى مهارات خاصة، ويرى آخرون أنها رعاية المصالح الوطنية في السلم والحرب، وممارسة القانون الدولي العام.

ويعرفها الدكتور سموحي فوق العادة بأنها:

” مجموعة القواعد والأعراف الدولية والإجراءات والمراسم والشكليات التي تهتم بتنظيم العلاقات بين أشخاص القانون الدولي أي الدول والمنظمات والممثلين الدبلوماسيين، مع بيان مدى حقوقهم وواجباتهم وشروط ممارستهم مهامهم الرسمية، والأصول التي يترتب على اتباعها تطبيق أحكام القانون الدولي ومبادئه والتوفيق بين مصالح الدول المتباينة كما هي، وفن إجراء المفاوضات السياسية في المؤتمرات والاجتماعات الدولية وعقد الاتفاقات والمعاهدات.

ثانيا: الدبلوماسية وارتباطها بمفاهيم مختلفة:

ترتبط الدبلوماسية بالعسكرية والحضارة والدين، وفيما يلي شرح لما بينهم من ارتباط وتداخل

·ترتبط الدبلوماسية بالحضارة ارتباطاً وثيقاً، فالدبلوماسية ماهي إلا فن إدارة العلاقات بين الدول، والدول عبارة عن مجموعة من البشر بينهم عملية اتصال وتحدث تفاعلات بينهم وعلاقات مختلفة والمجتمع الراقي هو المجتمع الذي يتعامل أفراده مع بعضهم البعض بأسلوب حضاري وفق أصول وآداب وسلوكيات معينة وبالتالي فإن هذا الأسلوب يطبقونه في تعاملهم مع المجتمعات المختلفة، هذه الآداب والسلوكيات تندرج ضمن الحضارة المميزة لكل مجتمع عن غيره وتنعكس خصائصها على أفراد هذا المجتمع ومن ضمنهم الدبلوماسي. لذلك يعرف الدبلوماسي بأنه مبعوث حضارة لدى حضارة.

·بالنسبة للدبلوماسية والعسكرية: للعسكريين مكانة خاصة، فهم يحتلون مواقع متقدمة في طبقات المجتمع، كما ينتمي العديد من الحكام إلى المؤسسة العسكرية، إضافة إلى ذلك فإن العسكرية تقوم على الالتزام بقواعد معينة في السلوك والتعامل والانضباط وبالتالي تشترك مع العمل الدبلوماسي في أبرز خصائصه. وقد نقلت المهنة الدبلوماسية الكثير من القواعد العسكرية في موضوعات المراسم والأسبقية والأوسمة النياشين، وفي كثير من الأحيان يتطلب من الدبلوماسية الإلمام ببعض جوانب العسكرية والعكس صحيح فهناك العديد من القضايا المعقدة والتي تتطلب تدخل أكثر من طرف لحلها.

·الدبلوماسية والدين: لعب رجال الدين دوراً هاماً في المجتمعات منذ أقدم العصور، حيث كانوا يمثلون الطبقة العليا في المجتمع بالإضافة إلى كونهم مرجعاً لعامة الناس وسواء في العصور الوسطى أم في الإسلام، لأنهم كانوا أصحاب العلم والمعرفة ومثال ذلك إختيار جعفر بن أبي طالب الآية المناسبة أثناء لقاءه بالنجاشي ملك الحبشة في الهجرة الأولى للمسلمين، فكان اختياره للكلمة مناسباً للموقف فالارتباط بين الدبلوماسية والدين هو ارتباط تاريخي وموضوعي.

ثالثاً:التطور التاريخي للدبلوماسية:

مرت الدبلوماسية بأربع مراحل رئيسية:

1.المرحلة الأولى: العصور الأولى للدبلوماسية في الحضارات القديمة مثل مصر الفرعونية والحضارة اليونانية والرومانية إلى الحضارة الإسلامية، وأهم مميزات هذه المرحلة أن الدبلوماسية كانت وظيفة مؤقتة لها هدف معين، مثل عقد اتفاق أو توصيل رسالة وتنتهي بانتهاء المهمة ولم يكن للدبلوماسي في ذلك الوقت أي حصانة دبلوماسية

2.المرحلة الثانية: مرحلة المدرسة الفرنسية في الدبلوماسية “ريشيليو” مؤسسها واستمرت ثلاث قرون وتميزت بالكياسة والاستمرارية والتدرج وإعطائها أهمية للمعرفة والخبرة، إذ كان الدبلوماسي على علم كامل بالمصالح المحلية ومعرفة أساليب التفاوض. وكانت دبلوماسية سرية متحررة من ضغط الرأي العام أو ضغط عامل الوقت

3.المرحلة الثالثة: بدء ظهور الدبلوماسية العلنية بعد الحرب العالمية الأولى، وإعلان الرئيس الأمريكي ويلسن مبادئه الأربعة عشر، وانتقاد الدبلوماسية السرية وهنا بدأ يظهر تأثير الرأي العام والدعوة إلى علانية المعاهدات الدولية وتسجيلها في عصبة الأمم ومن ثم الأمم المتحدة

4.المرحلة الرابعة: دبلوماسية الموتمرات والمنظمات الدولية: برزت هذه الدبلوماسية مع بداية القرن العشرين وارتبطت أساساً بالتنظيم الدولي المتمثل في عصبة الأمم ثم الأمم المتحدة وتميزت هذه المرحلة بتشعب مجال العمل الدبلوماسي، وبأسلوب الخطابة وظهور دبلوماسيين متخصصين في المجال الدولي ونضوج دور الرأي العام واشتراك المرأة في العمل الدبلوماسي ودخول قضايا جديدة كقضايا التسلح والفضاء والبحار.

في التاريخ الدبلوماسي : يقول الدكتور أبو هيف هو دراسة تاريخ الدبلوماسية في ماضيها تتبع المراحل المختلفة التي مرت بها في مجال العلاقات البشرية ومصائر الشعوب وعن طريق هذا التاريخ يمكن معرفة مجريات السياسة الدولية في الماضي و اتجاهها، و دوافع الحرب عن طريق المفاوضات و المعاهدات ان تعيد تنظيم المجتمع الذي يعيش فيه .
الدبلوماسية القديمة – أهمها :
1- الدبلوماسية البدائية ( القبلية)- الفئة الأولى تقول أن:
أ‌- يقول بلاغا : يرجح تاريخ الدبلوماسية الى الكرسي البابوي حيث كانت الخطوة الاولى للدبلوماسية في ايطاليا قد خطتها الدبلوماسية البابوية، ودبلوماسية المدن الايطالية ( و خاصة دبلوماسية البندقية) .
ب‌- يقول موات: ان الدبلوماسية بدأت عام 1451 في نهاية حروب المئة عام .
ت‌- يقول هل : ان الدبلوماسية بدأت مع القرن العشرين أي مع مرحلة الدبلوماسية العلنية .
*الفئة الثانية تقول نشأة الدبلوماسية بنشأة المجتمع وتطوره :
1- يقول نيوملن: ان التاريخ يذكر ان القبائل البدائية والجماعات البشرية الاولى قد عرفت الحرب والسلم وإجراء الصلح ، و مراسم الاحتفالات الدينية والسياسية والاتصالات التجارية و هذه الجماعات كانت لها مراسم خاصة عند وفاة الزعيم وعند تولي زعيم جديد للسلطة.
2- يقول دوليل : بأن الدبلوماسية ظهرت أثارها على الألواح الآشورية وفي التاريخ الصيني والهندي والاغريقي و الروماني ولكن لا صلة مباشرة بين النظام الحديث وبين ارسال الكنيسة الرومانية الوسطى للمبعوثين.
تطور العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع القبلي أدى الى بروز بعض القواعد و الأغراض أهمها:
1- كانت البعثات الدبلوماسية تنشأ عن الاعلان عن تولي زعيم جديد للسلطة او تتويج احد الملوك أو وفاة آخر أو إجراء انتخاب لاختيار زعيم أو رئيس .
2- كان ارسال البعثات والسفراء يجري بهدف القيام بالاتصال والتباحث من أجل المصاهرة والزواج .
3- كانت الدعوة الى عقد الاجتماعات التي تضم القبائل القريبة والبعيدة تهدف إلى بحث عدة شؤون منها الصيد والأعياد والشعائر الدينية.
4- كانت غاية البعثات تطوير العلاقات الودية ونبذ الحروب والدعوة للمفاوضات وعقد الصلح والاحتفال بإرساء قواعد السلام.
5- كانت هذه البعثات تشجع على قيام جماعات سياسية من أجل التحالف والمساندة كوسيلة لرعاية السلام(مثل حلف الفضول ” حلف الطيبين” ) .
حلف الفضول: كانت القبائل العربية في العصرالجاهلي تعقد حلف لنصرة المظلوم إذا ظلم وهوعقد لحماية زائري مكة والحج اليها .
6- كان البعثات الدبلوماسية تقوم بدور في اعلان الحرب أوالتهديد بها و الأخطار التي تترتب على وقوعها.
7- مبدأ تبادل الرسل والمبعوثين المؤقتين إقرارمبدأ الحصانات والامتيازات .
8- في بعض المجتمعات البدائية كانت تلقى عمل السفارة على النساء.
الدبلوماسية في حضارة الشرق الأوسط القديمة: ( حضارة الفراعنة، و حضارة الرافدين) .
كانت الدبلوماسية والعلاقات الدولية في هذه المرحلة ناشطة في الشرق الاوسط حيث قامت في هذه المنطقة مدينات امتدت من أرض ما بين النهرين دجلة، والفرات الى وادي النيل، محاطة بمدن صغيرة ودويلات مدنية أكبرها امبراطورية الكلدانيين اوالبابليين أوامبراطورية الفراعنة وكانت العلاقات الدولية تتميز بسمات المجتمع الآسيوي التي شكلت قاسماً مشتركاً لحضارات واسعة تمتد من مصر الى سورياو بلاد فارس حتى الهند الصينية و كانت السلطة مركزة بشكل قوي لإدارة شؤون الحكم وكان الحاكم أوالملك يجسد الدولة فكانت الدبلوماسية والعلاقات الدولية تنفذ لخدمة السياسة الخارجية التي تحدد أهدافها الأباطرة والملوك كما ان جميع المشكلات العامة و الخاصة كانت تحل (عادة بالحرب) أو (بالسلم) ، ضمن اتفاق او تعاهد يجري بعد التفاوض عن طريق مبعوثين او رسل ، مثالاً على ذلك :
1- مصر كانت تتبع قواعد تقوم على انتهاج سياسية خارجية قائمة على مبدأ التوازن القوي و سياسة تقديم المعونات المالية و الهدايا الى الملوك المجاورين بالإضافة الى المصاهرة و الزواج.
2- كما اكتشف مجموعة من الرسال الدبلوماسية بلغ عددها 360 لوحاً من الصلصال وهي عبارة عن المراسلات الدبلوماسية المتبادلة بين فراعنة الأسرة الثامنة عشرة التي حكمت مصر في القرنين الخامس عشر والرابع عشر وملوك بابل والحثيين وسوريا وفلسطين معظمها كان مكتوباً باللغة البابلية لغة العصر الدبلوماسية.
3- هذا ما تؤكده معاهدة قادش بين الفراعنة والحثيين سنة 1279 ق.م التي أتت نتيجة في القانون الدولي والعلاقات الدبلوماسية، وأهم مبادئ هذه المعاهدة :
أ‌- اهمية المبعوثين والرسل والاعتراف بمركزهم في تحقيق السياسة الخارجية .
ب‌- التأكيد على اقامة علاقات ودية واشاعة السلام القائم على ضمان حرمانه أراضي الدولتين وتحديد التحالف و الدفاع المشترك .
ت‌- مبدأ رعاية الآلهة للعهد كقسم وتحريم النكث بالعهد .
ث‌- مبدأ تسليم المجرمين والعفو عنهم إنما دون تمييز بين المجرم العادي و المجرم السياسي.
و تبرز أهمية هذه المعاهدة ( قادش) في تاريخ العلاقات الدولية في ثلاثة أمور:
1- هذه المعاهدة تعتبر أقدم وثيقة مكتوبة حتى الآن في تاريخ القانون الدولي .
2- هذه المعاهدة بقيت حتى العصور الوسطى ( النموذج المتبع) في صياغة المعاهدات لما تضمنته من مقدمات ومتن وختام .
3- هذه المعاهدة ترسم لنا صورة صادقة وأمنية عن اوضاع الممالك في الشرق القديم وعن كيفية انصهار الدولة بشخص الحاكم او الملك.
الدبلوماسية في حضارة الشرق القديم الهند الصينية :
الدبلوماسية في الصين القديمة، اتبعت قواعد ومبادئ ارتبطت بنظرتهم الفلسفية وأسبغت عليها هالة من القدسية النابعة من الديانة البوذية والبراهمية، دعا كونفوشيوس الفيلسوف في القرن السادس قبل الميلاد الى اختيار مبعوثين دبلوماسيين يتحلون بالفضيلة ويختارون بناء على الكفاية و ذلك ليتمثل دولهم في الخارج سواء على المستوى الدولي ام جماعة الدول.
و فضل الفيلسوف كوانج شينغ ، اللجوء الى استخدام السلمية على الوسائل الحربية و دعا الى أن تخصص الدولة ثلثي ميزانيتها للانفاق على الاتصالات والبعثات الدبلوماسية واتبعت قواعد الاسبقية، ومراسم الاستقبال واستقصاء مبعوثيها للمعلومات بشكل سري.
اما الدبلوماسية في الهند القديمة :
يمكن الرجوع اليها من خلال كتب الهنود المقدسة خاصة الفيدا والمانوا ،أو قانون مانو الذي يتضمن بعض القواعد الخاصة بالسياسة الخارجية والسفراء و شؤون الحكم وهذه القواعد عن العلاقات الدبلوماسية في حضارة الشرق القديم ، اهمها :
1- في اختيار السفراء و صفاتهم : – يجب على السفراء ان يلموا بكل القواعد الدينية التي تقدم الكثير من المعلومات للسفراء بشأن التجسس والقضايا النفسية و مسألة النسب الى جانب الاستقامة والمعرفة التاريخية والجغرافية والتمتع بالشجاعة و الفصاحة .
2- تقوم العلاقات الخارجية على عاتق السفير حتى ان الحرب اعتبرت المهمة الأولى للدبلوماسية و عول عليها اكثر من السلم( و في المادة 65 من قانون مانو) بأن الحرب و السلام يعتمدان على السفير).
3- و في مجال التفاوض: يجب على السفيران يفطن الى أهداف الملك الاجنبي من خلال بعض الإشارات و الحركات المتعلقة بالحاكم أو بمبعوثيه السريين كما يجب أن يعرف مشاريعه عن طريق اتصاله بمستشاريه الطامعين او الناقمين هذا الى جانب حنكته في المحافات (و الحصول على المعلومات).
ويقول نيكولسون: بأن قوانين مانو (تمشل مجموعة كاملة لأحكام دبلوماسية نجدها في الحروب تنهي عن قتل اللاجئين من غير المحاربين و حتى عندما يكونوا المحاربين على درجة متساوية من التسلح فيجب على المنتصرين أخذ جرحى الأعداء للعناية بهم.
تقول المادة “66” ما يلي: السفير هوالذي يقرب بين الأعداء ويوقع بين الحلفاء .
الدبلوماسية في عهد الاغريق:
يقول نيكلسون ان الاغريق طوروا نظماً دقيقاً للاتصال الدبلوماسي. بحيث :
1- بحيث عرفوا مبدأ التسوية بالتراضي اوالمصالحة التي تشيرالى وقف الأعمال العدواني .
2- لقد عرفوا الاتفاق أي الهدنة المحلية المؤقتة.
3- تبنوا نظام الاتفاقات العلنية وحتى المعاهدات الى جانب التحالفات والهدنة المقدسة التي تعقد في فترة الألعاب الأولمبية و كان عقد الصلح والسلم بالنسبة للإغريق أقرب الاستخدامات والأسماء الى القلوب .
و قد تميزت أساليب الدبلوماسية وممارستها في عهد الاغريق بثلاث مراحل :
1- مرحلة المنادين او حملة الاعلام البيضاء قد أسبغت على هؤلاء سلطات شبه دينية و وضعوا تحت حماية الإله هرمس الذي يمثل السحر والحيلة والخداع ويقوم بدور الوسيط بين العالم العلوي والعالم السفلي حيث كان الدبلوماسي المنادي يستخدم كرسول لاعلان رغبة السيد أو الملك حول موضوع معين والتفاوض بشأن بعض الأمور .
2- مرحلة الخطباء: و هي مستوى أعلى من مستوى المنادي وكان يتم اختيار المبعوثين من بين الخطباء والفلاسفة والحكماء وهي مرحلة الدبلوماسي الخطيب.
3- مرحلة ازدهار حضارة الدولة المدنية وتقدم وسائل الاتصال حيث اعتمدت على أسس ثابتة في مجال السلم و الحرب( ومبدأ الحصانات).
أ‌- في زمن السلم قامت العلاقات الدبلوماسية على التعاهد والتحكيم وايفاد الممثلين الدبلوماسيين مثلاً نصت المعاهدة المبرمة بين طيبة واثينا على ان تقوم مدينة لاميا بدور الحاكم بينهما في حال نشأ خلاف حول تفسير المعاهدة.
ب‌- في زمن الحرب : فقد خضعت العلاقات بين المدن الاغريقية لقواعد خاصة اهمها:
1-لا تبدأ الحرب إلا بعد الاعلان والحرب لتسوية الخلافات الدولية و كان الاغريق قبل الحرب يلجأون الى المفاوضات الدبلوماسية الفردية وعقد المؤتمرات التي كان يطلق عليها الامفكتونية ويقول نيكلسون :” أن الاغريق قد اوجدوا نظاماً خاصاً للعلاقات الدبلوماسية الدائمة وان أعضاء البعثات الدبلوماسية منحوا حصانات معينة و كان لهم اعتبار عظيم وانهم اعترفوا بأن العلاقات بين الدول لا يمكن توجيهها فقط عن طريق المكر، والشدة ( فثمة قانون ضمني معين كان فوق المصالح الوطنية المباشرة أوالمنافع غير الدائمة.
2- تكون حرمة المعابد والملاعب مصونة وخاصة كانت بعض المعابد تستخدم لحفظ الوثائق ومحفوظات الدولة كمعبد مترون.
3- لا يعتدى على الجرحى والأسرى: حيث حكموا على صورالوحشية التي ترتكب بحق الجرحى والموتى في المعركة انها بمثابة امور تليق بالبرابرة .
العوامل التي أدت الى تأخر استتباب الاستقرار في العلاقات الدبلوماسية بين الدول المدنية الاغريقية خاصة في مجال التمثيل الدبلوماسي اهمها :
1- ان المدن اليونانية لم يعترف بعضها للبعض بالمساواة في السيادة.
2- ان العلاقات الدبلوماسية بين هذه الدول المدنية كانت في الواقع علاقات داخلية بين مدن ترتبط بروابط الدم واللغة و الدين والجوار أكثر مما كانت علاقات دولية.
3- لم تكن لتلك الدول المدنية القوة التي تمكنها من فرض نظمها على غيرها أو ضم الدول اليها، ولم تبرز هذه القوة إلا إبان عصر الاسكندر المقدوني حيث بلغ مبدأ القوة اليها، والاخضاع على مبدأ الاقناع والتفاوض أي ( الأسلوب الدبلوماسي).
تميز الأسلوب والممارسة الدبلوماسية عند الاغريق بعدة خصائص هي :
1- عدم وجود ممثلين دائمين ، فقد كانت مجالس الشعب اوجمعية المدنية هي التي تقوم بتفويض السفراء المؤقتين بمهامهم وتسلمهم خطابات الاعتماد و تقوم باستقبالهم .
2- كانت الديمقراطية الاغريقية تضع مبعوثيها موضع الشك دائماً ولذلك كانت السفارة تتكون غالباً من أكثرمن مبعوث واحد بحيث تمثل جميع الأحزاب ومختلف وجهات النظرأي كانت البعثة بشكل عام(جماعية ).
3- كان السفراء يحملون تصريحات بالسفر والانتقال عبر البلدان كما كانت الدولة تكفل لهم نفقات الاقامة والسفر والمعاملات بسخاء.
4- كان للسفراء حصانات وامتيازات لا يخضعون لسلطة القضاء المدني والجنائي المحلي في البلد الموفد اليه وخاصة ان المبعوث كان يتمتع بحماية الآلهة و كثيراً ما كانت الحرب تعلن بسبب انتهاك حرمة سفيرها اوالاعتداء عليه ، *مثال أعلنت الحرب على تساليا لأن سفراء قد اعتقلوا أو سجنوا في تساليا .
5- كان يحرم على السفراء قبول الهدايا مدة القيام بمهامهم .
6- إذا نجح السفير في مهمته وعاد الى وطنه و وافقت الجمعية الوطنية على ما قام به منح حديقة من الزيتون و دعي الى وليمة تقام خصيصاً له دار البلدية وكان موضع حفاوة و تبجيل، اما إذا اخفق فكان يتعرض لأقصى العقوبات الجنائية و كان عليه ان يعيد النفقات التي اقتضتها مهمته .
7- من أبرز ماعرفه اليونان في تاريخ العلاقات الدولية هو نظام القناصل و هكذا يلاحظ ان الاغريق قد مارسوا الدبلوماسية وضرورة اتباع هذه القواعد التي تنظم العمل الدبلوماسي.
الدبلوماسية في عهد الرومان :
1- ورث الرومان عن الاغريق بعضاً من التقاليد والقواعد الدبلوماسية .
2- في عهد الرومان وصلت العلاقات الدبلوماسية الى مرحلة متقدمة من التطور والانتظام من خلال المؤتمرات والاتحادات التعاضدية وقد سار تطور العلاقات الدولية ضمن اطار ( خدمة الاهداف الخارجية لروما ) التي ارتكزت على مبدأ السيطرة وخضوع الشعوب الأخرى و كيفية استيعابها وصهرها في البوتقة الرومانية.
3- لجأت روما الى رفض فكرة المفاوضة والدخول في معاهدات وتحالفات بين روما وغيرها من المدن ، والشعوب المغلوبة على أمرها، و هذه المعاهدات أبقت لتلك المدن والشعوب نوعاً من الحكم الذاتي.
و كان أفضل ( ! ) ما ابتدعته الرومان مبدأ ( سحق خصمهم العنيد والصفح عمن يخضع لهم ).
آثار العقلية الرومانية القانونية وغلبتها على الأسلوب الدبلوماسي في النقاط واهمها :
1- عرف الرومان المعاهدات وصياغتها وأشكالها حيث أقروا مبدأ احترام العهود وقدسية المواثيق كأساس لاستقرار العلاقات الدولية.
2- في العصرالاول لسيادة روما برزت العقلية القانونية من خلال تلاشي العادات الدينية وتلاشي القانون المقدس ومسألة القسم في تنفيذ المعاهدة امام قانون الشعوب وأصبح يحكم علاقات روما بغير مواطنيها من الشعوب الصديقة والاجانب المتحالفين معها.
3- مع تطورالامبراطورية الرومانية نشأ قانون الأجانب الذي يطبق على سكان الأقاليم المفتوحة حديثاً من غير الارقاء الذين لم يكتسبوا بعد حق المواطنية الرومانية .
ويقول نيكولسون :” إن نظام الرومان الدبلوماسي لم يكن يتسق مع الاعتراف بمبدأ المساواة القانونية ذات السيادة .
و هكذا نلاحظ بأن الرومان كانوا يفضلون استعمال القوة على استعمال الأساليب الدبلوماسية ( اي انها كانت علاقة استعمارية).
تميزت الممارسة والأسلوب الدبلوماسي الروماني و هذه الخصائص تركزت في الأمور التالية :
1- كان اهتمام الرومان يتركزعلى الشكل قبل المضمون في اجراءات عقد و تسجيل المعاهدات فمثلاً انصرف اهتمام الرومان الى النظر بصحة اعلان الحرب بالشروط المرسومة قبل بدئها و كذلك بما يتعلق بعقد الصلح طبقاً لمراسم معينة.
2- كان مجلس الشيوخ الروماني هو الذي يديرالخارجية ثم أصبح للاباطرة من تدبيرهذه السياسة و لكن بعد استشارة هذا المجلس.
3- كان مجلس الشيوخ يقوم بقبول سفراء الدول الأجنبية والاستماع الى مطالبهم و قبولها أو رفضها.
4- في عصر الرومان أصبح تكوين البعثة الدبلوماسية بمثابة لجنة تمثل مجلس الشيوخ يتراوح عددها بين شخصين او عشرة أشخاص وان السفراء عادة من درجة الشيوخ او من الفرسان البارزين أو البعثات الدبلوماسية الهامة، فكانت تتكون من عدد من القناصل اوالفرسان يرأسهم أحد أعضاء ديوان الخارجية .
5- عند عودة السفراء من مهمتهم يقدمون إلى مجلس الشيوخ تقريراً مفصلاً يصوت عليه المجلس بالموافقة او الرفض.
6- كانت تجري مراسم واجراءات متعددة لاستقبال السفراء.
7- عندما يقترف السفراء الأجانب عملاً مخالفاً للقانون يبعث بهم الى دولتهم لتقوم سلطاتهم بمحاكمتهم و معاقبتهم.
8- كان الممثلون الدبلوماسيون لدى روما يتمتعون بالحصانة الشخصية حتى وقت الحرب.
بعد انهيار الامبراطورية الرومانية في القرن الخامس الميلادي أصبحت منقسمة الى قسمين :
1- الدولة الرومانية العربية وعاصمتها (ميلانو) والتي سقطت على أيدي القبائل الجرمانية أفقدها هيبتها القديمة ولم تعد سوى مقر للبابوية حتى قيام دولة الفرنجة في بلاد الغال( فرنسا) و ظهور شارلمان سنة 800 م الذي اعاد لروما مجدها الروحي القديم.
2- الدول الرومانية الشرقية: التي تأسست في بيزنطة وأدت لقيام روما جديدة ( هي القسطنطينية ) واستمرت هذه الدولة كقوة جبارة حتى عصر شارلمان و ظهور الإسلام، والدولة الإسلامية.
الدبلوماسية في عهد البيزنطيين:
1- كانت الدبلوماسية البيزنطية أكثر مهارة في استخدام الدبلوماسية وممارستها.
2- اتبع البيزنطيون أسلوب من التفاوض في استخدام الدبلوماسية في علاقاتهم مع الأمم الأخرى بدهاء تام.
3- بعد ان وجدوا أباطرة بيزنطة ان فض الخلافات بحد السيف وحده لا يكفي .
ابتكروا ثلاثة أساليب رئيسية هي :
1- سياسة اضعاف للشعوب والقبائل البرابرة من خلال نشر التفرقة وإثارة التنافس بينهم و ايقاع الخصومات و ذلك بهدف تقوية وحدتهم الداخلية.
2- شراء صداقة الشعوب والقبائل المجاورة بطريق الرشوة والهدايا ، أي التملق والمساعدات المالية.
3- ادخال أكبر عدد ممكن في الديانة المسيحية كما حصل مع العرب في جنوب الجزيرة أيام دولة الحميريين اليهودية، حيث قامت قامت أول سفارة مسيحية في العصر الحميري في عدن سنة 365 م و قد تم كل ذلك كان بمساعدة أبرهة نائب ملك الحبشة.
– لقد استخدم البيزنطيون عنصر التحري، و جميع المعلومات المتعلقة بأسرار الدولة التي يبعث اليها البيزنطيون بمبعوث حيث يجب عليه ان يتعرف على مواطن الضعف فيها واطماع حاكميها و كيفية استغلال كل ذلك لصالح دولته البيزنطية عن طريق المراقبة وجمع المعلومات.
تميزت الممارسة والأسلوب الدبلوماسي عند البيزنطيين بخصائص وسمات أهمها:
1- اعتمد البيزنطيون على فن المفاوضة وممارسة الدبلوماسية بأشكال وصيغ معينة.
و اعتمدوا أسلوب الدبولماسي المراقب بدل الدبلوماسي الخطيب وهذا الأسلوب يستند الى شخصية الدبلوماسي المحترف ذي الخبرة و الدراية .
و يقول نيكلسون ان البيزنطيين في تقاليدهم الدبلوماسية سبقوا غرب أوروبا بخمسة قرون على أساس المساواة في السيادة و قواعد حسن الجوار، وتبين أشكال العلاقات الدبلوماسية لتصبح وسيلة تحقيق التضامن بين الأسر الأوروبية.
2- أنشأ البيزنطيون في القسطنطينية ديواناً خاصاً للشؤون الخارجية قام بتدريب المفاوضين المحترفين الذين يقومون بأعمال السفارة لدى الدول الأجنبية وأنشأ الى جانب ذلك ديوان الأجانب او حسب تعبيرهم ( ديوان البرابرة) وهو يختص بمصالح المبعوثين الأجانب وشؤونهم و كان من تعليمات ديوان الشؤون الخارجية لسفراء بيزنطة ان يراعوا قواعد الذوق و اللياقة في بعثاتهم ، ومعاملاتهم مع الاجانب والمجاملة في أحاديثهم و ان لا ينتقدوا البلد الموفدين اليه في شيء بل عليهم امتداحه قدر المستطاع.
3- أهداف السفارات البيزنطية هو ان تقوم باعداد تقارير عن الاوضاع الداخلية في البلاد الموفد اليها فكانوا يسكنون في مبان خاصة و يكرمونهم ويراقبونهم ويحيطيونهم بحرس الشرف.
4- الاهتمام الزائد بالمراسم و إجراءات الضيافة وحسن الضيافة والاستقبال كما في روما ومن هذه المراسم احتفاظ البيزنطيين لسفراء العرب بمكان الصدارة بين جميع الدبلوماسيين الموفدين اليها ، وهو احترام بيزنطة الكبير لسفارات بغداد والقاهرة وقرطبة و تفضل سفراء العرب المشرف قبل عرب المغرب، حتى اعتبر ان العرب المشرق و خاصة بغداد الأفضلية على سفراء قرطبة .
ملاحظة : علامة التعجب المحصورة بين قوسين ليست من الأصل .

كان الهدف العام للدبلوماسية القديمة هو الاستقرار الأوروبي وليس المساواة العالمية ، وقد تحقق هذا الهدف من خلال الاتفاق الأوروبي عام 1815 الذي حقق لأوروبا مائة عام تقريباً من السلام ، وكان أبطال هذا الإنجاز هم رجال الدولة الدبلوماسيين مثل بسمارك ومترينخ وكاسترو. غير أننا يجب أن نلاحظ أن هذه المائة عام من السلام قد قامت في ظروف اسثنئاية ونتيجة لسياسة توازن القوى ووجود شبكة من المصالح المتبادلة في التجارة، كما كان عدد الفاعلين في المسرح الدولي قلة، وقدم لهم صغر القارة الأوروبية فرصة التفاعل السريع حيث زادت الإلفة بين رجال الدولة والسفراء والتي تجاوزت الحدود القومية ومع بلاطهم الملكي الذي كان نشطاً بشكل خاص في الدبلوماسية كون رجال الدولة والدبلوماسيون مجتمعاً ارستقراطياً تجاوز القوميات .
غير أنه ومع مطلع القرن العشرين بدا أن النظام الدولي سوف يتميز بالاضطراب العنيف لا بالتناسق والاستقرار، فقد أزاحت الحرب الأولى أربع امبراطوريات كبرى من القوى السبع التي كانت على المسرح الدولي، وكان على الدبلوماسية التقليدية في جوهرها أن تهيئ نفسها وتتكيف مع عصر ثوري جديد وكان التجديد الحاسم في هذا العصر هو إنهاء الاحتكار الأوروبي نتيجة لدخول الولايات المتحدة في المجموعة الصغيرة للأعضاء الكبار في المجتمع الدبلوماسي.
وقد توافق مع هذا التطور بدء تعرض الدبلوماسية القديمة او التقليدية وأساليبها لهجوم مستمر منذ الحرب العالمية الأولى واستمر هذا الهجوم الذي صحبته تطورات جذرية في البيئة الدولية حتى كادت الدبلوماسية القديمة أن تنبذ منذ نهاية الحرب الثانية. ويلخص “هانز مورجانثو” الحجج التي استند عليها الهجوم على الدبلوماسية القديمة في :
1- أنها مسؤولة عن الكوارث السياسية التي حاقت بالبشرية خلال الحقب التي سيطرت فيها أساليبها، والمنطق يقول إن الأساليب التي ثبت عدم صحتها يجب أن تستبدل.
2- أن الدبلوماسية التقليدية إنما تتعارض مع مبادئ الديموقراطية لذلك كان على الدبلوماسية أن تكون مفتوحة ومعرضة للفحص في كل عملياتها.
3- أن الدبلوماسية التقليدية بشكلياتها غير ذات جدوى ومضيعة للوقت ومتعارضة بمساوماتها مع المبادئ الأخلاقية.
أما العوامل الحاسمة التي أدت إلى تراجع الدبلوماسية القديمة ونشوء الدبلوماسية الجديدة فكانت نتيجة لثلاثة تطورات رئيسية : التغيير الذي لحق بتكوين الأسرة الدولية، طبيعة الاهتمامات الدولية ومن ثم أهداف العملية الدبلوماسية ، وأخيراً ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وهي موضوع بحثنا.
• مشكلة البحث:
تتمثل مشكلة البحث في معرفة اثر تطور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على مهام البعثات الدبلوماسية ودورها في تأسيس العلاقات بين الدول ، حيث كان لثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات دورا في ترابط وتشابك العالم وتقليص الاعتبارات الجغرافية السياسية للدول الى حد كبير ، ويمكن تلمس ابرز معالم هذا التطور الذي شهدته العلاقات الدولية والدبوماسية بما يلي :
1- أن العلاقات الدولية في عصر (المعلو اتصالات) تتسم بسيادة المعرفة والتقدم التكنولوجي وبما أن المعلومات والمعرفة لا تعترفان بحدود سياسية سيادية للدول فان ادارة العلاقات الدولية تأخذ هذا الامر بالاعتبار وتدار باساليب تتجاوز قيود الفرضيات الدولية التي سادت ابان مرحلة الحرب الباردة.
2- لم يعد بامكان الدول الحديث عن السيادة الاعلامية والتحكم في عملية تدفق المعلومات إلى داخلها والعمل على تشكيل عقول ابناء شعبها وضمان ولائهم التام لصالحها ، أما الان ومع تعاظم فرص الاتصال عن طريق شبكات المعلومات والاتصالات ظهر ضعف الدول في امكانية التحكم على نوع وكم المعلومات بالتالي ضعف قدرة الدول على تصريف شؤونها الخارجية وعلى علاقاتها مع الدول الاخرى.
3- انتشار ثقافة التغريب والميل نحو الاعجاب بثقافات الغرب في (العنف والجنس والشهرة والثروة والقوة وقيم الاستهلاك والوفرة الفردية والانانية) وانحسرت قيم الانتاج والتقشف وروح الجماعة مما اثر على دور الدول في تنمية عقول ابناء شعبها وضعف ايدولوجياتها الشعبية الوطنية أو الدينية .
4- اسهمت الثورة التكنولوجية في احداث التوحد على النطاق العالمي وفق مصلحة الدول الصناعية (المركز) فهي تتسبب في مزيد من التفكك واللامركزية على النطاق المحلي والداخلي للدول.
5- بروز دبلوماسية الاقمار الصناعية والاعلام الكوني في نشر الاخبار والصور مصحوبة بالجمالية والالوان والاثارة والغبن مما تسببه من حرج وضغط للقنوات الرسمية المعتمدة من قبل الدول في ادارة شؤونها الداخلية. حتى أن هذا النوع الجديد في الاعلام الفضائي يسبب للدول شعورا بالقلق والارباك لانها لم تعد قادرة على التحكم الاعلامي والخبري الداخلي وميل ابناء شعبها للثقافات الخارجية المثيرة والمؤثرة.
6- اختراق القنوات الدولية لحدود السيادة الدولية وتراجع مفهوم (السيادة الوطنية) وبعد انتشار الثقافة التلفزيونية المعتمدة على الاقمار الصناعية ، وبالتالي فان الدول سوف تفقد سيطرتها على تدفق المعلومات والاتصالات ذات الطابع الدولي الذي له اثر سلبي مباشر على تماسك الشعب وولائه لدولته التي يقطنها وينتمي اليها. تحت شعارات ترسيخ الثقافة العالمية وترسيخ قيم المعرفة العلمية ونزع مجتمعات الاطراف من ثقافاتها الوطنية.
7- أن قدرة التكنولوجيا الكونية في تهميش دور الدولة – الحكومة على فرض سيطرتها على ابناء شعبها يناظره تهميش لدور الدولة في الحياة الاقتصادية باتجاه افقارها وتدني عائداتها وتراجعها في اداء واجباتها المتعلقة بصيانة امنها القومي ودفاعها الوطني وبروز الرغبة المتزايدة لدى بعض القوى الدولية المهيمنة على الوضع الدولي الجديد إلى اداء ذلك الدور نيابة عن الدول مقابل قدر عال من الكلف المادية بالاضافة إلى تعزيز مستلزمات هيمنتها العالمية وضمان مصالحها الدولية.
فهل الدول قادرة على الثبات والديمومة باستيعاب اسرار ثورة (المعلو اتصالات) ؟ وهل أن هذا الامر يدعوها إلى الانغلاق على الذات بل التعامل مع التكنولوجيا الدولية الجديدة باستفادة من مزاياها المتعددة والا فان (عالم جديد سيظهر إلى الوجود) على انقاض الدولة الوطنية التي رسمت اركانها معاهدة ويستفاليا عام 1648 لرسم معالم علاقات دولية جديدة!

رابعاً: وظيفة الدبلوماسية:

الدبلوماسية هي إحدى أدوات تنفيذ السياسة الخارجية، باعتبارها تمثل السلطة التنفيذية لتشريعات السياسة الخارجية – أو أهدافها بمعنى أدق- فهي تعنى بتوصيل المعلومات للحكومات والتفاوض معها وتعزيز العلاقات بين الدول وتطويرها في المجالات المختلفة، والدفاع عن مصالح وممتلكات وأشخاص رعاياها في الخارج، وتمثيل الحكومات فى المناسبات والأحداث، إضافة إلى جمع المعلومات عن أحوال الدول والجماعات الخارجيةوالأحداث السياسية وعن الأوضاع السياسية والقضايا المرتبطة بها، وتقييم مواقف الحكومات والجماعات إزاء قضايا راهنة.

العلاقات الدبلوماسية متعدِّدة الأطراف
تختلف بالطبع الدبلوماسية الثنائية عن الدبلوماسية متعددة الأطراف ، ولعل أن أو ما يلفت الانتباه إلى الاختلاف بينهما ، ان الأولى تتم بين الدول فقط ، بينما الثانية تتم بين الدول والمنظمة الدولية ودولة المقر أو الدولة المضيفة ، أي أنها علاقة ثلاثية الترابط ، بيد أن الاختلاف والفروق بينهما أكبر من ذلك بكثير وتُسقط مباشرة على مختلف تفاصيل العلاقة البينية ، وعلى النحو التالي:
أولا : في الدبلوماسية الثنائية تتمثل العلاقة بين دولتين ، الدولة الموفدة والأخرى المستقبلة ، بينما في الدبلوماسية متعددة الأطراف تأخذ العلاقة أبعاد ثلاثية بين الدولتين الموفدة والمستقبلة من جهة ، والمنظمة الدولية من جهة ثانية .
ثانياً : في الدبلوماسية الثنائية لا بد من موافقة كل دولة على رئيس البعثة وباقي أعضاء البعثة الدبلوماسية عن طريق الاستمزاج مسبقاً واعتماده قبل الوصول الى الدولة المستقبلة ، بينما في دبلوماسية المنظمات الدولية لا يوجد مثل هذا التقليد او الوضع القانوني سواء بالنسبة للموظفين الدوليين التابعين للمنظمة او بالنسبة للبعثات الدبلوماسية المعتمدة لديها من قبل الدول، من منطلق ان هذه البعثات ممثلة للدول لدى المنظمة وليس للدولة المضيفة ، رغم تمتعهم بجملة ضمانات دولية تمنح لهم من المنظمة نفسها وعلى حساب سيادة دولة المقر أو الدولة المضيفة .
ثالثاً : من حق الدولة في التمثيل الدبلوماسي الثنائي أن تعلن شخصاً ما شخص غير مرغوب فيه او تقوم بطرده أو طلب سحبه من عضوية البعثة ، بينما –نظريا- لا يتم ذلك في علاقة الدولة مع المنظمة الدولية ، حيث لا تملك دولة المقر او الدولة المضيفة حق طرد او طلب سحب عضو من أعضاء البعثات الدبلوماسية المعتمدة لدى المنظمة إلا من خلال المنظمة نفسها .
رابعاً : في الدبلوماسية الثنائية تطبق الدول مبدأ المعاملة بالمثل بينهما ، بينما ليس لهذا المبدأ أي دور في العلاقة غير المتكافئة بين الدولة والمنظمة الدولية ، والسبب أن الدولة تملك سلطة تطبيق ما تشاء ويقرره أمنها الوطني على مختلف أجهزة المنظمة الدولية المادية والبشرية ، بينهما المنظمة لا تملك سلطة فعلية –وليس قانونية- للرد بالمثل مقارنة بالدولة صاحبة السيادة والإقليم .
خامساً : وثمة فرق أخر يتمثل في معيار الأسبقية في التمثيل ، إذ في الدبلوماسية الثنائية تكون الأسبقية محددة بمعيار زمني (ساعة وتاريخ وصول رئيس البعثة إلى الدولة المستقبلة أو وقت تقديم أوراق اعتماده ) ، بينما في نطاق الدبلوماسية متعددة الأطراف يكون المعيار ثابت ومحدد في الترتيب الهجائي لأسماء الدول وفقا للنظام الجاري العمل به في المنظمة .
سادساً : في الدبلوماسية الثنائية يكون التمثيل أحادي من كلا الجانبين ، بمعنى ان البعثة بطاقمها البشري جزء واحد في تمثيل مصالح الدولة ، بينما في دبلوماسية المنظمات الدولية تكون الدولة ممثلة بواسطة بعثة دبلوماسية دائمة (لدى) المنظمة ، ويكون لها في نفس الوقت عضوية ممثلة (في)([1])المنظمة من خلال مشاركتها ممثليها في نشاطات أجهزة المنظمة الفرعية، وربما يكون من ذات الدولة موظفين دوليين تابعين للمنظمة ومستقلين في عملهم وارادتهم تبعاً لاستقلال وارادة المنظمة الدولية ، مثل الموظفين المصريين في جامعة الدول العربية في القاهرة ، والموظفين الأمريكيين في مقر الأمم المتحدة في نيويورك .
سابعاً : الجهاز البشري للدبلوماسية الثنائية بين الدول يتكون من الدبلوماسيين والموظفين الفنيين والإداريين والملحقين ، وهم بالغالب الأعم من أبناء الدولة الموفدة ، بينما يشمل الجهاز البشري تبعا لعلاقات المنظمة ، وكما أشارت إلى ذلك اتفاقية امتيازات وحصانات منظمة الأمم المتحدة لعام 1946.
المتغيرات التي تطرأ على العلاقات الدبلوماسية بين المنظمة والدول الأعضاء
إن العلاقة بين المنظمة الدولية والدول الأعضاء فيها –أو غير الأعضاء- قد تأخذ في بعض الأحيان صورة من صور النزاع والتوتر بينهما ، إذ لا يمكن إغفال النزاعات التي تحصل داخل المنظمات الدولية ، والتي قد تثور بين عدد من الدول الأعضاء أو بينها وبين أحد أجهزة المنظمة ، أو بينها وبين المنظمة ذاتها .
وتعود أسباب النزاع بين الطرفين الى أسباب عديدة ومتنوعة ، منها ادعاء الدولة أن المنظمة أو أحد فروعها قد تعدت حدود اختصاصها أو أن النشاط الذي تمارسه المنظمة أو أحد فروعها وان كان يدخل في صميم عملها إلا انه تنقصه التكييف القانوني اللازم لصحته ، وربما كذلك يأتي النزاع من جانب المنظمة ذاتها أو أحد أجهزتها ، إذ ترى أن الدولة المعنية لم تقم باحترام التزاماتها الدولية المترتبة عليها([2])، أو أنها لم تلتزم بالمبادئ الدولية التي أشار إليها الميثاق وعملت على تهديد الأمن والسلم الدوليين.
وعليه ، فان أي توتر أو نزاع ينشأ بين المنظمة والدولة لا يستوجب رد حاسم في “طرد” الدولة من عضوية هذه المنظمة لمجرد التنازع حول قضية معينه ، فهناك عوامل ومتغيرات عديدة تطرأ على علاقات الطرفين وتدفع بهما الى حافة الهاوية لأسباب كثيرة ، لكنها حتماً لا تؤدي دوما الى استخدام ورقة “الطرد” بإرادة الدول الأعضاء إلا في الظروف الاستثنائية التي يعتبر استمرار وجود الدولة عضواً في المنظمة والسكوت عن سلوكها وتصرفاتها تهديداً لأمن وسلامة العلاقات الدولية ، لذا يجب هنا التمييز بين إنهاء العلاقات الدبلوماسية متعددة الأطراف من جانب المنظمة الممثل في حالة “الطرد” ، وبين متغيرات أخرى تلجأ إليها المنظمة كنوع من العقاب أو الجزاء للدولة ، ومنها تجريد الدولة من مهمة أوكلتها إليها مسبقاً أو وقف المزايا والحصانات التي تتمتع بها ، أو توقيع عقوبات اقتصادية وتجارية عليها بعد إقرار الدول الأعضاء على ذلك كنوع من التأديب الجماعي لانتهاك الدولة المعنية ميثاق المنظمة أو تهديد الأمن والسلم الدوليين ، أو إصدار قرار من المنظمة لقطع العلاقات الدبلوماسية بين الدول الأعضاء ودولة معينة.
وقد تنشأ في بعض الأحيان جملة من الظروف أو المتغيرات التي تعكر صفو العلاقات بين المنظمة الدولية والدول الأعضاء فيها ، والتي يترتب عليها لجوء المنظمة الى نظام الجزاءات التي تطبقه على الدولة العضو –وأحيانا غير العضو- بهدف تصويب الوضع بصورة ترضي ميثاق المنظمة والدولة الأعضاء فيها ، وتتمثل أهم هذه المتغيرات في :
تجريد الدولة العضو من مهمة معينة أُوكلت لها مسبقاً .
وقف حق الدولة بالتمتع بالامتيازات والحصانات الخاصة بعضويتها .
فرض عقوبات اقتصادية وتجارية على الدولة .
الحرمان من حق التصويت .
تخفيض حجم البعثات الدبلوماسية المعتمدة لدى الدول أو المعتمدة لدى المنظمة الدولية.
قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة ما بناءاً على قرار من المنظمة الدولية .
إنهاء العلاقات الدبلوماسية متعددة الأطراف
بخلاف التمثيل الدبلوماسي الثنائي ، فان الدبلوماسية متعددة الأطراف تمتاز بحالات قليلة لجأت فيها الدول إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية أو إنهاؤها –الانسحاب- مع المنظمات الدولية ، وذات الشيء بالنسبة لدور المنظمة في قطع أو إنهاء العلاقات الدبلوماسية –الطرد- مع الدول ، وربما يعود ذلك إلى قصر عمر المنظمات الدولية التي لا تتجاوز بداية القرن المنصرم ، ولكن ما يمكن إعادة تأكيده في هذا الصدد ، أن فعالية المنظمة في مجال قطع او إنهاء علاقاتها مع الدول الأعضاء او في فرض عقوبات معينة طبقاً لميثاق واتفاقية المنظمة تخضع دوما لارادة الدول الأعضاء ، لذا قلما ما تسعى المنظمة إلى قطع او إنهاء علاقاتها الدبلوماسية مع الدول ، طمعاً منها في الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين وفي الحيلولة دون زيادة التوتر بين الدولة المعنية بالإساءة إلى المجتمع الدولي وباقي الدول الأعضاء في المنظمة ، بينما يحفل تاريخ العلاقات الدبلوماسية متعددة الأطراف بحالات عديدة لجأت فيها الدول أو هددت بالانسحاب لسبب ما ، إما كوسيلة للضغط باتجاه أمر يعينها أو للاحتجاج والاعتراض على سياسة معينة ، وربما لدفع المنظمة لتقوية وزيادة فعالية عملها والدفع عن حقوق أعضائها بجدية أكبر والالتزام بالسياسات والمبادئ التي قامت على أساسها المنظمة الدولية .
وبغض النظر عن آلية إنهاء العلاقات الدبلوماسية سواء بإرادة الدولة أو بإرادة المنظمة الدولية ، فان هذه العملية تتميز بأربعة خصائص رئيسية وهي ([3]):
عمل انفرادي تلجأ إليه المنظمة (الطرد) أو الدولة (الانسحاب) بمحض إرادتها .
عمل خاضع للسلطة التقديرية للمنظمة أو الدولة المعنية .
وعمل لاحق يتم اللجوء إليه بعد اكتساب الدولة لصفة العضوية .
يترتب عليه إنهاء كامل للعلاقات الدبلوماسية بين الطرفين ، فلا الدولة تصبح عضوا في المنظمة ، ولا الأخيرة يحق لها تطبيق مبادئ ميثاقها على الدولة .
إنهاء العلاقات الدبلوماسية متعددة الأطراف بإرادة المنظمة الدولية (الطرد)
ولعل أن العقوبة الأشد التي تملك المنظمة الدولية اتخاذها بحق دولة ما انتهكت ميثاق المنظمة وخالفت قوانين وأعراف العلاقات الدولية ، هي إعلان طرد الدولة من عضوية المنظمة ، فكما هذا التصرف القانوني الذي تملكه المنظمة مؤشر على جسامة وفداحة الخطأ الذي ارتكبته الدولة ، فهو مؤشرٌ أيضاً على حجم النزاع والتوتر الذي أصاب كبد العلاقات الدبلوماسية متعددة الأطراف ، خاصة بين الدولة والمنظمة الدولية ذاتها ، إذ يكون بذلك قد بلغ الطرفين حد إنهاء العلاقات الدبلوماسية بينهما ولكن بإرادة المنظمة نفسها ، دون أن يشمل ذلك رغبة متبادلة من الدولة المعنية .
ويمكن إدراك أهمية هذا المنحى الخطير على العلاقات الدبلوماسية بين الدولة والمنظمة من خلال استعراض معظم دساتير ومواثيق المنظمات الدولية التي حرصت على إدراجه في نصوصها وأنظمتها بهدف تحذير الدول من مغبة القيام بعمل ما يهدد أمن وسلامة الدول الأعضاء أو ينتهك الأسس التي قامت عليها هذه المنظمة أو تلك .
فالمادة السادسة من ميثاق الأمم المتحدة تشير إلى ما يلي([4]): “وإذا أمعن عضو من أعضاء الأمم المتحدة في انتهاك مبادئ الميثاق ، جاز للمنظمة أن تفصله من الهيئة بناءا على توصية من مجلس الأمن” .
وعليه فان يشترط لتوقيع عقوبة الطرد أو الفصل أمران : الأول : أن يكون العضو المعني قد أمعن في مخالفة مبادئ الميثاق ، ويلاحظ أن الإمعان هنا جاء بمعنى أن يكون الفعل الذي ارتكبته الدول لا يدخل في نطاق المخالفات البسيطة أو العادية بل يجب أن يكون فيه خرق واضح لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة والتي تراعي على حفظ الأمن والسلم الدوليين ، وحل المنازعات الدولية بالطرق السلمية وعدم اللجوء إلى القوة العسكرية إلا في حالة الدفاع عن النفس ، والثاني : أن يصدر قرار الفصل أو الطرد من الجمعية العامة بأغلبية الثلثين بناءاً على توصية من مجلس الأمن .
وطرد دولة ما من الأمم المتحدة يعني فيما يعنيه طردها وفصلها من مختلف الوكالات أو الأجهزة المتخصصة التابعة لها ، فعلى سبيل المثال يشير ميثاق منظمة اليونسكو في الفقرة الرابعة من المادة (2) الى أن طرد دولة عضو في الأمم المتحدة يؤدي تلقائيا الى طردها من منظمة اليونسكو([5]).
وبالانتقال الى جامعة الدول العربية –كمنظمة دولية إقليمية- يجد الباحث أن موضوع الطرد أو الفصل أشارت إليه المادة (18) من ميثاق الجامعة ، إذ نصت على ما يلي ” لمجلس الجامعة أن يعتبر أية دولة لا تقوم بواجبات هذا الميثاق منفصلة عن الجامعة ، وذلك بقرار يصدره بإجماع الدول عدا الدولة المشار إليها”([6]).
ويلاحظ أن جامعة الدول العربية فشلت في تطبيق هذا النص بحذافيره على الدول التي خرقت ميثاق الجامعة ، فهي لم تستطع فعل شيء حيال مصر عند توقيعها لاتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل عام 1979م ، واكتفت على توقيع عقوبة “تجميد” عضويتها في الجامعة ، ونقل مقر الجامعة من القاهرة الى تونس ، وقد ردت مصر على هذا الإجراء بقولها أن تجميد العضوية غير وارد في ميثاق جامعة الدول العربية ، وأن المادة المعنية أشارت فقط الى عقوبة الطرد وإنهاء العلاقات بإرادة المنظمة ، ولم تنص أو تشير الى هذا الجزاء صراحة ، وهو جزاء أخف وطأة من الفصل أو الطرد أو إنهاء العلاقات الدبلوماسية بإرادة الجامعة ذاتها، وقد استمر تجميد عضوية مصر في جامعة الدول العربية مدة عشر سنوات تقريبا ، أي حتى مؤتمر القمة العربي الطارئ في الدار البيضاء بالمغرب في أيار من عام 1989م([7]).
وكذلك لم تدفع باتجاه تطبيق هذا الجزاء أو إنهاء العلاقات بإرادتها مع العراق عام 1990م عند احتلاله لدولة الكويت ، بحجة أن تبقي النزاع الدائر بين أعضاء الجامعة –خاصة دول مجلس التعاون الخليجي- والعراق في دائرة جامعة الدول العربية وعدم تدويل الموقف الى حلبة الصراع الدولي وللحيلولة دون تدخل القوى الكبرى وإفشال الجهود العربية في نزع فتيل الأزمة ، وهو خلاف كل ما حصل بعد ذلك .
ويمكن إيجاد هذه العقوبة والحالة لإنهاء العلاقات الدبلوماسية مع الدولة بإرادة المنظمة الدولية في ميثاق منظمة الأوسيد ، والتي أشارت الى ما يلي([8]): “يجب أن تُعلم المنظمة الدولة العضو التي ارتكبت مخالفة لمبادئ واهداف المنظمة بأنها قامت بتصرف غير مشروع ، وتمنحها فترة لتصويب أوضاعها ، وبعد انقضاء هذه الفترة وإذا لم تنصاع يتم طرد الدولة المخالفة” .
يبقى القول ، أن تقرير منظمة دولية ما على إيقاع عقوبة الفصل أو الطرد لدولة معينة خالفت وأمعنت في انتهاك مبادئ الميثاق وهددت الأمن والسلم الدوليين ، لا يعني إنهاء شامل وكامل للعلاقات الدبلوماسية بين الطرفين ، خاصة وأن إرادة المنظمة الدولية في عملية الإنهاء جاءت لظرف محدد بموجبه قررت اللجوء إلى فصل الدولة أو إنهاء علاقاته الدبلوماسية والودية معها ، ولكن ذلك لا يحول دون عودة العلاقات الدبلوماسية بينهما بواسطة بعض الدول المعتدلة في المنظمة ، خاصة إذا ما عدلت الدولة المعنية عن سلوكها وتعهدت في إعادة الأمور إلى نصابها والتزمت بمبادئ الميثاق من جديد .
ولكن هل يمكن أن تعود العلاقات الدبلوماسية متعددة الأطراف إلى وضعها الطبيعي إذا ما قررت الدولة نفسها إنهاء وقطع تلك العلاقات ضمن ما يسميه أهل القانون بحق “الانسحاب” من المنظمة الدولية ؟
إنهاء العلاقات الدبلوماسية متعدِّدة الأطراف بإرادة الدولة العضو في المنظمة الدولية (الانسحاب)
يمثل انسحاب الدولة العضو بالمنظمة الدولية منها ، الجزء المكمل للعلاقة التبادلية في إطار إنهاء العلاقات الدبلوماسية متعددة الأطراف ، فانسحاب الدولة من عضوية إحدى المنظمات هو بمثابة إعلان رسمي عن إنهاء العلاقات الدبلوماسية بإرادة الدولة ذاتها ، ومع ذلك فلا يمكن الجزم أن هذا الانسحاب هو إنهاء جذري وشامل ، إذ ممكن أن تستمر الدولة في عضوية بعض الأجهزة الفرعية المنبثقة عن المنظمة الأم ، وممكن أن يحصل العكس ، أي أن تنسحب الدولة من فروع المنظمة الدولية وتبقى عضو قائم وفاعل في المقر الرئيس للمنظمة الدولية ، كما فعلت الولايات المتحدة عندما انسحبت من منظمة اليونسكو عام 1984م ، في الوقت الذي بقيت فيه عضوا فاعلا في باقي فروع وأجهزة الأمم المتحدة .
وتختلف الأسباب التي تدفع الدولة إلى إنهاء علاقاتها الدبلوماسية مع المنظمة الدولية ، إما لاعتقاد الدولة أن المنظمة قد خرجت عن حدود اختصاصها ، أو لأن المنظمة حاولت التدخل في الشؤون الداخلية للدولة([9]) فأرادت الدولة أن تضع حدا لتدخلها غير الشرعي بصورة إنهاء الارتباط الدبلوماسي والسياسي معها ، أو لان المنظمة عدّلت في ميثاقها بما يتنافى ومصالح هذه الدولة أو تلك ، وربما يكون الانسحاب لممارسة نوع من الضغوط على الدول الأعضاء أو المنظمة ذاتها لاتخاذ ما يتماشى مع مصالح هذه الدولة ، خاصة إذا كانت الدولة المتخذة لقرار إنهاء علاقاتها مع المنظمة وانسحابها ذات وزن وثقل استراتيجي في المنظمة ، كأن تكون المُساهمة بحصة الأسد في ميزانية المنظمة الدولية ، وقد يكون السبب في رفض الدولة لسياسة المنظمة تجاه قضية معينة أو اعتراضها واحتجاجها على الضعف الذي يعتري جسد المنظمة وعملها على أرض الواقع .
والواقع أن هناك أسباب أخر قد تؤدي وبشكل طبيعي إلى إنهاء العلاقات الدبلوماسية بإرادة الدولة دون تدخل من جانب المنظمة ذاتها ، وهي أسباب تتعلق بزوال المنظمة أو حلّها وتشكيل أخرى محلها أو بالتوارث بين المنظمات ، فهذه الأسباب خارجة عن إرادة الطرفين من ناحية عملية ومنطقية ، ولكنها بشكل أو بأخر تعتبر من لأسباب التي تؤدي إلى إنهاء العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين من ناحية قانونية.
ليس دوما يعني انسحاب الدولة العضو من المنظمة الدولية تعبيراً عن انزعاج الدولة عن سياسة المنظمة أو قطيعة شبة كاملة للمنظمة أو إحدى أجهزتها ، إذ ربما تنسحب الدولة وتقطع علاقاتها الدبلوماسية مع إحدى المنظمات الدولية لسبب يتعلق بدولة ما اكتسبت عضوية هذه المنظمة أو أتت ما من شانه تهديدا لمصالح الدولة المعنية دون أن يعني قطعها أو إنهاؤها للعلاقات الدبلوماسية مع المنظمة تعبيراً عن توتر أو نزاعٍ معين بينهما([10]) .
وبخلاف حالة إنهاء العلاقات الدبلوماسية بإرادة المنظمة ذاتها (الطرد) ، نجد أن هناك اختلاف واضح بين مواثيق المنظمات الدولية حول الإشارة إلى حق الدولة بالانسحاب من المنظمة ، وربما يعود ذلك الى رغبة المنظمة في الحفاظ على العلاقات الودية القائمة بين الطرفين والتعالي على الأزمات التي قد تعصف بهذه العلاقات مهما بلغ مستواها ، بينما أشارت مواثيق أخرى الى هذا الحق ، واعتبرته جزءاً مكملا لسيادة الدولة في الانسحاب أو إنهاء علاقاتها الدبلوماسية مع المنظمة إن رغبت ، كما هو الحال في إرادة المنظمة في “طرد” دولة ما من عضويتها .
فمثلا الاتحاد الأوروبي لم يدرج هذا المبدأ في دستوره المنظّم للعلاقات بين المجموعات الاقتصادية الأوروبية ، واعتبر هذا الأمر ضرب من ضروب الخيال ، حيث لا نية لديه في السماح لأية دولة من الانسحاب من عضوية الاتحاد الذي ظهر أساساً لوضع حد للنزاع والصراع القائم في القارة الأوروبية ، خاصة بين الدول الأوروبية الكبرى المؤسسة لهذه المجموعة ([11]).
وبالمقابل هناك منظمات التزمت الصمت حيال مسألة الانسحاب الاختياري من عضوية المنظمة أو الإنهاء الشامل للعلاقات الدبلوماسية بين الطرفين من جانب الدولة المعنية، فميثاق الأمم المتحدة الذي تطرق صراحة الى حق المنظمة في فصل عضو معين وإنهاء علاقاتها معه بإرادتها الكاملة ، لم يشر بنفس الصراحة الى حق الدول في إنهاء العلاقات أو الانسحاب من عضوية الأمم المتحدة ، بيد أن ذلك لم يمنع إندونيسيا من الانسحاب وإنهاء علاقاتها مع الأمم المتحدة خلال عامي 1964م و 1966م ، احتجاجاً على انتخاب ماليزيا ، التي كانت على نزاع حاد معها آنذاك ، عضواً في مجلس الأمن ، واعتبرت ذلك بمثابة إهانة لها من قبل الأمم المتحدة ([12]).
وعلى أية حال ، وبغض النظر عن الجدال القانوني في عدم إشارة ميثاق الأمم المتحدة لحق الدول أو عدمه من الانسحاب من المنظمة العالمية ، فان تاريخ الأمم لمتحدة سجل الى اليوم حالة انسحاب وإنهاء علاقات دبلوماسية واحدة، تمثلت في انسحاب إندونيسيا عام 1964، ولكن كثيرا ما يتردد في وسائل الإعلام عن توجه دولة ما للانسحاب من عضوية الأمم المتحدة نتيجة ضعفها في إدارة العلاقات الدولية وفشلها في حل المنازعات بالطرق السلمية ، وارتهان قراراتها الى شرعية النظام الدولي التي تهمين عليه الولايات المتحدة ، فمثلاً العراق أعلن أكثر من مرة خلال التسعينات عن نيته الانسحاب من الأمم المتحدة بحجة اتهام الولايات المتحدة في إدارة الأمم المتحدة بما يتوافق ومصالحها وحسب([13]) ، كما كانت هناك بعض التوجهات غير الرسمية المطروحة لانسحاب الولايات المتحدة من الأمم المتحدة في إطار الحرب الإعلامية والقانونية التي شهدتها أروقة الأمم المتحدة –خاصة مجلس الأمن- بين الولايات لمتحدة وبريطانيا من جهة ، وفرنسا وروسيا وألمانيا والصين من جهة أخرى خلال العام المنصرم بخصوص الأزمة العراقية ، وفشل واشنطن بانتزاع قرار دولي يسبغ الشرعية على حربها العدوانية الى شنتها على العراق في العشرين من آذار من عام 2003م([14]).
وبالانتقال الى مواثيق منظمات أخرى ، يجد الباحث أن هناك العديد من المنظمات الدولية والإقليمية والمتخصصة التي أشارت الى قضية الانسحاب وحق الدولة في ممارسة سيادتها الفعلية في إنهاء علاقاتها الدبلوماسية متعددة الأطراف ، إذ تشير المعاهدات المنشئة للوكالات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة –باستثناء منظمة الصحة العالمية- الى حق الدول بالانسحاب من أية وكالة متخصصة شريطة أن تقدم الدولة المعنية إشعار خطي قبل سنة من نيتها بالانسحاب ، واستثني من ذلك صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير والذي يتم الانسحاب منهما بشكل فوري([15]).
ومن الأمثلة البارزة والتي أخذت نقاشاُ مطولاً في الساحة الدولية في هذا الصدد ، انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من منظمة اليونسكو في كانون الأول من عام 1984م ، وعودتها إليها بهدوء بعد انقطاع دام تسعة عشر عاماً في أيلول من عام 2003م .
ومن الأمثلة الأخرى على انسحاب دولة من عضوية منظمة دولية ، انسحاب الكويت من عضوية مجلس الوحدة الاقتصادية في آذار 1990م ، وقد بررت الكويت على لسان وزير المالية الكويتي سبب انسحابها الى أكثر من مبرر([16]):
الزيادة غير المعقولة في عدد موظفي المجلس .
محدودية الفاعلية العملية التي حققها المجلس منذ إنشائه .
عدم التزام غالبية الأعضاء في تسديد التزاماتهم المالية .
الازدواجية القائمة بين مجلس الوحدة الاقتصادية العربية والمجلس الاقتصادي العربي.
وعدم العدالة في توزيع الحصص والمساهمات المالية في المجلس ، إذ تتحمل أربع دول فقط ما نسبته 80% من الميزانية ، من أصل 12 عضو ، فيما يتحمل الآخرون الباقي .
وقد واجهت منظمة الوحدة الإفريقية ذات الإشكالية عند انسحاب المغرب منها عام 1984م أثر قبول عضوية
ما يسمى ( الجمهورية العربية الصحراوية) في المنظمة ، فاعتبرت هذه إهانة لسيادة واستقلال المغرب التي تعتبر المنطقة الصحراوية المتنازع عليها مع الجمهورية العربية الصحراوية جزء من سيادتها الوطنية، ورغم أن العاهل المغربي ألمح الى إمكانية عودة المغرب الى منظمة الوحدة الإفريقية في خطاب له عام 1989م([17])، إلا انه لم يحصل أي تقدم يذكر في هذا الصدد .
وبإلقاء الضوء على ميثاق جامعة الدول العربية ، يجد الباحث أنه نص على الانسحاب بصفة عامة وأورد حالة خاصة له ، إذ أشار أنه لكل دولة عضو أن تنسحب من الجامعة العربية إذا أرادت ذلك بشرط أن تبلغ المجس عن عزمها القيام بذلك قبل تنفيذ الانسحاب بسنة، وخلال هذه الفترة تبقى الدولة متمتعة بكافة التزامات العضوية ، بيد أن الميثاق نص على حالة خاصة بالانسحاب وهي حالة تعديل الميثاق دون أن تقبل الدولة المعنية هذا التعديل ، إذ يجوز لها والحالة هذه أن تنسحب من الجامعة دون انتظار مدة السنة ، أي يكون انسحابها فوري وقائم من لحظتها وتزول مباشرة عنها صفة العضوية ، وعليه يكون ميثاق الجامعة العربية –على خلاف باقي دساتير المنظمات الدولية الأخرى- قد أشار إلى حالتين للانسحاب : الأول الانسحاب غير الفوري ، والثانية الانسحاب الفوري([18]).
إنهاء العلاقات الدبلوماسية متعددة الأطراف عند زوال أو توارث المنظمات الدولية
ليس هناك ثمة شك في أن المنظمات الدولية –كالدول- تعد شخص من أشخاص القانون الدولي ، ويجري عليها ما يجري على الدول ، فان كانت الأخيرة معرضة للموت والحياة ، أي للزوال وفقدان الشخصية أو للولادة والاستقلال واكتساب الصفة القانونية ، فان المنظمات ومن باب أولى تتعرض لذات الشيء ، إذ من الممكن أن تزول منظمة لسبب معين أو تتوحد مع منظمة دولية أخرى أو تندثر نهائياً وتقوم على أنقاضها منظمة أخرى .
فإذا فشلت المنظمة الدولية في تحقيق أهدافها التي أُنشأت من أجلها ، أو لم تستطع الاستجابة لظروف التغير وتحديات الأحداث الجسام التي تعصف بالعلاقات الدولية ، أو لم تعد قادرة على ترجمة أهدافها على أرض الواقع ، أو فقدت شرعية العمل والتحرك بسبب قيام حرب معينة أو تفكك أطرافها أو انسحاب أعضائها وعدم قدرتهم على تحمل المسؤولية الدولية تجاه هذا التنظيم الدولي أو ذاك … الخ ، فان ذلك قد يدفع الأطراف القائمة على إدارتها للتفكير الجدي في وضع نهاية معينة لهذه المنظمة ، إما بحلها وإزالتها إذا ما كنت عبء على الدول الأعضاء ، أو بتوارثها لمنظمة دولية أخرى ، أو باتحادها مع منظمة أخرى لزيادة فاعليتها وشرعية عملها الإقليمي أو الدولي([19]).
والواقع أن ظاهرة توارث المنظمات الدولية هي ظاهرة حديثة أو أن جاز التعبير إشكالية حديثة في إطار القانون الدولي ، فمن الناحية العملية لا تكاد تذكر الحالات التي حدث فيها توارث بين المنظمات أو زوال تام لمنظمة دولية أو اتحاد بين منظمتين أو أكثر ، فهي حالات نادرة وقليلة جداً ، وربما هذا ما يفسر غياب أو عدم وضوح التصور القانوني الكامل أو الواضح لآلية التعاطي قانونياً مع هذه الظاهرة ، فليس هناك ثمة قواعد قانونية تنظم هذه العملية برمتها .
وبما أن ما يهمنا في هذه الجزئية هو إنهاء العلاقات الدبلوماسية متعددة الأطراف عند توارث أو زوال المنظمة الدولية ، فاننا سنركز على صور التوارث بين المنظمات الدولية وآثاره المترتبة عليه بالنسبة لإنهاء العلاقات الدبلوماسية بصورة طبيعية ، فضلاً عن الآثار الأخرى المتعلقة بالدول الأعضاء فيها وموقع الاتفاقيات التي أبرمتها المنظمة قبل زوالها أو توارثها .
يطرح بعض الخبراء صورتين للتوارث بين المنظمات الدولية ([20]):
الأولى : أن تخلف منظمة دولية منظمة دولية أخرى في ممارسة بعض الوظائف والسلطات ، مع استمرار الأخيرة كشخص من أشخاص القانون الدولي ، ومثال ذلك ما أشار إليه ميثاق اليونسكو في المادة( 11/2) من انه إذا رأى المؤتمر العام للمنظمة أن هناك منظمة أو جهة رسمية أو وكالة متخصصة تسعى إلى أهداف مماثلة لليونسكو أو تمارس أعمال تدخل في صميم عملها ، فمن المرغوب فيه أن تتحول موارد ومهام تلك المنظمة أو الجهة إلى منظمة اليونسكو ، ويجوز للمدير العام أن يعقد بموافقة المؤتمر العام ما يلزم من اتفاقيات يرتضيها الطرفان .
وكذلك يمكن إيجاد نفس النص في ميثاق منظمة الصحة العالمية ، إذ أشارت المادة (72) إلى أنه يجوز لهذه المنظمة أن تخلف أية منظمة أو وكالة دولية أخرى تمارس نفس النشاطات والاهتمامات التي تمارسها منظمة الصحة العالمية ، وذلك من خلال تحويل موارد والتزامات تلك المنظمة أو الهيئة لصالح المنظمة الأولى ، ضمن اتفاق يقبله الطرفين ، ويمكن لمس ذات الشي في ميثاق المنظمة العالمية للأرصاد الجوية (المادة 26) .
ومهما يكن من أمر ، فان العلاقات الدبلوماسية متعددة الأطراف في هذه الحالة أو الصورة لا تتعرض لإنهاء من قبل الدول الأعضاء باعتبار أن المنظمة التي تنازلت عن بعض اختصاصاتها لصالح منظمة دولية أخرى ، مازالت قائمة كشخص دولي قانوني ، ولا ينعكس تحويل بعض أعمالها لمنظمة أخرى على علاقاتها الدبلوماسية مع الدول الأعضاء فيها ، فهذا توارث طبيعي كما يرى أهل القانون الدولي .
الثانية : أن يتم التوارث بين منظمتين دوليتين مع زوال إحداهما ، سواء كانت إحداهما موجودة أو قيد الوجود ، وهو ما حدث بين الأمم المتحدة عندما ورثت عصبة الأمم ، حيث بعد انهيار عصبة الأمم لاسباب كثيرة أهمها الحرب العالمية الثانية (1939-1945) ، اتفقت دول الحلفاء المنتصرة بالحرب الكونية الأخيرة على إنشاء منظمة الأمم المتحدة لتكون منظمة بديلة عن عصبة الأمم التي فشلت في الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين ، وكذلك ما حدث من توارث بين المحكمة الدائمة للعدل الدولي ومحكمة العدل الدولية ، وبين معهد التعاون الذهني واليونسكو ، وبين المنظمة الأوروبية للتعاون الاقتصادي ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية …الخ ، كل هذه الحالات تم فيها توارث بين المنظمات مع زوال إحداهما ، أي المنظمة القديمة

خامساً:امتيازات الدبلوماسية:

الممثل الدبلوماسي لدى الدولة المعتمد لديها يملك حصانات وامتيازات دبلوماسية، فلا يخضع لأي شكل من أشكال التوقيف أو السجن و تصان حريته و كرامته من كل اعتداء أو امتهان ، و يتمتع السفير بلقب صاحب السعادة و يرفع علم بلاده على مقر البعثة الدبلوماسية و سكن رئيس البعثة و سيارته أثناء قيامه بالمهام الرسمية و تتمتع مراسلاته و أمواله بالحصانة الكاملة. كل الامتيازات التي يحصل عليها الدبلوماسي ما هي إلا لتمكينه من ممارسة واجباته ومهماته دون إعاقة من جانب سلطات الدولة المضيفة.

التطور التاريخى للدبلوماسية ودور العولمة

لعل  تفحص تاريخ الدبلوماسية، يظهر لنا أنها قديمة قدم الشعوب نفسها، وذلك لأن تطور هذه الأخيرة، فقد ارتبط بشكل أو بآخر بتطور حاجات الجماعات الإنسانية المختلفة، ففي سعيها لتنظيم العلاقات فيما ببينها، عمدت القبائل مثلا البدائية،والتي كانت تعيش في أجواء تسودها الصراعات والتناحر، خاصة اتجاه الفئات الغربية، أو الدخيلة على مناطقها، وحتى إزاء القبائل الأخرى التي تجاورها، وعلى الرغم من ذلك، فإن هذا الوضع البدائي كان يفرض في بعض الأحيان التعامل مع الآخر، عبر الزعماء الذين يتفاوضون عبر المصاهرة وتبادل الهدايا، والتحالف قصد إيجاد سبل أفضل للتعايش وحماية القبيلة من الأعداء.

ومع تشكل الممالك والإمبراطوريات، كانت الحاجة إلى دبلوماسية ذات أبعاد أخرى، تكون عادة عقب نشوب الحروب فيفرض المنتصر إرادته عبر المبعوثين،ذلك لفرض شروط على الطرف الآخر، أو تقديم الهدايا لتجنب الدخول في صراع من القوى الكبرى.

وبحديثنا عن تطور العلاقات البشرية، وانتقالها من القبيلة إلى الدولة المدنية، أو الممالك والإمبراطوريات، لابد من أن نستحضر تطور الدبلوماسية، والتي عرفت أهمية كبرى كما أشار إلى ذلك الأستاذ فيليب كاييه Chater جنيف (1961) “الدبلوماسية هي الوسيلة التي يتبعها أحد أشخاص القانون الدولي لتسيير الشؤون الخارجية بالوسائل السليمة وخاصة من خلال المفاوضات”[2]. وقد عرفت الدبلوماسية أيضا عبر مراحل تاريخية مهمة كما أشار إلى ذلك (د. سهيل حسن الفتلاوي في مؤلفه الدبلوماسية بين النظرية والتطبيق)  حيث اعتبر أن المراحل التي مر منها هذا التطور هي:

1- مرحلة البعثات الدبلوماسية المؤقتة: 476م – 1475م

وكانت هذه الفترة محكومة بعوامل مساعدة، خاصة على ظهور الدبلوماسية، أهمها ضعف الإمبراطورية الرومانية، وكثرة النزاعات بين الإقطاعيين والحكام في أوروبا، وكانت لغة الدبلوماسية هي الهدايا والزواج السياسي،هذا الأخير هو المساعد على خلق نوع من الترابط العائلي بين الممالك قصد فض النزاعات.

2- المرحلة الثانية: 1475- 1815

حيث يعتبر (د. سهيل حسن الفتلاوي) أن هذه المرحلة اتجهت الدبلوماسية نحو نوع من التنظيم داخل أوروبا، كما أشار في نفس السياق د.هاني الرضا[3] إلى أن المؤرخين ذكروا أن أول بعثة دبلوماسية أنشئها فرانشسكو سفورزا دوف ميلان في جنوا 1455، كما عينت فيينا 1496 تاجرين لها في لندن كمساعدي سفير بحجة مخاطر الطريق إلى الجزر البريطانية، ويعد كل من الكاردينال زيشوليو و الملك لويس الرابع عشر هما اللذان وضعا أساس وزارة الخارجية الفرنسية، كما جاءت معاهدة وستفاليا 1648 المعقودة بين ألمانيا وفرنسا والسويد، لوضع حرب الثلاثين سنة، والتي أسفرت عن ميلاد الدولة الحديثة في أوروبا نتيجة سقوط القوى السياسية المسيطرة سابقا (البايوية والامبراطورية الرومانية المقدسة)، وظهور فكرة المساواة القانونية بين الدول، كل ذلك ولد حراكا دبلوماسيا عبر ظهور السفراء المعتمدين، والمقيمين بشكل دائم وفق قواعد عرفية، ستؤدي إلى ظهور مؤتمر فيينا عام 1815.

3- المرحلة الثالثة: 1815- 1914

 تأثرت الدبلوماسية حسب رأي دهاني الرضا بالعديد من المؤلفات لبعض الفقهاء القانونين، أمثال (جونيت ليس Gentillis) (وغروسيوس Grotius) وكاليير Callière وريكفورت Wicquefort) وبنكروشي Bankershook وقد ساهموا في وضع قواعد للممارسة الدبلوماسية ،أكدها مؤتمر فيينا لعام 1815، والذي عالج أيضا قضايا تتعلق بالتسلسل الوظيفي وقواعد البروتوكول، وقد تميزت هذه المرحلة أيضا بعدة خصائص جديدة ولجت العمل الدبلوماسي، وتمثلت في جملة من التغييرات التي كرستها اتفاقية فيينا 1815 ومن بين المستجدات:

أ- اعتبار الممثل الدبلوماسي ممثلا لدولته، وليس لشخص الحاكم، فهو مسؤول عن تصرفات دولته اتجاه الدولة المضيفة.

ب- اعتبار الممثل الدبلوماسي شخصية محترمة، وذات حصانة دبلوماسية وفق اتفاقية فيينا 1815 .

ج- أعضاء البعثة الدبلوماسية يعتبرون جزءا من إدارة دولتهم، وهم يعلمون من أجل رعاية مصالحها ومصالح رعاياها المقيمين بالدولة المضيفة.

د- اعتبار التجسس والتخريب أدوار أصبحت تضمحل في مقابل التعاون السياسي والعسكري، وتأسيس اتفاقيات تجارية وتعاون بين البلدان الأوربية.

غير أن هذه المستجدات بحكم الواقع كانت غير مثالية، بل نوعا ما غير مطبقة بالشكل الصحيح، وهو ما جسدته الدبلوماسية السرية، التي كانت عاملا حاسما في تكوين الأحلاف والدخول في حروب، ليست من ورائها أية مصلحة لشعوب القارة الأوربية، والتي ابتدأت بالحرب العالمية الأولى.

4- المرحلة الرابعة: 1914 إلى حدود الوقت الراهن

ترى في هذا الإطار د. لبابة عاشور أن الدبلوماسية مرت بمرحلة جديدة، حيث تقول : ” كانت الدبلوماسية حتى الحرب العالمية الأولى تتميز بالسرية، بكونها محصورة في حلقة ضيقة من الدبلوماسيين المتخصصين، لكن الحقبة التالية تحولت إلى دبلوماسية متفتحة وعلنية أو ما يمكن تسميته بالدبلوماسية الديمقراطية”،ولعل هذا التحول هو الذي ساعد على بروز قواعد دبلوماسية جديدة، مثلتها اتفاقية فيينا 1961 للعلاقات الدبلوماسية والتي كان من أهم مصادرها أيضا:

  1. العرف والذي هو العادات الدولية المرعية والمعتبرة بمثابة قانون دل عليه تواتر الاستعمال.
  2. الاتفاقيات والتي تشكل الإطار القانوني المكتوب، وتضم نوعين:الاتفاقيات الثنائية، والمتعددة الأطراف.
  3. القوانين الداخلية الوطنية: التي يعود للدولة حرية اختيارها وتحديدها للعمل الدبلوماسي بها.
  4. الاجتهاد والفقه الدوليان ويضم هذا النوع قرارات المحاكم التحكيمية، ولجان التوفيق وقرارات الدائمة للعدل،وآراء الفقهاء الدوليين عبر مؤلفاتهم القانونية.

وإذا كان هذا التطور التاريخي للدبلوماسية عرف تسلسلا زمنيا متتابعا، فإنه في العصر الحاضر محكوم بآليات وميكانزمات دولية وإقليمية ومحلية، تجسدت في ظهور أنماط جديدة من التواصل والتفاعل في إطار جديد سمي بعصر العولمة، فما هو معنى العولمة وتطورها التاريخي الاستشرافي.

المطلب الثاني: مفهوم العولمة

يعتبر مفهوم العولمة مرتبطا بجملة من المتغيرات، خاصة على الصعيد الدولي، وذلك بالنظر إلى التحولات التي عرفها العالم إبان سقوط الاتحاد السوفياتي، وتزعم الولايات المتحدة العالم كقوة عسكرية واقتصادية كبرى، وفق إيديولوجية ليبرالية وجدت نفسها بدون منافس حقيقي بعد سقوط جدار برلين وانهيار المعسكر الشرقي، وتفكك الأحلاف العسكرية التابعة له مثل حلف وارسو وانحسار المد الشيوعي، والتغيير السريع في دول العالم من دول اشتراكية إلى أسواق مفتوحة في وجه البضائع الأمريكية.

وفي هذا الإطار يشير المفكر المغربي د. عبد الواحد الناصر[4] إلى الأبعاد الحقيقية للعولمة،وذلك بوصفها أداة للهيمنة بقوله:” العولمة مفهوم يتميز بالجد وبالتعقيد وبإثارة الجدل، فهي مفهوم جديد لأنها اقتحمت عالم ما بعد الحرب الباردة، واستطاعت أن تنتزع لنفسها هالة كبيرة لم يحظ بها مفهوم آخر في السنوات العشر الأخيرة” وتقصد هذه الفترة منذ بداية التسعينات القرن الماضي حتى يومنا هذا، (عبد الواحد الناصر العلاقات الراهنة).

ويؤكد أيضا في هذا الإطار على أن أساس العولمة، وأهدافها الحقيقية ليس هو خلق عالم مثالي، حيث تكون خدمة البشرية وكوكب الأرض هي الغاية الكبرى، بل يرى أن هناك ظواهر سلبية لهذا المفهوم أهمها ثلاث رئيسية وهي:

السبب الأول: من الناحية الاقتصادية ستؤدي إلى نتائج غاية في الخطورة، وغير قابلة للإصلاح بالنسبة لدول الجنوب.

السبب الثاني: في العولمة من الناحية العقائدية تعني قيام مجتمع دولي يسوده المشروع الليبرالي دون غيره من المشروعات، وفي مقدمتها المشروع الإسلامي.

السبب الثالث: العولمة هي صناعة الأقوياء وهم بذلك يسعون في الحاضر كما هو الحال في الماضي إلى فرض سيطرتهم الاقتصادية، ومفاهيمهم السياسية وثقافتهم الأيديولوجية عن طريق ما توصلوا إليه من تقدم اقتصادي وتطور علمي وتكنولوجي (عبد الواحد الناصر ع.د. الراهنة ص 97-98).

وللإشارة فالعديد من المفكرين الغربيين والعرب، اعتبروا أن ظاهرة العولمة تحمل في طياتها العديد من السلبيات، على كافة الأصعدة والمستويات خاصة الاقتصادية منها، وفي هذا الإطار يثير د. عبد الله بن جبر العتبي[5] إلى هذا الاتجاه بقوله:”يشير التعريفات الاقتصادية للعولمة إلى مستوى النشاط الاقتصادي الذي يتجاوز حدود الدولة القومية، فالإدارة الاقتصادية وصنع القرار الاقتصادي وقرارات الإنتاج والتوزيع، والتسويق يتم تنظيمها على مستوى عا لمي، الأمر الذي حد من قدرة الدولة القومية على التحكم في تنظيم الأنشطة الاقتصادية” (اللجنة العربية للعلوم السياسية ص 81، العدد 23 صيف 2009م).

وحتى لا نجحف في تعريف مفهوم العولمة على مستوى واحد، فإننا سنتطرق إلى مفهوم العولمة حسب عدة مستويات، كما أشار إلى ذلك د. غازي صلاح أبو العينين[6] حيث اعتبر أن هذا المفهوم الشامل لم يتم تحديده لأنه يتمحور حول عدة مستويات أهمها:

المستوى الاقتصاد: حيث اعتبر أن أساس مفهوم العولمة في هذا الإطار هو اندماج الأسواق وإزالة كافة القيود والحواجز أمام حركة الراساميل والسلع والأفراد، وإزالة مختلف الإجراءات والتدابير الحمائية، أمام حركية عمليات الإنتاج، مما يسهل عملية التصنيع، بفتح كافة الأسواق أما كافة المنتجات في جميع الدول، وفي هذا السياق يقول د. غازي أن “يمكن أن يصل بها في هذا المعنى (الاقتصادي) إلى حد الهيمنة على اقتصاديات العالم وجعل هذا الأخير سوقا واحدا مفتوحا لمنتوجات الدول الأقوى أو أقدر على خوض المنافسة وفرض الإرادة على الأطراف الأضعف وهذا يجد ذاته يمثل امتدادا للأفكار الاستعمارية القديمة”

المستوى السياسي والعلاقات الدولية: أصبحت العولمة رمز الليبرالية الجديدة المعبرة عن انتهاء مراحل تناقضها الإيديولوجي مع الشيوعية، وتأكيد نظام القطبية الأحادية الذي يعكس الهيمنة الأمريكية، هذه الأخيرة تجلت في العديد من الأحداث التي شهدتها أروقة الأمم المتحدة، حيث أصبحت صناعة القرار الأمي بيد الولايات المتحدة الأمريكية فهي تستخدم حق الفيتو بشكل مبالغ فيه ضد كل من يخالفها التوجه أو يرفض الانصياع لمطالبها، وهو ما أدى إلى غياب دور حقيقي لمنظمة الأمم المتحدة وعجزها عن حل القضايا والنزاعات الدولية خاصة الشرق الأوسط وملف إيران النووي وكوريا الشمالية ونزاعات القارات الإفريقية، السودان وحركات التمرد في التشاد وبعض الدول الإفريقية.

أما على المستوى السياسي فقد اعتبر. غازي صلاح أبو العينين،أن العولمة لدى الليبراليين، تعني تعميم تطبيق مبادئ الديمقراطية، والتعدية واحترام حقوق الإنسان، هذا ما تجلى في بعض دول أوروبا الشرقية، حيث ثم تدعيم الحركات السياسية ذات التوجيه الليبرالي، والمحسوبة على الغرب، في مواجهة القوى الشيوعية المنهارة.

المستوى العسكري: وتعني العولمة في هذا السياق، التركيز على مفهوم الخضوع لمنطق القوة الواحدة في العالم، عبر تعميم ثقافة الخوف، وسيادة الرعب من خلال عنصري القوة العسكرية (حاملات الطائرات الأمريكية وكذا الأوروبية في إطار حلف الشمال الأطلسي)، ومن الفكر الاستراتيجي عبر التنسيق مع مجموع دول العالم، لمحاربة ما يسمى بالإرهاب الدولي المتمثل في تنظيم القاعدة.

المستوى الثقافي: ويرى د. غازي في هذا السياق أن العولمة في مستواها الثقافي تتجلى في تجانس أنماط الحياة، حيث يقول : “أنها تعني تجانس أنماط الحياة أو العيش عبر تعميم ونشر ثقافة استهلاكية موحدة، تهدف بالأساس إلى استلاب العقول” مع الإشارة إلى أنه في صميم حديثه عنها، يعتبر أنها نوع من الغزو الثقافي، يهدف إلى تكريس النمط الأمريكي وتسويقه، وجعل دول العالم الثالث مناطق مستهدفة بهذه الثقافة الاستهلاكية، التي تخدم مصالح الشركات الأمريكية العملاقة.

المستوى الجغرافي: وفي هذا الإطار تسعى العولمة، إلى جعل العالم سوقا استهلاكيا قريبا، حيث تغير السلع جميع الحدود وفق اتفاقية الكات، مع فتح الأسواق وعدم وضع حمائية ضد الواردات.

وفي هذا الإطار يرى د. غازي يقول: “فهي تعني تدمير الحدود السياسية ووضع حد لنهاية الجغرافية، وليس فقط لنهاية التاريخ كما يرى بذلك فوكوياما”، وعلى هذا الصعيد فالشركات المتعددة الجنسيات، تضطلع بدور هام من خلال فروعها في جميع بلدان العالم وفي هذا يبرز أنها القوى المحركة.

المستوى التقني والتكنولوجي: يتجلى هذا المستوى في التطور التكنولوجي، الذي يعتبر المعبر الحقيقي عن الثورة المعلوماتية، لما بعد الثورة الصناعية، وهذا التطور جعل العالم وحدة واحدة، وقرية عالمية صغيرة، فأجهزة الاتصال والمعلوماتية ووسائل النقل الالكترونية، كما أثبتت أن الشبكة العنكبوتية أتاحت الفرصة للأفراد، في دخول عالم افتراضي يسمى بعالم “الانترنيت”، تعبر من خلاله الدول والشركات، والمؤسسات والمنظمات والأفراد، عن وجهات نظرها وعن مدى تبادل المعلومات، ومدى التواصل بين هذه الأطراف.

المبحث الثاني: الدبلوماسية في عصر العولمة: الإطار الثنائي

اتخذت الدبلوماسية الثنائية طابعا مميزا تكرس بتوسيع كبير منذ الستينات في الاعتماد على السفارات المقيمة أداة رئيسية للاتصال والتعامل بين مختلف دول العالم، ومظهر من مظاهر سيادة الدولة، وكان السفير يقوم بدور رئيسي بصفته ممثلا لرئيس الدولة ولنظامها الحاكم. وكان وضعه المميز وثقله السياسي في دولته المعتمد لديها من هذه الزاوية، وهكذا تداخلت متغيرات العصر في تقليص صلاحيات ووضع السفير والسفارة[7].

المطلب الأول: مظاهر التأثير في الإطار الثنائي

أصبح من المألوف أن تتم اتصالات  رؤساء  الدول بعضهم ببعض مباشرة، هاتفيا أو بواسطة رسائل مباشرة، وأحيانا – وليس دائما، تعطي الدولة سفيرها فكرة عن هذا الاتصال، وأدى ذلك إلى تقليص دور السفير كحلقة للاتصال الرئاسية بين بلده والبلد المعتمد لديه، ففي المسائل الحيوية الحساسة يفضل رؤساء الدول  وحتى وزراء الخارجية حسمها بالاتصال مباشرة، وفي  بعض الأحيان عبر زيارات متبادلة على مستوى صنع القرار.

وهذه المشكلة ليست بالجديدة، فلقد أحست السفارة الأمريكية في  لندن  في عهد الرئيس كارتر في أواخر السبعينات،  أن المكالمات الهاتفية عبر الخط الساخن  بين كارتر ورئيس الوزراء البريطاني كالاهان، تناولت مجموعة  من الأمور، خفيت عن  سفيرها الذي أحرج نظرا لجهله بها، وخاصة  وأن الخارجية البريطانية كانت تحيط سفيرها في واشنطن  بفحوى هذه الاتصالات، ولنا ان نتصور الوضع حاليا وقد تضاعف عدد المؤتمرات والقمم، على المستوى العالمي  أو الإقليمي عشرات المرات عما كان عليه الوضع في القرون الماضية[8].

كما أن أداة   ثورة الإعلام والاتصال  إلى استباق وسائل الإعلام العالمية السفارات  في نقل المعلومات والأحداث والتطورات في مختلف بلاد العالم، وفي استضافة أكبر الخبراء لتحليلها والتعليق  عليها وفي عرض  خلفياتها التاريخية ن بحيث لو وقع انقلاب  عسكري مثلا في دولة افريقية أو لاتينية ، فإن وسائل الإعلام تنقل ذلك فورا وتعلق عليه  ولا يبقى لسفارة الدولة المقيمة في عاصمة دولة الانقلاب إلا أن تضيف جوانب ربما تمس تأثير هذا الحدث  في علاقة البلدين، ويعني هذا أن جانبا من مهام السفارة المحددة في معاهدة فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961، وهو إحاطة بلدها بالتطورات والأحداث، وهذا قد قلص دورها بشكل كبير، وأدت كذلك ثورة الاتصال إلى التأثير على دور السفارة المنتمية إلى إحدى بؤر التوتر والصراع، مما أدى إلى  تشابك التعاملات الدولية ووجود قنوات موازية للعمل الدبلوماسي منها مثلا الدبلوماسية الشعبية من خلال مؤسسات المجتمع المدني المتزايدة الأهمية والوفود البرلمانية، إذ ساهمت مباراة الطاولة مثلا في فتح الطريق أمام بداية الاتصالات بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، في أبريل 1970، في عهد الرئيس نيكسون، فيما سمي وقتها” دبلوماسية البنج بونج”، وفي نهاية التسعينات أدت مباراة في كرة القدم بين فريقين أمريكي – إيراني، إلى كسر الجمود بين البلدين.

ومن الواضح أن التغيرات الدولية، قد غيرت النظرة السابقة التي كانت تعرف كثرة التمثيل الدبلوماسي لدولة في الخارج دليلا على نشاط دبلوماسيتها ومتانة وضعها الدولي،  ومكونتها العالمية. وأصبحت  معظم المالي، إذ تعرف تراجعا في عدد أفراد البعثة، خصوصا الدبلوماسية بما يتوافق  مع وضعها المالي، إذ تعرف تراجعا في عدد أفراد البعثة، خصوصا إذا علمنا ان معظم الدول تعاني من أزامت مالية.

وباتساع ميدان العلاقات الدولية، لم تعد الدبلوماسية التقليدية  هي الآلية الوحيدة التي تستعملها الدول لتنشيط أو متابعة علاقاتها فقد مكنها  التقدم وروح الانفتاح من إحداث وسائل أخرى منها ما هو رسمي يبدو في العلن ويضم الجهاز الدبلوماسي التقليدي (رئيس الدولة، السفراء، القناصل..)، منها ما هو سري (أجهزة المخابرات التي أصبحت من أهم الوسائل التي تعتمد عليها الدول في  سياستها الخارجية، وكثيرا ما تكون هذه الأجهزة مرتبط بأعلى سلطة في البلد، مما يجعل منها  منافسا قويا للجهاز الدبلوماسي لوزارة الخارجية).

وهناك أيضا،  الدبلوماسية الموازية وتتمثل في:

1- وسائل الإعلام التي كثيرا ما تسبق البعثات الدبلوماسية في عملها إيصال الخبر وتحليله والتعليق عليه بخبرة ودراية، وهنا تبرز المنافسة الغير المتساوية التي بدأت هذه الوسائل تهدد بها الدبلوماسية الكلاسيكية[9].

2- الفعاليات المهتمة التي تؤثر في مجرى الأحداث الدولية وتتدخل في العلاقات بين الدول بحكم وظيفتها وهويتها، فعن طريق الغرف التجارية والملتقيات الثقافية والمناضرات الدولية، تحدد المواقف وتوطيد العلاقات بين الدول، كل هذا يثري العلاقات الدولية دونما اتصال ولا رعاية للدبلوماسية الحديثة التي بدأت الدول تلجأ إليها لتنمية علاقتها الخارجية ولتوسيع ميدان عملها.

المطلب الثاني: تأثير العولمة على الدبلوماسية العربية

 إن واقع الدبلوماسية العربية تقليدي يركز على الخدمات، لا السياسات ولا تعنيه قصة الصورة أو القيم أو ممارسة الضغوط إلا في ما ندر، وهي لا تزيد أن تفهم ممارسة الدبلوماسية الشعبية في الخارج، وهي غير  معنية بالدبلوماسية المنفتحة في الداخل، وغير إستراتيجية، تتميز بالأدلجة، والعسكرة في العمل الدبلوماسي، معذبة بعدد من التجادبات المكتبية، ويستهلكها التلميع الشخصي، وهي غير قادرة على الفعل والتأثير، وتغلب  عليها سياسة التعايش مع الأوضاع، وانتظار التغييرات وحكمة الصمت والصبر، وقلة عدد الدبلوماسيين الذي يجعلها لا تستطيع التأثير في صياغة القرارات، وغياب فكر قياس  النتائج والتعامل مع الإعلام والخوف أو عدم الإعداد، والدبلوماسية العصرية لابد أن تكون موصولة بروح العصر، ولابد من أن نراكم الخبرة الدبلوماسية لنستطيع أن نبني عليها[10].

وقد تبين الانحدار التاريخي للدبلوماسية العربية من قمة بيروت إلى قمة شرم الشيخ، وسبب ذلك ليس انعدام في التقنية الدبلوماسية لدى العرب، وإنما يرجع إلى عمق خلافاتهم السياسية التي جعلت دبلوماسيتهم دبلوماسية عرجاء، وهي على عكس الدبلوماسية الأوربية التي شهدت أيضا انقساما خطيرا بسبب الحرب على العراق.

ولا يمكن إنكار الدور الذي لعبته الدبلوماسية العربية في القضية الفلسطينية من خلال تحويلها لهذه القضية من قضية لاجئين كما تعاملت معها الأمم المتحدة في البداية، إلى قضية سياسية وقضية تقرير المصير واستطاعت الدبلوماسية العربية المحافظة على هذه القضية وتأكيد شرعيتها من الناحيتين القانونية والسياسية.

ومن أهم التحديات التي تواجهها تطوير نظام الدبلوماسية الإقليمية وضغوط ثورة الاتصالات والمعلومات والعولمة، والاهتزاز وعدم احترام القانون الدولي، والسيادة الوطنية، لقد آن الأوان لوقفة دبلوماسية العربية للتعامل مع الوضع ومواجهة العولمة وتحديتها.

ولتحقيق هذه الغاية تقتضي الإشارة على بعض التوجهات التي على الدبلوماسية العربية الأخذ بها وهي:

الانفتاح والشفافية والتفاعل مع القوى الحية والرأي العام لتحسين الصورة العربية

العمل بروح الفريق باختياره أساس النجاح وتجنب الفردانية.

التعاون بين الدبلوماسي وعدم التنافس السلبي بينهم.

التخصص وعدم الاعتماد على الدبلوماسي العام الذي يصلح لكل الأماكن.

التحول الإلكتروني في مواجهة الورق في الأرشفة والتوثيق.

التسويق والصناعة في مواجهة الوظائف التقليدية، بالإضافة إلى هيكلة وزارة الخارجية وهو مطالب ملح لكي تتلاءم والدبلوماسية العالمية.

الخلاصة أن الدبلوماسية هي علم وفن ومهنة وقانون وتاريخ ومؤسسة…

علم، لأنها ترتبط بدراسة العلاقات الدولية والتعرف على القواعد المتصلة بالممارسة الدبلوماسية ووظائف الدبلوماسي وما يرتبط به من مزايا وحصانات.

فن، لأنها ترتبط بالذوق الرفيع الذي يكتسبه الدبلوماسي بحكم الخبرة والمران ولأنها تتطلب موهبة.

مهنة، لأنها مصدر لكسب الرزق

قانون، لأنها ترتبط بقواعد قانونية تنظمها معاهدات واتفاقيات.

تاريخ، حيث ظهرت منذ العصور القديمة وتطورت بتطورالانسان حتى يومنا هذا

مؤسسة، فهي من ضمن مؤسسات الدولة الهامة وهي جزء من وزارة الخارجية.

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى