مجموعة مقالات حول السياسة الدفاعية للدول

إبراهيم اسعيدي
أستاذ محاضر في العلاقات الدولية بكندا ​

 عنوان المقال : واقع وآفاق السياسات الأمنية والدفاعية بالعالم العربي

المصدر / مركز دراسات الجزيرة

أهم ما ميز سلوك الدول العربية خلال العام المنصرم (2010) على مستوى السياسات الأمنية والدفاعية، هو استمرار المأزق الأمني، وفشل نظرية الأمن الجماعي العربي، وبروز الحاجة إلى إصلاح المؤسسة العسكرية، ودمقرطة السياسة الدفاعية العربية. ومن أجل مقاربة هذه القضايا الثلاثة واستشراف تطوراتها المستقبلية، يجب التأكيد على قاعدتين أساسيتين في مجال الدراسات الأمنية والدفاعية المعاصرة:

القاعدة الأولى: أن أية سياسة أمنية ترتبط أساسا بنوعية التهديد الذي يمكن أن يعصف بسيادة الدولة ووحدتها الترابية وأمن سكانها؛ وعليه، فإن أمن الدول يواجه تهديدات عسكرية وأخرى غير عسكرية تأتي من زوايا متعددة يصعب أحيانا إدراكها. فالتفوق العسكري وحده لا يحقق الأمن بمعناه الشامل. هذه القاعدة تسمح بفهم أن البعد العسكري لازال يحظى بالأولوية في بلورة السياسات الأمنية والدفاعية بالعالم العربي. وهو أمر له ما يبرره، ويمكن قياسه من خلال ميزانيات الدفاع، خاصة ميزانيات التسلح، ومن خلال التحالفات الأمنية التي تظل في معظمها من خارج المنطقة العربية.

القاعدة الثانية: وهي أن أية سياسة دفاعية تعكس بالضرورة طبيعة النظام السياسي القائم وطبيعة العلاقة بين المدنيين والعسكريين. فإذا كان النظام ديمقراطيا، فإن مؤسسة الجيش تكون خاضعة للسلطة المدنية، ويكون عملها كذلك خاضعا لقنوات المراقبة الديمقراطية. أما إذا كان النظام غير ديمقراطي، فإن سياسة الدفاع تعكس في هذه الحالة بالتأكيد توجهات النخب المحتكرة للقرار السياسي، وتكون الحياة السياسية عرضة لتدخلات المؤسسة العسكرية بشكل دائم. هذه القاعدة تجد مدلولاتها من خلال بروز الحاجة في الدول العربية إلى ما يمكن أن نسميه بالإصلاح العسكري ودمقرطة قطاع الدفاع.

استمرار المأزق الأمني: سباق التسلح

مأزق يمكن وصفه من خلال حالة دولتين (المغرب والجزائر مثلا)، أو أكثر (إسرائيل مقابل الدول العربية) في ظل علاقات تطبعها الحيطة والحذر وانعدام الثقة. فالسعي المتزايد الذي يبديه أحد الأطراف من أجل التسلح بعقد صفقات شراء الأسلحة أو تطوير صناعة عسكرية محلية يقوي الشعور بعدم الأمان والارتياب لدى الطرف الآخر الذي يحرص بدوره على تجديد وتطوير ترسانته العسكرية لتحقيق التوازن في علاقته مع الطرف الأول الذي سيكون مضطرا من جديد للتسلح من أجل تحقيق تفوق نوعي، وهكذا دواليك، في علاقة لا متناهية بين الفعل ورد الفعل. وهذا المأزق الذي تعاني منه دول العالم العربي يتجلى في ثلاثة مستويات:

1- التوازن الإستراتيجي مع إسرائيل: على الرغم من أن بعض الدول العربية لا تتسلح كلها بهدف مواجهة إسرائيل، خاصة دول المغرب العربي، فإن النزاع العربي الإسرائيلي لازال يشكل مصدر التهديد الأساس الذي يتحكم في صياغة التصورات الأمنية والدفاعية لعدد من الدول العربية خاصة سوريا ومصر. لكن هذا المعطى ليس بالأمر المستجد حديثا، لأنه يعتبر من أهم الرهانات الإستراتيجية والسياسية في المنطقة منذ تأسيس إسرائيل عام 1948. والسؤال الذي أخذ حيزا كبيرا من النقاش منذ حرب 2006 بين إسرائيل وحزب الله اللبناني، هو هل عقيدة التفوق العسكري الإسرائيلي لازالت ذات مصداقية ميدانية فيما يتعلق بتدبير الحرب مع الدول العربية؟

الإجابة عن هذا السؤال تسمح بفهم الفوارق بين الجيش الإسرائيلي والجيوش العربية.

على خلاف الدول العربية التي تستثمر في تكديس الأسلحة تحديدا، فإن مفهوم التفوق العسكري بالنسبة لإسرائيل لا ينبني على كمية الأسلحة والضخامة العددية للجيش، إيمانا منها بأنها لن تصل إلى إحداث التوازن على هذا المستوى مع الجيوش العربية. فالتفوق الإسرائيلي مبني أساسا على محددات جودة الأسلحة، امتلاك جيش مدرب، تطوير صناعة عسكرية إسرائيلية وطنية، امتلاك أجهزة مخابرات فاعلة، امتلاك قدرات الردع النووي، بناء تحالفات أمنية وعسكرية؛ وبهذا الخصوص، فإن إسرائيل ترتبط بعدة اتفاقيات تعاون عسكرية ومخابراتي مع الولايات المتحدة الأمريكية تسمح لها بالحصول على أحدث الأسلحة الأمريكية مثل F-16 و F-15 والقنابل الذكية، كما أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تعقد اتفاقيات عسكرية مع الولايات المتحدة الأمريكية دون أن تخضع للرقابة القبلية من طرف الكونغرس الأمريكي شرط أن تكون قيمة الاتفاقية أقل من خمسمائة ألف دولار. كما أن الدعم الأمريكي لإسرائيل يتخذ أشكالا عديدة، أهمها الاستثمار في التكنولوجيا العسكرية وفي برامج التسلح مثل: نظام صواريخ Arrow والمدرعات Merkava وكذا برنامج Lavi للطيران الحربي..


إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تعقد اتفاقيات عسكرية مع الولايات المتحدة الأمريكية دون أن تخضع للرقابة القبلية من طرف الكونغرس الأمريكي شرط أن تكون قيمة الاتفاقية أقل من خمسمائة ألف دولار.

وضمن هذه الرؤية، أصبح الجيش، المصدر الأساس للقوة العسكرية الإسرائيلية، مستفيدا من موارد مالية مهمة وصلت خلال سنة 2010 إلى ما يقرب 7 بالمائة من الدخل القومي الإسرائيلي، مع التركيز على جودة التكوين العسكري وتقوية الحوافز الدينية والإيديولوجية لدى الجندي الإسرائيلي، وكذا امتلاك أسلحة نوعية متطورة ما دامت جودة السلاح هي التي تحدد في كثير من الأحيان نتائج الحرب وإستراتيجية إدارتها.

وخلافا للدول العربية التي تكتفي بوضع برامج لشراء الأسلحة والاحتفاظ بعلاقات متميزة مع الدول الممونة، فإن إسرائيل تمتلك أكبر صناعة عسكرية في المنطقة سمحت لها باحتلال المرتبة الرابعة من حيث تصدير الأسلحة بعد كل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وفرنسا بقيمة أكثر من أربعة مليارات دولار منذ سنة 2008، وذلك بفضل مركبها الصناعي العسكري المكون أساسا من شركات عمومية مثل: Sibat, Elbit Systems, Rafael, Isreal Aerospace Industries التي توفر مع شركات صغرى أكثر من خمسين ألف منصب شغل.

هذه العقيدة الأمنية لازالت تمارس تأثيرا مباشرا على تصورات الأمن والدفاع بالشرق الأوسط، حيث لازالت تخلق حالة من الارتياب والشكوك لدى عدد كبير من الدول العربية تدفعها إلى الاستثمار أكثر من التسلح لإحداث التوازن، الأمر الذي يساهم في تعميق أسباب عدم الاستقرار بالمنطقة ويكرس مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية بشكل أكبر. فالدول العربية حافظت على معدلات مرتفعة من الإنفاق الدفاعي على المستوى العالمي بالمقارنة مع الدخل القومي. فعلى سبيل المثال، وصلت ميزانية دفاع المملكة السعودية خلال 2010 إلى أكثر من ثمانية بالمائة من الدخل القومي. كما أنه يمكن الإشارة إلى عدد من الصفقات العسكرية التي أبرمت خلال هذا العام مع دول الخليج والولايات المتحدة
الأمريكية.

كل هذا يدل على أن المأزق الأمني من حيث هو فعل ورد فعل لا يزال قائما ولم ينته بعد، رغم بروز معطى جديد مفاده أن التفوق العسكري سواء في شقه الكمي أو النوعي لا يحقق التوازن أو الأمن فيما يتعلق بالحروب غير النظامية، حيث لا يشكل امتلاك الأسلحة المتطورة حافزا قويا للتدخل ما دامت حرب لبنان سنة 2006 والحرب الحالية بأفغانستان أبانتا أن المنتصر الحقيقي هو الذي يمتلك السيطرة على الميدان.

2- التوازن الإستراتيجي مع إيران: هذه الدائرة الجديدة في ثقافة التوازن بالعالم العربي تبرز بوضوح أن بعض الدول العربية لا تتسلح فقط لمواجهة إسرائيل، وإنما لضمان التوازن مع إيران كقوة إقليمية فاعلة، خاصة بسبب برنامجها النووي. فمنذ الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003 إلى اليوم يتأكد وجود خلل في التوازن الإستراتيجي لصالح إيران، إلا أن الدول الخليجية، خاصة التي تعتبر نفسها صغيرة ومحاطة بدول كبيرة، لازالت لم تتمكن من بناء قدرات دفاعية ذاتية قادرة على تأمين سيادتها ووحدتها الترابية، رغم أهمية الموارد التي تخصصها لقطاع الدفاع. وبعبارة أخرى، لازالت هذه الدول لم تتمكن من تحويل قدراتها الذاتية إلى مفهوم القوة الموازية.

وهذا لا يمكن أن يتحقق في ظل تباين السياسات التي تعتمدها دول مجلس التعاون الخليجي تجاه إيران. فمثلا كل من قطر وعمان تسعيان إلى الحفاظ على علاقات سياسية واقتصادية طبيعية مع إيران تغليبا لجانب المصالح المشتركة، مطمئنتين ربما إلى التحول الذي بدأت تشهده السياسة الخارجية الإيرانية، وتحولها من منطق الثورة الراغبة في تصدير أفكارها إلى منطق الدولة الهادفة إلى بناء علاقات جوار متوازنة بعيدة عن الرغبة في الهيمنة.

بينما الإمارات العربية المتحدة بسبب قضية الجزر، والمملكة العربية السعودية بسبب التوجه الإيديولوجي والبرنامج النووي الإيراني، مقتنعتين بأن النظام الإيراني لا يقوم على تأمين منطقة الخليج، وإنما يسعى إلى بناء نظام أمني إقليمي تضطلع فيه إيران بدور الهيمنة، لاسيما أن إيران تستفيد من مقومات موضوعية، من ناحية الثقل الجغرافي والسكاني (72 مليون نسمة) والعسكري، وتحولها إلى ثاني منتج للنفط بعد المملكة العربية السعودية داخل منظمة الدول المصدرة للنفط. ولعلها نفس المخاوف التي تشكل التصور المصري للأمن بالمنطقة كذلك.


يمكن القول بكل تأكيد أن السياسة الأمنية والدفاعية لكل دولة عربية تتحكم فيها أولا وقبل كل شيء مقتضيات المصلحة الوطنية قبل مصلحة القومية العربية.

هذا الاختلال في التوازن لا يقتصر فقط على الجانب العسكري، وإنما أيضا على مستوى امتلاك الطاقة النووية واحتمالات استعمالها لأغراض عسكرية. فالدول الخليجية ومصر لا تقبل أن تظل على هامش الدول المسلمة التي تمتلك هذه التكنولوجيا التي تتطور بشكل كبير في كل من إيران وتركيا وباكستان؛ فمنذ 2006 أبدت 13 دولة عربية اهتمامها بما يسمى الأمن الطاقوي النووي الذي أضحى جزءا أساسيا من الإستراتيجيات الأمنية العربية لأسباب مرتبطة بندرة موارد الطاقة وبالحاجيات الاقتصادية والمائية وكذلك الرغبة في الالتحاق بالركب الذي تقوده إيران في هذا الميدان. وهنا يجب التذكير أن أهم ما يميز سنة 2010 هو القرار الإيراني بتخصيب اليورانيوم بنسبة 20 بالمائة، الأمر الذي كان وراء تعزيز العقوبات ضد إيران، وتزايد الشكوك حول الغايات العسكرية لبرنامجها النووي.

3- التوازن الإستراتيجي بين المغرب والجزائر: يعتبر هذا المحور (بعد محوري إسرائيل وإيران) من أهم تجليات استمرار المأزق الأمني في السياسات الأمنية والدفاعية بالعالم العربي، بسبب نزاع الصحراء الغربية وطموحات الزعامة الإقليمية. ويمكن القول بأن هذا المحور يمثل وضعا فريدا في العالم العربي بسبب احتضان الجزائر لجماعة البوليساريو المسلحة على أراضيها، فخاضت البوليساريو أعمالا عسكرية ضد المملكة المغربية (1976-1990)، إلى جانب دعم الجزائر اللامشروط سياسيا ودبلوماسيا لها باسم مبدأ تقرير المصير.

ولا يزال نزاع الصحراء يعتبر السبب الرئيسي لسياسات التسلح لكل من المغرب والجزائر. ومن ناحية أخرى تبرر الجزائر سعيها للتسلح ب “الخطر الإرهابي”. غير أنه من الناحية العملية، فإن مقاتلات MIG-29 والفرقاطات الحربية السريعة لا تفيد في مواجهة الإرهاب، وليست بالأسلوب الأمثل لمواجهة “الحركات الإرهابية”.

ولذلك، فإن العقيدة الأمنية للجزائر لا تزال تنظر إلى القدرات العسكرية على أنها أهم مصادر القوة، وأن الحفاظ على قوات مسلحة مجهزة ومتطورة يعطي دعما للسياسة الخارجية. والخلل الذي يعتري مثل هذا النوع من الرؤى، هو أنها تفصل بين حاجيات التسلح وطبيعة التهديد، إذ لا مبرر لضخ هذه الميزانية الضخمة من أجل التسلح ما دامت الجزائر غير معرضة لتهديد وجودي حقيقي يعرض سيادتها ووحدتها الترابية إلى الخطر.

أما فيما يتعلق بالمغرب، فإنه من جهته قد حافظ على نسب جد مرتفعة فيما يخص الميزانية المخصصة للدفاع تصل أحيانا إلى 4% إلى 5% من الناتج الوطني الخام بسبب نزاع الصحراء وعلاقاته المتوترة مع الجيران لاسيما الجزائر وإسبانيا، ولم يسمح لنفسه أن يكون متجاوزا في سباق التسلح الذي تشهده المنطقة منذ السبعينيات رغم محدودية موارده المالية وعدم توفره على ثروة نفطية.

وبسبب انتمائه إلى المعسكر الغربي خلال الحرب الباردة، تمكن من تطوير علاقات تعاون عسكرية متميزة مع عدد من الدول الغربية خاصة فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية التي اعتبرت المغرب حليفا خارج حلف الناتو منذ عام 2004، وهو بذلك يستفيد من البرنامج الأمريكي الدولي للتكوين والتدريب العسكري. وخلاصة القول، هناك توازن استراتيجي بين البلدين، والقدرات القتالية للجيش المغربي والجزائري تعتبر متقاربة إلى حد ما مع تميز القوات المسلحة الملكية فيما يتعلق ب”التقارب العملياتي” Interoperability.

فشل نظرية الأمن الجماعي العربي

ارتباطا بالمعطيات المتعلقة باستمرارية المأزق الأمني، يمكن القول بكل تأكيد أن السياسة الأمنية والدفاعية لكل دولة عربية تتحكم فيها أولا وقبل كل شيء مقتضيات المصلحة الوطنية قبل مصلحة القومية العربية. بعبارة أخرى، لا يشكل مبدأ العروبة محددا مؤطرا لهذه السياسة التي تتداخل فيها المصلحة الوطنية مع مصلحة النظام القائم الذي يهتم أساسا باستمراريته وبقائه في السلطة. فكل دولة عربية تتصرف بمنطق المنفعة الذاتية دون وضع أي اعتبار لآليات تطويرالأمن الجماعي، باعتباره نظاما يهدف إلى توحيد الجهود من أجل أمن جميع الدول العربية. ويمكن ملامسة فشل نظرية الأمن الجماعي العربي من خلال مستويات ثلاث: استمرار تهميش المؤسسات العربية والإقليمية، احتمالات نشوء كيانات صغيرة ثم بروز ما يسمى بالدولة الفاشلة في العالم العربي:


هناك فقر كبير في تجارب الأمن الجماعي والحل السلمي للنزاعات الإقليمية العربية، وقد أدى هذا الفشل بالدول العربية إلى البحث عن تحالفات أمنية خارج المنطقة بما في ذلك، التعاون السياسي والعسكري مع حلف الناتو.

1- استمرار تهميش المؤسسات العربية والإقليمية: ويتعلق الأمر بجامعة الدول العربية واتحاد المغرب العربي، وضعف التنسيق الأمني والدفاعي داخل مجلس التعاون الخليجي. فمبدأ الأمن الجماعي ينص عليه جميع المواثيق المؤسسة لهذه التكتلات، سواء الفصل الثاني من ميثاق الجامعة العربية الذي يشبه الفصل الخامس من ميثاق منظمة الحلف الأطلسي، أو الفصل 15 من معاهدة مراكش لسنة 1989، وكذا ديباجة والفصل الرابع من ميثاق مجلس التعاون الخليجي الذي ينص على التكامل في جميع الميادين. فكل هذه المؤسسات فشلت في أن تتحول إلى آلية عربية مشتركة لفض النزاعات وتطوير ثقافة السلم والتقارب بين الدول العربية.

فمثلا الميثاق العربي للدفاع المشترك لسنة 1950 لم يؤد إلى إنشاء جيش عربي وتنسيق التدريبات وتبادل الخبرات وتكوين لجان عسكرية مشتركة وقوات حفظ سلام عربية تكون بديلا عن استضافة القوات الأجنبية خاصة الأمريكية وتزويدها بالقواعد والتسهيلات العسكرية. كما أن درع الجزيرة الذي أسس سنة 1986 لم يتحول إلى قوة ردع حقيقية، وأثبت فشله في عدة مناسبات، أهمها الغزو العراقي للكويت.

باختصار شديد، هناك فقر كبير في تجارب الأمن الجماعي والحل السلمي للنزاعات الإقليمية العربية، وقد أدى هذا الفشل بالدول العربية إلى البحث عن تحالفات أمنية خارج المنطقة بما في ذلك، التعاون السياسي والعسكري مع حلف الناتو.

2- احتمال توالد الكيانات الصغرى: خاصة في العراق بسبب مطالب الأكراد، ورجحان انفصال جنوب السودان. فأمن الدولة في العالم العربي مهدد من الداخل، وهذا التهديد تغذيه الطائفية سواء في شقها الشيعي-السني، أو المسيحي-الإسلامي. أما في منطقة المغرب العربي، فقد عرفت سنة 2010 تأسيس حكومة في المنفى من طرف حركة “استقلال القبائل الجزائرية”، والبوليساريو في مواجهة المغرب، وتحول قضية الطوارق إلى مشكلة سياسية بين ليبيا والجزائر. كل هذه الاعتبارات تفرض على الدول العربية تطوير سياساتها الأمنية لتشمل الجوانب غير العسكرية.

3- تحول أربعة دول عربية أعضاء في جامعة الدول العربية إلى دول فاشلة: وأقصد تحديدا، اليمن، موريتانيا، الصومال والعراق، إذ أصبحت هذه الدول في غياب الأمن الجماعي العربي غير قادرة على تأمين حدودها وحماية مؤسساتها، بل وأضحت تشكل أهدافا ومواقع خصبة للحركات المسلحة، كما أن استفحال الفوضى داخل هذه الدول لا يزيد إلا من توتر الوضع الإقليمي وعدم استقراره.

الإصلاح العسكري ودمقرطة السياسة الدفاعية

ظلت هذه القضية مغيبة عن النقاش السياسي لاعتبارات تختلف من نظام سياسي لآخر. فالجيش كمؤسسة اجتماعية يعتبر صورة مصغرة للمجتمع، حيث لا يمكن أن نتصور انتقالا ديمقراطيا دون التساؤل عن موقع الجيش ضمن هذا الانتقال، وعن طبيعة العلاقة بين المدنيين والعسكريين، خاصة وأن الجيش يشكل قطاعا عريضا داخل الدولة بحكم بنيته العددية وبحكم النشاط السياسي والاقتصادي للجنرالات الكبار. فمثلا في سورية يتكون الجيش النظامي من 325 ألف فرد، والجيش الاحتياطي من 314 ألف فرد، وفي المغرب على التوالي من 195.800 و150 ألف فرد، وفي مصر من 468.500 و479.000 فرد؛ كل هذه الأرقام تبين أن الجيش يشكل قطاعا مجتمعيا مهما يمكن أن يشكل خطرا على الدولة إذا ما تأخر الإصلاح. ولتسليط بعض الضوء حول هذه القضية، سأركز على حالتي المغرب والجزائر:

1- الحالة الجزائرية

بالنسبة للجزائر، فإن النظام الجزائري يندرج ضمن خانة “الأوليغارشية العسكرية”، إذ يشكل الجيش المصدر المحوري للسلطة السياسية إيمانا منه أنه المؤسسة الوحيدة التي تمتلك المشروعية في الجزائر. والمقصود هنا، طبعا، المشروعية التاريخية، باعتبار الجيش قد انبثق عن حركة التحرير الجزائري ضد الاستعمار. ولفهم مؤسسة الجيش وتطورها يجب تناولها في الإطار التاريخي لنشوء النظام السياسي الجزائري المعاصر. فالجيش هو الذي كان وراء بناء الدولة الجزائرية ومؤسساتها، وهو الذي يعين الرؤساء وأعضاء الحكومة، كما أنه المؤسسة الحقيقية التي تتحكم في الحياة السياسية عبر جهاز الأمن العسكري التابع لوزارة الدفاع.

هذا الجهاز مكلف بتدبير الحياة السياسية لصالح الجيش، وكان ينظر إليه على أنه حزب سري أو الحزب الحقيقي، مع تغيرات طفيفة كان يشهدها من فترة رئاسية إلى أخرى. لهذا مثلا، لما حاول الرئيس بن جديد (1979-1992) إعادة بناء الدولة على أساس من المشروعية الديمقراطية بدل المشروعية التاريخية والريعية، تدخل الجيش لوضع حد لانتخابات 1991 التي فاز فيها الإسلاميون. وعليه، فإنه على الرغم من النفوذ الذي يتمتع به الجيش داخل النظام السياسي الجزائري فإن الأمر، على خلاف الدول اللاتينية الأمريكية، يتعلق بنظام سلطوي يستمد مشروعيته من الجيش أكثر منه بنظام عسكري.

وانطلاقا من هذه الفكرة، نستطيع أن نفهم طبيعة الصراع الذي دخل فيه الرئيس بوتفليقة مع مؤسسة الجيش لإحداث التوازن بين هذه الأخيرة والسلطة المدنية خاصة فيما يتعلق باستقلالية مؤسسة الرئاسة ومؤسسة الحكومة، فهو كان يدرك أن هناك سلطتين داخل الدولة: سلطة حقيقية هي سلطة الجيش، وسلطة شكلية هي سلطة الرئاسة والحكومة. ويمكن أن نقرأ مدى تحقيق هذا التوازن من خلال المؤشرات التالية:

منصب وزير الدفاع، التحكم في ميزانية الجيش والتسلح، تحقيق “المصالحة الوطنية”، تعيين العسكريين في مناصب سياسية. بل إن نجاح بوتفليقة في تمرير قوانين الوئام المدني مكنه من تقوية موقعه في مواجهة العسكريين، لأن مثل هذا النجاح يعني أن الرئيس لم يعد يتمتع بمشروعية عسكرية فقط، وإنما بمشروعية سياسية منحته نوعا من الكارزمية والتقدير من طرف الشعب الجزائري خاصة نجاحه في أن يفرض نفسه كوسيط بين الإسلاميين والعسكريين.

ولتعزيز دور الرئاسة كمؤسسة مدنية كان لابد لبوتفليقة من إبعاد الشخصيات والجنرالات الذين أوصلوه إلى الحكم(العماري، خالد نزار، العربي بلخير)، وتعيين شخصيات جديدة من الضباط والجنرالات تؤيد فكرة خروج الجيش من الحياة السياسية وإعطائه الدور المهني المنوط به.

وبشكل عام، فإنه رغم كون المؤسسة العسكرية لا تزال تؤمن بالمشروعية التاريخية ومشبعة بثقافة سوفياتية، فإنه يمكن أن نرى بروز جيل جديد ونخب عسكرية تطمح إلى بناء دور مهني للجيش في علاقته بالدولة والمجتمع، ومن بين مؤشرات ذلك، أن مؤسسة الرئاسة لم تعد ملحقة من ملحقات هيئة الأركان أو وزارة الدفاع، بل أصبحت تتمتع باستقلالية كبيرة، وتعتبر الآن المختبر الرئيس لصياغة التوجهات الكبرى للسياسة الدفاعية.

وهنا تجدر الإشارة إلى الصبغة المدنية لكل من الكاتب العام ومدير الديوان داخل هده المؤسسة، يضاف إلى هذا، أن التحضير لمرحلة ما بعد بوتفليقة يعتبر موضوع توافق بين الرئاسة والجيش. ومعنى هذا أن هذا الأخير لم يعد يمتلك السلطة المطلقة في تعيين الرؤساء، وهذا تحول مهم يؤشر على اتجاه الجزائر نحو نظام رئاسي.

2- الحالة المغربية

بالنسبة للمغرب، فإن سياسته الدفاعية هي سياسة غير عمومية بكل ما تعنيه سياسة عمومية من معنى. ومرسوم 5 سبتمبر/أيلول 1967 واضح في هذا المجال، إذ يحدد أن “السياسة الدفاعية يسطرها جلالة الملك”.

فالحكومة لا تمتلك أية سلطة فعلية فيما يتعلق بتدبير هذا القطاع ولا تمتلك أية رؤية حوله. ومديرية الدفاع -التي تم استحداثها بعد التغيرات التي عرفتها البنية التنظيمية للمؤسسة العسكرية نتيجة الانقلابات التي شهدها المغرب في 1971 و1972 وإلغاء وزارة الدفاع بموجب ذلك- لا تعتبر هيئة حكومية لتحديد التوجهات الكبرى للسياسة الدفاعية والطريقة التي يجب أن يشتغل بها الجيش المغربي. فالجهاز يقوم بوظيفة إدارية لا علاقة لها بالتخطيط الإستراتيجي، ولا تعتبر مختبرا لتطوير الأفكار في هذا الميدان.

هذا الدور الثانوي للحكومة ينطبق كذلك على البرلمان الذي يصادق على ميزانية الدفاع بإجماع دون مناقشته، وهو ما يكشف بوضوح عن انعدام أساليب المراقبة الديمقراطية للسياسة الدفاعية وأنشطة الجيش. وهذا ما يفسر غياب الخبرات المدنية في هذا المجال، ومراكز أبحاث متخصصة، وأيضا غياب خبراء بالسياسات الأمنية والدفاعية للمغرب بل وحتى انعدام صحافيين متخصصين في مثل هذه القضايا و لدى الأحزاب السياسية.

على أنه لا يمكن ترك إلحاحية إصلاح المؤسسة العسكرية جانبا بدعوى إعطاء الأولوية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ومحاربة الفقر، إذ من شأن هذه الرؤية أن تتسبب في تأخر إصلاح المؤسسة العسكرية مقارنة بالتحول الإصلاحي الذي يشهده المغرب في ميادين أخرى. ومثل هذا التأخر ستكون له انعكاسات سلبية من شأنها زرع التمزق والبلبلة داخل المؤسسة العسكرية. طبعا لا يمكننا الحديث عن إصلاح المؤسسة العسكرية بهذه السهولة، فالمسألة جد معقدة وصعبة خاصة وأنها تجد معارضة من داخل المؤسسة نفسها، وتحديدا من طرف النخب العسكرية النافذة التي ترى في استمرار الوضع على ما هو عليها ما يخدم مصالحها

الآنية والمستقبلية، ويمكن ملاحظة ذلك بشكل جلي من خلال رفض هذه النخب للانتقاد الذي توجهه الصحافة المغربية لبعض المواضيع المرتبطة بالمؤسسة العسكرية، وأيضا عدم ارتياحها لظهور جيل جديد من الضباط الذي يطمح لأن يرى المؤسسة العسكرية أكثر تطورا وأكثر مهنية وأكثر تشجيعا لروح النقاش الداخلي حول مشكلات الجيش المغربي، ولعل قضية مصطفى أديب (1) يجب أن تقرأ في هذا الاتجاه، فهذا الجيل الجديد الذي يمتلك ثقافة إستراتيجية معاصرة –خاصة النخب التي استفادت من برامج التكوين العسكري في دول مثل بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا- لا يرى بضرورة استمرار الإجراءات التنظيمية التي تم اعتمادها منذ السبعينيات بعد أحداث الانقلابات.

رهان الثقة

بناء على كل ما تقدم، فإن الدول العربية محتاجة إلى تطوير نظام إجراءات بناء الثقة فيما بينها لتسهيل عملية التواصل السياسي بين النخب الحاكمة. وفي هذا الإطار، يمكن أن يشكل نظام منظمة الأمن والتعاون الأوربي نموذجا يستفاد منه. فمثلا على مستوى التوازن الإستراتيجي مع إيران، أعتقد أن الاصطفاف ضد هذا البلد لا يؤدي إلا إلى توسيع دائرة التهديد بدلا من اعتماد رؤية تقوم على أساس تخفيف التوتر وتعزيز بناء إجراءات الثقة.

كما أن السياسات الدفاعية في العالم العربي بحاجة إلى إعادة بلورة مفهوم جديد للمصلحة الوطنية لا ينشغل فقط بحماية الدولة القطرية وتأمين سيادتها ووحدتها الترابية، ولكن ينصرف كذلك إلى الأمن والدفاع المشترك عبر تفعيل آليات التواصل بين النخب العسكرية في أفق خلق ثقافة إستراتيجية مشتركة. فعوض البحث عن توفير “الحماية” من خلال استضافة قوات أجنبية وتزويدها بالقواعد العسكرية، فإنه من الأجدى بناء مقتضيات هذه الحماية من الداخل، وطرح قضايا الإصلاح العسكري كجزء أساسي ضمن مشروع الانتقال الديمقراطي.

 

عنوان المقال : السياسة الدفاعية للدول

تهدف السياسة الدفاعية إلى المحافظة على استقلال الدولة وسلامة أراضيها وتأمين حدودها ومصالحها الوطنية وممتلكاتها، مع استثمار المرحلة الحالية من الاستقرار والهدوء في تطوير بناء وتسليح القوات المسلحة على أسس قوية، تؤمن ردع أي تهديد ومنع العدو من تحقيق أهدافه وذلك بالتعاون مع دول الجوار والدول الصديقة.

من أسس السياسة الدفاعية للدول

الأساس الروحي: ويتمثل في العقيدة القتالية التي يعتنقها الفرد العسكري وفي الرسالة التي يحملها ويستعد لبذل الغالي من أجلها

الأساس المعنوي: وهو أحد الأسس التي يتم غرسها لدى العسكريين، بحيث تتوافر لديهم السمات الخاصة التي تجعلهم قادرين على تحمل المواقف الصعبة التي تسود المعارك، وأبرزها: صفاء الذهن و حسن تقدير الموقف والتصرف بذكاء وشجاعة عند مواجهة المخاطر التي تأتي من خلال المحا فظة على الروح المعنوية العالية لدى القادة والضباط وضباط الصف والجنود، وذلك لتأمين متطلبات أساسية في مقصد وسلوك المقاتل وأبرزها الانضباط والطاعة والنظام مع التمسك بروح الفريق و الإخلاص للوطن والاستعداد للتضحية بالروح لتحقيق النصر

الأساس المادي: تعتمد السياسة الدفاعية التي تنتهجها دولة ما، على ثلاث دعامات أساسية هي

أ- بناء جيش قوي ذاتي يعتمد على ما وصلت إليه التقنية الحديثة في تسليح وبناء العسكري وتوسيع مداركه العملية بما يتفق وهذه التقنية المتقدمة

ب- تضامن أمني مع دول الجوار والدول الأصدقاء في إطار اتفاقيات الدفاع المشترك

جـ- الاتفاقيات الأمنية مع الدول الشقيقة والصديقة

سياسة الدفاع هي السياسة العامة التي تتعامل مع الأمن الدولي والجيش. وتضم التدابير والمبادرات التي تأخذ بها أو لا تأخذ بها الحكومات فيما يتعلق بصنع القرار والأهداف الإستراتيجية مثل متى وكيف تفوَّض القوات المسلحة الوطنية. وتستخدم لضمان الحفاظ على استقلال التنمية الوطنية والتخفيف من وطأة المصاعب المفروضة من الجهات الخارجية المعادية والعدوانية. في وزارة الدفاع (أو المنظمة المقابلة لها) يكون الوزير هو صانع القرار الرئيسي لسياسة الدفاع الوطني.

تحدد سياسة الدفاع التهديدات المعادية والعدوان بناءً على تحليل المعلومات الاستخبارية كما يقوم بتعريف المجال العسكري لالأمن القومي والتحالفات الدفاعية والاستعداد القتالي والتنظيم العسكري للقوات الوطنية واستخدامها التكنولوجيا العسكرية. تحدد سياسة الدفاع الوطني إستراتيجية الدفاع الوطني و”متى” تُفوَّض القوات المسلحة الوطنية. كما تحدد سياسة الدفاع الوطني الموقف الإستراتيجي و”الكيفية” فيما يتعلق بأي تهديدات محتملة للإقليم الوطني ومجتمعه وبيئته واقتصاده ويحدد الخيارات المتاحة للتعامل مع تلك التهديدات. فكلما وفرت سياسة الدفاع خيارات أكثر للحكومة، كان ذلك أفضل في تشكيلها. والموقف الإستراتيجي يحدد بدورهالعقيدة العسكرية للقوات المسلحة. ويمكن أن تشمل هذه العقيدة مواجهة الأخطار التي تهدد المصالح الوطنية الواقعة خارج الأراضي الوطنية مثل الممرات الملاحية، ويتم تطوير إستراتيجية الدفاع والعقيدة العسكرية على الرغم من السياسة الإستراتيجية وعمليات تنمية القدرات.

يتم وضع سياسة الدفاع من خلال عملية السياسة الدفاعية لاتخاذ القرارات التنظيمية الهامة، بما في ذلك، تحديد الأولويات والبدائل المختلفة مثل أفراد الدفاع وبرامج التكنولوجيا أو أولويات الميزانية وكذلك الاختيار من بينها على أساس تأثيرها على التنمية الوطنية الشاملة. يمكن فهم سياسات الدفاع كآليات سياسية وتنظيمية ومالية وإدارية وتنفيذية لتحقيق أهداف وغايات عسكرية واضحة.
تتناول سياسة الدفاع تحقيق أهدافها وأغراضها العسكرية من خلال الإدلاء بتصريحات واضحة حول القدرة المطلوبة في: الاستعداد القتالي والتنظيم العسكري والعلاقات السياسية والعسكرية (السيطرة المدنية على الجيش) ودور القوات المسلحة القوات المسلحة والقيادة والمراقبة والاستخبارات العسكرية ومكافحة التجسس والدبلوماسية الدفاعية والقدرة على الدفاع من حيث (التكنولوجيا والتنقل والعتاد والخدمات اللوجيستية) وتقادم المجموعة والكفاءة المهنية والتدريب والتوظيف والتغير الاجتماعي في الجيش والقوات الدائمة وقوات الاحتياط العسكرية والتجنيد الإجباري. وتختلف سياسة الدفاع عن قواعد الاشتباك التي تحدد متى وأين وكيف تستخدم التشكيلات والوحدات العسكرية.

 

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button