دراسات اقتصادية

سمير أمين – مُحاولة لقراءة ولفهم أُطْرُوحة “التطور” و”التّبادل” غير المتكافئ، الطاهر المعز

لا أدّعِي أنني سأنقد نظرية “التطور” التي ساهم سمير أمين في إرسائها، ولكنني سأحاول عَرْضَ ما تمكّنْتُ من فِهْمِهِ كقارئ لكتب سمير أمين، وكتب المجموعة التي نَقَدَتْ نظريّة التّطور التي كانت سائدة، حتى منتصف ستينيات القرن العشرين، وعملت هذه المجموعة على لَفَت النّظر للوضع المُزْرِي الذي فَرَضَتْهُ الإمبريالية على شعوب إفريقيا وأمريكا الجنوبية، ومن بينهم “أندريه غُنْتر فرَنْك” و”أرغيري إيمانويل” و”بيير سلامة” و”سِلْسُو فُرْتادُو” وغيرهم…

كان سمير أمين مُنْحازًا إلى قضايا شُعوب ما سُمِّي “العالم الثّالث”، وكانت المجموعة التي أشرنا إليها مُتأثِّرة بنظرية “الهيكلية” (“موضة” سنوات الستين والسبعين من القرن العشرين)، وكان القاسم المُشترك بين أعضاء المجموعة هو الطّموح لتطوير وتجديد البحوثات والتّحاليل الماركسية بشأن الإمبريالية، وإضافة مُعْطيات وآفاق جديدة لما كَتَبَهُ “لينين” في هذا الموضوع…

بدأت المجموعة، ومنها “سمير أمين” بإظْهار حجم نهب الإمبريالية وشركاتها لثروات المستعمرات (الحالية والسابقة) من مواد أولية وإنتاج زراعي، ومن فَرْضِ التقسيم العالمي للإنتاج ولشُرُوط التبادل الإقتصادي والتّجاري، وكان (ولا يزال) هذا التبادل غير مُتكافئ، لأنه لم يكن نتيجة لوفاق بين طرَفَيْنِ نِدَّيْنِ وإنما كان بين طرف مُسْتَعْمِرٍ وآخر مُسْتَعْمَرٍ، واقع تحت الإستعمار العسكري المُباشر، أو الهيمنة الإقتصادية والسياسية (الإستعمار غير المُباشر)، وبينَتْ دراسات اللجنة الإقتصادية الخاصة بأمريكا الجنوبية والتابعة للأمم المتحدة (سِيبَال) “إن اندماج أمريكا الجنوبية في النظام الرأسمالي العالمي أدّى إلى تعميق الفوارق الطبقية ومَرْكَزَة الأراضي الزراعية والثّرْوَة بين أيدي قِلَّة قليلة، مما يُعَرْقِل تطور ونُموَّ اقتصاد هذه البلدان”…

نشر “أرغيري إيمانويل” (أحد أفراد المَجْموعة) سنة 1969 كتابه “التبادل غير المتكافئ”، وفَنّدَ من خلاله نظريات “دفيد ريكاردو” (1772 – 1823) التي تتلخّصُ في “إن حُرِّية تنقل رؤوس الأموال، والتبادل التجاري الحُر، يُفيدَان الجميع ويُؤدِّيان إلى رفاهة مجموع البشر”، وبَيّن “إيمانويل” بالأرقام والأدِلّة المادّية “إن تحديد أسعار السلع على مستوى عالمي لم يَعُدْ مُرْتَبِطًا بسعر التكلفة وبسعر المواد الأولية وراتب العامل والوقت الذي يستغرقه إنتاج السّلع”، وإنما يُحَدّدُهُ رأس المال وحده دون اعتبار العوامل التي كانت تُحَدِّدُ في السابق سعر أي سلعة، وفق الظروف التي تُحيط بإنتاج هذه السِّلَع، التي تُنْتَجُ في البلدان الواقعة تحت الهيمنة، بتكلفة إنتاج مُنْخَفِضَة وبرواتب هزيلة للعاملين، لتُباع في الدول الرأسمالية المتطورة بأضعاف تكلفة إنتاجها، مما يزيد من أرباح رأس المال والشركات العابرة للقارات، ولكن أسعار هذه السلع تبقى منخفضة (في أوروبا وأمريكا)، مُقارنة بأسعار السلع المُنْتَجَة في الدول الرأسمالية المتطورة ومقارنة بالرواتب (بما في ذلك رواتب العُمال) وبما يُسَمّى متوسّط “القُدْرَة الشِّرائية” لمواطني الدول الإمبريالية، التي طورت أدوات إنتاجها، وتبيع المواد المُصنّعة والتجهيزات والتكنولوجيا للبلدان المُهَيْمَن عليها، بأسعار مُرتفعة، وأثار “إيمانويل” زوبعة داخل صفوف الإقتصاديين “الماركسيِّين” (وفي مقدّمتهم “شارل بِتلهايم”) عندما طَرَحَ فرضيّة “احتمال استفادة عُمال الدول الغنية من الإستغلال المُجْحِف لعمال ومنتجي البلدان الفقيرة”، وقد تكون هذه الإستفادة غير مُباشرة، لكنها تُساهم في تحسين مُسْتوى عيش عمال “المركز” بفعل الفُتات الذي تَمنحهم إياه الرأسمالية في بلادهم، من جراء الأرباح الزائدة التي تُحَقِّقُها في “المُحيط” (أو “الأطْراف”)، بهدف وقائي يتمثل (في بلدان “المَرْكَز”) في إخماد الإحتجاجات التي قد تُؤَدِّي إلى توقف الإنتاج، وربما إلى ثَوْرَة…

اعتبر الإقتصاديون الماركسيون الأوروبيون والأمريكيون هذا الطّرح “تَقْوِيضًا ومُناقِضًا لمبدأ التضامن العالمي”، ولكن سمير أمين تَناولَه بشكل مُخْتلف، يتمثّل في تَطْوِير نظرية التّراكم الرأسمالي على صعيد عالمي، والجهد المُستمر لرأس المال، بَحْثًا عن المواد الأولية الرخيصة والعُمال برواتب ضعيفة، وهي شُرُوط مُتَوَفِّرَة في البلدان التي تُهيمن عليها الإمبريالية، ليستنتج سمير أمين “إن رأس المال يُعِيق التطور ويُعمِّق التّخلف”، أي إن الإمبريالية تقسّم العالم إلى مناطق، يختص كل منها في إحدى حلقات سلسلة الإنتاج والتّوزيع والإستهلاك، مما يُعيق تطور مناطق عديدة من العالم، وبذلك قام سمير أمين بتطوير نظرية القيمة التي كانت إحدى أهم إضافات ماركس للإقتصاد السياسي “الكلاسيكي”، ويقترح سمير أمين “فك الإرتباط” بهذا النّظام الرأسمالي العالمي، لتحقيق التطور (النّمو) المُسْتَقِل…

تَبْقى هذه النّظرية مَنْقُوصة، إذا اقتصرت على “إنجاز التّطَوّر”، فقد حققت الصين وبعض الدول المُسَمّاة “ناشئة” تطورًا اقتصادِيًّا لم يخرج عن نطاق المنطق الرّأسمالي، وتحقق تطور الصين عبر استحواذ بيروقراطية الحزب الحاكم على أراضي صغار الفلاحين (كل الأراضي كانت ملْكًا للدولة التي “استرجعت أراضيها”، بواسطة البيروقراطيين) ونزوح أكثر من 200 مليون من الريف إلى ضواحي المُدن الصناعية الكبرى، ليقع استغلالهم في المصانع، مع حرمانهم من حقوقهم، وتطورت رأسمالية الصين باستغلال موارد البلدان الفقيرة في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية والإستحواذ على أسواقها، عبر ترويج سلع رديئة ورخيصة، وتقويض الصناعات التقليدية والصناعات الناشئة، وتجنبت الصين طيلة عُقُود منافسة الشركات الأوروبية والأمريكية، إلى أن أصبحت قادرة على تحقيق التطور التكنولوجي ومنافسة الشركات العابرة للقارات، ذات المَنْشَأ الأمريكي والأوروبي، في مجال التقنيات والإتصالات وغيرها من القطاعات التي تُحَقِّقُ قيمة زائدة مُرتفعة…

لم تعد توجد في العالم دول خارج النظام الرأسمالي، بما فيها دول أمريكا الجنوبية التي ادّعت تطبيق “اشتراكية القرن الواحد والعشرين”، لكن الفجوة تَعَمّقت كثيرًا بين البلدان، وداخل البلدان الرأسمالية المُتَطَوِّرَة نفسها (الفجوة الطّبَقِيّة)، كما ازداد ضغط صندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية على الدول الفقيرة، والواقعة تحت الهيمنة، ويبقى غياب الأحزاب والمنظمات المناضلة من أجل إعادة توزيع الثروة واستفادة الدول المنتجة من ثرواتها والعمال والفلاحين من ثمرة عرقهم وعملهم، هو (هذا الغياب) الحلقة التي وجب العمل على إيجادها وتصليب عودها…

يُسَجّل لسمير أمين مُشاركته في الحركات الإجتماعية ومؤتمرات مناهضة العولمة الرأسمالية، وعدم اكتفائه بكتابة المقالات والكُتُب، ولكن بديله لم يتجاوز في السنوات الأخيرة النضال من أجل “عالم متعدد الأقطاب”، أو ما قد نَفْهَم منه “التعايش السلمي” بين أنظمة مختلفة، قد تكون “رأسمالية مقابل اشتراكية”، وقد تكون جميعها رأسمالية ولكنها تختلف في الأسلوب، مثل مجموعة “بريكس” التي تريد تطوير النظام الرأسمالي لتلتحق بعض البلدان (التي تُعَد على أصابع اليد الواحدة) بصفوف الدول الرأسمالية المتطورة…

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى