مركب القوة في العلاقات الدولية

تبدأ العملية السياسية الدولية لما تحاول دولة (أ) من خلال أفعال و اشارات دعم أو تغيير سلوك دولة أخرى (أي أفعالها و سياساتها و الصور التي تحملها) و من هنا يمكن تعريف القوة على أنها “القدرة العامة لدولة ما على مراقبة سلوك الدول الأخرى”

– أولا – القوة. العناصر وأدوات القياس:

منذ بداية الحديث عن القوة كمفهوم في علم السياسة، لم يكن هناك تعريف محدد له، بسبب غموض المفهوم، حيث كان يعني كل شيء له علاقة بالفعل والتأثير والتغيير. وتعد المدرسة الواقعية من أولي المدارس التي تعاملت مع القوة كمفهوم مركزي، لمقولاتها. حيث ربط هانز مورجنتاو القوة بفكرة التأثير أو التحكم في المكاسب، وعرف القوة بأنها “القدرة علي التأثير في سلوك الآخرين” (1)، وبالتالي، يمكن تحديد قوة الدولة (أ) عن طريق معرفة المحصلة النهائية للتأثير الذي تمارسه في الدول الأخري، بهدف امتلاك مزيد من الموارد. كما تتعامل المدرسة الواقعية مع العلاقات الدولية، علي أنها صراع، الهدف منه تعظيم ما تمتلكه الدولة من قوة (2).

وقد استفاد عالم الاجتماع روبرت دال من أفكار مورجنتاو حول القوة، وقدم تعريفا أكثر وضوحا للقوة، حيث عرفها بأنها “القدرة علي جعل الآخرين يقومون بأشياء متناقضة مع أولوياتهم، ما كانوا ليقوموا بها لولا ممارسة تلك القدرة”، أي أن (أ) يمارس قوته علي (ب) للقيام بأشياء رغما عنه، وخوفا من قدرات (أ)، وبالتالي يضغط عليه (أ) للحصول علي ما يريده. والضغط هنا لا يعني الإقناع، بل الإكراه. ولمعرفة مدي قوة (أ) استنادا لدال، يتم جمع الأفعال التي قام بها (ب) خوفا من (أ) (3).

ويلاحظ أن كلا التعريفين ارتبط بعنصر واحد للقوة، هو القوة العسكرية، ولذا وجهت عدة انتقادات لهذا التعريف، تركزت علي أنه يتجاهل العناصر غير العسكرية للقوة، ويركز علي شكل محدد لاستخدام القوة وهو الإكراه. حيث جادل ستيفن لوكس عام 1974 في كتابه “القوة: رؤية راديكالية” بأن القوة مرتبطة بتحديد الأجندة، للتأثير في سلوك الدول، وبالتالي لا تعني القوة بالضرورة الإكراه.

وهناك اتجاه آخر لتعريف القوة، عبر عنه كينيث والتز، حيث وسع مفهوم القوة ليشمل عناصر أخري غير عسكرية، وحاول الربط بين قوة الدولة، وامتلاك عناصر مثل المساحة، والموقع الجغرافي، والموارد المادية والطبيعية، والسكان، ودرجة النمو الاقتصادي، والتطور العسكري، والاستقرار السياسي والكفاءة.

وقد طور جوزيف ناي أفكار لوكس، وقدم مفهوما، ربما يكون أكثر تعقيدا للقوة، حيث اهتم بعناصر القوة غير المادية مثل الثقافة والقيم، من خلال مفهوم القوة الناعمة. وعرفها بأنها “قدرة الدولة علي الحصول علي ما تريده بالاعتماد علي الجاذبية، بدلا من الإكراه”. وتعبر القوة الناعمة عن الوجه الثاني للقوة، حيث تتمكن دولة ما من الحصول علي النتائج التي تريدها، لأن الدول الأخري معجبة بنموذجها، وتحاول أن تتبعه، وليس لأنه يتم إكراهها علي ذلك. ومع ثورة المعلومات، أضيف عنصر جديد لقوة الدولة، حيث أصبح من عناصر قوة الدولة امتلاك التكنولوجيا والمعلومات، والقدرة علي إنتاج التكنولوجيا المتطورة عن طريق الاختراع، والإبداع، ونشر الإبداع أيضا.

وفيما يتعلق بأدوات قياس قوة الدولة، فإن هذا التعدد في عناصر القوة جعل مسألة قياس قوة الدولة، أكثر صعوبة، خاصة عندما يتعلق الأمر بعناصر القوة غير المادية، كما هو الحال في القوة الناعمة. ورغم ذلك، فإن هناك اجتهادات لقياس القوة، حيث يمكن التمييز بين مدخلين، يعبر عن المدخل الأول الطرق التقليدية في القياس، والتي تعتمد علي حساب موارد القوة المادية التي تمتلكها الدولة، حيث ركزت بعض المداخل علي متغير واحد من الموارد، مثل التركيز علي قدرات الدولة العسكرية. وهناك من ركز علي الموارد الاقتصادية مثل كلاوس نور Klaus Knorr. وفي عام 1960، حاول كليفورد جيرمان Clifford German طرح مؤشر لقياس قوة الدولة أكثر تنوعا من حيث العناصر التي تتشكل منها القوة، من خلال هذه المعادلة:

G=N (L + P + I + M)

وترمز G إلي قوة الدولة، وN إلي القدرات النووية، وL سإلي الأرض، وP إلي السكان، وI إلي التقدم الصناعي، وترمز “M” إلي قوة الدولة العسكرية. كما طرح راي كلين Ray Cline عام 5791معادلة أخري للقوة:

P= (C + E + M) (S + W)

وترمزP إلي قوة الدولة، وC إلي الكتلة الحرجة Critical Mass، وتتألف من السكان والموقع الجغرافي، وترمز E إلي القدرات الاقتصادية، وM إلي القدرات العسكرية، وS إلي الاستراتيجية القومية، بينما تشير Wس إلي الإرادة القومية.

1-التأثير (influence) – أحد أبعاد القوة- هو أساسا وسيلة للوصول إلى هدف . هناك بعض الحكومات التي تحاول أخذ التأثير كهدف في حد ذاته لكن معظم الحكومات ترى فيه وسيلة تماما مثل المال و يتم استعماله للوصول إلى غايات معينة أو الدفاع عنها مثل المكانة ، الاقليم، الشعب، الموارد الأولية، الأمن، الأحلاف.

2- تستعمل الدولة (أ) في أعمالها ضد الدولة (ب) بعض الموارد (ressources) و التي هي كل الخصائص الفيزيائية و الفكرية التي يمكن استعمالها كأدوات للاقناع و المكافأة و التهديد و العقاب. على مستوى السياسة الدولية يمكن أن يكون للدبلوماسية التي تصاحب الأفعال أهمية توازي أهمية الأفعال ذاتها، فالدولة التي تستنفر قواتها و تصرح أن ذلك يعود إلى أسباب داخلية يكون موقف الدول الأخرى منها مخالفا تماما لموقفها من الدولة التي تستنفر قواتها و تهدد باللجوء إلى إعلان الحرب لأن الاشارات و الدبلوماسية تكون لها أهمية توازي أهمية الأعمال الدرامية مثل الاستنفار و حشد الجيوش.

3- أن فعل التأثير على الدولة (ب) يتضمن حتما علاقة بين الدولتين (أ) و (ب) حتى و إن لم تكن في هذه العلاقة عملية اتصال مباشرة بين الطرفين، و إذا استمرت هذه العلاقة لمدة زمنية معينة يمكن القول بأن هناك “عملية” (process).

4- إذا كان بإمكان الدولة (أ) ارغام الدولة (ب) على القيام بعمل ما بحيث لا يمكن للدولة (ب) ارغام الدولة (أ) على القيام بنفس العمل في هذه الحالة يمكن القول أن الدولة (أ) تمتلك أكثر قوة من (ب) في تلك القضية بعينها و من ثم بالاستطاعة اعتبارالقوة “كمية” (quantity) لا يكون لها شأن إلا عند مقارنتها بقوة الدول الأخرى و القوة بهذا المعنى نسبية.

* ينقسم مصطلح القوة إلى ثلاثة عناصر تحليلية: فالقوة تضم:

1 -الأفعال (acts) للتاثير على الدول الأخرى

2 – الموارد (ressources) لإنجاح عملية التأثير

3 – الاستجابة (responses) أو ردود الفعل على أعمال الدول الأخرى.

* عند رسمهم لسياسة ما أو استراتيجية لتحقيق الأهداف يطرح متخذو القرار الأسئلة التالية:

1- انطلاقا من أهدافنا، ما هي الأشياء التي نتمنى أن تقوم بها أو لا لا تقوم بها الدولة (ب)؟

2- كيف نتمكن من جعل الدولة (ب) تقوم أو تمتنع عن القيام بالعمل (ج)؟

3- ما هي الموارد التي نمتلكها كب نجعل الدولة (ب) تقوم بالعمل (ج) أو تمتنع عنه؟

4- كبف سيكون رد فعل (ب) المحتمل على محاولتنا للتأثير على سلوكها؟

5- ما هي التكلفة التي ندفعها مقابل قيامنا بالعمل 1 أو 2 أو 3 ؟

علاقة القوة بالتأثير

1- إن التأثير لا يتضمن فقط امكانية قدرة الدولة (أ) على تغيير سلوك الدولة (ب) بل كذلك محاولات الدولة (أ) لإقناع الدولة (ب) على مواصلة سياسات أو سلوك معين يكون لصالح الدولة (أ) أو يخدم مصلحتها، فعملية التأثير إذن متواصلة و لا تتوقف عند قيام الدولة (ب) بالسلوك (ج).

2- من الصعب ايجاد حالة لا يكون فيها للدولة (ب) كذلك بعض التأثير على الدولة (أ). النموذج المقدم آنفا يفترص التأثير في اتجاه واحد من (أ) إلى (ب) لكن الحقيقة أن التأثير عملية متعددة الاتجاهات لأن الدولة (أ) لا تحاول الوصول إلى أهداف معينة ما لم تكن هناك أعمال دول أخرى في النظام الدولي توجه اهتمامها نحو وجهة معينة. أدنى ما يمكن أن يوجد هو مشكل التغذية العكسية(feedback) في العلاقات بين الدول: فإذا لبت الدولة (ب) رغبات الدولة (أ) بقيامها بالعمل (ج) فذلك قد يؤدي بالدولة (أ) إلى تغيير سلوكها و قد يكون ذلك التغيير لصالح الدولة (ب).

3- هناك نوع من العلاقة التي تتضمن “رد الفعل المنتظر” و هي الحالة التي تكون عليها الدولة (ب) في انتظار مكافأة أو عقوبة من طرف الدولة (أ) و بالتالي تلجأ إلى تغيير سلوكها حتى قبل تقديم الدولة (أ) أي اشارة تدل على أنها ستقوم بعمل ما.

تسلـّم نظرية الردع (deterrence theory) بأن العدو (ب) لن يقوم بالهجوم على (أ) ما دام يعلم مسبقا بأن مستوى ما سيلحق به من دمار سيكون كبيرا. العكس تماما قد يحدث في العلاقات الدولية و هي الحالة التي ترغب فيها (أ) قيام (ب) بالسلوك (ج) و لكنها لا تقوم بالتأثير على (ب) خوفا من قيامها بالسلوك (د) و هو رد فعل لا يخدم مصالح (أ) من وجهة نظرها.

قد تكون فكرة “رد الفعل المنتظر” متعددة الأطراف (multilateral) حيث ترغب (أ) قيام (ب) بالعمل (ج) لكنها لا تلجأ إلى دفعها للقيام به خشية من قيام الدولة (ك) – و هي دولة ثالثة- بالعمل (د) و الذي لا يخدم مصالح (أ).

4- في إمكان الباحثين في العلاقات الدولية قياس القوة و التأثير، لكن ما يهم في السياسة الدولية هو ادراك التأثير و القدرات من طرف متخذي القرار و الطريقة التي يترجمون بواسطتها اشارات الحكومات الأخرى، و ما ملايين الدولارات التي تنفقها الدول على العمل المخابراتي إلا بهدف تكوين صورة عن قدرات و نوايا الدول الأخرى، و إذا ما كانت الهوة بين الإدراك و الواقع كبيرة فإن ناتج السياسة الخارجية يكون كارثيا بالنسبة للدولة.

5- قد تلجأ الدولة (أ) للتأثير على (ب) لمنعها من القيام بالعمل (ج) و يسمى هذا بالقوة السلبية (negative power) أو الردع ، بحيث تمنع (أ) أعمالا معينة تراها في غير مصلحتها الوطنية و هذه حالة متكررة كثيرا في السياسة الدولية (ابرام فرنسا و بريطانيا لاتفاقيةميونيخ مع ألمانيا بهدف نتعها من غزو تشيكوسلوفاكيا).

الموارد

العنصر الثاني للقوة هو تلك الموارد التي تجمعها (أ) للتأثير على (ب) و لا يمكننا معرفة قدرة دولة للسيطرة و مراقبة أعمال و سلوكات دوا أخرى ما لم نتمكن من معرفة الموارد و القدرات الموجودة على الساحة. من الواضح أن العلاقات السياسية لا تتضمن أطرافا ذات تأثير متساوي، ففي السياسة الداخلية بإمكاننا جرد قائمة من القدرات التي تمكن جماعة بشرية من التحكم في بقية الشعب و التأثير على أهم القرارات و تتضمن هذه القائمة حسب الباحث “روبرت دال” (Robert Dahl) القدرات المادية: المال، الثروة، الأخبار، الوقت، الحلفاء السياسيين، المناصب الرسمية، التحكم في مناصب الشغل ، و القدرات غير المادية مثل الشخصية و خصائص القيادة. إن هذا لا يعني أن كل من يملك هذه العناصر يقود الآخرين لأن ذلك يستوجب حسب “روبرت دال” تعبئة الشخص لتلك العناصر لتحقيق الأهداف السياسية و امتلاكه لمهارات التعبئة “فمن يستعمل الوقت و المال و الأصدقاء و شخصيته لأهداف سياسية قد يتمكن من التأثير على الآخرين، أما من يستعمل نفس الأشياء لاختراع مصيدة فئران فهذا لا يصلح للسياسة”.

في السياسة الدولية يقصد بهذا القدرات و الموارد التي تتم تعبئتها من قبل الدولة بغرض تحقيق أهداف بعينها في حقل السياسة الخارجية، فالموارد لا تحدد الاستعمالات التي تذهب إليها (القوة النووية قد تستعمل لإنتاج الكهرباء أو للردع أو للحرب) لأن الستعمال مرهون بالأهداف التي ترسمها الدولة. إن تنوع وسائل السياسة الخارجية لدولة ما للتأثير على الآخرين لها علاقة بكمية القدرات و نوعيتها، فأعمال الدولة و أهدافها مرهونة بقدراتها. الخلاصة هي أن طريقة استعمال الدول لقدراتها مربوطة بأهدافها الخارجية لكن اختيار الأهداف و الوسائل له علاقة مباشرة بالموارد المتوفرة لدى تلك الدولة.

ممارسة التأثير

اكتشف الباحثون في شؤون المجتمع البشري أن الأفراد و الجماعات يلجأون لاستعمال الكثير من التقنيات الأساسية للتأثير على بعضهم البعض، و في النظام السياسي الدولي حيث تنعدم القوة المهيمنة و مركز السلطة الشرعية فإن الدول تلجأ إلى المساومة (bargaining) و قد اقترح كوينس رايت (Quincy Wright) و تشارلز شليتشر (Charles Schleicher) و أورغانسكي (A.Organski) أربع تقنيات للمساومة في مجال السياسة الدولية و التي لها أهمية كبيرة لفهم ممارسات التأثير في النظام الدولي.

فالدولة (أ) في انتظار ثلاثة سلوكات تقوم بها (ب):

1- تقوم (ب) بالعمل (ج) في المستقبل

2- لا تقوم (ب) بالعمل (ج) في المستقبل

3- تواصل (ب) القيام بالعمل (ج) في المستقبل

* و انطلاقا من هنا، أمام (أ) مجموعة من التقنيات:

1- الاقناع (persuasion) و التي قد تتضمن التهديد، المكافأة و كذلك العقوبات لكن الواقع هنا يشير إلى تلك الحالات التي يتقدم فيها طرف باقتراح معين أو نقاش حول مسألة ما و يطلب من الطرف الآخر قبول اقتراحه دون أن يلوح بالتهديد أو المكافأة. لا نستطيع التسليم دوما بأن ممارسة التأثير تحدث دوما ضد آمال الآخرين و أن نهاية التأثير تكون لصالح (أ) ضد (ب) (المثال: دولة تقترح ندوة دولية حول المخدرات و الدولة الثانية توافق).

2- اقتراح مكافأة (the offer of rewards) و هي الحالة التي تعد فيها (أ) الطرف (ب) بتقديم مكافآت إذا ما وافقت الأخيرة على مقترحات (أ)، و المكافآت كثيرة و متنوعة. فلربح الدعم الدبلوماسي في تنظيم الندوة الدولية حول المخدرات قد تقترح (أ) على (ب) دعما ماليا أو تخفيضا في الضرائب الجمركية على سلعها أو دعما لها في ندوة حول وسائل الاتصال أو تعدها برفع العقوبات السابقة المسلطة عليها.

3- تقديم مكافأة (the granting of rewards) في بعض الأحيان تطلب (ب) المكافأة قبل قيامها بالعمل المطلوب منها من قبل (أ). مثلا: في مفاوضات لتوقيف الحرب غالبا ما يرفض كل من الطرفين التخلي عن أسلحته حتى يرى بأن الطرف الآخر يحترم الاتفاق.

4- التهديد بالعقاب (the threat of punishment) و ينقسم إلى نوعين:

أ- التهديد الايجابي (positive threat) و هي الحالة التي تهدد فيها (أ) برفع الضرائب الجمركية، بقطع العلاقات الدبلوماسية، بحصار اقتصادي ضد (ب) أو باستعمال الحرب.

ب- التهديد بالحرمان (threats of deprivation) بحيث تهدد (أ) بقطع المساعدات الخارجية عن (ب) و ايقاف المكافآت و الامتيازات الأخرى التي منحتها إياها (أ) في السابق.

5- ايقاع عقوبة غير عنيفة (the infliction of non-violent punishment) تقوم (أ) ببعض التهديدات تجاه (ب) كي تدفعها إلى تغيير سلوكها و لا يمكن لهذا التغيير أن يحدث بالوسائل الأخرى، لكن الإشكال هنا هو أن هذه الحالة قد تؤدي بالطرف (ب) الى استعمال نفس الوسائل التي قد تؤدي الى حالة غير مرغوب فيها من الطرفين (مثلا: زيادة النفقات العسكرية) فقد يقود مثل هذه الحالة الى تصعيد قد يصل الى المواجهة العنيفة ما لم يتم حل المشكلة.

6- استعمال القوة (force) في غياب تعدد الوسائل المتاحة اليوم للسياسة الخارجية كانت الحكومات سابقا تلجأ في مفاوضاتها الى الاعتماد على القوة التي كانت بمثابة الطريقة الوحيدة التي تمكن الدول من ممارسة التأثير (مثلا: سابقا كانت فكرة نزع السلاح معناها التخلي عن أهم وسيلة في السياسة الخارجية).

ويعبر عن المدخل الثاني جوزيف ناي، الذي جادل بأنه لم يعد بالإمكان حساب قوة الدولة، اعتمادا علي العناصر المادية، سواء العسكرية أو الاقتصادية، نتيجة لظهور تهديدات أمنية جديدة مثل الإرهاب، والجرائم الدولية، وتغير المناخ، وانتشار الأمراض المعدية، والتي تتطلب امتلاك موارد القوة الناعمة لمواجهتها (4).

وهذا يعني أنه لم يعد كافيا امتلاك الموارد، سواء كانت مادية أو غير مادية، فلابد من تحويل هذه الموارد إلي إستراتيجية للتأثير علي الآخرين، وللحصول علي النتائج المرجوة، والمحصلة النهائية لهذه الاستراتيجية هي التي تحدد قوة الدولة (5).

– ثانيا – أشكال القوة. مزيد من التعقيد:

ظلت القوة العسكرية، كشكل رئيسي للقوة، مسيطرة لفترة طويلة علي السياسة الدولية. وكان للثورة الصناعية، ثم الثورة المعلوماتية، دور مهم في تغير أشكال القوة، حيث أصبحت هناك القوة الاقتصادية، والقوة الناعمة، والقوة الافتراضية. ويعد هذا الشكل الأخير للقوة من أحدث الأشكال، وأكثرها ارتباطا بالتطورات الحالية في العالم، ولكنها لم تحظ بدراسة كافية، ويمكن القول أنه كان من أهم تجليات تأثيرها في السياسة الدولية الثورات العربية.

ويناقش هذا الجزء من الورقة أربعة أشكال متمايزة للقوة من حيث العناصر المكونة لها، هي القوة الصلبة Hard Power، والقوة الناعمة Soft Power، والقوة الافتراضية Virtual Power. والتمييز بين هذه الأشكال للقوة هو لأغراض تحليلية، حيث هي متداخلة، كما سيتضح لاحقا بصورة كبيرة، علي نحو يؤكد فكرة تعقد أشكال القوة.

1 – القوة الصلبة. مركزية القوة العسكرية:

تتألف القوة الصلبة من عناصر القوة المادية: العسكرية، والاقتصادية. وقد ارتبط الحديث عن هذا الشكل للقوة، خاصة القوة العسكرية، بفكر المدرسة الواقعية (6)، في حين تبني جوزيف ناي تعريفا أوسع للقوة الصلبة، لا يقتصر علي القوة العسكرية فقط، حيث رأي أنها تعني أيضا “القدرة علي استخدام الجزرة عن طريق الأدوات الاقتصادية، بهدف التأثير في سلوك الآخرين” (7). وبالتالي، يمكن التمييز بين مكونين للقوة الصلبة، يتمثل المكون الأول في القوة العسكرية، وتعد من أكثر أشكال القوة الصلبة تقليدية واستخداما لتحقيق أهداف الدولة. وتتعدد صور وأشكال استخدام القوة العسكرية، علي نحو يمكن معه التمييز بين خمسة أنماط لاستخدامها، تتراوح بين دبلوماسية الإكراه، التي تعبر عن أخف استخدامات القوة، إلي الاستخدام المباشر للقوة العسكرية، والتي تعبر عن أكثر الاستخدامات مباشرة ووضوحا، وسيتم تناول كل منها علي حدة:

– النمط الأول: دبلوماسية الإكراه، وعرفه أليكسندر جورج بأنه “تهديد الدولة للعدو باستخدام القوة العسكرية، مع استخدام وسائل فعالة لإقناعه بالامتثال لقراراتها” (8). ويمكن أن يتحقق ذلك من خلال سحب السفراء، أو فرض العقوبات. وقد حدد جورج ثلاثة أهداف لممارسة دبلوماسية الإكراه، يتمثل الهدف الأول في إقناع العدو بالعدول عن موقفه، ويتمثل الهدف الثاني في إقناعه بالتراجع عن إجراء قام به فعلا، بينما يتعلق الهدف الثالث بإثارة المعارضة ضده عن طريق دعم مطالبهم للتغيير، أو تحريكهم لقلب نظام الحكم (9).

– النمط الثاني: التخريب، وذلك من خلال قيام الدولة (أ) بأفعال هدفها هدم مؤسسات الدولة (ب) ومبانيها الوطنية. ولكن هذه الطريقة علي المدي الطويل قد لا تنتج سوي العداء والكراهية. ومن الأمثلة التاريخية علي هذا النمط، تورط الولايات المتحدة في عمليات تخريب في أمريكا اللاتينية، أثناء الحرب الباردة، خاصة في جواتيمالا، وتشيلي، والسلفادور. وهذا النمط يعبر عن شكل من أشكال العنف، قد ينجح في تحقيق أهداف الدولة في المدي القصير، ولكن تكلفته تكون مرتفعة في المدي الطويل (10).

– النمط الثالث: الردع، ويعني إصدار تهديدات متكررة لمنع عدو ما من الشروع في عمل غير مرغوب فيه. وهناك نوعان للردع: الردع التقليدي، عن طريق التهديد باستخدام الأسلحة التقليدية، والردع النووي، عن طريق التهديد باستخدام الأسلحة النووية، وقد استخدم النوع الثاني أثناء أزمة الصواريخ الكوبية في 1962 وتتميز دبلوماسية الإكراه عن الردع في أن الأولي تكون رد فعل لانتهاك قام به العدو، بينما الردع يهدف إلي منع العدو من القيام بهذه الانتهاكات (11).

– النمط الرابع: الدفاع، ويحتوي علي سلسلة من الإجراءات الفعالة التي تتخذها الدولة للدفاع عن نفسها في مواجهة هجوم عسكري نفذه العدو.

– النمط الخامس: التدخل العسكري المباشر، ويتم اللجوء إليه عادة في حالة فشل دبلوماسية الإكراه. وتتعدد أهداف التدخل العسكري، مثل حماية المواطنين أو الممتلكات الوطنية، ومثال علي ذلك، التدخل الأمريكي في بنما 1989. أو قد يكون الهدف التدخل لأغراض إنسانية، ومثال علي ذلك التدخل في الصومال عام 1992، أو بهدف الحفاظ علي استقرار النظام، مثل التدخل في ليبيريا عام 2003، أو بهدف تغيير النظام، مثل التدخل في هاييتي 1994 (12).

وتجدر الإشارة إلي أن هذا النمط الأخير أصبحت ترد عليه قيود كثيرة، نتيجة لزيادة تكاليف الاستخدام الفعلي للقوة العسكرية، والتي لم يعد بالإمكان تحملها. فعلي سبيل المثال، أدت الحرب الأمريكية علي أفغانستان في 2001، والحرب علي العراق في 2003، إلي عجز كبير في الميزانية الأمريكية. ووفقا لتقرير صدر من الكونجرس الأمريكي، بلغت التكلفة المالية للسياسات الأمريكية، بـعد أحداث 11 سبتمبر 2001، ما قيمته 1.4 تريليون دولار، ويتوقع وصولها إلي 1.8 تريليون دولار بحلول عام 2021 (13).

ويتمثل المكون الثاني للقوة الصلبة في القوة الاقتصادية، وتعني “استخدام الدولة (أ) الأدوات الاقتصادية، لجعل الدولة (ب) تقوم بأشياء لصالحها، ولا ترغب فيها”. وترتكز القوة الاقتصادية للدولة علي الناتج المحلي، ونصيب الفرد من الدخل، ومستوي التقدم التكنولوجي، والموارد الطبيعية والبشرية، ومؤسسات السوق. وقد أضاف إلين فروست عناصر أخري للقوة الاقتصادية، تشمل الحكم الرشيد، وتحقيق التنمية المستدامة (14).

وهناك شكلان رئيسيان لاستخدام القوة الاقتصادية، يتمثل الشكل الأول في العقوبات، وقد تأخذ صورة مقاطعة الواردات، والحظر علي الصادرات، وفرض القيود علي الاستثمار، ومنع السفر، ومثال علي ذلك نجاح الولايات المتحدة في إجبار بريطانيا علي الانسحاب من السويس، إبان العدوان الثلاثي علي مصر عام 1956، بعد تهديدها بفرض عقوبات اقتصادية عليها. ويتمثل الشكل الثاني في المنح والمساعدات الاقتصادية، أي مكافأة الدولة نتيجة لتغيير سلوكها لصالح الطرف الآخر، أو في محاولة لتغييره، ومثال علي ذلك المساعدات الاقتصادية التي تقدمها الولايات المتحدة للقيادة الفلسطينية، لعقد سلام مع إسرائيل، ولإنهاء أعمال العنف التي تستهدف إسرائيل. وقد جادل جوزيف ناي بأن الموارد الاقتصادية لا تعبر فقط عن القوة الصلبة، ولكنها قد تنتج قوة ناعمة أيضا، حيث قد تقدم الدولة نموذج تنمية جاذبا للدول الأخري، كما في حالة اليابان (15).

وإذا كانت العقوبات والمساعدات تعبر عن أشكال الاستخدام العمدي – المقصود للقوة الاقتصادية، فإن هناك أشكالا أخري غير مقصودة، ناتجة عن العولمة، وما ارتبط بها من زيادة تداخل الاقتصاديات وارتباطها باقتصاد السوق، وتعبر عنها الحساسية Sensitivity والتأثر Vulnerability. وتشير الحساسية إلي أن التغيير في جزء من النظام يؤدي إلي التغيير في باقي النظام. فمثلا، ترتب علي الأزمة الاقتصادية لدول آسيا، عام 1998، تأثر اقتصادات بعض الدول مثل روسيا. أما التأثر، فيشير إلي أن التغيير في جزء من النظام يؤدي إلي التغيير في قواعد النظام، مثلما حدث نتيجة انهيار شركة ليمان براذرز في الولايات المتحدة، حيث كان لذلك تأثير مهم في الأزمة العالمية عام 2008، وفي اقتصادات دول العالم (16).

2 – القوة الناعمة. أولوية الإقناع:

ارتبط الحديث عن القوة الناعمة، كأحد أشكال القوة، بمحاولات جوزيف ناي معالجة التحليل الضيق لمفهوم القوة، الذي قدمته المدرسة الواقعية، والذي كان يركز علي القوة العسكرية. وطور المفهوم في كتاب “ملزمون بالقيادة” الذي صدر عام 1990، عندما أشار إلي أن الولايات المتحدة لا تمتلك القوة العسكرية والاقتصادية فقط، وإنما القوة الناعمة، وعرفها بأنها “قدرة الدولة علي الحصول علي ما تريد عن طريق الجاذبية والاستمالة، بدلا من الإكراه. وكلما كانت سياسات الدولة مشروعة، ازدادت جاذبيتها” (17). وكان ناي قد أشار سابقا إلي الأفكار نفسها في كتاب “القوة والاعتماد المتبادل. السياسة الدولية في لحظة تحول” الذي ألفه بالاشتراك مع روبرت كوهين عام 1977، حيث تناول فكرة الاعتماد المتبادل والتأثير عن طريق أدوات أخري غير صلبة.

وتجدر الإشارة إلي أن الاهتمام بالقوة الناعمة يرجع إلي بداية الاهتمام بالثقافة والدبلوماسية الشعبية والرأي العام في العلاقات الدولية، منذ الحرب الباردة، حيث كانت هناك اجتهادات من قبل بعض العلماء للتركيز علي القوة الناعمة. ومن ذلك، الاسهام الخاص بستيفن لوكس، الذي أشار إلي أهمية المعتقدات والأفكار التي تساعد علي اجتذاب الآخرين والتأثير في سلوكهم (18)، وكذلك بيتر ساشراش ومورتون باراتز، حيث ربطا مفهوم القوة بقدرة الدول علي تعزيز وتكريس القيم الاجتماعية والسياسية للدول، خاصة في القضايا التي تمس الطرف الآخر (19).

وقد ميز ناي بين ثلاثة أنماط للقوة الناعمة، يتمثل النمط الأول في الجاذبية Attraction، ويشير إلي جذب الانتباه إما بطريقة سلبية أو إيجابية. وعالج ناي حالة الانجذاب بين أطراف غير متماثلين في القوة، ورأي أن نزوع طرف في هذه الحالة لاستخدام القوة الصلبة سيؤدي إلي التأثر Vulnerability بالنسبة للطرف الآخر، ومثال علي ذلك الهند التي مثلت مصدر جذب لبريطانيا في القرن الثامن عشر، مما أدي إلي استعمارها، وبالتالي لم تكن جاذبية الهند مصدرا لقوة ناعمة لها.

ويتمثل النمط الثاني في الإقناع Persuasion، ويستخدم للتأثير في معتقدات الآخرين وردود أفعالهم، دون التهديد باللجوء إلي القوة. وقوة الإقناع لدي الدول تتوافر كلما كان للدولة شرعية، وكلما كانت أهدافها واضحة، وكلما كانت القيادة تمتلك شخصية كاريزمية. وينصرف النمط الثالث إلي وضع جدول الأعمال Agenda Setting، وتحديد أولويات الدول الأخري، بما يخدم أو يتفق مع أولويات الدولة التي تمارس القوة الناعمة.

ويجادل ناي بأن تطبيق الدولة القوة الناعمة في علاقاتها الخارجية أعقد بكثير من القوة الصلبة، وفسر ذلك بعدة أسباب، منها صعوبة الوصول إلي النتائج، حيث تتطلب وقتا كبيرا لمعرفة نتائجها، ووضوح تأثيرها، كما أن وسائل نجاحها لا تعتمد فقط علي الحكومة (20). وتعد الصين نموذجا ناجحا للقوة الناعمة. فعلي سبيل المثال، تعتمد الصين علي تقديم المساعدات الخارجية، والشبكات الاقتصادية، والثقافة لممارسة القوة الناعمة في علاقاتها مع دول جنوب شرق آسيا، وبالتالي تجمع بين الدبلوماسية الاقتصادية، وموارد القوة الناعمة، مثل الاستثمار وبرامج التدريب، والشراكة بين الشركات الخاصة والعامة (21).

ورغم تزايد أهمية القوة الناعمة، فإن ناي لم يقلل من أهمية القوة الصلبة، حيث جادل بأن المفهومين مترابطان، وما يميز بينهما هو طبيعة السلوك. فالقوة الصلبة قد تحمل بين طياتها الإرغام والإغراء في الوقت نفسه، والحال نفسها مع القوة الناعمة (22). ويتفق روبرت كوبر مع وجهة نظر ناي، حيث يري أن القوة الصلبة وحدها لا تكفي. فهناك علاقة بين القوتين، والدليل علي ذلك أن الجيش في دولة ما يطيع أوامر الحكومة المدنية، لأنها مصدر الشرعية. وتعد الشرعية أساس القوة الناعمة (23).

وقد تعرض مفهوم القوة الناعمة، لانتقادات عديدة. فعلي سبيل المثال، انتقد برانتلي وماك المفهوم لما يعانيه من “ضبابية في التحليل”، وجادلا بأن عناصر القوة الناعمة التي ذكرها ناي غير واضحة، خاصة أنه تناول هذه العناصر كلا علي حدة، رغم أن هذه العناصر مرتبطة ببعضها بعضا ولا يمكن تقسيمها (24).

3 – القوة الافتراضية. أولوية التكنولوجيا:

كان جوزيف ناي من أهم من تحدثوا عن القوة الافتراضية كشكل جديد للقوة، وهي مرتبطة بامتلاك المعرفة التكنولوجية، والقدرة علي استخدامها. وقد حدد ناي ثلاثة أنواع من الفاعلين الذين يمتلكون القوة الافتراضية. يتمثل النوع الأول في الدولة، التي لديها القدرة علي تنفيذ هجمات إلكترونية، وتطوير البنية التحتية، وممارسة السلطات داخل حدودها. ومثال علي ذلك، نجاح الحكومة الصينية في 2009، أثناء أحداث شغب منطقة شينجيانج، في حرمان 19 مليونا من قاطني المنطقة من إرسال رسائل نصية، من خلال قطع خدمات المحمول والإنترنت.

ويتمثل النوع الثاني في الفاعلين من غير الدول، ويستخدم هؤلاء الفاعلون القوة الافتراضية لأغراض هجومية بالأساس. إلا أن قدرتهم علي تنفيذ أي هجوم افتراضي مؤثر تتطلب مشاركة وكالات استخباراتية متطورة وفك رموز مشفرة. وعادة لا تمتلك هذه الجماعات نفس إمكانيات الدولة في مجال استخدام القوة الافتراضية، ولكن يمكن أن ينفذ الفاعلون من غير الدول هجمات متنوعة تشمل اختراق مواقع إلكترونية، واستهداف أنظمة الاتصالات الدفاعية (Defense Communications System (25

وينصرف النوع الثالث إلي الأفراد، الذين يمتلكون معرفة تكنولوجية، وقدرة علي توظيفها، وعادة ما تكون هناك صعوبة في الكشف عن هويتهم، كما أنه من الصعب ملاحقتهم (26). ويعد المثال الخاص بجوليان أسانج، وقدرته علي تسريب قدر كبير من البرقيات الدبلوماسية الخاصة بوزارة الخارجية الأمريكية، من خلال موقعه ويكيليكس، مثالا جيدا علي استخدام الافراد لهذا الشكل من القوة (27).

وقد حدد ناي أنماطا لاستخدام موارد القوة الافتراضية، وميز بين الاستخدام “الناعم” لها، والاستخدام “الصلب”، حيث يمكن أن تكون القوة الافتراضية مصدرا للقوة الناعمة، كما في حالة اتجاه الدولة لوضع معايير ملزمة للبرمجيات، كما يمكن أن تستخدم بذات طريقة استخدام القوة الصلبة، عن طريق الحرمان من خدمة الإنترنت، أو قطع خدمات الإنترنت عن الدولة كاملة. فعلي سبيل المثال، تعرضت استونيا عام 2007 لهجمات افتراضية، استهدفت بنيتها المعلوماتية. كما استخدمت القوة الافتراضية أيضا أثناء الحرب الجورجية – الروسية عام.2008 كما قد تستخدم القوة الافتراضية لاستهداف القوة الصلبة لدولة أخري، عن طريق نشر فيروسات تدمر أجهزة الدولة، وتستهدف نظم الكمبيوتر الخاصة بالخدمات الحكومية (28). وقد اتهمت الصين بتنفيذ هذا النوع من الهجمات، حيث تم الكشف عن شبكة تجسس تعمل في الصين نجحت في اختراق 5921 جهازا إلكترونيا في 103 دول (29).

– ثالثا – أشكال جديدة للقوة. إعادة فهم القوة:

لم يعد امتلاك عناصر القوة، وأشكالها المختلفة، كافيا لنجاح الدولة في تحقيق أهداف سياستها الخارجية، وفي التأثير في الآخرين، حيث أصبحت هناك أهمية متزايدة لكيفية توظيف الدولة لما تمتلكه من أشكال للقوة. ومن هنا، جاءت أهمية الحديث عن القوة الذكية كمقابل للقوة “الغبية”، وعن القوة المدنية كمعبر عن “تفكير جديد” في توظيف عناصر القوة المختلفة، من حيث الجهة التي تمارس عليها القوة. والحديث عن هذين الشكلين للقوة يزيد من تعقد مفهوم القوة، ويجعل عملية قياس القوة غير مرتبطة بقيم حسابية فقط، وإنما أيضا بتقييم سياسات استخدام القوة.

– القوة الذكية. سياسات استخدام القوة:

بعد الحرب الأمريكية علي أفغانستان 2001، والحرب علي العراق 2003، دار جدل داخل الولايات المتحدة حول القوة “الذكية” والقوة “الغبية”. وجادل فريق من السياسيين بأن إدارة بوش ليست ذكية في توظيف سياساتها الخارجية، نتيجة لاستخدامها المفرط للأدوات العسكرية في مواجهة الإرهاب، وهذا يتناقض مع عصر المعلومات. وطالب هذا الفريق بضرورة تنبه الولايات المتحدة للقوة الناعمة، مع حفاظها علي قوتها الصلبة، وجمعهما في قوة واحدة، تعرف بالقوة الذكية (30).

وقد قدم جوزيف ناي هذا المفهوم أيضا، ويشير إلي “القدرة علي الجمع بين القوة الصلبة والقوة الناعمة في استراتيجية واحدة للتأثير في الآخرين”. وتعتمد استراتيجيات القوة الذكية علي خمسة عناصر، تتمثل في تحديد الأهداف والنتائج المرجوة، ومعرفة الموارد المتاحة، ومعرفة الأهداف والأوليات المراد التأثير فيها، وأي نوع من القوة سيتم الاعتماد عليه، وتقدير احتمالية النجاح (31).

وهذا الشكل للقوة لا تستخدمه الدول الكبري فقط، بل يمكن أن تستفيد منه الدول الصغيرة أيضا. فعلي سبيل المثال، نجحت الدول الضعيفة، مثل سنغافورة، في استثمار قدراتها العسكرية لردع تهديدات جيرانها، وربطها بأنشطة دبلوماسية، من خلال رابطة دول جنوب شرق آسيا (32). كما نجحت الولايات المتحدة في الدمج بين القوة الناعمة والصلبة، بعد الحرب العالمية الثانية، حيث استخدمت قوتها العسكرية للقضاء علي أعدائها، وكذلك استخدمت قوتها الناعمة لإعادة إعمار الدول الأوروبية واليابان، من خلال تبني خطة مارشال، ونظام بريتون وودز، ونشر الثقافة والقيم الديمقراطية (33).

– القوة المدنية. التركيز علي المجتمع المدني:

تعود الجذور التاريخية لمفهوم القوة المدنية إلي الثلاثينيات من القرن العشرين، وقد طوره عالم الاجتماع نوربرت إلياس في نظرية اجتماعية عن العملية المدنية (34). وحين نقل هذا المفهوم للعلاقات الدولية، كان الاهتمام حينها مرتبطا بتقليل استخدام القوة العسكرية، ولذا كانت عناصر امتلاك الدولة للقوة المدنية، والتي حددها إلياس، تهدف لتقييد العنف المنظم من الدولة في الصراعات الداخلية والعابرة للحدود (35). وقد تطور هذا المفهوم أكثر باتجاه التركيز علي الجهة التي تمارس في مواجهتها القوة، حيث تم التركيز علي منظمات المجتمع المدني. وقد ارتبط هذا التطور بأفكار هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية، حيث جادلت بأن تزايد المشاكل والقضايا الدولية وتعقدها يستدعي تبني سياسة خارجية، تستطيع التعامل معها، ومع الفاعلين الجدد في الساحة الدولية، وتسمح بخلق قوة مدنية للولايات المتحدة للتعامل مع هذه المشاكل.

وقد تحدثت كلينتون عن “الأمن المدني”، الذي أصبح تحققه مرتبطا بالدور الذي يمكن أن تلعبه الحكومات لحماية مواطنيها، وخلق مجتمع عادل. وفي إطار خلق القوة المدنية للولايات المتحدة، أنشأت الإدارة الأمريكية العديد من المكاتب والبرامج، من بينها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، التي تعرف بـ”هيئة المعونة الأمريكية”، بهدف ربط الدبلوماسية بالتنمية (36)، كما أطلقت مبادرة شراكة الحكومات المنفتحة، التي تعد خطوة أساسية نحو تفعيل أهمية القوة المدنية، وتعتمد بالأساس علي تعزيز الشفافية، والمساءلة، وانفتاح الدول علي الحكومات والمجتمع المدني (37).

خاتمة:

إن الجدل الدائر داخل الأوساط السياسية، والأكاديمية، الأمريكية تحديدا، حول أهمية امتلاك عناصر القوة، أو تبني سياسات فعالة لاستخدام القوة، يزيد من تعقد المفهوم. فمن ناحية، لا يمكن الفصل بين امتلاك عناصر القوة والسياسات الفعالة. فإذا تراكمت عناصر القوة لدي فاعل دولي ما دون استخدام سياسات فعالة، فلن يكون لهذه العناصر قيمة، أيا كانت طبيعة هذه العناصر، سواء المادية أو غير المادية، لأن الهدف من امتلاك هذه العناصر هو توصيل رسالة للطرف الآخر أو الخصم بأن هذه الدولة تمتلك هذه العناصر، وأنها قادرة علي استخدامها.

ومن ناحية أخري، لا توجد أية قيمة لسياسات الدولة، مهما تكن طبيعتها أو درجة فاعليتها، دون أن تمتلك القوة. فنجد مثلا أن دولة مثل قطر تتبني سياسات فعالة، وتعتمد علي القوة الناعمة، خاصة في المجال الإعلامي، والقدرة علي الإنفاق، ولكن هناك حدودا لقوتها، فأمامها شوط كبير، حتي يشار إليها علي أنها دولة قوية، كما أن هناك ثغرات كبيرة في قوتها الشاملة، بما في ذلك مصادر قوتها الناعمة.

وهذا الوضع ينطبق بشكل أو بآخر علي الولايات المتحدة. فبعد الحرب الباردة، نجحت الولايات المتحدة في أن تكون قوة مهيمنة، نتيجة لامتلاكها عناصر القوة، مع تبنيها سياسات فاعلة في توظيف هذه العناصر. ولكن بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وشن الحرب علي أفغانستان والعراق، ثبت عدم فعالية سياسات استخدام القوة من منظور العائد المباشر. كما أنه من الناحية الاستراتيجية، لم تغير الحرب ضد البلدين من قدرة الولايات المتحدة علي السيطرة عليهما. وفي حالة العراق تحديدا، أسهمت الحرب في تعزيز نفوذ “خصم” إقليمي لواشنطن، هو إيران. ومن الناحية الثقافية، خلقت هاتان الحربان تراثا سلبيا في العلاقة بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، وفقدت الولايات المتحدة جزءا كبيرا من جاذبيتها لدي العرب والمسلمين، ونظروا إليها علي أنها دولة “استعمارية”.

————-

smart power

سعى العديد من المفكرين الأمريكيين في بداية فترة رئاسة الرئيس الأمريكي ( باراك اوباما ) بالترويج لمصطلح القوة الذكية Smart Powerإذ عمل بعضهم امثال ( جوزيف ناي ، زبيغنيو بريجنسكي, وريتشارد ارميتاج ) على ايجاد استراتيجية أمريكية عالمية جديدة، تهدف إلى العمل لإعادة الولايات المتحدة الأمريكية، كدولة لها القدرة على الاقناع وبث الأمل في دول العالم بدلاً من التركيز على الاستخدام المنفرد للقوة.

وذلك بالاعتماد على خلق نوع من التوافق بين القوتين الناعمة والخشنة، ومحاولة دمجهما فيما تسمى ( القوة الذكية ) لكي يكون لهم القدرة على مواجهة التحديات وايجاد حالة من الحوار للوصول إلى اعادة اكتساب للحلفاء، الذين يقدمون خدمات للمصالح الامريكية في دول العالم المختلفة مع ضمان المحافظة على الأمن القومي الأمريكي، إذ اشار الباحث الأمريكي ( تيدغلين كاربنتر ) في كتابة الموسوم بعنوان: ( القوة الذكية : نحو سياسة خارجية حكيمة لأمريكا ) المنشور عام ( 2008م ) والذي بدورة أكد فيه على ضرورة تجاوز نتائج الاعتماد على القوة العسكرية المفرطة التي مارستها الأدارة الامريكية في عهد الرئيس ( جورج بوش الأبن ) ما يتطلب من الادارة الأمريكية الجديدة العمل على تقليص حجم القوات العسكرية المنتشرة في المعمورة.

وبناءً على ذلك عمل المفكرون الأمريكيون خلال ادارة الرئيس الأمريكي ( اوباما ) على محاولة تطوير نظام الأمن القومي، الذي أصبح حسب وجهة نظرهم قديماً ويجب إعادة تجديده وايجاد استراتيجية تحافظ على الأمن القومي الأمريكي. و ساهمت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة ( هيلاري كلينتون ) في التأكيد على هذا المصطلح من خلال مقال لها يحمل عنوان : القيادة المدنية … اعادة تعريف الدبلوماسية والتنمية الأمريكية، المنشور في مجلة ( Affairs Foreign) حيث ذكرت فيه : ( أن أبرز مهامها كوزيرة لخارجية الولايات المتحدة الأمريكية تتمثل في تحقيق الأتساق والاندماج والتنمية، وتشديد الأهمية على ذلك بالقدر نفسه الذي تحظى به القدرات الدفاعية الأمريكية) وأكدت ان ترسيخ مفهوم القوة الذكية كنهج جديد لحل المشكلات العالمية لن يتحقق دون تعزيز القوة الأمريكية المدنية وتوسيعها إلى أبعد أمد .

ودعت ( كلينتون ) على حد قولها ( فيما نركز على العراق و باكستان وافغانستان، يجب أن نتبع نهج القوة الذكية في الشرق الأوسط …)،مؤكدة على ضرورة أن تعمل الولايات المتحدة الأمريكية في أرتباطاتها الخارجية إلى أبعد من التفاعل مع حكومات الدول ، لأنه في عصر المعلومات، يكتسب الرأي العام أهمية اضافية حتى في الدول الشمولية، إذ أن الجهات غير الحكومية هي الأقدر على التأثير في الاحداث الجارية، واشارت إلى ضرورة أن لا يقتصر دور سفير الولايات المتحدة الأمريكية على بلورة

لهوامش:

1- Niculae Tabarcia, Power Relations between Realism and Neo- Realism in Hans Morgenthau’s and Kenneth Waltz’s Visions, Strategic Impact, No4., April, 2009.

2- إسماعيل صبري مقلد، العلاقات السياسية الدولية: دراسة في الأصول والنظريات، (القاهرة: المكتبة الأكاديمية، 1984)، ص.19

3- Robert Dahl, The Concept of Power, Behavioral Science, Vol. 2 , July 1957, p. 202.

4- جوزيف س ناي، القوة الناعمة: وسيلة النجاح في السياسة الدولية، محمد توفيق البجيرمي (مترجم)، (الرياض: مكتبة العبيكان، 2004).

5- Ashley J.Tellis, Janica Bially, Christophe Layne and Melissa Mc Pherson, Measuring National Power in the Postindustrial Age, RAND Corporation, 0002, pp. 25-60.

6- Ernest J Wilson, “Hard Power, Soft power, Smart Power”, The American Academy of Political and Social Science, SAGE publications, 2008, p.114.

7- Joseph Nye, Power in the Global Information Age: From Realists to Global, (New York, Routeldge, 2004), p.5.

8- Alexander L. George, “Coercive Diplomacy”, in: Robert J. Art and Kenneth Waltz (eds.) ,The Use of Force: Military Power and International Politics,( U.S.A: Roman and Littlefield, 2004), p. 70.

9- John Alterman, “Coercive Diplomacy against Iraq: 1990-98”, in: Robert J Art and Patric M Cronin (eds.), The United States and Coercive Diplomacy, (Washington: United States Institute of Peace Press, 2003), p.277.

10- Christopher Hill, The Changing Politics of Foreign Policy, (New York: Palgrave MaCmillan, 2003), p .145

11- Jack S. Levy, “Deterrence and Coercive Diplomacy: the Contributions of Alexander George”, Political Psychology, Vol. 29, No4., 2008.

12- Christopher Hill, Op.Cit, pp.341-841.

13- “The Costs of War Project”:

Home | Costs of War

14- Ellen L. Frost,” What is Economic Power”, Joint Force Quarterly, April, 9002.

15- Joseph S. Nye, The Future of Power, (New York: Public Affairs, 2011), pp.25-35.

16- Ibid, pp.52-53, 2010.

17- Pinar Bilgin and Berivan Els, “Hard Power, Soft Power: Toward a More Realistic Power Analysis”, Insight Turkey, Vol.01.No, 2, 2008, p1.

18- هبة رؤوف عزت، “القوة الناعمة المهدرة: أزمة النظام القوي والدولة الضعيفة بمصر”، مركز الجزيرة للدراسات، 2010.

19- Peter Bchrach and Morton S. Baratz,” Two Faces of Power”, The American Political Science Review, Vol 56, No, 4, December, 1962, p. 984.

http://ftp.columbia.edu/itc/sipa/U6800/readings-sm/bachrach.pdf

20- Joseph S. Nye, Ibid, pp90-98

21- Jani Jushani Muestonen, “Searching For China’s Use of Soft Power in the Pursuit of the Economic Cooperation Framework Agreement with Taiwan”, Institute for Cultural Diplomacy, 02 September 2010.

22- جوزيف ناي، مرجع سابق، ص.27

23- Robert Cooper, “Hard Power, Soft Power and the Goals of Diplomacy”, in: David Held and Mathias Koenig-Archibugi (eds.), American power in the 12 st Century, (Cambridge: Polity Press, 2004), pp. 74-78.

24- Joseph S. Nye, Ibid, pp.12-3

25- Joseph S.Nye, “Cyber Power”, Harvard Kennedy School, Belfer Centre for Science and International Affairs, May 2010, pp. 9-11.

26 Ibid., p. 14.

27- Ibid., p .5-6.

28- انظر: عادل عبدالصادق، “الفضاء الالكتروني وتهديدات جديدة للأمن القومي”، مجلة السياسة الدولية، عدد 180، ابريل .2010

– Joseph S. Nye, “Power and National Security in Cyber Space”, in: Kristin M. Lord and Travis Sharp (eds.), America’s Cyber Future: Security and Prosperity in the information Age,Report published by Centre for a New American Security, June 2011, pp. 13-14.

29- Ernest J Wilston, Hard Power, Soft Power and Smart, SAGE Journals, July 17, 2009.

03- Joseph S.Nye, The Future of Power, Op.Cit., pp. 208-209.

31- Joseph S. Nye, “Smart Power and the War on Terror”, Asia-Pacific Review, Vol .15. No .1, 2008.

32- Richard L. Armitage and Joseph S.Nye, “Stop Getting Mad, America Get Smart”, Washington Post, December 9 2007

33- Philipp Schweers, “Still a Civilian Power”, Dsseldorf Institute for Foreign and Security Policy, No 27, March 2008.

34- Zdenek Kriz, “German Involvement in the War against International Terrorism: End of Civilian Power”, Central European Political Studies Review, Vol 3, Number 2-3, 2006 PP 123-125.

35- Hillary Clinton, “Leading Through Civilian Power: Redefining American Diplomacy and Development”, Foreign Affairs, November/December .2010See also:

63- Maria Otero, “Civilian Power for Security in the 12 st Century”, an In interview by Glenn Kessler, Council on Foreign Relations, January 6, 2012.

37- إسراء احمد إسماعيل، “القوة المدنية: الاتجاه الأمريكي نحو المنظمات غير الحكومية”، موقع السياسة الدولية.

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button