مسألة أسلحة الدمار الشامل بين موضوعية: النظام العام وذاتية النظام الأحادي

لقد شهدت العقود الستة الأخيرة التي أعقبت حط الحرب العالمية الثانية أوزارها جدلا لم يألفه رجال القانون الدولي، ولم يتواضعوا عليه. ولعل طبيعة العلاقة الطردية الموجودة بين المستجدات الحياتيةسواء تعلق الأمر فيها بالاقتصاد أو التكنولوجيا أو الثقافة بشكل عام،أو تعلق الأمر بالاستجابة التي ينبغي على القانون الوضعي التمثل بهاهي التي دعت مرة أخرى العالم إلى فتح خانة جديدة ضمن منظومة القانون الدولي تكرس ابتداءا لسلاح سمي في البدء ذري“.

إن الاهتمام بهذا السلاح الفتاك غداة تفجيره من قبل الولايات المتحدة على كل من مدينتي هيروشيما ونغازاكي،[1]برغم الفظائع التي جرها،إلا أنه لم يستوعب كل المحاور على مستوى القارة العجوز.ففرنسا وبريطانيا الدولتان الاستعماريتان التقليديتان شغلتا في لملمة جراحهما،وتسوية ما دمرته الحرب من مواقع كانت مألوفة أنها تمثل متبوئهما الأسمى في بورصة العلاقات الدولية،إلا أن الذي خفف من كبرياء لندن وباريس هو أنهما غدتا تطعمان شعبيهما من فتات يسمى بمشروع مارشال الأمريكي.[2]

كما أن عدم إكتراث بقية دول العالم بما رتبه الزلزال الذي ضرب اليابان،إنما يجد مناطه في شغل واشنطن غيرها من الدول الغربية بافتعال الاستعداء الإيديولوجي الذي تخدقا آخر يقسم الدول –التي كانت بالأمس القريب يدا واحدة على قوى دول المحور– إلى معسكرين شرقي وغربي، بحجة التباين الإيديولوجي، وعملا على صياغة سياسة توازن تتسق مع ما ذهب إليه مؤتمر ويستلفاليا وأوتريخت[3] مع مراعاة الفروق في التوقيت والمقتضيات.

رغم كل الجهود المبذولة من الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن لعبة التفرد بالسلاح الذري سرعان ما تم تسربها لما وراء الستار الحديدي، فأستدعى ذلك عملية التقابل القطبي فإنضاف إلى عنصر التباين الإيديولوجي، عامل التكافؤ الذري الأمر الذي إنبجست معه الخيوط الأولى لفجر نظرية الردع النووي.[4]

إن الذي دعانا إلى الحديث في بداية هذا الموضوع عن السلاح النووي،هو كونه السلاح الذي لم يحدث أن وظف أو استعمل أو عرف على غرار ما عرفه العالم أثناء الحرب العالمية الأولى، أين شوهد استعمال سافر لما يسمى بالأسلحة الكيميائية.

وإذا كان العالم بعد مؤتمر فرساي[5] قد تصدى في حدود التراكم المعرفي والنضج القانوني المتاح تطبيقا لقواعد ما كان يعرف بقوانين الحرب وأعرافها المحددة على التوالي سنة 1899 و1907-[6]فإن هذا العالم قد سعى من خلال بروتوكول 17 جوان 1925[7]إلى ضرب حصار على التعامل –من حيث الاستعمال– بالأسلحة الكيميائية أو الغازية،والأسلحة الجرثومية والسامة.

إن الذي كان منتظرا بعد الأهوال التي رتبها استعمال السلاح الذري، هو أن ينعقد الإجماع وبأسلوب فوري على قطع الطريق أمام انتشار الأسلحة النووية انتشارا نوعيا وكميا وعموديا وأفقيا،غير أن الذي حصل هو أن انطلاق وتيرة تحسين الأداء التكنولوجي في توضيب الأسلحة النووية،قد مضى في شكل جنوني، تضاعفت معه فرص التدمير آلاف المرات،بل ملايينها، بالقياس إلى ما كشفت عنه قنبلتا اليابان،وبالنظر إلى المخزون العالمي من المادة النووية.

إن الطبيعي –وهو ما استدعى إعداد هذه الدراسة– أن يهرع العالم –خشية الاندثار الجماعي– إلى تفكير إستراتيجي ذي بعد يتجاوز الاختلافات الناجمة عن القطبية الثنائية،ويترفع عن السذاجة التي دعت بعض الدول للاقتناع بفكرة أن الردع النووي كنظرية من شأنها أن تضمن المحافظة على الأوضاع السياسية الدولية بما في ذلك إطالة عمر السلم والأمن الدولي،من دون أن يتعرض كوكبنا لتهديد نووي مسبوق بقصد جنائي محسوب، أو انفجار عرضي غير متحكم فيه،بسبب ما يسمى بالحرب المندلعة على أساس الصدفة أو سوء التفاهم أو سوء التقدير،أو تعريض الأمن الجماعي عن طريق سبب أجنبي إلى الفناء المؤكد بتدخل عامل أجنبي في التعجيل بأدوات الموت النووي عن طريق زلزال أو بركان أو إعصار أو ما شاكل ذلك.

إن الدراسة الحالية عندما اختارت أن تخوض في جانب النظام العامالقائم على أساس نظرية القواعد الآمرة في القانون الدوليإنما اختارت ذلك للوقوف عند المفارقات التي أملتها السياسة الدولية على الوعي القانوني، الذي كان من المفترض أن يكون موصوفا بالاتساق والانسجامفإذا كان القانون الدولي منذ القرن التاسع عشر تحت ضوء تباشير القانون الإنساني قد تفطن إلى ضرورة وضع حد لفكرة الدمار الشامل المترتبة عن الحروب بوجه عام، سواءا بمناسبة الأعمال الهجومية، أو تحت ذريعة الأعمال الدفاعية، فإن الطبيعي برأينا كان أن ينحو العاكفون على صياغة القانون الدولي نفس المنحى المطارد للاكتشافات التكنولوجية التي لم تكن في كل حال ذات أثر إيجابي أو قل ذات توجه سلمي.

إن الذي نريد أن نكشف عنه من خلال هذه الدراسة هو أن فكرة النظام العام في عالم التسلح، تقليديا كان أو متصلا بأسلحة الدمار الشامل، ليست فكرة عارية من أي تأصيل، غير أن الذي يكون قد قلل من شأنها هو انقلاب مصطلح النظام العام إلى واقع النظام الأحادي الذي يستأهل الطعن فيه وتعييبه كمعوق لتفعيل القواعد الآمرة في القانون الدولي المعاصر.وهل أن الربط بين الموضوعين يعد ربطا من قبيل ربط السبب بالنتيجة؟ أم أن ثمة تحاملا توخت جهات معينة في ضوئه تحميل عجز مجموعة دولية عن احترام القانون الدولي لوحدات دولية بلغت مبلغا معينا من قوة انقطعت معه وشائج المصلحة المشتركة، وطغت في المقابل نظرة انقلابية أخرى،تدعو لوضع سلم قيم جديدة تؤسس لشيء يسمى بالنظام الأحادي؟ هذه النقاط هي التي تحاول الدراسة الحالية أن تتطرق إليها تباعا على النحو التالي:

المبحث الأولفكرة النظام العام في القانون الدولي:

لا شك أن مصطلح النظام العام في القانون الدولي من حيث كونه سقفا ينبغي على المخاطبين بأحكام هذا القانون جميعا أن يتوقفوا عنده، يعد آلية مستعارة بأسلوب تقريبي عما يعرف في نطاق القانون الداخلي عندما يتعلق الأمر بالحديث عن قواعد الآمرة، كنموذج يتعذر فيه الاتفاق على خلاف أحكام يكون القانون قد ضبط أطرها وحدد أشكالهاوإذ ا كان الحديث يبدو أكثر دقة عندما يتعلق الأمر بالنظام العام في القانون الداخلي لأسباب تتعلق بفكرة السلطة والسيادة المعقودة للدولة،كساندة وحارسة عن طريق هيئاتها التنفيذية والقضائية والتشريعية، فإن منطق التفهم لخصوصية القانون الدولي ومرونة قواعده يفرض نفسه،لا سيما من حيث كونه مقاما على الأعراف والعادات المرعية،فضلا عن عدم انطواء هياكل القانون الدولي على أدوات قمعية ردعية تحمي معنى ودلالة القاعدة الآمرة من أي خرق،أو على الأقل من بعض الخرق.[8]إذا كان ذلك كذلك،فإنه ينبغي علينا أن نسلم في هذا المستوى من البحث بأن فكرة النظام العام في القانون الدولي ليست مرادفة لنظيرتها في القانون الداخلي، ولعل ما جاء به الأستاذ/محمد السعيد دقاق– عندما وصف النظام العام في القانون الدولي– يستحق المساندة والتدعيم، فالأستاذ الدقاق بعد أن تحدث عن المواد 53و64و71 من قانون المعاهدات لعام 1969، ذكر بأن موضوع إدراج النظام العام في القانون الدولي يدخل في نطاق العمل الانقلابي والثوري الذي يشهده هذا القانونوبصرف النظر عن التعليق عن مدى اتفاقنا مع الأستاذ من حيث موفقيته في إطلاق النعت عن المنعوت، فإننا نعتقد مرحليا بأن القول بالنظام العام من شأنه أن يخفف من وطأة رمي هذا القانون بانعدام ركن الجزاء فيه.

إذا كان المقصود بفكرة النظام العام هو الاعتداد بما تقدر الجماعة الدولية بأنه مقبول،تحت طائلة اعتبار إبرام معاهدات مخالفة للقواعد الآمرة تعد موصومة بالبطلان، فكيف هو الحال بالنسبة للمعاهدات المبرمة في مجال أسلحة الدمار الشامل منظورا إليها في ضوء إعمال قواعد النظام العام في القانون الدولي؟

المطلب الأولفكرة النظام العام ومدى انطباقها على أسلحة الدمار الشامل.

إن الذي لا غبار عليه بادئ ذي بدء، هو أن توزيع أسلحة الدمار الشامل، قد شهد تقسيم هذه الأسلحة وتأرجح القانون الدولي بين قائل بارتباط هذه الأسلحة بفكرة القواعد الآمرة وبين رافض لهذه الصلة،الأمر الذي يعني أننا سنكتفي في هذا المستوى من البحث بالحديث عن السلاحين الكيميائي والبيولوجي لنترك موضوع الأسلحة النووية إلى نقطة قادمة ومستقلة.

الفرع الأولفكرة النظام العام في ضوء تحريم الأسلحة الكيمائية:

لقد سبق أن بينا في مقدمة هذه الدراسة أن المجتمع الدولي منذ أيام تاطيره تحت عباءة عصبة الأمم،قد أحسن صنعا عندما أسلتهم العبر غداة الحرب العالمية الأولى، وسعى إلى تقنين ما له صلة بالأسلحة الكيميائية والغازية وما ماثلهماولقد أشرنا أيضا في ذات المقدمة إلى أن بروتوكول جنيف المنعقد يوم 17 جوان 1925[9] كان آلية تستحق الثناء من حيث توجه الإدارة الدولية لأول مرة لوضع حد لاستعمال وإنتاج الأسلحة الكيميائية والأسلحة السامة وما ماثلها من أسلحة غازيةولعل الإنصاف التاريخي يفرض علينا أيضا أن نعود بالذاكرة إلى القول بأن مؤتمر واشنطن لعام 1922[10] المتعلق بمنع حرب الغواصات،هو الآخر كان قد أسهم على مستوى الحرب البحرية في الحد بل منع واحدة من أسلحة الدمار الشامل المتمثلة في الأسلحة الغازية.

لا شك أن النضج القانوني الذي أعقب الحرب العالمية الأولى بالقياس إلى المستوى التكنولوجي الذي كانت قد بلغته مختلف الأسلحة كان يقبل التريث لأن تكون الصياغة الفنية لهذا النص أو ذاك في حاجة إلى التصويب والتحسين، إلا أن الوتيرة الحالية التي وصلت إليها الجهود التكنولوجية صارت تقتضي عملية تنبؤ واستشراف تحد على سبيل الوقاية مما قد يتم إبداعه من أسلح أكثر هولا وأخطر فتكا.وهكذا ورغم الاستحسان الذي استحقه بروتوكول جنيف باعتباره اتفاقية مانعة للأسلحة الكيميائية في شكل قاطع يمكن أن يرقى من حيث الصياغة الفنية إلى وصفه بالأقرب إلى النظام العام،إلا أن البروتوكول المذكور قد كشفت الأيام والنزاعات المسلحة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية حاجة المجتمع الدولي إلى سد ما إعتوره من ثغرات ونقائصولعلى أهم نقد وجه ضمنيا وبشكل مبطن لنصوص هذا البروتوكول،هو كونه وإن جاء محرما للاستعمال والإنتاج للأسلحة الكيميائية،فإنه لم يتطرق إلى موضوع الامتلاك والاقتناء، الأمر الذي جعل عملية خرق نصوصه تجد تبريرها في ضوء الارتكان إلى أعمال نص المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة القائلة بمسألة الدفاع الشرعي.[11]

ولعلى الحرب العراقية الإيرانية التي شهدها عقد الثمانينات تكون قد يسرت عملية إقناع المجتمع الدولي بضرورة سد النقص في مجال منع الأسلحة الكيميائية من حيث منع امتلاكها واقتنائها وتصنيعها فضلا عن استعمالها،وكذا الاحتفاظ بالمخزون المكون لها.

إن اتفاقية باريس ليوم 13 جانفي 1993 التي جاءت لترفع مواطن الضعف وتعالج النقص الموجود في بروتوكول 1925،[12] تعد برأينا تتمة منطقية لفكرة النظام العام المتعلقة بمنع الأسلحة الكيميائية منعا كليا غير منقوص على مستوى القانون الدولي.

الفرع الثانيفكرة النظام العام في ضوء تحريم الأسلحة البيولوجية:

إن بروتوكول جنيف لعام 1925 وهو يعمد إلى منع الأسلحة الكيميائية والأسلحة السامة، إنما يكون بعد أن استعمل عبارة الأسلحة المماثلةقد فتح باب الاجتهاد والقياس، لتشمل فكرة المنع ما يعرف بالأسلحة الجرثومية أو البيولوجية أو البكتريولوجيةوإذا كانت الاستعمالات التي أريد لها أن تحدث سواءا قبل الحرب العالمية الثانية أو بعدها قد تحججت بأن ليس ثمة في القانون الدولي ما يمنع من اللجوء إلى الأسلحة البيولوجية بشكل جلي وواضح، فإن تاريخ أبريل 1972[13] إنما جاء ليقطع الشك باليقين ويسمي الأشياء بمسمياتها، إذ حسم أمر منع الأسلحة البيولوجية في ضوء اتفاقية غير منقوصة من حيث فلسفة حضر استعمال الأسلحة البيولوجية في ضوء اتفاقية اعتبرت اتفاقية غير منقوصة من حيث فلسفة حضر استعمال الأسلحة البيولوجية،الأمر الذي يفتح أمامنا الفرصة للمقامرة والمغامرة بإسقاط وصف النظام العام على مسألة منع الأسلحة البيولوجية.وإذا كان العالم قد شهد بين الحين والآخر استعمالا لهذا السلاح في شكل جراثيم خبيثة مثلا، فإن هذا لا يعني أن عدم احترام القواعد الآمرة معناه التغييب الضمني لفكرة قواعد النظام العام.وعليه، وبالرجوع إلى قرار محكمة العدل الدولية الصادر يوم جويلية 1996[14] المتعلق بالبحث في مدى شرعية استعمال السلاح النووي أو التهديد به من عدمه، فإنه يمكننا أن نفهم بأن رأي المحكمة إنما كان رأيا قاطعا في اعتبار أن كلا من القانون الدولي العرفي والقانون الدولي التعاهدي إنما يحرمان تحريما واضحا الأسلحة الكيميائية والبيولوجية.

المطلب الثانيفكرة النظام العام ومدى انطباقها على السلاح النووي:

إذ كنا قد استبعدنا السلاح النووي من حيث التحريم الجازم، لدرجة إدخال الشك والريبة من حيث صلته بفكرة النظام العام منظورا إليها في ضوء القانون الدولي، فإننا نحتكم إلى التردد الذي شاب القرار الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية بمناسبة رفع الجمعية العامة للأمم المتحدة ملتمسا يتوخى معرفة فيما إذا كان استعمال السلاح النووي أو التهديد به أمرا مشروعا من عدمه؟

إن التردد المذكور إنما استند فيه القضاء على عدم وجود عرف دولي ومعاهدات شارعة من شأنها أن تقر صراحة بحرمة وعدم مشروعية السلاح النووي إن استعمالا أو تهديدا، الأمر الذي يجعنا نقف عند هاتين الحجتين إتباعا.

الفرع الأولعدم تحريم العرف الدولي للأسلحة النووية:

لقد جاء في الفقرة 105 من البندهـ” المقطع الثاني من قرار محكمة لاهاي ما يفيد أن قضاة هذه المحكمة لم يجدوا في حدود قواعد القانون الدولي الراهن، لا من حيث القواعد العرفية،ولا من حيث القواعد التعاهدية ما يشي بعدم مشروعية الأسلحة النووية استعمالا لها أو تهديدا بهاوالواقع أن القضاة –الذين رجحت أصواتهم– الذين انقسموا إلى فريقين ما كان لهم أن يفوزوا بالتصويت المتعلق بالفقرة –محل الاقتراح – لو لم يتغيب القاضي الخامس عشر الممثل لقارة أمريكا اللاتينية بسبب وفاته قبل النطق بالحكم بستة أيام، الأمر الذي جعل اللجوء إلى القاعدة التقليدية القائلة بترجيح صوت الرئيس عند تساوي الأصوات تغدو مسألة بديهية.ومن هنا فإنه بات من الممكن القول بأن الأستاذ/محمد بجاوي الرئيس الأسبق لمحكمة العدل الدولية،[15] يعتبر من الناحية التاريخية مسئولا من خلال ترجيحة الموقف المرجئ للإفصاح جهارا بعدم مشروعية استعمال الأسلحة النووية وكذا التهديد بها.

إن القول من جانب المحكمة بعدم وجود ما يثبت أن العرف الدولي قد فصل لصالح مشروعية الأسلحة النووية أو عدم مشروعية هذه الأسلحة،يرتكز على كون أن السلاح الذري لم يحدث أن استعمل إلا مرتين اثنتين استعمالا قصديا لردع اليابان[16] من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، الشيء الذي يعني أن النضج المنشود في القول بوجود العرف الدولي من عدمه لم يثبت أن توافرت أسبابه وتشكلت أوضاعه.

إن المحكمة وهي تقضي بعدم وجود ما يثبت أن العرف الدولي يمضي إلى منع الأسلحة النووية استندت في ذلك إلى كون أن أغلب الأدوات القانونية التي سعت إلى حظر الأسلحة النووية، لم تزد في نهاية المطاف عن كونها لوائح وتوصيات غير ملزمة، وذات حجية محدودة، لكونها صادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدةكما أن المحكمة قد اعتبرت بأن تناول موضوع تحريم الأسلحة النووية،والفصل من جانبها صراحة في هذا الاتجاه يجعها هيئة قد تناولت موضوعا سياسيا رغم تداخله مع الأمور القانونية، إذ أنها تقر بتداخل الجانبين،ذلك أنه يخص في المحصلة النهائية نظرية الردع النووي وهي النظرية التي تجد مناطها وعلة وجودها في نطاق التناولات السياسية بشكل رئيسي.

أما النقاط التي سعى الفقه إلى تناولها في نطاق التعقيب على قرار محكمة لاهاي الصادر يوم 8يوليو تموز 1996[17] في باب علاقة مصدر العرف الدولي بالأسلحة النووية،فإنها انصبت على القول بأن العرف الدولي إجمالا لا يعد نسخة مصورة مما هو عليه القانون الداخليوهكذا فإذا كان القول بوجود الركن المادي القائم على التكرار والتواتر في الحياة الداخلية للدول مسألة لا مناص منها تحت طائلة نقل العرف من وصف المصدر القائم بذاتهرسميا أو احتياطيا بحسب التشريع المقارنإلى مصاف العادة الاتفاقية التي تراقبها محاكم النقض والتعقيب والتمييزبحسب المصطلحات الدارجة في العالم الغربي، فإن الذي ينبغي التنويه به هو أن المادة الثامنة والثلاثون من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، قد كان واضعوها قد سلكوا السبيل الأوسط عندما وضعوا مصطلح(العادات المرعية).إن القول بالعادات المرعية يجعل القارئ يبدو أكثر راحة في فهم مقاصد العرف الدولي،حيث يتاح أن يكتفي بالجانب المادي دون المعنوي للقول بوجود هذه العادة الدولية أو تلككما أن القول بالعادة المرعية يمكن أن ينتقل فيه الفهم إلى مستوى أن تتضمن العادة ركنا واحدا لا يجوز الاعتداد به.وفوق كل هذا وذاك فإن فقهاء القانون الوضعي تواتروا على القول بتوافر الركن المادي من عدمه،شريطة أن يكون حدوث الواقعة المراد إدراجها تحت خانة العرف، يكفي فيها أن يحدث تكرار العمل المراد إدراجه مرة ثانية، فنصبح بلغة القانون الجنائي أمام ما هو أشبه بالعود في الجريمة للاحتجاج برسوخ هذه القاعدة أو تلك تحت تسمية العرف الدولي، وفي قضية الحال،فإن الدراسة الحالية لا تضيف جديدا عندما تذكر بأن استعمال السلاح الذري قد حدث أن كان موضع استخدام فعلي وحقيقي مرتين اثنتين على التوالي يوم وأب أغسطس من عام 1945.[18]

إن القول من جانب المحكمة بعدم وجود عرف دولي يمنع أو يبيح استخدام السلاح النووي أو التهديد باستعماله يعتبر قولا غير دقيق، لأن لحظات التهديد التي عاشها المجتمع الدولي في مناسبات معينة،قد أصبحت من مشمولات التاريخ المعاصر، بدليل لحظات الرعب والذعر التي أعقبت عمليات العدوان الثلاثي، وكذا أزمة ما يعرف بخليج الخنازير وحرب الخليج التي خاضها الحلفاء تحت مظلة الأمم المتحدة وزعامة الولايات المتحدة تحت عنوان(عاصفة الصحراءاعتبارا من 17يناير 1991.[19]

إن الحديث الرافض من جانب المحكمة عن عدم وجود عرف دولي يمنع استعمال الأسلحة النووية،لعدم كفاية تواتر استخدام الأسلحة النووية،قد يقبل الأخذ والرد لكن القول بعدم وجود عرف دولي يمنع التهديد باستعمال السلاح النووي يعتبر إنكارا للحظات الهلع والذعر،وتقليل من شأن المجهودات الدبلوماسية التي أصبحت الأزمات الساخنة التي أوشك السلاح النووي أن يفلت من عقاله أو على الأقل ظن الكثيرون من المقيمين على كوكبنا بأن هذا السلاح قد أوشك على الإفلات من عقاله.وفي نهاية المطاف فإن الذي ينبغي أن نخلص إليه هو أن القول بعدم مشروعية التهديد، يجد مناطه في لحظات الذعر والخوف التي فرضت على إرادة المجتمع الدولي وألزمتها بالعمل على رفع ما تشعر به من تهديد حيال فرضية إفلات السلاح النووي من عقاله،الأمر الذي يعني أن العرف الدولي ممثلا في هيئة العادات المرعية،يؤدي وجوبا وبالضرورة إلى منع التهديد بالسلاح النووي ذلك أن الحديث عن التهديد هو حديث نفسي ومعنوي،وهذا وحده كاف للقول بوجوب تشكل لركني العرف الدولي أو ما يسمى بالعادات المرعية.

إن رفض المحكمة القول بمنع استعمال الأسلحة النووية استنادا إلى السيل الجارف الذي تعرض في نطاق لوائح الجمعية العامة للأمم المتحدة للقول بمنع هذا السلاح اعتبارا من اللائحة 1653/16 الصادرة يوم 24 تشرين الثاني 1961[20]، يعتبر إنكارا لإرادة السواد الأعظم من أعضاء المجموعة الدولية، ذلك أن الصعوبات الفنية المترتبة على آليات التصويت على مستوى مجلس الأمن هي التي تكون قد أنزلت الحجية الإلزامية المتوخاة من قرارات مجلس الأمن إلى الحجية الاستثنائية المصاحبة لأعمال الجمعية العامة، وإذا كان رفض محكمة لاهاي القول بحجية اللوائح الصادرة عن الجمعية العامة مستندا إلى الطابع الاستشاري يكفي في رأي قضاتها لاستنتاج أن العرف الدولي ليس فيه ما يكفي لمنع السلاح النووي،فإن الرد من جانبنا ينطلق من مسلمة أن القواعد العرفية دولية كانت أو وطنية،لا تزعم لنفسها استلهام كينونتها من منطق الإجماع في التصويت بل إن القواعد العرفية يتم إقرارها لمجرد وجود أغلبية تتجه إرادة الدول فيها إلى القول بهذا الاتجاه أو ذاك.وإذا كانت التوصية رقم 1653،وما أعقبها من توصيات سواءا خلال الدورات العادية أو الاستثنائية للجمعية العامة،قد وصلت إلى حد تصنيف استعمال السلاح النووي بالجريمة الدولية،فهل بقي مجال لاجتهاد محكمة لاهاي والقول من جانبها بأن قواعد العرف الدولي في ضوء القانون الدولي الحالي لما تزل بعد غير فاصلة في مسألة استعمال السلاح النووي من عدمه؟.

إن محكمة لاهاي وهي تصدر رأيها الاستشاري المتردد،تكون قد دخلت في تناقض غير مبرر عندما قررت أن استعمال السلاح النووي أو التهديد به هو أمر بشكل عام يتعارض مع القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي للبيئة، ذلك أن القانون الدولي العام على غرار غيره من البنى المعرفية،حتى يتسم بالعلمية، ينبغي بداهة أن لا يحدث بين فروعه ومصادره عدم اتساق وتناغم.فالذي يقول بتحريم القانون الدول الإنساني والقانون الدولي للبيئة، للأسلحة النووية ومنع استعمالها والتهديد بها،لا يمكنه أن يكون منطقيا عندما يقول إن العرف الدولي قد سكت عن هذه المسألة، ذلك أن العرف الدولي الذي يضبط قواعد القانون الدولي الإنساني وقواعد القانون الدولي للبيئة هو نفسه العرف الدولي الذي يضبط قواعد منع استعمال السلاح النووي أو التهديد بهبل إن القول بوجود منع في القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي للبيئةولو أن محكمة لاهاي قد استعملت لفظعموما” –إلا أن هذا يعني بالضرورة أن المنع المنوه به في هاذين القانونين الدوليين،إنما هو منع يدخل تحت طائلة قواعد النظام العام المحددة كما بينا في موضع سابق من هذه الدراسة بنص المادة 71،64،53 من معاهدة فيينا لعام 1969.[21]

صفوة القول أن فكرة النظام العام التي جعلت منها الدراسة الحالية فكرة محورية يمكن أن يمتد أثرها المحرم من باب الأسلحة الكيميائية والبيولوجية إلى باب استعمال الأسلحة النووية أو التهديد به،على أساس عدم جواز تناقض محتويات ومضامين القواعد الآمرة في القانون الدولي مع محتويات ومضامين القواعد العرفية والعادات المرعية في ضوء هذا القانون.

الفرع الثانيحجة عدم تحريم القانون التعاهدي للأسلحة النووية:

إن المقطع الثاني من البند (هـالتابع لفقرة 105 من الرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية يوم تموز يوليو 1996[22]، قد استبعد أن يكون القانون الدولي العام في وضعه الحالي قد فصل تعاهديا في مسألة الأسلحة النووية من حيث منعها إن استعمالا أو تهديدا بها، ويبدو أن السبب الأساسي الذي دعا قضاة المحكمة إلى الخروج بمثل هذا الاستنتاج، إنما يعزى لكون معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية قد استثنت في نص مادتها التاسعة من حيث منع امتلاك السلاح النووي وما يترتب عنه الدول التي تكون قد فجرت معدات نووية قبل الفاتح من شهر يناير من عام 1967[23].إن كون المعاهدة المذكورة الموقعة يوم 12 حزيران 1968 والساري بها العمل اعتبارا من مارس آذار من عام 1970 معاهدة غير عادلة وغير منصفة،بل لك أن تقول غير دستورية بالقياس إلى ميثاق الأمم المتحدةإن هذا كله لا يعني بأي حال من الأحوال أن هذه المعاهدة ما دامت قائمة على الاستثناء– فإنه ينبغي أن ينبني تحييث الرأي الاستشاري للمحكمة على طابعها الاستئنائي، ذلك أن التأمل الدقيق في نص مادتها السادسة يجعل منها معاهدة موصوفة بالانتقالية،كونها ترمي فيما ترمي إليهإلى تحقيق النزع الكامل والشامل للأسلحة النوويةوإذا ما كان من الحصافة أن يتفهم العالم لأسباب تخص إقرار السلم والأمن الدولي انطواء هذه المعاهدة على مبدأ عدم التساوي بين أعضاء الأمم المتحدة في غالبيتهم وبين القلة من أعضاء الجماعة الدولية، فإننا نرى أن المسألة يمكن أن ينظر إليها في نطاق ترتيب الأولويات الدولية،على غرار ما حصل عند إعداد وثيقة سان فرانسيسكو التي فضلت دولا دون أخرى من حيث تمكينها من العضوية الدائمة داخل هيئة مجلس الأمن،وما يستتبع ذلك من تمكين لها من حق النقض.وإذا كان المجتمع الدولي على مستوى النوايا في الوقت الحالي قد شرع بعض أعضائه في القيام بأعمال كولسة عن مستوى مجلس الأمن تعديلا لقائمة الدول الدائمة العضوية،فإن الطبيعي أيضا أن يأتي اليوم الذي يعاد فيه النظر في نص المادة التاسعة من معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية،وذلك بعد القول بمنع ليس فقط استعمال الأسلحة النووية أو التهديد بها أو امتلاكها أيضا، رغم أننا نعترف ونقر بأن المنحى السياسي الذي أخذته معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية بعد تمديدها سنة 1995 تمديدا غير محدد بموجب اللائحة رقم 984 الصادرة عن مجلس الأمن يوم 11 أبريل نيسان 1995[24] كان فرصة لم تستغل دوليا للمناورة التي كان من الممكن أن تفتح منافذ جديدة وتعطي ضمانات أفعل على توجه المجموعة الدولية في عمومها، من دون استثناء إلى المنع الشامل والتام إلى امتلاك الأسلحة النووية.

إن الاعتماد على كون المعاهدات المانعة لانتشار الأسلحة النووية وحده لم يتضمن ما يشير إلى كون أن هناك منعا تعاهديا في القانون الدولي الحالي،يعد انصرافا غير منطقي عن بقية المنظومة التعاهدية التي تتقاطع في مجال منع الأسلحة النووية، لا سيما ما اتصل بالبنى التعاهدية المكونة لهرم القانون الدولي الإنساني والقانوني الدولي للنزاعات المسلحة وكذا القانون الدولي للبيئة.فضلا عن كل هذا فإنه وبالرجوع إلى تطبيق نص المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة القائلة باعتبار حق الدفاع الشرعي فرديا كان أو جماعيا،إنما هو حق طبيعي بما يترتب على ذلك من شروط اللزوم والتناسب،فإننا نزعم بأن معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية،وبما وصمناها من نقائص تعتبر معاهدة من حيث حجيتها أضعف من ميثاق الأمم المتحدة، بدليل شرط التناسب المفروض في قضايا الدفاع الشرعيذلك أن المعاهدة المذكورة من الناحية القانونية تغدو معيبة، ولا يكفي بأي حال من الأحوال الاستهداء لا باللائحة رقم 255 الصادرة عن مجلس الأمن يوم 19 حزيران 1968 ولا باللائحة رقم 984 الصادرة عن ذات المجلس يوم 11 نيسان أبريل 1995 والمتضمنتين لتعهدات أحادية الجانب من قبل الدول المالكة للأسلحة النووية بعدم استعمال هذه الأسلحة في مواجهة الدول غير المالكة لها، لأن القيمة القانونية للتعهدات أحادية الجانب لم تصل من حيث كونها ضمانات جادة إلى مصاف مصادر القانون الدولي العام المعروفة في متن المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية.بل إن التاريخ المعاصر قد أكد لنا بما لا يدع مجالا للشك أنه لا الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن طريق ميكانيزمات الضمانات الإيجابية، ولا التعهدات الأحادية الجانب المسماة بالضمانات السلبية قادرة على أن تعفي المجموعة الدولية من حرج انتشار الأسلحة النووية ينبثق عن ذلك من تهديد للسلم والأمن في العالمبل إن دولة كبريطانيا قد ثبت في حرب الخليج الثانية أنها قد تحللت من تعهدها الأحادي الرامي إلى منع استعمال السلاح النووي ضد الدول غير المالكة له،[25]بحجة أن العراق إن سولت لها نفسها باستعمال السلاح الكيميائي،فإن لندن حينها لن يكون في مقدورها احترام تعهدها المشار إليه بموجب اللائحة رقم 255 الصادرة عن مجلس الأمن سنة 1968.[26]ومعنى هذا أن بريطانيا في نطاق معركة عاصفة الصحراء التي تحسب نفسها في حالة دفاع شرعي جماعي تحت مظلة الأمم المتحدة عملا على تحرير الكويت، تتصرف كمملكة متحدة حائزة بشكل مشروع أمام مشروع على سلاح نووي الذي لا تحوزه الدولة الخصم ممثلة في العراق،مما يفتح أمام الباحث المتأمل سلسلة من الأسئلة تخص مشروعية تحلل لندن من تعهدها؟ وأحقية بريطانيا في التحدث خارج التطبيقات المنوه عنها في نص استعمال الجيوش التابعة للأمم المتحدة خارج التطبيقات المنوه عنها في نص المادة 47 من الميثاق وما إلا ذلك من أسئلة.

صفوة القولإن انصراف محكمة لاهاي على المعاهدات المتعلقة بالقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي الحالي للبيئة والتلكؤ في القول بعدم وجود ما يثبت أن القانون الدولي الحالي لا يتضمن في شقه التعاهدي منعا لاستعمال الأسلحة النووية، يعد برأينا تجاهلا لحقيقة أن الدول المالكة للأسلحة النووية،والتي أبرمت في ما بينهالا سيما أثناء الحرب الباردةمعاهدات منع وحضر استعمال هذا السلاح،لا تكون –إن هي خرقت هاتيكم المعاهدات– قد اقترفت خطئا عقديا يمكن التحدث عن جبره.بل أنها تكون قد عرضت الكرة الأرضية كلها للفناء، وآذت الأجيال القادمة قبل أن ترى النور،الأمر الذي يجعل محكمة لاهاي برأينا قد عرضت نفسها لأن تصبح مشبوهة من حيث تلوث أحكامها بأعراض النظام الدولي الجديد التي لا تتسم دائما بالحياد المنشودوهكذا تتحول محكمة لاهاي بامتناعها عن الفصل بشكل حاسم في مسألة جوهرية، من حارس وسادن لمقتضيات النظام العام إلى خادم متأثر بضغوط النظام الأحادي.

فما هو هذا النظام؟وما هي أدواته؟ وهل أن له تعريفا يضبط خط سيره؟ هذا ما يحاول أن يعرض له المبحث الثاني:

المبحث الثانيفكرة النظام الأحادي ومدى صلتها بالقانون الدولي:

إن الذي ينبغي الاستهلال به،هو الاعتراف بادئ ذي بدء بأن لفظ النظام الأحادي، إنما هو لفظ ما تزال كتب القانون الدولي ومراجعه لم تقبل بعد بتبنيه واعتناقه بشكل يتيسر معه تحديد المقصود بهذا النوع من النظام في ظل تعريف قانوني رصين،الأمر الذي يجعلنا أميل من حيث التصنيف إلى ترتيب عبارة النظام الأحادي في خضم المصطلحات العائمة والمتسمة بالمرونة التي تزخر بها الأدبيات السياسية.ومع ذلك فإن القانون الدولي في أحايين كثيرة اعتمد واضعو مصطلحاته أسلوب الانتظار والتريث تاركين الفرصة للمصطلح وما يقتضيه من عمليات نضج وتجذر في الذاكرة الجماعية للمجتمع الدولي،لتأتي بعد ذلك قواعد القانون الدولي مقررة وكاشفة لما دأبت عليه إرادة الجماعة الدولية عند توظيف هذا المصطلح أو ذاكوالواقع أن بعض المصطلحات والعبارات رغم ما ذكرناه قد تأتى لمرونتها وهلاميتها أو قل لخصوصياتها الانضواء تحت مظلة القانون الدولي،كما هو الشأن بالنسبة لنظرية الردع النووي أو نظرية الاحتواء مثلا-.

إننا نحسب أن العالم بعد أن انهار نظام الثنائية القطبية الذي عمر لما يزيد عن أربعين سنة،وعوضت فيه سياسة التوازن الدولي القائمة على منطق الردع النووي إلى حد معين، قواعد الأمن الجماعي التي أتى بها ميثاق الأمم المتحدة.إن هذا العالم غداة سقوط الستار الحديدي ظن الكثيرون بأن فرصة التنظيم الدولي الذي جاء به مؤتمر سان فرانسيسكو[27]قد لاحت من جديد، ذلك بأن يتاح لهيئة الأمم المتحدة بأن تلعب دورها القيادي والحيادي في ضمان السلم والأمن وفك النزاعات الدولية بالطرق السلميةولقد استدل المراقبون المؤيدون لهذا التوجه بموفقية الأمم المتحدة في الفترة الممتدة ما بين 1988و 1992 على حل ثلاثة عشر نزاع دولي حلا سلميا أيام كان يقود المنتظم الأممي الأمين العام الأسبق خافيير بيريز دي كويلار“[28] وأضافوا تدعيما لسعادتهم الغامرة للتعبير عن ابتهاجهم بما أعده الدكتوربطرس بطرس غالي وعرضه على أعضاء مجلس الأمن خلال شهر حزيران 1992 في نطاق ما سماه بأجندة الأمم المتحدة الخاصة بوسائل حفظ السلم التي ابتكرت ما اصطلح عليه بأسلوب الدبلوماسية الوقائيةبل إن المنادين بشكل متحمس لعودة الأمور إلى نصابها، ذهبوا إلى حد أن قرءوا تعامل الأمم المتحدة مع مشكلة عدوان العراق على الكويت قراءة إيجابية،حصحص فيها الحق وأزهق فيها الباطل، والواقع أن كل هذه المؤشرات لم يكن مصطلح النظام الأحادي قد تكرس فيها على مستوى التوظيف الإبستيمولوجي، إذ كان المنادون والمستبشرون ببزوغ فجر جديد يتحدثون بعد سقوط جدار برلين مستعملين عبارة النظام الدولي الجديد.

إن النية المبيتة من خلال استعمال لفظ النظام الدولي الجديد تدعونا إلى فهم أن عصر القطبية الثنائية بعد أن تولى صار ينظر إليه على أنه عهد نظام دولي قديم لم يعد ضمنيا يستوعب التحولات التي شهدها العالموبصرف النظر عن خلع قيمة على هذا الوصف من حيث صوابه أو مجافاته للواقع،فإن القول بفكرة النظام الدولي الجديد يعتبر قولا يغطي على التوجه الذاتي لهذا النظام،والطبيعي هو فهم النظام الدولي الجديدبعد انتهاء عهد القطبية الثنائية وباستعمال مفهوم المخالفة– إما تحت طائلة النظام الدولي المتعدد الأقطاب وإما في ضوء النظام الدولي الأحادي.ولما كان تتبع الأحداث التي شكلت المشهد السياسي خلال الخمسة عشرة سنة الأخيرة يبرز رجحان السيطرة الأمريكية على صناعة القرار الدولي، فلعلى الحديث والحال هذه عن أمل يخالج دولا وتكتلات تأمل وتحلم مستقبلا بأن يكون لها لبنتها وكلمتها في صياغة صرح القانون الدولي مستقبلا.لذلك فإننا نشهد إرهاصات تقود مستقبلا برأينا إلى الحديث عن نظام دولي متعدد الأقطاب إن هي نجحت في إثبات وجودها كتشكيل الإتحاد الأوروبي والتحاق بعض الدول الجديدة كأعضاء بمجلس الأمن على سبيل الدوام،أو زيادة وتيرة المارد الصيني للإسهام بعد الخروج من قمقمه بفاعلية أكثر مما هو عليه الوضع اليوم.

إن الذي نستطيع أن نخلص إليه في حدود هذا المستوى من البحث هو أن النظام الدولي الحالي إنما هو نظام أحادي تلعب فيه الولايات المتحدة الأمريكية دور دركي العالم كما قال ذلك الأستاذ باسكال بونيفاس[29]، على أننا نعتقد بأن النظام وإن أقررنا بأحاديته،إنما هو نظام محكوم عليه بقصر العمر لأن المواجهة به تفتح جبهات كثيرة في أزمنة وأمكنة متوازية،الأمر الذي قد يغيب ما كان يعرف بمناطق النفوذ سابقا فضلا على أن معايير السيطرة والقوة التي كان معولا عليها سابقا،قد تعددت وتنوعت،إذ تجاوز فيها الأمر المعيار العسكري إلى معايير اقتصادية ومعلوماتية وثقافية وجيوستراتيجية وهي جميعا معايير يستحيل أن تجتمع للولايات المتحدة الأمريكية كل الوقت إن اجتمعت لها بعض الوقتوعليه فما هي آثار فكرة النظام الأحادي على موضوع أسلحة الدمار الشامل؟وما هي النتائج التي قد تقود إليها عملية تعاطي هذا النظام مع انتشار هذا النوع من الأسلحة؟.

المطلب الأول:صلة النظام الأحادي بملف أسلحة الدمار الشامل:

إن الرمز الذي ينبغي أن نتفق عليه عندما نذكر عبارة النظام الأحادي إنما هو رمز الولايات المتحدة الأمريكية التي تتعامل مع ملف أسلحة الدمار الشامل وكأنها تحل محل الأمم المتحدة في بعض هياكلها،لتلعب دور الجمعية العامة حينا فتنادي –من دون أن يكون لها صفةطبقا لنص المادة 11 من ميثاق الأمم المتحدة بضرورة نزع السلاح وتعود فتلعب دور مجلس الأمن من خلال تقديم مشاريع القرارات التي تحوز الصفة الإلزامية بعد التصديق عليها لتحاسب هذه الدولة أو تلك على امتلاكها الحقيقي أو الافتراضي لهذا السلاح أو ذاككما هو الحال بالنسبة للوائح التي أقرها مجلس الأمن بوحي وسعي من واشنطن في مجال تفكيك أسلحة الدمار الشامل سواء تعلق الأمر باللائحة رقم 678 أو اللائحة رقم 687 أو سواهما من لوائح عقابية وردعية.[30]

إن النظام الأحادي الذي اعتمدته الأمم المتحدة إما بتمرير الإرادة الأمريكية عن طريق سن اللوائح والتوصيات مختومة بختم الأمم المتحدة، وإما بصمت الأمم المتحدة حيال هذه الدولة أو تلك أو تجاهل الأمم المتحدة لعمليات الانحياز الصريح لحماية هذه الدولة رغم حيازتها للأسلحة النووية،أو سكوتها عن تلك التي تحوز هذا السلاح الفتاك من شأنه أن يجعل كل الآمال المعقودة على هيئة الأمم المتحدة باعتبارها ملجئا قانونيا تستوي فيه كل الدول ولا يصدع في أروقتها إلا بما يقتضيه القانون الدولي من عدل وحياد وإنصافأن كل هذه الآمال تعد في مهب الرياح وتكون قد عصفت بها العجرفة الأمريكية فنقلت الوضع الدولي من منطق قوة القانون إلى منطق قانون القوة مع تحميل المنتظم الأممي المسؤولية التاريخية والسياسية والقانونية على ترك المارد الأمريكي يرتع ويلعب كما يشاء.

المطلب الثاني:النتائج المترتبة على تعاطي النظام الأحادي مع ملف أسلحة الدمار الشامل:

إن أعضاء المجتمع الدولي بالرجوع إلى التصرفات الخرقاء والحمقاء التي أفضى إليها النظام الأحادي، يكونون مخيرين بين فرضيات محدودة تتوزعها العبر المستلهمة مما أصاب العراق،أو العبر المستلهمة مما تمخضت عنه الأزمة الكورية الشمالية،أو ما يكون قد اختارهالقائد الليبي معمر القذافي[31] بعد اتخاذه قرار تفكيك برنامج بلاده الرامي إلى صناعة أسلحة الدمار الشامل.

إن الخطوة التي تستفيد منها دولة إسرائيل تعد خطوة لا يمكن لأية دولة في العالم أن تحصل لدى واشنطن على مثيلة ونظيرة لها لأسباب تخص التركيبة السوسيولوجية الأمريكية، الأمر الذي يجعل السعي من قبل هاته الدولة أو تلك للظفر بمثل هذه المكانة لدى البيت الأبيض لدرجة حيازة أسلحة الدمار الشامل حيازة محمية ضربا من السعي العقيم.إن السعي من جانب أية دولة للحصول على مثل هذه الخطوة يعد برأينا من قبيل السذاجة التي لا يمكن أن يمضي أصحابها بعيدا في مسرح العلاقات الدولية.

أما التعامل بشكل مستتر وخفي لدرجة أن يتم حصول هذه الدولة أو تلك على سلاح لا ينبغي أن ينزل سقفه عن السلاح النووي، فإنه يعد مخاطرة غير مضمونة النتائج، لا سيما إذا كانت هذه الدولة من قبيل الدول العربية والإسلامية تحوز على عدو من حجم الكيان العنصري كما هو الشأن بالنسبة لدولة إسرائيلفعوض أن تكون هذه الدولة مراقبة من طرف واشنطن وحدها،فإنها تكون مهددة بالفعل من طرف تل أبيب كما حدث ذلك مع مفاعل تموز،ويمكن أن يحدث مع مفاعل بوشار الإيراني إلا إذا كانت إسرائيل وأمريكا قبل غيرهما على يقين بأن طهران قد بلغت ما بلغته بيونغ يونغ.وإذا كان الأمريكيون قد غضوا الطرف عن باكستان سنة 1998، فإن الخدمات التي قدمتها إسلام أباد في أحداث توازن إستراتيجي في مواجهة الهند واستئصال شأفة طالبان وتدعيم النظام الأفغاني السابق على التعجيل بسقوط الدب الروسي،تكون كفيلة لاعتبارها ثمنا مقبولا عن التعاطي مع المسألة الباكستانية بشيء من التساهل رغم وصول حاكم الباكستان إلى سدة الحكم وصولا دكتوريا،الشيء الذي يجعل السؤال مشروعا فيما إذا سيبقى الوضع على حاله بعد رحيل الجنرال البكستاني.؟

إن النظام الأحادي قد كشف بأن الذاتية ولا شيء غير الذاتية هي التي تمثل المرجعية لديه وسواء تعلق الأمر بترويض هيئة الأمم المتحدة في حد ذاتها إما بمضايقة هذه الدولة بخصوص أسلحة الدمار الشامل مضايقة عن طريق اللوائح والقرارات، وإما بصمت هذه الهيئة أمام الشطحات الأمريكية التي توزع في باب أسلحة الدمار الشامل كعلامات حسن السلوك على هذه الدولة أو سوءها بالتوبيخ والإنذار على الأخرى.

إن الذاتية التي يعالج بها النظام الأحادي ملف أسلحة الدمار الشامل قد بلغت مبلغا وظفت فيه حتى الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي جعلت تتعامل بأكثر من مكيال وهي تتعاطى مع الملف الإيراني والإسرائيلي، بل إن مديرها العام نفسه قد كان في وقت ما في حكم المسخوط عليه لكونه ذو أصل عربي، وتحرى إعمال شيء من الحياد مثله كمثل رفض الولايات المتحدة الأمريكية أن تجدد عهدة الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة السيد بطرس بطرس غالي.

إن الخلاصة التي تختم بها هذه الدراسة تجعلنا نغادر ميدان البحث القانوني والاستراتيجي بعد أن نقرر بأن انتشار أسلحة الدمار الشامل ما لم تحكمه قواعد نظام عام موضوعية،وتضبطها أدوات عدل وإنصاف حيادية من شأنها أن تضع مستقبل العالم على كف عفريت ولا شك أن النظام الأحادي هذا الذي يتوغل يوما بعد يوم، في وقت تزداد فيه وتيرة تقليص أحجام أسلحة الدمار الشامل وتتعاظم فيه دقتها ويصعب التحكم في تفريخ الجماعات الإرهابية فتخرج عملية حيازة هذه الأسلحة على سبيل الاحتكار حاليا من أيدي الدول إلى أيدي الأفراد والتنظيمات الإرهابية.

إن كل هذا وما يفضي إليه جبروت النظام الأحادي من رص الصفوف، ولمجابهة حيفه وظلمه قد يجعلنا لا نستبعد التوظيف العملياتي لأسلحة الدمار الشامل بعد أن تعذر اللجوء إلى استخدام أسلوب الديبلوماسية الوقائية،فكاتب الدولة للدفاع الأمريكي الأسبق السيدروبيرت ماكنامارا[32] قال بصدد حديثه عن الأسلحة النووية بأنه يصعب التحدث عن التحكم في هذا السلاح إذا ما حدث وأطلقت أول معداته، ذلك أن هاجس القضاء على الآخر هو الذي سيطغى عند انطلاق أول شرارة من السلاح النووي.

المراجع و الهوامش:

1.Brice Soccol (Relation internationale) centre de publication, universitaire 1998-1999,p :47

2.Pascale boniface,(les relation internationale depuis 1945) Hachette supérieur 1997 ;p :131

3. د.علي صادق أبو هيفالقانون الدولي العام منشأة المعارف،الإسكندرية الطبعة السابعة،1972،ص:207

4.د.ناصيف يوسف حتى،النظرية في العلاقات الدولية” دار الكتاب العربي لبنان،1985،ص:136

5. د.علي صادق أبو هيف،نفس المرجع،ص:208

6. د.مصطفى كمال شحاتة،الاحتلال الحربي وقواعد القانون الدولي المعاصرالشركة الوطنية للنشر والتوزيع 1981،ص:93

7.Annuaires des nations unies sur le désarmement, Département des affaires de désarmement New York volume 11-1986.P :314

8.محمد السعيد الدقاق، سلطان إرادة الدول في إبرام المعاهدات الدولية بين الإطلاق والتقييد،دار المطبوعات الجامعية 1977،ص:44

9. Annuaires des nations unies sur le désarmement, op cite. p : 316

10. د.علي صادق أبو هيف ،نفس المرجع.ص:221

11.ميثاق الأمم المتحدة والنظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، إدارة الأنباء بالأمانة العامة للأمم المتحدةنيويورك.

12. Annuaires des nations unies sur le désarmement, op cite. p :335

13. DESARMEMENT –fiche d’information n°55, les nations unies et désarmements. mars 1988 p :7

14. Nations Unies, Avie consultative, de 8 juillet 1996; ww.cij.fr

15. Mohamed bedjaoui, (Nouvel ordre mondial et control de la légalité des actes du conseil de sécurité. Bruyant Bruxelles 1994, p : 55

16. Pascale boniface, op cite , p :140

17. Nations Unies, Avie consultative, op cit

18. Pascale boniface, op cite, p :141

19.. الفريق سعد الدين شاذلي،الحرب الصليبية الثامنة،دار الحكمة الجزائر،1993.ص:181

.20 Annuaires des nations unies sur le désarmement, op cite. p :321

21.محمد السعيد الدقاق،نفس المرجع،ص:34

22. Nations Unies, Avie consultative

23.Marie-Françoise furet, expérimentation des arme nucléaires et droit international public Edition A. Pedone 1966 , p :122

24.Martine De Becher, les essais nucléaires, Edition Complexe

25. الفريق سعد الدين شاذلي،نفس المرجع، ص:183

26. Marie-Françoise furet, op cite, p :134

27. Brice Soccol, p :

28. صحيفة الوقائع للأمم المتحدة 77.

29. Pascale boniface, op cite, p :342

30. د.عمرو رضا بيومي،مخاطر أسلحة الدمار الشامل الإسرائيلية على الأمن القومي العربيدار النهضة العربية،الطبعة الأولى 2002.ص:114

31. Le monde Diplomatique .Décembre 2003.

32.حسن ملحم،علم الاجتماع السياسي لطلبة السنة أولى جامعي حقوق مطبوعة غير منشورة السنة الجامعة 1981،1982

ص:21

***************

د/الأخضري نصر الدين – جامعة قاصدي مرباح ورقلة

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button