السياسات العامة

مسألة التغير في السياسات العامة

د. صالح بلحاج كلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية جامعة الجزائر -3

موضوع التغير في السياسة العامة حاضر بكثرة واستمرار في الخطاب السياسي الإعلامي وفي أدبيات العمل العام، مع اختلاف في الموقف بين رجال السياسة ومحللي السياسات العامة فيما يخص وجود التغير وانعدامه. فرجل السياسة يقدم في الغالب وجه التغير في السياسة العامة ويكثر من استخدام الألفاظ الدالة عليه مثل الإصلاح والقطيعة والتحويل والمراجعة وغيرها. والأمر مختلف من الناحية النظرية والعلمية، فإن تحاليل التغير الأولى خاصة ركزت على ظواهر الجمود والسكون في السياسات العامة وأكدت أن التغير فيها نادر قليل أو أنه منعدم تماما، مع بيان العقبات المانعة من تغير العمل العام. إلا أن الملاحظ أيضا أن بعض السياسات العامة يتغير من حين لآخر، فلابد إذاً أن هناك عوامل تسمح في ظروف معينة بتجاوز موانع التغير وبتحويل سياسة عامة معينة. هذا المقال يتناول مسألة التغير في السياسات العامة من ثلاثة وجوه. في الأول نوضح معنى التغير في السياسة العامة بالوقوف على الجوانب التي يمكن أن تتغير فيها، وننظر في الثاني إلى أسباب السكون المميز للعمل العام بإظهار موانع التغير وصعوبته، ونعالج في الثالث العوامل المفسرة للتغير في حال وقوعه.

مقدمة :

موضوع التغير في السياسة العامة حاضر بكثرة واستمرار في الخطاب السياسي والإعلامي وفي انشغالات الرأي العام وفي أفواه العامة من الناس، يذكره كل واحد منهم بحسب تصوره وحاجاته، وهو أيضا من المواضيع التي كتب عنها الكثير في أدبيات العمل العام. ومسألة التغير هذه تهم في الواقع قطاعات السياسة العامة بأسرها، فإنه من السياسات الاجتماعية إلى التربية والتعليم إلى الصحة وإلى النقل والقضاء والبيئة والاقتصاد بمختلف فروعه، لا يكاد يوجد میدان خال من ضرورة التغيير بصورة أو بأخرى. والناظر المتتبع للخطاب السياسي خصوصا ينتهي إلى القول بأن السياسات العامة تتغير فعلا بدليل كثرة الألفاظ الدالة على ذلك في كلام رجال السياسة، فإنك لا تجد مسئولا سياسيا ولا موظفا كبيرا لا يرجع في خطابه إلى التغيير بذكر لفظ من الألفاظ الدالة عليه كالإصلاح والقطيعة والتجديد والتكييف والتعديل والتحويل وإعادة التأسيس وغيرها من الألفاظ المستعملة في المعنى. فالسياسات العامة تتغير إذا باستمرار على قول رجال السياسة.

إلا أن الأمر مختلف من الناحية النظرية والعلمية، فإن الدراسات الأولى عن التغيير بينت أن التغير في السياسات العامة نادر وقليل أو أنه منعلم تماما. وقد كان لهذا الموقف من مسألة التغيير في العمل العام رواج وأنصار كثير في أوساط محللي السياسات العامة كما تشهد بذلك كثرة الدراسات التي أجريت في إطار المفاهيم المركزة على وجوه السكون والاستمرارية في السياسة العامة مثل مفهوم التراكمية في الأول ومفاهيم المؤسساتية الجديدة فيما بعد. فمن الناحية النظرية إذا وفي الإنتاج العلمي المتعلق بمسألة التغيير تكون ظواهر الجمود والاستمرارية هي المهيمنة في السياسات العامة لا ظواهر التغيير والتحول.

هذا المقال يتناول موضوع التغير في السياسة العامة في ثلاثة أقسام يجيب كل منها عن واحد من ثلاثة أسئلة : ما معنى تغير السياسة العامة ؟ وما السبب في جمود السياسات العامة ؟ وما هي أسباب التغير الذي يشاهد من حين لآخر في السياسة العامة ؟ شواهد التغير في السياسة العامة :

ما معنى التغير في السياسة العامة وما المؤشرات الدالة عليه ؟ من أجل الإجابة عن هذا السؤال ينبغي الوقوف على أبعاد التغير، يعني الجوانب التي تتغير من جهة وبيان الإطار الزمني الذي يدرس فيه التغير من جهة ثانية. أبعاد التغير :

ما الذي يتغير في السياسة العامة ومتى يصير الحديث عن وجود تغير فيها ممكنا ؟ عند بيير موللر يوجد تغير في السياسة العامة حين نشاهد :

– تغيرا في أهداف السياسات، وبوجه أعم تغيرا في الأطر المعيارية الموجهة للعمل العام ؛ – وتغيرا في الأدوات التي تمكن من تجسيد العمل العام وتنفيذه في ميدان معين ؛ – وتغيرا في الأطر المؤسساتية التي تهيكل العمل العام في المجال المعني به”(1).

وأشار الكاتب إلى اعتماده في وضع هذا التعريف على أعمال بيتر هول عن تحولات السياسات الاقتصادية البريطانية. فلننظر إذا إلى أقوال بيتر هول في المعنى. هذا الباحث أنجز دراسة موسعة عن التحولات التي حدثت في السياسة الاقتصادية البريطانية من السبعينات إلى آخر الثمانينات ووضع تمييزا يبين ثلاثة أصناف من التغيير الذي يقع في السياسة العامة(1)، تمييزا نال واسع الشهرة في أوساط محللي السياسات العامة وصار فيها مذكورا باستمرار، من أجل المساندة أو المناقشة أو النقد والإثراء. عند بيتر هول يوجد ثلاث درجات من التغير في السياسة العامة، فيكون التغير من الدرجة الأولى إذا أصاب نمط استعمال أداة من أدوات السياسة العامة الجارية نتيجة اكتساب تجربة ومعارف جديدة أو من أجل تكييفها مع سياق جديد، وذكر مثالا لذلك الاستعمالات المختلفة لسعر الفائدة. ويكون تغير من الدرجة الثانية إذا أنشئت أدوات للسياسة العامة جديدة، وأورد مثالا لهذا الصنف من التغير إنشاء أدوات جديدة لمراقبة الكتلة النقدية أو النفقات العامة. ويكون التغير من الدرجة الثالثة إذا تغيرت أهداف السياسة العامة، يعني ما تستند إليه السياسات من التوجهات والتصورات العامة، وهنا يصيب التغير نموذج السياسة العامة المهيمن بأكمله. وذكر مثالا له الانتقال الذي حدث في بريطانيا أثناء الفترة المذكورة من أنماط التنظيم الاقتصادي الكلي المستوحاة من النظرية الكينزية إلى أنماط التنظيم الاقتصادي الكلي ذات التوجه النقدي.

يستفاد من هذا التصنيف أن التغير وعدم التغير ربما اختلطا ببعضهما، إذا وقع مثلا تغير في طريقة استعمال أدوات السياسة العامة أو عوضت الأدوات بغيرها مع بقاء الأهداف والتصورات القائمة على حالها. ويستفاد منه أيضا أن التغير مستويات ودرجات وله وجوه بينها فروق في الأهمية، فالتغير من الدرجة الأولى أقل أهمية من التغير في الدرجة الثانية أو الثالثة. وهذا في الحقيقة هو المعنى الذي قصد إليه بيتر هول بالضبط، فإن درجات التغير الثلاث مرتبة عنده ومتدرجة بوضوح، حيث أن التغير من الدرجة الثالثة الذي هو بنظره التغير الحقيقي في السياسة يستتبع ضرورة تغيرا من الدرجة الأولى وتغيرا من الدرجة الثانية في دراسات التغير الحديثة التي أنجزت بعد ذلك بين بعض محللي السياسات العامة أن مقولات بيتر هول في درجات التغير وفي أهميتها النسبية ناقصة، منهم الباحث باتريك هاسنتوفيل الذي عدل تصنيف بيتر هول وقام بإثرائه من وجهين، فيما يخص عدد أبعاد التغير من جهة ومسألة التدرج فيما بينها من جهة ثانية).

ونأتي الآن إلى مسألة الارتباط بين هذه الأبعاد وترتيبها بمنظور الأهمية النسبية لكل منها. ذكرنا أن التغير عند بيتر هول مستويات ودرجات، من المهم إلى الأكثر أهمية إلى الأهم، بحيث أن التغير في الأعلى يستلزم تغيرا في الأسفل ضرورة. باتريك هاسنتوفيل ابتعد من هذا المنظور مقترحا استعمال لفظ الأبعاد بدلا من الدرجات، رافضا ترتيب التغيرات بحسب أهميتها ترتيبا صارما. فلفظ البعد عنده يشير إلى الجوانب التي يمكن أن تتغير في سياسة

عامة معينة بصورة مستقلة عن بعضها ومن دون أن يقتضي تغير أحدها تغيرا في الأخرى، مع إمكانية حدوث ذلك. الأبعاد مستقلة عن بعضها وقابلة للتأثير والتأثر فيما بينها في وقت واحد، فإنما هي إذا مسألة استقلالية نسبية لأبعاد التغير. وانتهى هاسنتوفيل إلى اقتراح جدول ملخص الأبعاد التغير في السياسة العامة يضم أربعة أبعاد متبادلة التأثير من غير تدرج فيما بينها، وهي تغير الأدوات من حيث الاستعمال والإنشاء، وتغير الفاعلين، وتغير إطار التفاعل، وتغير توجهات السياسة العامة وأهدافها (1) الحيز الزمني للتغير

التغير في السياسة العامة لا يحدث بسرعة وسهولة، ولو بحثنا عن تغير في وقت قصير جدا لوجدناه نادرا للغاية وربما لم نجده إطلاقا. ومن هنا لابد لمن أراد تحليل التغير في سياسة بعينها أن يتخذ لنفسه حيزا زمنيا كافيا ترصد تطورات السياسة المدروسة في إطاره لاستكشاف المتغير فيها والباقي على حاله.

في تحاليل التغير نجد التمييز بين الزمن القصير والزمن الطويل حاضرا باستمرار. وعبارة الزمن القصير والزمن الطويل هذه تشير عند بعضهم إلى تتابع بين حلقات من التغير فجأة وحلقات من الاستمرار في الأمد الطويل. وهذا خصوصا تصور التغير في المقاربة بمفهوم “التوازن المنقطع” التي تعود إليها فيما بعد. وتشير عبارة الزمن القصير والزمن الطويل عند فريق آخر من المحللين إلى تعارض بين صنفين من التغير، التغير بالقطيعة الفجائية والتغير البطيء الذي يحدث شيئا فشيئا. وهذه الطريقة الأخيرة، يعني التغير التدريجي البطيء، هي التي قدمتها على غيرها المقاربات الرائجة المهيمنة في تحليل التغير على رأسها النظرية التراكمية في الأول والنظرية المؤسساتية الجديدة بعدها.

تحليل التغير بمنظور المقاربة المؤسساتية الجديدة خاصة يقود إلى التركيز على أهمية الزمن الطويل لأنه يسمح بمعالجة أفضل لأسباب التغير ولآثارها جميعا، فيكون بالتالي وصف التغير أدق وأكثر تفصيلا ووضوحا. بهذا المنظور الزمني الطويل درس الباحث بول بييرسون تطورات السياسات العامة الاجتماعية الأمريكية في الثمانينات (۷) وبين بشأن الأسباب الزمنية للتغير أن هناك ثلاث عمليات طويلة الأمد ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار عند تحليل التغير، سماها الأثر التراكمي (أ) وأثر العتبة(ii) وأثر التسلسل (ii)

انطلاقا من هذا يكون اعتبار الزمن الطويل، يعني الأخذ بالمنظور التاريخي، في دراسة التغير أمرا ضروريا للمحلل، وذلك أن رصد تطورات السياسة العامة في حيز زمني طويل نسبيا يسمح بالوقوف على التغيرات الحاصلة وبوصف لها أتم وأدق. ثم إن هذا المنظور التاريخي لا يسمح بالوقوف على عناصر التحول فقط ولكنه أيضا يمكن المحلل من اكتشاف خطوط الاستمرارية الكامنة في أغلب السياسات العامة

في دراسات التغير الكثيرة أدمج الوقت الطويل خصوصا في المقاربات المركزة على موانع التغير. في هذه المقاربات لا تتغير السياسات العامة إلا قليلا أو أنها لا تتغير بتاتا، وحين يكون التغير لا يتم إلا ببطء شديد وفي فترة زمنية طويلة. والسبب في ذلك عندهم أن التغير في السياسات العامة عملية صعبة لكثرة العقبات المانعة من حدوثه. وأشهر المقاربات التي ركزت على موانع التغير في السياسة العامة اثنتان، المقاربة التراكمية والمقاربة المؤسساتية الجديدة.

موانع التغير وضيق نطاقه في الدراسات الأولى عن التغير طور تحليل السياسات العامة مفاهيم متعلقة أساسا بإبراز ظواهر السكون والجمود في السياسات العامة والعوامل المانعة من تغيرها وضالة حجم التغير في حال وجوده. وتنقسم جملة هذه الموانع على صنفين، أحدهما يضم الموانع المرتبطة بتعدد الفاعلين وبمحدودية رشادتهم، وهذه جوهر مفهوم التراكمية وعماده النظري. والصنف الثاني يشمل الموانع الناجمة عن ثقل الماضي بما في ذلك آثار السياسات السابقة والاختيارات الماضية، وهذا أساس مفهوم التبعية للمسلك.

– التراكمية :

رشادة محدودة وسكون في السياسات العامة

– ثقل الماضي .

– تركة السياسات السد

أثر الاختيارات الماضية وآليات التبعية للمسلك

استخدم مفهوم التبعية للمسلك أول ما استخدم ولمدة من الزمن بعد ذلك في الاقتصاد، وكان استخدامه بالاستناد إلى مفهوم آخر هو أيضا كان عندئذ حديثا في الاقتصاد يسمى مفهوم المردود المتزايد). قبل ظهور المفهومين كان التحليل الاقتصادي التقليدي يقول بأن التجديدات التكنولوجية لها آثار تتناقص بمرور الزمن، فكان السائد إذا فكرة المردود المتناقص. ولكن بعض علماء الاقتصاد لاحظوا حالات توجد فيها حلول أكثر فاعلية من الحلول الجارية ومع ذلك لم يؤخذ بالجديدة ولم تترك القديمة، فانتهوا إلى القول بأن ظهور أساليب جديدة أنجع من القديمة لا يعني أنها ستعتمد من قبل الشركات ضرورة. فكان سؤال لماذا ؟ في سياق البحث عن الإجابة عبر بعض علماء الاقتصاد عن اعتقادهم بأن التكنولوجيات المستعملة تولد آثار متسلسلة متراكمة ومتزايدة التعقيد إلى حد يصير فيه من الصعب التفكير في حلول بديلة. وفي هذه الظروف وقع حدث عظيم في تاريخ التطور التكنولوجي وهو ظهور الإعلام الآلي، وشوهد عندئذ أن المهندسين اكتفوا بنسخ نظام الكتابة المعتمد إلى ذلك الحين في الآلة الكاتبة التقليدية فاستعملوه للكتابة بجهاز الكومبيوتر رغم إعداد الة جديدة أكثر قدرة وملاءمة للحاجات الحاضرة، وهكذا كان التمسك بنظام الكتابة القديم فلم يؤخذ بنظام الآلة الجديدة ولا كان التفكير في نمط آخر جديد يجعل الكتابة أسرع مما كانت عليه. هذا المثال زاد علماء الاقتصاد اقتناعا بفكرة المردود المتزايد للتكنولوجيات المستخدمة وبظاهرة التبعية للمسلك التي فسروها في مثال الإعلام الآلي المذكور بتكاليف الاستثمار المرتبط باختراع نمط تنظيمي جديد وبآليات التعلم والتنسيق التي تبلورت في ظل النظام القديم ورسخت حتى صار التغيير الجذري خارج الاحتمال.

وكان من النتائج العملية لمثال الكتابة بالكومبيوتر وللدراسات التي أنجزت بشأنه أنها منحت علماء الاقتصاد فرصة التثبت من مقولاتهم في مفهومي التبعية للمسلك والمردود المتراكم وسمحت لهم بالتوسع في وصف العمليات المسببة لهما والآليات المتضمنة فيهما. وجاءت استنتاجاتهم تؤكد أن التطور الاقتصادي تسوده ظاهرة التبعية اللمسلك وأن السبب في هذه الظاهرة اليات تجعل اختیارا تاريخيا معينا كلما طال أمده صار أكثر تقييدا للحاضر، وأصبح دافعا إلى الاستمرارية مشجعا لها ومانعا من التغير معرقلا له ويرى البعض: – في الاقتصاد يوجد عدد من آثار السوق من شأنها أن تعرقل ظاهرة التبعية للمسلك ومنها الانضباط الناجم عن الخوف من الإقصاء الذي يصيب غير القابل للحياة من الشركات، والإعلام المتداول بشأن الأسعار. وأما في السياسة فلا يوجد مثل هذه الآثار وبالتالي من المفروض أن تكون التبعية للمسلك في الأنظمة السياسية أقوى منها في الأنشطة الاقتصادية أو الاختيارات التكنولوجية – المجال السياسي يتميز بشدة كثافته المؤسساتية ويترتب على ذلك كثرة القواعد والإجراءات والتشريعات المعقدة، فتصير منظومات العمل العام بسبب هذه الكثافة وذلك التعقيد مقيدة للعمل ولسلوكيات الفاعلين – المجال السياسي يتميز بتعقيده وقلة شفافيته وبصعوبة الحصول على الإعلام المفيد فيه وتحديد غايات واضحة أحادية المعنى والهدف، ويغلب عليه منظور قريب الأجل كثيرا ما يكون مرتبطا بالمواعيد الانتخابية(*)، وهذه عوامل مقيدة. فيما يخص أهداف العمل العام يشكل تداخل المصالح وتعقيد المشاكل وقلة وضوحها وتعدد المبادئ والقيم التي يحملها الفاعلون عقبات في وجه الرشادة الصحيحة. – في السياسة ترزح عمليات التنمية المؤسساتية تحت وطأة القواعد الموضوعة في السابق وتظل مقيدة بقواعد الماضي، فإن السياسات العامة السابقة والمؤسسات المحيطة بها والمؤطرة لها تهيكل الحوافز والموارد الحالية، وبمرور الوقت يصير من المستحيل ألا يحترم ما حددته الاختيارات السياسية السابقة من قواعد ومعايير لأن إنشاء مؤسسات بديلة يولد تكاليف عالية في صورة استثمارات أولية من التعلم والتنسيق. ولذلك يبدو في الغالب أنه من الأفضل تكييف المؤسسات القائمة بدلا من تعويضها بأخرى جديدة. 

– المؤسسات توضع في الغالب على نحو يجعلها صعبة التغيير من أجل الثبات أمام حالات التداول السياسي والتقليل من أخطار التقلبات السياسية المستقبلية التي تكون ضرورة غير معلومة حين وضع المؤسسات. فجمود المؤسسات يعتبر إذا عند بيرسون أحد العوامل المشجعة على الاستمرار في الطرق السابقة والراهنة. ويريد بييرسون بجمود المؤسسات هنا على وجه الخصوص التمييز المعروف في القانون الدستوري بين الدستور المرن والدستور الجامد. فالأول من السهل تعديله بواسطة قانون عادي. وأما الدستور الجامد وهو الأكثر انتشارا في الأنظمة السياسية المعاصرة فهو خاضع في تعديله الإجراءات خاصة ومعقدة يراد بها الحيلولة دون تعديلات كثيرة بشأن سمة الجمود هذه المميزة للمؤسسات السياسية باستطاعتنا القول إنها صحيحة تماما في الأنظمة الغربية حيث تكون المراجعات الدستورية نادرة متباعدة في الزمن ولا تتم إلا بعد سنين من التوطئة لها والنقاش حولها، وأنها عملية سهلة في بلدان الجنوب خاصة، ومع ذلك يبقى أن تغيير الدستور تغييرا عميقا حتى في هذه البلدان أصعب من تغيير القواعد المؤسساتية الأخرى.

– العمليات المعرفية المتعلقة بالتأويل الجماعي وبتوفير الشرعية للرهانات وللحياة السياسية هي أيضا خاضعة الآثار التوطيد الذاتي المتراكم. فإن القيام بإعداد تأويلات اجتماعية وسياسية مشتركة ثم النهوض بنشرها يستلزم تكاليف عالية من التوظيف والتعلم. وهذه التأويلات والتصورات تتبناها الفواعل الاجتماعية الأخرى بطريقة تولد آثار التنسيق الناجمة عن ضرورة تقاسم تحاليل ولغة مشتركة وآثار التكيف الناجمة عن ضرورة استباق وجهات نظر الآخرين. والتصورات السياسية الأساسية إذا تم التمهيد لها والتوطئة تغلغلت جذورها وامتدت في أعماق الوعي وصارت في الغالب صلبة عنيدة مؤيدة للاستمرار مقاومة للتغير.

وهذا الوجه من العمليات السياسية لا يخص النخب والخبراء وحدهم ولكنه شامل للسكان أجمعهم. ويتبع ذلك أن الحكومات لابد لها أن تسعى لتغيير وجهات النظر قبل تغيير السياسات العامة، وتغيير الأولى أصعب من تغيير الثانية. مسببات التغير في العمل العام رأينا في الصفحات المتقدمة جملة واسعة من العوامل المفسرة لظواهر السكون والاستمرارية في السياسة العامة. ولكن الملاحظ أيضا أن بعض السياسات يتغير من حين لآخر. فلابد إذا أن هناك عوامل تسمح في ظروف معينة بتجاوز العقبات المذكورة وبتحويل سياسة عامة بعينها. ننظر الآن في طبيعة هذه العوامل وكيفية تأثيرها في عملية التحول.

تعددت المقاربات الرامية إلى تفسير التغير واختلفت بحسب طبيعة المتغيرات المعتمد عليها في التفسير، وهي  كثيرة يمكن تقسيمها على أربع فئات، مقاربات تركز على دور العوامل الآتية من خارج السياسة العامة، ومقاربات تقدم العوامل الباطنية الناشئة من السياسة العامة نفسها، ومقاربات تجمع في تفسير التغير بين العوامل الخارجة عن السياسة والعوامل الآتية منها مع اعتبار أيضا لدور الفاعلين في التغير اعتبارا يزيد وينقص من مقاربة إلى أخرى، ومقاربات تبرز بشدة دور الفاعلين في تحويل السياسات. التغير بعوامل من خارج السياسة.

أصحاب هذا الاتجاه في تفسير التغير من الباحثين الذين يركزون في أعمالهم على قوة الاستمرارية في العمل العام. المقولة عند هؤلاء: السياسات العامة يسودها السكون والاستمرار بسبب الحركيات الجارية في داخلها، والتغير الذي يصيبها أحيانا مصدره السياق، يعني جملة الظروف المحيطة بها. فإن التغير في السياق يفتح على قولهم نافذة فرصة تسمح بتحويل سياسة عامة معينة تحويلا يتخذ في الغالب شكل تكييف لها مع السياق الجديد. في هذا المنظور العام أنجزت دراسات كثيرة اختلفت باختلاف صنف السياق المعتمد كوسيلة للتفسير، الكثير منها ذكر السياق الاقتصادي عامة وسياق الموازنة خصوصا باعتباره قوة الضغط الأولى في اتجاه التغير. وكان للسياق السياسي أيضا نصيبه من الاهتمام. التفسير بتغيرات باطنية.

اتفق جميع المحللين على أن السياق الذي تقع فيه السياسة له دوره في التغيرات التي تعرض فيها إلا أن الكثير منهم لم يقنعهم تفسير التغير بعوامل آتية من خارج السياسة وحدها. وهذا الذي دفعهم إلى البحث عن متغيرات تقع بداخل السياسة العامة نفسها وقادرة على تفسير التغير الحاصل فيها. وأدى هذا إلى دراسات تحاول تفسير التغير بعوامل باطنية يتقدمها في هذا المنظور المقاربات المعتمدة أساسا على المتغيرات المعرفية، يعني التي تركز على دور الأفكار في تفسير التغير، وأشهرها ثلاث هي المقاربة بمفهوم التعلم، ومقاربة التوازن المنقطع، ومقاربة أزمة النموذج النظري المهيمن.

التغير بالتعلم

هذا المفهوم نشأ في علم النفس وانتقل بعد ذلك إلى سوسيولوجيا التنظيمات فعلوم السياسة عامة فتحليل السياسات العامة. قد ذكرنا أن استنتاجات التراكمية بتركيزها على ظواهر الجمود في السياسة العامة داعية إلى التشاؤم بشأن إمكانيات تغير العمل العام المقاربة بمفهوم التعلم يمكن اعتبارها مقاربة التفاؤل المعتدل بخصوص التغيير. أصحابها يقولون : صحيح أن الدولة تواجه عوامل تعيق عملها أو في الأقل عوامل تحصر هذا العمل في جملة ضيقة من الإمكانيات، إلا أنه ليس من شك في أن العمل العام يتطور تدريجيا بفضل آليات من التعلم تتعلق بمعرفة المشاكل المعالجة وبالتحكم في الأدوات المستعملة، وربما تجاوزت ذلك لتشمل أيضا طبيعة الروابط وعلاقات القوة المميزة لمنظومة معينة من منظومات السياسة العامة. فالقصد من استعمالهم لهذا المفهوم إذا بیان حركيات التغير التدريجي الجارية في السياسات العامة. الباحث هيج هيكلو الذي كان أول من وظف المفهوم على نطاق واسع في كتاب له صدر سنة 1974 عرفه هكذا :

التعلم “تعديلات في الفكر أو في نوايا السلوك دائمة نسبيا، ناتجة من التجربة ومتعلقة بتحقيق أهداف السياسة العامة أو بمراجعتها”( ). فالفكرة إذا أن القائمين بشئون السياسة العامة يفكرون في مجرياتها باستمرار ويقيمون عملهم وينظرون في تجربتهم وفي تجارب من حولهم بداخل البلاد وخارجها وينتهون بذلك إلى تحصيل معارف جديدة عن السياسات الجارية تجعلهم يقبلون على تغييرات تدريجية فيها.

في هذا الإطار أنجزت دراسات حاول أصحابها الوقوف على عمليات التعلم الجارية في السياسات العامة والقيام بوصفها، وأنشئت تصنيفات مختلفة لها نذكر منها التصنيف الوارد في أعمال الباحثين بينيت وهاولیت(xi) . فعلى قول الكاتبين توجد ثلاثة أصناف من التعلم في الأدبيات الخاصة بالموضوع هي :

– التعلم الحكومي.

– استخراج الدروس (۷۷) .

– التعلم الاجتماعي (*).

هذا التصنيف يوافق ما سماه بيتر هول درجات التغير الثلاث، فالصنف الأول يقابل التغير من الدرجة الأولى والثاني التغير من الدرجة الثانية والثالث يصادف التغير من الدرجة الثالثة. الصنفان الأول والثاني من التعلم يتعلقان بتغير أدوات العمل العام ومناهجه، وهما بذلك موافقان للتغير التراكمي البطيء الذي هو أساس مفهوم التعلم. وأما الصنف الثالث فلا يندرج في الواقع ضمن مقاربة التغيير بواسطة التعلم لأنه يحيل على التغير الشامل في أسس السياسة العامة وهو خارج عن منطق التعلم وعن مقدماته النظرية التغير في إطار التوازن المنقطع.

التطور الجاري في السياسات العامة لا يكون دائما بطريقة تراكمية بطيئة كما تراه مقاربة التراكمية والمقاربة بمفهوم التبعية للمسلك، ولكن بضد ذلك يبدو سير العمل العام متميزا في أحيان كثيرة بتناوب أطوار مستقرة نسبيا تتلوها فترات تغير أكثر أهمية. ولدراسة هذا النوع من التغيرات غير التراكمية أخذ ستيفن كرازنر (۸۷) مفهوم “التوازن المنقطع “(xi) من علم الأحياء، واقترح استعماله في تحليل السياسة العامة لوصف هذا التعاقب العرضي وغير المنتظم بين حلقات من الاستقرار و”ظروف دقيقة” تتغير فيها السياسة العامة تغيرا ملحوظا. وتبع ذلك إعداد مفاهيم تسعى لتحليل عمليات التغير التي تعرض بطريقة مختلفة عن النمط التدريجي، منها مقاربة بمفهوم تغير “صورة السياسة العامة”، صورة السياسة العامة التي عرفها بعضهم بأنها “خليط من الإعلام التجريبي والدعوات الشعورية”(XIX). في هذا الصنف من التحليل يكون تغير صورة السياسة العامة عملا مسببا لانطلاق عملية التغيير، وذلك أنه إذا كان التصور المهيمن لسياسة عامة محل طعن صار بمقدور فاعلين آخرين أن يقوموا بدور في السياسة العامة. ومن الحالات التي درست بهذا المنظار مثال سياسة الطاقة النووية في الولايات المتحدة. دراسة هذا المثال بينت أن الفترة الأولى التي كان فيها التصور المهيمن ينسب الطاقة النووية إلى التقدم الاقتصادي وإلى الخبرة التقنية تميزت باستقرار السياسة العامة المتعلقة بها، فكانت تلك السياسة يقودها عدد يسير من الفواعل وكان الاستقرار مضمونا لها. ثم بدأ الطعن في هذا الاحتكار حين صار بمقدور فاعلين آخرين، وكانوا مهمشين في الأول، أن يوزعوا صورة جديدة جامعة بين الطاقة النووية وخطر الحوادث وتدهور البيئة بواسطة النفاياتfi خصوصا(3)

أزمات السياسات وتغيرات النماذج السائدة

وفي المنظور نفسه انطلق بيتر هول من أعمال توماس كان (wi) في الإبستمولوجيا التاريخية وأخذ منها خاصة مفهوم النموذج النظري السائد (XXII) ووضع خطة تفسيرية لتغير السياسات مركزا على مفهومین مترابطين، مفهوم أزمات السياسات(Xxil) ومفهوم تغيرات النماذج النظرية المهيمنة (1%) لوصف ما يجري في العمل العام من تتابع أطوار الانقطاع والتوازنات العابرة.

توجد أزمة سياسات “حين تكون المخزونات المعرفية والمعيارية الشرعية والصورة المؤسساتية وتوازن علاقات القوى المعهودة قد صارت محل طعن بسبب تراكم التشوهات في المنظومة الفرعية للسياسة العامة المعنية”(XX). ويراد بالتشوه أو العيب هنا “تلك المشاكل التي تظهر في المنظومة الفرعية فجأة ولا يتم التوصل إلى تأويلها ومعالجتها أو فهمها بالخطط المعرفية والمعيارية وبمنظومة العمل القائمة”XXvi. هذه التشوهات التي تعرض في السياسة العامة متعددة متنوعة الأصناف ولكنها تبدو دائما في صورة ظاهرة أو جملة ظواهر عجزت الدولة عن معالجتها وصارت مشاكل بنظر الفاعلين من العموميين والخواص في قطاع معين. فهي إذا بحاجة إلى تصحيح وإلى عمليات ضبط واسعة بهذا القدر أو ذاك في المخزون المعرفي الإدراكي والمعياري الشرعي الذي يحدد إطار العمل العام وطرائق القيام به، وتتطلب أيضا إعادة ضبط التوازنات المؤسساتية وطبيعة التبادلات الاجتماعية الداخلة في سير السياسة العامة.

ثم جاءت الأزمة الاقتصادية الناجمة عن الصدمة النفطية الأولى والثانية فولدت جملة من التشوهات” والعيوب عجلت بأزمة النموذج الكينزي كلية. كان هذا في بلدان غربية عدة ولكن حالة بريطانيا هي التي خصها بيتر هول بدراسة وافية وتحليل مفصل. في هذه البلاد بين الباحث أن الردود الأولى المعتمدة لمعالجة عواقب الصدمة النفطية الأولى ترجمت تمسك الفواعل السياسية الإدارية الرئيسية تمسكا شديدا بالتصورات والتعاليم المتضمنة في المذهب الكينزي جعلهم يقدمون “أجوبة” آلية ويتخذون إجراءات انتهت إلى الفشل. وتبع ذلك تراكم العيوب فعجل بتبلور مزدوج، تبلور نموذج منافس وتبلور صورة جديدة للفاعلين، فأدى ذلك شيئا فشيئا إلى تكريس الاختيار النقدي. ومع قدوم الحكومات المحافظة البريطانية والأمريكية في أول الثمانينات جاءت رؤى جديدة للاقتصاد صبغتها الأساسية تكريس منطق السوق، فأحدثت بالتدريج رسما جديدا للحدود الشرعية في عمل الدولة وتقديم عدد من الفواعل الاجتماعية على رأسهم المقاولون، وأقرت الاستعمال الإجباري لأدوات أخرى مثل الاستخدام المتغير لسعر الفائدة من أجل مراقبة الكتلة النقدية ومكافحة التضخم وتحرير الأسواق والحث على تحرير المبادلات الدولية. وهكذا صارت الهيمنة للنموذج النقدي فأدت قليلا قليلا إلى تعديل العمل العام في أغلب منظوماته الفرعية، وصارت القطاعات المختلفة مطالبة بترتيب أوضاعها وتغيير سلوكياتها على أساس معايير العمل الجديدة المطبقة في عمل الحكومة.

تفسيرات جامعة لدور الفاعلين والعوامل الباطنية والخارجية

أصحاب المؤسساتية الجديدة من محللي السياسات العامة يركزون كما تقدم على دور المؤسسات في سد الطريق أمام التغير وفي سكون السياسات الجارية، إلا أن مسألة التغير ليست مهملة تماما في أعمالهم، فهم يقرون بأن ما ذكروه من عقبات مؤسساتية يمكن تجاوزها أحيانا فيحدث التغير في العمل العام، وهو عندهم تغير يكون دائما بطيئا تدريجيا نتيجة تعديلات محدودة متتالية. وتتميز أعمال هؤلاء المؤسساتيين الجدد بأنها تعتبر في تحليلها جميع أصناف المتغيرات المفسرة للتغير، من دور الفاعلين إلى العوامل الباطنية والخارجية جميعا.

الأولى إستراتجية إخفاء الإصلاحات xvii) بشديد التعقيد التقني وبإدخال تغييرات في الهامش، وبانتقال الآثار على مر الزمن فتكون آثارا ضعيفة في الأمد القريب وآثارا مؤجلة قوية في الأمد المتوسط والبعيد. والثانية إستراتيجية تقسيم من يتوقع معارضتهم (Wi) بتقطيع آثار التغيير كأن يكون ذلك مثلا بإصلاح منظومات التقاعد في القطاع العام وفي القطاع الخاص إصلاحا منفصلا ومتميزا في وقته وآثاره. وأما الثالثة فهي إستراتيجية التعويض (XXX)، بمنح الذين يتحملون تكلفة التغيير أشياء مقابلة فيكون ذلك مثلا بالزيادة في طول مدة الاشتراك مع السماح لبعض الفئات بالحصول على تقاعد مسبق.

ودرست مسألة التغير في السياسة العامة رغم الموانع المؤسساتية المعرقلة له دراسة منظمة وافية من قبل باحثين آخرين من أصحاب المؤسساتية الجديدة على رأسهم ويليام ستريك وكاتلين تيلين (wx) أعمال هذا الباحث وهذه الباحثة شددت على الإستراتيجيات التأسيسية التي يأخذ بها الفاعلون وعلى أثرها الكبير في التغير التدريجي للسياسات.

وخلافا لعادة الأعمال التراكمية والمؤسساتية الجديدة في تقديم التغيرات القليلة البطيئة ركز الباحثان ستريك وتيلين على أهمية التغيرات التي تعرض في السياسة العامة بفعل التراكم التدريجي لترتيبات كثيرا ما تكون غير محسوسة وخافية على رأي العين، وشمي نمط التغير هذا بالتحول التدريجي. وللوقوف على تفاصيل العمليات المنتجة لهذا التحول التدريجي اتجه اهتمامهما إلى النظر في كيفية تغير ممارسات الفاعلين ضمن إطار مؤسساتي محتفظ باستقراره. فعندهما إذا أن التغير الذي يتم شيئا فشيئا يكون نتاج تحولات في منطق الفاعلين وفي ممارساتهم ضمن مؤسسات قائمة في هذا الإطار ذكر ستريك وتيلين خمس طرائق مختلفة في التغير التدريجي منتجة لتحولات مهمة في سياسة عامة بعينها.

الأولى طريقة الانتقال (أ)، وقوامها إعادة اكتشاف أو تنشيط الأساليب في العمل مهملة ومهمشة لكنها لا تزال كامنة في أحشاء النظام المؤسساتي. ويوجد لون آخر من التغير بطريقة الانتقال هذه تمثله حالات إدخال ممارسات مؤسساتية مستوردة من بلدان أخرى أو من میادین أخرى. في هذه الطريقة تكون المحركات الداخلية للسياسة محمولة من قبل فاعلين إما لأن مصالحهم صارت متناقضة مع الممارسات الجارية وإما أنهم يريدون اختبار أساليب عمل جديدة ضمن المؤسسات القائمة، ربما من أجل التكيف مع مستجدات خارجية في ميدان السياسة العامة.

والطريقة الثانية في التحول تدريجيا طريقة التكديس (Xxxli) العملية هنا تتم بإضافة منظومات جديدة في حواشي المؤسسات القائمة، فتزيد أهمية هذه المنظومات شيئا فشيئا وتتهرأ المنظومات المهيمنة الآلية الأساسية التي تحقق التغيير في هذا النمط آلية النمو التفاضلي، إذ تنمو المنظومات الجديدة نموا كبيرا وتصاب المنظومات القديمة بأفول تدريجي حتى تترك مكانها الجديدة.

الطريقة الثالثة هي الانحراف (Mxi). مدار الأمر هنا عدم تكييف متعمد لمنظومة مؤسساتية معينة مع سياق جديد يفرض تعديل المؤسسات القائمة، فيؤدي ذلك التفاوت بين المؤسسات القائمة من جهة والسياق الجديد من جهة أخرى إلى إضعاف الأولى إضعافا متزايدا حتى تجد نفسها وقد بليت وانقرضت وحلت محلها تدريجيا مؤسسات جديدة.

الطريقة الرابعة هي التغير بالتبديل (XX۷)، ويتعلق الأمر هنا بإعادة توجيه المؤسسات القائمة نحو أهداف جديدة أو وظائف جديدة. عملية التغير هنا تنشأ من تفاوت متزايد بين القواعد المؤسساتية وبين تطبيقها في الواقع، بمساعدة عوامل أخرى منها غموض هذه القواعد لكونها في الغالب ناتجة من تسويات، وبمساعدة أيضا من معطيات السياق الجديد.

وأما النمط الخامس فسمي الإنهاك(XXX۷). في هذا النمط يعتري المؤسسات القائمة إعياء شديد فتنطلق بداخلها عملية تدمير ذاتي تؤدي بالتدريج إلى انقراضها. هنا يتعلق الأمر بعملية تدمير ذاتي لمؤسسات صارت عاجزة عن تأطير سياق جديد. تفسير التغير بالتركيز على دور الفاعلين.

دور الفاعلين في إحداث التغير لم يهمل تماما في المقاربات المتقدمة، فهو حاضر بدرجات متفاوتة في معظمها إلا أن الفاعلين لم يتخذوا في هذه المقاربات موضوعا لتحليل خاص بهم. فيما يلي نستعرض مقاربات أخرى قدمت دور الفاعلين في التغير على سواه من المتغيرات. كاتلين تيلين التي عرضنا مقولاتها في أنماط التحول المؤسساتي ودور الفاعلين فيه عادت إلى موضوع التغير أو بالأصح بقيت معه في كتاب ثان صدر عام 2010 (الأول كان سنة 2005) بإشراف مشترك لها مع الباحث جيمس ماهوني (Xxxvi). في هذه المرة جعلت الباحثة من الفاعلين محورا أساسيا لتحليل التغير، فميزت بين أربع فئات من الفاعلين الحاملين للتغير بداخل المؤسسات نفسها وهم بتسمياتها : الفاعلون المتمردون (Xxxvi)، يمثلون الجماعات المحرومة ؛ والفاعلون المتطفلون (Xxxvi)، هؤلاء يستعملون المؤسسات من أجل مآربهم الخاصة ؛ والفاعلون المخربون (Xxxix) من حاملي التغيير بداخل المؤسسات، والفاعلون الانتهازيون (8) من ذوي المواقف الغامضة.

طبيعة الأدوار المختلفة التي تقوم بها هذه الفئات من الفواعل في التحويل تتوقف على ثلاثة عناصر هي قوة فواعل النقض (أ)، وقدرة المؤسسات على تطبيق القرارات، ووجود التحالفات مع فواعل آخرين أو انعدامها. فواعل النقض، هذا المفهوم عرفة جورج تسيبليس هكذا : “هم فواعل أفراد أو جماعات لابد من موافقتهم لتعديل الوضع القائم. ويتبع ذلك أن كل تغيير يقتضي موافقة بالإجماع من قبل جميع فواعل النقض”(Ali). كل نظام سياسي وكل نظام مؤسساتي خاصة يمنح فواعل معينة هذا الامتياز المتمثل في القدرة على منع أي إصلاح لا يرضونه. بالاعتماد على التمييز بين هذه الفئات من الفواعل واعتبار العناصر الثلاثة المتقدمة تمكنت الباحثة من تفسير صنف التغير الذي يكون على حسب الحالة بإحدى الطرق التي سبق بيانها، يعني بطريق الانتقال أو التكديس أو الانحراف أو التبديل أو الإنهاك.

وتوجد دراسات عملت على تحليل دور الفواعل الجماعية في التغير. باتريك هاسنتوفیل اهتم بدراسة هذه الفواعل الجماعية بنظرة سوسيولوجية مركزة ولاسيما فئة منهم سماها الفواعل الجماعية حاملة البرامج (Ali). هذه الفئة من الفواعل تؤدي في تحليل الباحث دورا في التغير أساسيا للغاية من خلال مشاركتهم الواسعة في بناء المشاكل وفي تحديد قواعد العمل وتسطير الأهداف التي تتخذ التشريعات باسمها، وإنشاء الحجج التي تسند الحلول المختلفة المعلنة. وأهم ما في الأمر بشأن هذا الصنف من الفاعلين أنهم يقومون بإحداث التغيير مباشرة حين يتمكنون من فرض أنفسهم والتغلب على غيرهم من الفاعلين. وذكر هاسنتوفيل جملة من السمات المميزة لهذه الفواعل الجماعية المالكة لبرامج (81). فهي مهيكلة جيدا حول برنامج تغيير شامل في السياسة العامة، وهي بوجه الخصوص حائزة لمواقع سلطة تتيح لها مشاركة مباشرة في القرار. ويجمع هؤلاء الفواعل برنامج للتغيير يتضمن توجهات جديدة وتحديدا للمشاكل جديدا ومبادئ توفير الشرعية لها، وفيه أيضا اقتراحات عمل قائمة على تحويل قواعد اللعبة المؤسساتية وإدخال أدوات جديدة في العمل العام. وهم مالكون الموارد كافية تسمح لهم بتوجيه العمل العام وبتحديد محتواه. ومن العناصر المميزة لهم أيضا وهو مهم أن مضاعفة مواردهم تعتبر عندهم رهانا للتغيير وشرطا له جميعا، لأن تقوية موقعهم في السلطة يسمح لهم بإنجاز التغيير وتوسيع محتواه ا المتغير السياسي ونافذة الفرصة وتغير السياسات العامة.

المقاربات المتقدمة تفسر التغير في السياسة العامة بعوامل متنوعة وفي بعضها شيء من الاعتبار للمتغير السياسي من دون أن يكون هذا المتغير محور التفسير فيها. فيما يلي نعرض مقاربة تمنح المتغير السياسي – السياسة هنا بمعنى المنافسة والصراع من أجل السلطة – دورا أساسيا في تغير سياسات عامة بعينها. وليس المقصود في هذه المقاربة التغيرات التدريجية القليلة وإنما هي التغيرات غير التدريجية التي تعدل العمل العام تعديلا واسعا في زمن قصير نسبيا.

هذه المقاربة التي تمنح المتغير السياسي دورا مهما قادرا على أن يعمل عمله ويحدث آثاره التحويلية بصورة مستقلة نسبيا عن العوامل الأخرى معتمدة على مفهوم مشهور وكثير الفائدة في تحليل السياسات العامة هو مفهوم نافذة الفرصة(۱۷). هذا المفهوم أنشأه الباحث كينغدون حين وضع نموذجه المتعلق بعملية إدراج المشاكل في جدول أعمال السياسة واتخاذ القرار بشأنها (۸۷).

مفهوم نافذة الفرصة في العلوم السياسية يدل على ظرف سیاسي خاص ملائم جدا للإصلاحات في مدة هذا الظرف يحدث تعليق أو توقف للظروف العادية التي يجري فيها العمل العام. العبارة مستعارة من مجال التجارب الفضائية، استعملها كينغدون بالقياس على “نافذة الإطلاق”(vi) التشبيه عملية التسجيل في جدول أعمال السياسة بإرسال المهمة الفضائية الذي لا يمكن أن يتم إلا خلال برهة زمنية قصيرة حين تكون الكواكب مصطفة، فإذا لم ترسل المهمة في أثناء نافذة الإطلاق هذه لزم الانتظار حتى قدوم الفرصة المقبلة. بشأن نافذة الفرصة السياسية لا يتعلق الأمر طبعا بكواكب ولكنه متعلق بما سماه “تيارات” ينبغي أن تلتقي فيما بينها.

في الظروف العادية وهي السائدة في المجال السياسي تكون هذه التيارات مستقل بعضها عن بعض نسبيا، كل منها يجري وتتطور أحداثه وفق منطق وإيقاع زمني وقواعد خاصة به. والظاهرة الأهم تحدث عندما تلتقي هذه التيارات الثلاثة، يعني حين نكون أمام مشاكل موصولة ببدائل اختیار تحملها فواعل سياسية متحمسة للعمل، فيولد هذا فرصة اختيار الإصلاحات واسعة النطاق. وهذا الارتباط الخاص بين التيارات الثلاثة واجتماعها في وقت واحد هو الذي يفتح ما سماه كينغدون “نافذة الفرصة” يعني ظرفا مواتيا لانتقال المشاكل من جدول الأعمال الحكومي الذي يضم المواضيع التي تشد انتباه الحكومة من دون قرار بشأنها إلى جدول أعمال القرار، أي قائمة المواضيع المترجمة بقرارات فعلية.

نوافذ الفرصة هذه التي تنفتح عند اجتماع التيارات الثلاثة لا تلبث أن تنغلق بسرعة على قول كينغدون إذا لم يتمكن الفاعلون من الانتقال إلى العمل أو صارت الأحداث التي سببت انفتاحها ليست من مواضيع الساعة أو لم يوجد بديل جاهز يتخذ قرار بشأنه. ومع ذلك يرى كينغدون أنه وإن كانت هذه النوافذ نادرة فإن “التغيرات الواسعة في السياسة العامة تنتج من ظهور هذه الفرص” (۸۱۷).

بشأن العوامل المسببة لالتقاء التيارات الثلاثة وانفتاح نافذة الفرصة بالنتيجة ذكر كينغدون أن هذا كثيرا ما يكون حين تصل حكومة جديدة إلى السلطة عقب الفوز بانتخابات، ولكن العوامل المولدة لمثل هذا الوضع متنوعة فقد تكون أحداثا أمنية قوية التأثير واسعة الصدى كعمليات 11 سبتمبر 2001 بأمريكا مثلا. إلا أن انفتاح نافذة يبقى

غير قابل للتوقع ويبقى العنصر السياسي المسبب المباشر له عرضيا احتماليا، فقد يكون كارثة طبيعية كالفيضانات وقد يكون أحداثا أمنية قوية وقد يكون موجة غضب شديدة، الخ.

* * *

ونعود في الأخير إلى جملة ما تقدم عرضه من المقولات والمقاربات لنسجل ثلاث نقاط تبدو أساسية لتحليل التغير في السياسة العامة الأولى أنه لابد من إدراج تحليل التغير ضمن فترة زمنية متوسطة أو طويلة الأمد، وذلك أن التغير لا يحدث آنيا لأنه بحاجة إلى شروط كثيرة على رأسها صياغة برنامج تغير متماسك وإعداد إستراتيجية فعالة لإنجازه. والثانية أن العمل العام لا يسير على خط مستقيم من التطور ولا أنه خاضع لمراجعة شاملة دورية منتظمة، ولكنه بضد ذلك يسير بإيقاع مختلف متغير قوامه تتابع عرضي احتمالي لأطوار “عادية متميزة باستقرار نسبي ولحظات “غير عادية” يعني فترات قصيرة تحدث فيها قطيعة مختلفة في مداها وشدتها وفي مدة وقوعها. والنقطة الثالثة أن التعدد والتنوع في مقاربات التغير وفي نماذج تحليله يدعونا إلى اعتبار جملة من العوامل والمتغيرات، الناشئة في باطن السياسة العامة والآتية من خارجها، التي مصدرها الفاعلون وأرصدتهم المعرفية والمعيارية المتعلقة بالسياسة العامة أو الناجمة عن تطورات سياسية خالصة في المجال المؤسساتي وفي الحركة الاجتماعية عامة.

الهوامش

(P. Muller, Les politiques publiques, Que sais-je ?, Paris, PUF, 2009, p. 69. (1) P. Hall, Governing the Economy : The Politics of State Intervention in Britain and France, Oxford, Oxford University

Press, 1986 ; P. Hall, << Policy Paradigm, Social Learning and the State », Comparative Politics, vol. 25, 1993, no. 3, pp.

275-296. (*)P. Hassenteufel, Sociologie politique : l’action publique, Paris, Armand Colin, 2011, pp. 245-246. (11) Ibid, p. 247 (P. Pierson, Politics in Time. History, Institutions and Social Analysis, Princeton, Princeton UP, 2004, pp. 82-90. (11) L’effet cumulatif. (vii) L’effet de seuil. (vi) L’effet d’enchaînement.

(1) بالانجليزية Increasing returns وبالفرنسية Les Rendements croissants (*) يصح هذا خاصة في البلدان الغربية باعتبارنا۔

(xi) L’apprentissage. (21) H. Heclo, Modern Social Politics in Britain and Sweden, New Haven, Yale University Press, 1974, p. 306. (xim C. Bennett, Howlett, « The Lessons of Learning. Reconciling Theories of Policy Learning and Policy Chang”, Policy

Sciences, 25, 3, 1992, pp. 275-294. (xiv) Government learning. (xv) Lesson-drawung (x11) Social learning. (31) S. D. Krasner, « Approaches to the State : Alternatives, Conceptions and Historical Dynamics », Comparative Politics, 16, 1984, 2, pp. 223-246.

Équilibre interrompu gi Équilibre ponctué a lei diný Punctuated equilibrium w yų (xvii) (XXX) J. True, B. Jones, F. Baumgartner, « Punctuated Equilibrium Theory. Explaining Stability and Change in American

Policy-Making” dans Sabatier (dir.), 1999, p. 101. (w) Cf. F. Baumgartner et B. Jones, Agendas and Instability in American Politics, Chicago, University of Chicago Press,

1993, pp. 59-82. (XXI) T. S. Kuhn, Structure des révolutions scientifiques, Paris, Flammarion, 197.

Paradigme this who helloja leiui (xxii) (xxii) Les crises de politiques. (XXIV) Les changements de paradigmes. (XXV) Muller et Surel, L’analyuse des politiques publiques, …. P. 138. (XXV1) Ibid. (xxvi) La dissimulation des réformes. (xxviii) La division des opposants. (XXIX) La compensation. (XXX) W. Streeck, K. Thelen, « Introduction : Institutional Change in Advanced Political Economies », dans W. STREECK et

  1. THELEN (dir.), Beyond Continuity. Institutional Change in Advanced Political Economies, Oxford, Oxford UP, 2005,
  2. 1-39. (XXXI) Displacement, déplacement. (XXXII Layiring, empilement. (xxxii) Drift, la dérive. (XXXIV) Conversion, la conversion. (XXX) Exhaustion, l’épuisement. (XXX2) J. Mahoney, K. Thelen, « Theory of Gradual Institutional Change » dans J. MAHONEY et K. THELEN (dir.),

Explaining Institutional Change. Ambiguity, Agency and Power, Cambridge, Cambridge UP, 2010, pp. 1-37. (XXXVII) Les acteurs insurrectionnels. (xxxvii) Les acteurs symbiotiques. (XXXIX) Les acteurs subversifs. (x1) Les acteurs opportunistes. (xh) Veto player, l’acteur véto.

(sli) G. Tsebelis, Veto Players. How Political Institutions Work, New York, Russel Sage Foundation, 2002, p. 19. (xlii) Les acteurs programmatiques. (Sv) P. Hassenteufel, Sociologie politique : l’action publique, op. cit. pp. 270-271. (xLv) Policy window, la fenêtre d’opportunité. (xh) J W. Kingdon, Agendas, Alternatives and Publics Policies, op. cit., 1984. (xlvi) La fenêtre de tir. (xlvii) Kingdon, op. cit., p. 175.

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى