دراسات سياسية

مستقبل إيران بين الضغوط والفُرص

وليد عبد الحي

تواجه الحكومة الايرانية الحالية ثلاثة ضغوط حساسة: هي الوضع الاقتصادي الداخلي واحتمالات تفاقمه مع بدء تنفيذ الحصار الاقتصادي الامريكي في نوفمبر القادم،والجهود الاقليمية لاسيما من السعودية وإسرائيل لتحريض الاقليم والمجتمع الدولي والداخل الايراني على النظام السياسي في طهران ، ثم الضغط الامريكي بشكل خاص لاسيما مع التحضيرات الجارية لوضع الحصار الاقتصادي على ايران موضع التنفيذ بعد الانسحاب الامريكي من اتفاق البرنامج النووي الايراني الذي تم توقيعه عام 2015 بمشاركة اوروبية روسية صينية وبمباركة أممية.

ويبدو ان أضعف هذه الضغوط فعالية هو الضغط السعودي بينما يشكل الضغط الامريكي البعد الاكثر فعالية بخاصة المراهنة على ان التضييق الاقتصادي سيؤدي الى اختناق النظام السياسي من خلال الاحتقان الشعبي من حوله.، وهو ما جعل مناقشة هذا البعد هو الاكثر اهمية من النواحي التالية:
أولا: التجربة التاريخية للحصار الامريكي المنفرد على دول اخرى: تدل مراجعة سياسات الحصار التي طبقتها الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى انهيار الاتحاد السوفييتي في المرحلة الاولى ومنذ تلك الفترة وحتى 2018 (تاريخ الغاء الاتفاق النووي مع ايران من قبل الولايات المتحدة) في المرحلة الثانية على النتائج التالية:
أ‌- تدل دراسة موثقة لمعهد بيترسون للاقتصاديات الدولية الى ان نسبة نجاح الحصار المنفرد الذي طبقته الولايات المتحدة كان 13% فقط.أي ان نسبة استجابة الدولة المحاصَرة للشروط الامريكية كانت متدنية بشكل كبير خلال حوالي 73 سنة
ب‌- خسرت الولايات المتحدة خلال عمليات الحصار الفردي منذ 1970- 1990 ما يقارب 17 مليار دولار سنويا وفقدان 200 الف وظيفة عمل.
ت‌- من بين 115 حالة في الفترة من نهاية الحرب العالمية الثانية الى انهيار الاتحاد السوفييتي كانت نسبة نجاح الحصار بشكل عام (من الولايات المتحدة وغيرها) في تقليص النمو الاقتصادي للبلد المحاصَر هو 2.4% فقط.
ث‌- فرضت الولايات المتحدة منفردة الحصار بين 1945 الى 1990 ما مجموعه 16 مرة ، مع ملاحظة ان الفترة من 1945 الى 1970 كان عدد مرات الحصار 11 مرة ، أي ان سياسات الحصار تراجعت خلال العشرين سنة التالية الى 5 مرات أي بأكثر من 50%.
ولعل المؤشرات السابقة تعني ان “تاريخ ” ظاهرة سياسات الحصار الاقتصادي لدوافع سياسية لا يشير لمستوى نجاح عال يغري على الاستمرار فيها، دون ان يعني نفيه المطلق.
ثانيا: ما هي المؤشرات المشتركة لحالات نجاح الحصار خلال الفترة من 1945 الى الآن؟
1- مدى المساندة الدولية لسياسة الحصار وبخاصة من الدول الفاعلة في النظام الدولي، ويبدو ان المعطيات الاولية تدل على ” تفرد نزق” من الولايات المتحدة في الحصار على ايران، فالاتحاد الاوروبي اعلن بشكل واضح ومتكرر انه سيحترم الاتفاق مع ايران بل وأنه سيقف الى جانب الشركات الاوروبية التي قد تتضرر من العقوبات الامريكية عليها في حال عدم تجاوبها مع القرار الامريكي، وهو ما تمت الاشارة له من خلال اعلان الاتحاد في 17 أيار عن عدم تطبيق العقوبات على ايران استنادا لما يسمى قانون الحظر( (Blocking Statute.وهو القانون الذي يتيح تطبيق العقوبات على جهة دون الاخرى في ظروف معينة ، الى جانب تفويض بنك الاستثمار الاوروبي بتمويل التجارة الاوروبية الإيرانية ، كما ان الاتحاد اعلن عن منع الجهات القضائية الاوروبية فرض تطبيق القوانين على الشركات التي تصر على بقاء نشاطاتها مع ايران ، وتعويض هذه الشركات اية خسائر تصيبها نتيجة العقوبات الامريكية.
فإذا اضفنا لذلك الموقف الصيني( المعلن بشكل صريح عن عدم الالتزام بالتخفيض) والهندي( إذ قال وزير الخارجية الهندي ” سوشما سواراج ” ان الهند لا تلتزم الا بالحصار الذي تقره الامم المتحدة، مع ملاحظة ان الهند تدفع ثمن بترولها لايران باليورو وليس بالدولار، واعلان المسؤولين الأتراك في مناسبات عدة عن عدم التزامهم بالعقوبات الامريكية بل وادانتها، كل ذلك يجعل حالة الحصار هذه هي الاضعف في تاريح الحصار الاقتصادي لدوافع سياسية، وهو ما توضحه الأرقام التالية:
طبقا للقرار الامريكي منحت الشركات فترة بين 3-6 شهور لتصفية اعمالها مع ايران (يعني يبدأ التطبيق في نوفمبر) فإذا علمنا ان ايران كانت تصدر في عام 2011 ما مجموعه 2.5 مليون برميل تراجعت في عام 2013 الى ما مجموعه 1.1 مليون برميل ( في حمى الحصار وقبل الاتفاق النووي) ، ولكنها بعد توقيع الاتفاق وفي عام 2017 عادت صادرات ايران الى 2.5 مليون برميل ثم ارتفعت الى 2.9 مليون برميل في ابريل 2018، فإذا وضعنا الموقف الاوروبي والصيني والهندي والتركي في الحساب سنجد ان هذه الدول كانت تستورد من ايران نفطا نسبته :
الصبن 24.7 + الهند 18.7+ تركيا 9,7+ الاتحاد الاوروبي (يستورد حاليا 24.8%، وإذا تم التطبيق طبقا للتصريحات الاوروبية فهناك احتمال بعدم التزام بعض الجهات الاوروبية ، وهو امر يتوقع ان يخفض الواردات النفطية الاوروبية من ايران الى 20.35%)، وعليه سيكون مجموع الدول التي لن تلتزم بالحصار النفطي هو 73.45% من الانتاج النفطي الإيراني القابل للتصدير المؤكد أي بحوالي 1,840 مليون برميل يوميا ، فإا اضفنا لذلك دولا أخرى قد تخفض مشترياتها ولا توقفها تماما مثل اليابان او كوريا الجنوبية لا سيما ان بعض الدول قد تزيد من مشترياتها اذا قامت ايران بتقديم بعض التخفيض في السعر لهذه الدول كما فعلت في فترات سابقة، فهذا يعني ان نسبة الانخفاض ستكون – حسب مؤشرات الاسواق الدولية – بين 10-15% فقط. لكن هذا الانخفاض سيكون تأثيره أقل بسبب عودة الاسعار للارتفاع من جديد ، وهو ما يعوض الاقتصاد الايراني هذه الخسارة ، فقد عادت الاسعار لبعض الارتفاع بسبب التوترات في الشرق الاوسط والتهديد الايراني بغلق مضيق هرمز وضرب الحوثيين للناقلة السعودية ناهيك عن الاضطرابات في العراق و تعثر الانتاج الليبي والاضطرابات في فنزويلا .
2- كما يجب التنبه إلى ان الحكومة الايرانية بنت موازنة العام المالي 2018-2019 على اساس سعر البرميل 55 دولار ، وهو اقل بحوالي 10 الى 15 دولار للبرميل عن السعر الحالي ، مما يعني ان الموازنة ستستفيد من فارق ارتفاع الاسعار لتعويض النقص في الكمية المباعة، وهو ما يزيد فرص التخفيف من العقوبات في هذا الجانب تحديدا.
3- ينجح الحصار عندما يكون حجم التجارة بين الدولة المحاصِرة والدولة المحاصَرة كبيرا وهو امر لا ينطبق على ايران والولايات المتحدة، فالعلاقات بين الطرفين تكاد ان تكون اقرب للمعدومة من الناحية الاقتصادية، وبخاصة ان ايران كانت متوجسة وبشكل مسبق من احتمالات الانقلاب الامريكي ،مما دفع طهران للبحث عن شركاء آخرين ، ولذلك سعت لتعزيز علاقاتها مع روسيا والصين وتركيا والهند ، ناهيك عن ارتباطها – كمراقب – بتكتلات قد تساعدها في تجاوز الضغوط عليها مثل البريكس وشنغهاي والتقارب من الاتحاد الاوراسي…الخ.
4- تغرات دولية للنفاذ الإيراني منها: ثمة جوانب في الحياة الدولية تساعد ايران على التسلل منها مثل:
أ- وجود بعض الشركات التي تشتري النفط الايراني وتقايضه مع دول اخرى، وتشير بعض الدراسات المتخصصة في السوق النفطية الفورية(spot market) ان هذه الشركات يمكن لها ان تستوعب ما بين 2-2.5 % من الانتاج الإيراني ، وهو ما يعوض الجزء المحتمل من انخفاض الشراء الاوروبي من قبل بعض الجهات الاوروبية بقدر ما.
ب- وجود السوق السوداء، فإذا كانت داعش (المطوقة من كل الجهات) قادرة على تصريف ما تستخرجه من النفط في السوق السوداء ، فإن أيران لن تقل عن هذه القدرة .
الوجع الإيراني:
يمكن اعتبار كعب أخيل في المسألة الإيرانية وتعاملها مع الحصار الامريكي في القدرة على جذب الاستثمارات وبخاصة التي لها دور في توفير تكنولوجيا تطوير مصادر الطاقة والغاز وهما يشكلان معا حوالي 60% من ايرادات الحكومة و80% من صادراتها، فطبقا للتقديرات فإن ايران بحاجة لحوالي 200 مليار دولار لتطوير حقولها ومصافيها الانتاجية ، لكنها لم تتمكن من جلب أكثر من 5,2 مليار دولار في هذا الجانب( ورأس المال جبان كما قال ماركس)، فهو ليس على استعداد للمغامرة في بيئة قلقة، ويبدو ان شركة توتال الفرنسية التي اعلنت بأنها ستنسحب من مشروع تطوير حقل بارس الايراني في حالة سرى مفعول الحصار الامريكي نموذجا لذلك، وهو ما أبدى الرئيس الفرنسي ماكرون تفهما له..
كذلك فإن اغلب الشركات العملاقة لها مصالح كبيرة في الولايات المتحدة، ومن هنا فإن مقارنة هذه الشركات بين القيمة الاقتصادية لنشاطاتها الاقتصادية في الولايات المتحدة مع تلك التي لها في ايران سيدفعها للتضحية بالأقل لصالح الأكبر.
يتضافر مع ما سبق ، الحالة العامة للاقتصاد الايراني ، حيث يبلغ اجمالي الناتج المحلي الإسمي وليس ال(ppp ) حوالي 430 مليار دولار في عام (2017) ، وبنسبة بطالة تصل لحوالي 12.5% يرافقها تضخم بنسبة 10.5 % والفقر 18,7 %، ويبلغ حجم تجارتها الدولية حوالي 162 مليار دولار منها حوالي 92 مليار صادرات، مع تراجع لقيمة العملة بحوالي 28.5% خلال الفترة من 2013 الى الآن، وهي بيئة ساهمت في ان تُطِل المظاهرات في شوارع المدن الايرانية تطالب بتحسين الظروف المعيشية سواء لدوافع اقتصادية( الفقر والبطالة..الخ) او لدوافع سياسية (بين الاجنحة او التيارات القومية والدينية كما يتضح في الدعوة للابتعاد عن مشكلات المنطقة العربية )
الخلاصة:
1- تأثير الحصار الامريكي على ايران سيكون محدودا على المدى الزمني القصير، أي حتى نهاية فترة روحاني الثانية.
2- تزايد السياسات الميركنتيلية في سياسة ترامب بخاصة القيود التي ذكرها على التجارة مع اوروبا ومطالبته المستمرة برفع هذه الدول نفقاتها العسكرية ومساهماتها في نفقات الناتو ، ومطالبته بمزيد من الحصار على روسيا والصين قد يجعل من موضوع العلاقة مع ايران مخرجا لهذه الدول للضغط على ترامب ليراجع سياساته الميركنتيلية.
3- ارتفاع نسبة التأييد الشعبي الايراني للمشروع النووي والتمسك به، وهو امر يعزز موقف الحكومة الايرانية .
إن دعوة ترامب لروحاني للمفاوضات واستعداده للتفاوض من جديد حول اتفاق جديد يشير الى انه يتبع سياسة العصا والجزرة، لكن ذلك ينطوي على اشارة هامة هي ان العمل العسكري ضد ايران ليس ضمن السيناريوهات المطروحة وأن المراهنة هي على الحصار الاقتصادي ، وهو ما يؤثر على السلوك الاسرائيلي والسعودي.
أخيرا ، ان الاختبار الحقيقي للتوجه الايراني لن يتبدى الا في مرحلة ما بعد خامنئي، وسيكون للمؤسسات الخشنة في الدولة الايرانية الدور الحاسم في تقرير هذه التوجهات…اما سياسات الحصار فقد تخلق اضطرابا اجتماعيا عابرا لكنها لن تغير الواقع على المدى الزمني القريب.

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى