مستقبل المشهد السوري – وليد عبد الحي

لا تغري تعقيدات الوضع السوري على قدر من المغامرة للكتابة عن مستقبل هذا الوضع، لكن تحديد الملامح الكبرى لصورة المشهد السوري الحالي قد تساهم في النجاة من الغرق في التفاصيل التي تربك العقل ..فالمشهد الحالي يتبدى في المعطيات التالية:
أولا: تزايد الخلل في موازين القوى لصالح النظام السياسي السوري من خلال:
أ‌- اتساع مساحة المناطق التي يسيطر عليها وبشكل كبير والتي تشمل أغلب المدن الكبرى والمناطق السكنية.
ب‌- حسم هيئات التخطيط الاستراتيجي الروسي خياراتها بضرورة الوقوف إلى جانب سوريا وتحمل كافة احتمالات المخاطرة.
ت‌- ثبات الموقف الإيراني واستثمار دوره في توظيف العلاقة مع كل من تركيا وروسيا والمقاومة اللبنانية
ث‌- التشرذم المتواصل داخل المعارضة السورية .
ج‌- تثاؤب حلفاء المعارضة السورية وانعكاس خلافاتهم على جسد المعارضة السورية لا سيما تشققات مجلس التعاون الخليجي وبعض الجفاف الذي اصاب مصادر التمويل نتيجة للازمات المالية الناتجة عن تراجع اسعار البترول والانغماس في مشكلات أخرى.
ثانيا: التغليب البراغماتي وبشكل يكاد أن يكون مطلقا في محددات السياسة الخارجية الامريكية، إذ يتضح وبشكل يومي ومتواصل تحرر الرئيس الامريكي ترامب من أي انحيازات آيديولوجيا او عقائدية في صنع قراراته(على غرار ما كان في فترة المحافظين الجدد) ، كما انه متحرر من فكرة النموذج الامبراطوري التاريخي، فالرجل يدير الدولة بمنطق تجاري يكاد يعيدنا للثقافة الميركنتيلية، ويبدو أن خبرته في عالم المال والتجارة تجعله ينظر للمنطقة بشكل يتباين تباينا صارخا مع منظور رجل مثل الرئيس الروسي ” بوتين”، فترامب يتأبط كتابه الصادر عام 1987( (The Art of the Deal،والذي لا يغادر في أي من صفحاته عالم المال والتجارة، بينما يتوسد بوتين النظريات الجيوسياسية لألكساندر دوغين.
وعند مراجعتي للتقرير السيكولوجي الذي وقعه العشرات من علماء النفس الأمريكيين-وكنت قد شرحته سابقا- لاحظت التركيز على البعد النرجسي في شخصية ترامب، ولعل هذا ما يفسر في حدود معينة اضطراب قراراته بين عقلية “مدير الشركة الخاصة” التي يطرد منها من يشاء ومتى شاء، وبين المسؤول الحكومي الذي يتخذ قراراته ضمن ضوابط رسمية وتقاليد مؤسسية صارمة في كثير من الاحيان.
ثالثا: التراجع الواضح في فكرة تغيير النظام في سوريا، ولعل تصريحات رئيسة الوزراء البريطانية وتلميحات الرئيس الفرنسي وتصريحات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في هذا المجال تؤكد ان فكرة تغيير النظام لم تعد ملحة بالقدر الذي كان سابقا بل لعلها لم تعد مطروحة.
رابعا: الصورة الباهتة لمجمل الربيع العربي في الذهن الشعبي العربي، جعلت قوة الدفع لهذا المسار تتآكل تدريجيا، وهو ما جعل فكرة المواصلة في هذا النهج غير ذات معنى وهو ما عززته مآلات الوضع في كل من ليبيا واليمن ومصر وتونس والعراق.
هذه الأبعاد لا بد ان تكون حاضرة لفهم المسار العام للمشهد السوري، والتي تدفع للاعتقاد بعوامل تساعد على تصور المستقبل استنادا للمعطيات السابقة على النحو التالي:
أ‌- عدم مشاركة المانيا في العملية العسكرية الاخيرة يوحي ان درجة التأييد الدولي لاسيما القوى الكبرى ليست بالقدر الكافي ، فالى جانب الموقف التقليدي الروسي والصيني فإن ألمانيا لم تشارك في العملية، بل وكانت المشاركة الفرنسية خجولة الى حد بعيد، ناهيك عن أن الترابط بين السياستين الامريكية والبريطانية ليس بجديد بل هو في الغالب أحد تقاليد العلاقات الدولية المعاصرة بل والحديثة .
ب‌- التحذير المسبق بالضربة ، بل ويبدو ان هناك شبه اتفاق ضمني مع الروس على حدود الضربة مما جعل الخسائر في أقل الحدود، ومكن القوات السورية من تكييف مسرح العملية لصالحها.
ت‌- الرغبة الاسرائيلية في عدم اندفاع العمليات الغربية نحو تصعيد قد يدفع روسيا لتسليم الجيش السوري منظومات الصواريخ المتطورة من طراز إس إس 300 او 400، وهو أمر تراه اسرائيل تطورا خطيرا.
ماذا يوحي ذلك كله:
1- يبدو ان الامريكيين سيقومون ببعض التحركات السياسية او العسكرية التي تحصر نطاق عملياتهم في انهاء ظاهرة “داعش فقط”، ثم يعلنون ان المهمة أنجزت بعد حين ، تمهيدا للانسحاب من المستنقع السوري.
2- التركيز الامريكي في المرحلة القادمة على :
أ‌- مزيد من الابتزاز المالي لدول مجلس التعاون الخليجي لا سيما استغلال ” السياسات الكيدية” بين قطر والسعودية والامارات لجمع أكبر قدر ممكن من الأموال سواء كثمن لمجهود أمريكي أو لبيع السلاح او لتعزيز الاستثمارات الخليجية في الولايات المتحدة او للمساهمة في التضييق على الاقتصاد الصيني بطرق مختلفة، أي توظيف الكيد السياسي العربي لصالح الاقتصاد الامريكي.
ب‌- الضغط على دول الخليج لمزيد من التطبيع التدريجي مع اسرائيل من منطلق استراتيجية ” نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء” ، وترى الإدارة الامريكية أن تطويق سوريا يتم من خلال عزلها خليجيا أولا ثم عربيا ثم اسلاميا، بل قد تبدا دول الخليج في محاولة طرد العمالة السورية منها ، على امل أن ما لم يتم بالسيف فليتم بالذهب.
ت‌- تصفية المقاومة الفلسطينية في غزة من خلال الخنق المصري الاسرائيلي وتجفيف الموارد المالية لا سيما القطرية منها وتعزيز اجراءات الخنق من قبل سلطة التنسيق الامني الفلسطينية.
ذلك يعني ان الاستراتيجية الامريكية هي جعل الضربة الصاروخية الاخيرة مقدمة للانسحاب التدريجي من الساحة السورية لا سيما بعد تهيئة الاوضاع في الشمال السوري بخاصة مع الجماعات الكردية ومحاولة اقتناص بعض المكاسب المتفرقة في الجبهة السورية دون تغيير في المعادلة العامة.
لكن التطورات غير المتوقعة أو الاحداث غير المسيطر عليها قد تفسد هذا المشهد، لكني أرى أن استمرار المعطيات السابقة ستجعل هذا السيناريو هو الارجح….ومعه ربما.

 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button