معضلة انتقال السلطة وتعديل تراث التاريخ الاستراتيجي

عامر مصباح
جامعة الجزائر 3

عند استقراء التاريخ الاستراتيجي العربي-الإسلامي الطويل، نجد أن هناك حالة واحدة التي تم فيها نقل السلطة بطريقة سلمية وهي فترة الخلافة الإسلامية الراشدة التي عمّرت فقط ثلاثين سنة. أما باقي التاريخ الطويل، غالبا ما يتم نقل السلطة بواسطة السيف أو الوراثة القائمة على قوة الإخضاع بالسيف؛ أو كما شخّصها ابن خلدون في أطروحة العصبية وقيام السلطان القاهر. وهي المعضلة السياسية التي لازالت قائمة في عالمنا العربي إلى يومنا هذا، ويبدو أنها سوف تستمر في المستقبل الطويل، على الأقل في الثلاثين سنة القادمة.
الفكرة الأساسية أن معضلة الانتقال السلمي للسلطة ومن وراء ذلك إخفاق التحول الديمقراطي في المنطقة العربية، ليس مفصولا عن الثقافة الاستراتيجية التي تراكمت في الذهنية العربية عبر التاريخ الطويل، القائمة على فكرة الغلبة والإخضاع الفيزيقي للمعارضين والمواطنين لإرادة السلطة السياسية؛ وأن هذه الثقافة لازالت قوية ومتصلبة، إلى درجة أن السياق الإقليمي والدولي والعولمة والقوانين الوطنية والتحفيزات أو الترهيبات الدولية لم تستطيع تليينها أو تعديلها إلا في مستويات محدودة جدا.
هناك جانب من الصحة في أطروحة ابن خلدون عندما ربط الاستقرار الأمني وحماية الحدودة بهيمنة وسطوة السلطان القاهر أو ما يمكن أن نسميه بلغة العصر بالسيطرة الاستراتيجية والأمنية المعبّرة عن قوة الدولة. لكن المشكلة في المقاربة الخلدونية -على واقعيتها-، أنها تحمل في مضامينها القابلية الشديدة لعطب الدولة بعد تراخي قبضة السلطان القاهر؛ وهذا ما جعل أمن واستقرار الكثير من الدول العربية في العصر الحديث مربوط ببقاء الحاكم المهيمن لفترة طويلة، وينظر له على أنه عنصر الأمن والاستمرار للدولة.
لذلك، المقاربة البديلة هي التأثير في التراث الاستراتيجي الممتد في الماضي ويعمل على الاستمرار في المستقبل، بواسطة التأكيد على مفردات الثقافة الديمقراطية، قبول الآخر، التحول الديمقراطي، الحرية السياسية والتعددية كآليات مفضية إلى صناعة التوافقات السياسية بين المكونات المجتمعية والسياسية تحت وطنية من أجل إنتاج حكومات توافقية. بالرغم من أن هذا النوع من الحكومات يكون غير فعّال في التعامل مع الملفات الأمنية والاقتصادية والسياسية مقارنة بحكومات السطوة الأمنية-العسكرية؛ إلا أنها أكثر ضمانة لاستمرار الدولة ونجاح الانتقال السلمي للسلطة، والأكثر أهمية من كل ذلك، تكون الخطوة الأولى في الإقلاع الوطني المتعدد القطاعات.
أكثر جوانب نجاح الفكر الاستراتيجي الغربي بروزا في العصر الحديث هي الوصول إلى صيغة مشتركة وثابتة حول انتقال السلطة السلس من إدارة إلى أخرى ومن حزب إلى آخر، بواسطة آلية الانتخابات (في إطار ما يسمى بالعلاقات المدنية-العسكرية)، دون أن يتعرض الأمن القومي للدولة أو المصالح الوطنية الحيوية للخطر.
هذه الصيغة البارزة كانت محل جذب وانبهار من قبل زعيم حركة النهضة التونسية السيد راشد الغنوشي في المؤتمر الدولي حول العلاقات المشرقية-المغاربية الذي عقد في تونس يومي 14و15 مارس 2017. لقد ركّز في مداخلته على فكرة أن الديمقراطية التي تعطي لحزب معين أغلبية في الأصوات، ليس بالضرورة تفوّضه للحكم، وإنما يجب النظر باهتمام إلى فكرة صناعة التوافقات بين القوى المجتمعية داخل البلاد، بغض النظر عن حجمها السياسي في الانتخابات. إن مثل هذه الأفكار هي جزء من عملية التدخل في تعديل التراث الاستراتيجي العربي، باتجاه تأمين الانتقال السلمي للسلطة، وإنجاح عملية التحول الديمقراطي، ووضع المجتمعات على طريق الإقلاع الاستراتيجي. إن كل الأفكار التي طرحها الغنوشي في مداخلته قد شرحتها في كتاب الأمن المجتمعي الصادر عام 2014، إلا أن الإضافة المميزة للغنوشي أنه تحدث كممارس لعملية السياسة وليس كمنظّر.

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button