نظرية العلاقات الدولية

مفاهيم سياسية: الاندماج الاقليمي

أصبحت جهود التكامل الإقليمي و التجمعات الإقليمية و الجهوية حقيقة ثابتة وسمة القرن الحالي،وباتت تشكل إحدى المظاهر الرئيسية والبارزة في حقل العلاقات الدولية،وذلك نظرا لإتساع رقعة المصالح المشتركة وإزدياد تداخل وترابط اقتصاديات دول العالم مع بعضها البعض،الامر الذي جعل من الصعب على اية دولة مهما كانت قوتها وامكانياتها الطبيعية والبشرية أن تدبر سياساتها الإقتصادية بمعزل عن الدول الاخرى.فضلا عن عوامل أخرى سياسية وأمنية بغية تأمين تسويق منتجاتها وزيادة تبادلاتهاالتجارية،مما يحتم عليها الإنضمام الىتكتلات اقتصادية وسياسية إقليمية لتحقيق تلك المصالح المختلفة والمتعددة.
إذن التكامل والغندماج لغقليمي سمة لعصر الحالي،ولذلك نجد التأسيس والتأصيل النظري له على مستوى الفكر الإقتصادي والسياسي،سواء في المدارس الليبرالية الماركسية،وحتى في الفكر الٌإقتصادي في العالم الثالث “مالك بن نبي والفكرة الآفرواسيوية”،حيث بزغت دعوات الىثحقيق إعتماد متبادل يتدرج من المستوى البسيط الى أندماج إقتصادي كامل،ينعكس في توحيد السياسات الٌتصادية والمالية والنقدية.
فماهي الأسباب والدوافع الحقيقية التي أذت إلىظهور وتوسع جهود المرامي الإندماجية؟وكيف يؤثر الاندماج الإقليمي في العلاقات الدولية والنظام الدولي.

تعريف التكامل الإقليمي:
التكامل والإندماج الإقليمي هو ايجاد وإستفاء أنماط كثيفة ومتنوعة للتفاعل بين وحدات مستقلة سابقا،وقد تكون هذه الأنماط الإقتصادية جزئيا في طابعها،ووإجتماعية في جزء،وسياسية في جزء.
ويعرف بيلا باليسا الأندماج الإقليمي على أنه:”عملية وحالة،فبوصفه”عملية”يتضمن التدابير التي يراد منها إلغاء التمييز بين الوحدات الإقليمية المنتمية ألى دول قومية مختلفة،وإذا نظرنا إليه على أنه “حالة” فإنفي الإمكان أن يتمثل في إنتفاء مختلف صور التفرقة بين الإقتصادات القومية”.
فهو عمل ارادي للحكومات دور كبير في تحقيقه لتجاوز حدود الدولة الوطنية بالتدريج،وفي الإصرار عليه وتتبع إجراءاته.
ويعرفه أرنست هاس على أنه:”عملية تحاول بمقتضاها مجموعة من الوحدات السياسية تحويل ولاءاتها وأهدافها ونشاطاتها السياسية،الإجتماعية،والإق تصادية الىمركز أو وحدة اوسع وأشمل،والتي تمتلك مؤسساتها أو تهدف الى إمتلاك الشرعية القانونية على الدولة المعنية”.

فالإندماج الإقليمي كعملية هو تلك الإستراتيجية التي تتبناها الدول المشاركة في هذه العملية من أجل بلوغ أهداف معينة تتلخص عادة في بناء السلم الدولي،وتخفيف حدة الصراعات بين الدول،وتحقيق الرفاه.والإندماج ليس عملية بسيطة ،إنما هو عملية معقدة ويتميز بالمرحلية والتخطيط المتمر للسياسات التكاملية ،وإختيار الآليات الناجعة لتحقيق الأهداف التكاملية.كما أن آثار العملية الإندماجية تتجاوز الجوانب الإقتصادية والتقنية الى الجوانب السياسية والإجتماعية والثقافية.

فالإقليمية تتضمن منمو الإرتباطات والعمليات المشتقة من النشاط الإقتصادي،ولكن تتضمن أيضا
عملية الربط الإجتماعي والسياسي والثقافيبين الدول المتكاملة.

أهداف الأندماج الإقليمي:
للإندماج الإقليمي العديد من الأهداف الإقتصادية والسياسية والأمنية،فالتككامل الاوروبي مند1945 لميكن يهتم بالجانب الإقتصاديفحسب،بل انه يسمح بتوحيد الإقتصادات الوطنية لمصلحة وخدمةالدولة القومية،وهو قد خطط لكليهمامعا،كما أولى إهتمامه للمسائل الأمنية والعسكرية.وعموما تتلخص أهداف التكامل الأندماجي الإقليميفي النقاط التالية:
أولا:الأهداف الإقتصادية:
وهي الأهداف المهمة على الإطلاق في أي تكامل إقليمي،فهناك مجموعة من الأهداف الإقتصادية التي تسعى الول المتكاملة ألى تحقيقهامن خلال العملية التكاملية،أهمها تسهيل عملية تحقيق التنمية الإقتصادية،فالدول المتكاملة تستطيع النهوض بالتنمية الإقتصادية بالتعاون فيما بينها،وتستطيع أن تصل في ذلك ألى نتائجأفضل من تلك التي يمكن الوصول إليها فيما لو كانت عملت كل دولة على حدى.تستطيع كذلك إستغلال الإمكانيات الإقتصادية المختلفة للدول الأعضاء،مستفيدة من وفرة عناصر الإنتاج ورأس المال المهم للإستثمار داخل الدول المتكاملة.

ثانيا:الاهداف السياسية:
قد يكون هناك أهداف سياسية من وراء التكامل،ويحدث ذلك عندما ترغب دولتان أو أكثر في تكوين إتحاد سياسي فيما بينها وتحول بعض العقبات دون أتمام الإتحاد في شكله السياسي،فتقوم الدول بالدخول في تكامل إقتصادي،من خلال إنشاء اتحاد جمركي،أو سوق مشتركة،على أمل أن يمهد ذلك للوحدة السياسية.وقد يكون الهدف من وراء الوحدة السياسية مجرد رغبة دولة كبرى السيطرة سياسيا على مجموعة من الدول.وتجدر الإشارة دائما ألى أن المرامي التكاملية الإندماجية هي إقتصادية في منطلقاتها،سياسية في منتهياتها.

ثالثا:الأهدف الأمنية والعسكرية:
قد يكون الهدف من وراءالعملية التكاملية هو تكوين وحدة أمنية عسكرية في مواجهةالعالم الخارجي،ومن أمثلة ذلك ما نادى به الأوروبيون بعد الحرب العالمية الثانية من تكوين وحدة أوروبية لها قوتها السياسية والعسكرية مما يمكنها من الوقوف بين المعسكرين الأمريكي والسوفياتي.

شروط الإندماج الإقليمي:
المطلوب فيما يخص الإتحاد الإقليمي أو الوحدة الإقليمية هو توحيد الدول المنتمية لمنطقةإقليمية معينة شاملة بمشاركة الافراد والجماعات والاحزاب والحكومات ورجال الأعمال والأكاديمين والمثقفين.وهذا يستدعي توفر الإيديولوجيا ودورها المركزي في العمليم التكاملية الإندماجية.
ويتطلب التوحد الإقليمي كفعل منشأللإتحاد الإقليمي وجود نخبة ملتزمة نابعة من شعوب المنطقة المتكاملة تقدم الذاتي على الموضوعي وفي تحديد وجهة التطور التي يبتغيها الإقليم المتكامل.وكذلك تطوير ايديولوجيا تستجيب لتحديات ورهانات الحاضر والمستقبل،ومن ضمنها بطبيعة الحال تحديدالمتغيرات الراهنة.

وحسب فيليب جاكوب فإن شروط الإندماج تتمثل في النقاط التالية:
_التقارب الجغرافي.
_التجانس في جوانب عديدة مؤهلة أكثر للتكامل.
_التعامل المتبادل أو كثافة التعاملات والتبادلات بين الأطراف.
_المعرفة المشتركة والتقارب الذهني.
_المصالح و الفوائدالرئيسية من وراء العملية التكاملية.
_الروح الجماعية للأطراف.
_الفعالية الحكومية.
_التجارب الوحدوية السابقة.

مراحل الإندماج الإقليمي:
يمر التكامل الإندماجي الإقليمي بعدة مراحل،وقدحددها بيلا باليسافي خمس مراحل أو خطوات أساسية تتمثل فيمايلي:

أولا:منطقة التجارة الحرة:
وفيها تلغى القيود الجمركية المفروضة على سلع الدول الاعضاء، مع إحتفاظ كل دولة بالتعريفة الجمركية الخاصة بغير الدول الأعضاء.

ثانيا:الإتحاد الجمركي:
هو درجة أعلى من منطقة التجارة الحرة،حيث يقوم على توحيد التعريفة الجمركية للدول الأعضاء في مواجهة العالم الخارجي،بعد إزالة كافة القيود على التجارة ويتكون الإتحاد الجمركي من أربع مكونات هي:
1_وحدة القانون الجمركي والتعريفة الجمركية.
2_وحدة تداول السلع بين الدول الأعضاء.
3_وحدة الحدود الجمركية.
4_توزيع حصيلة الرسوم الجمركية بين الدول الأعضاء.

ثالثا:السوق المشتركة:
فيها يتم إختفاء العوائق المانعة لإنتقال السلع بين الدول الأعضاء،وكذلك إختفاء الحواجز المانعة والمقيدةلتحركات عناصر الإنتاج الأخرى كرأس المال والعمل.

رابعا:الوحدة الإقتصادية:
وهي أعلى درجة من السوق المشتركة.ويتم فيها:
_إدماج اقتصاديات الدول في إقتصاد واحد.
_تجميع الموارد والعوامل الإنتاجية المادية والبشرية.
_توفير حرية الإنتقال والعمل بين دول الوحدة المختلفة.
_تيسير إنتقال رؤوس الأموال والسلع والخدمات بين مناطق الدول الأعضاء.

خامسا: الإندماج الإقتصادي الشامل أو الكلي:
حيث يتم توحيد السياسات النقدية والإجتماعية،ذات الأبعاد الإقتصادية.ويتم إنشاء سلطة فوق قومية تكون قراراتها ملزمة للدول الأعضاء.

نظريات الإندماج الإقليمي:
هناك عديد من النظريات التي تشرحبطرق مختلفة عملية التكامل الأندماجي على المستوى الإقليمي،ولعل أهمهاهي النظرية الأتحادية أو الدستورية،والنظرية الوظيفية الجديدة، والنظرية الإتصالية.

أولا: النظرية الأتحادية:
وتعتمد هذه النظرية على متغير القرار الحكومي في تفسير التكامل،حيث تقر السلطات العليا في الدول المتكاملة تبعا لمصلحتها بحكم التنازل عن جزء من سيادتهتتفاوت بحسب كل حالة من أجل تحقيق منافع التكامل المتنوعة.بعد حساب عقلاني للنفقة والعائد المترتبين على الدخول في العملية التكاملية، ويكون الهدفهو تعظيم المنافع في المجالات المختلفة للتكامل وتقليل الخسائر إلى أقصى حد ممكن.

وفي هذا الإطار فإن الدول ترتبط معا بروابط دستورية متينة يصبح معها حصول النزاعات والحروب بين الدول أمرا مستبعدا،ويتشكل في هذا الإطار نوع من الأمن الجماعي القائم على ذلك الرباط السياسي الدستوري ،وما يكفله من آليات لحل وفض النزاعات بين الوحدات المتكاملة.
وتختلف النظريات الإتحادية بحسب درجة إستعداد الدول للتخلي عن أجزاء من سيادتها،إلا أن أبرز هذه الصور هي الوحدة الفيدرالية، والوحدة الكونفدرالية.
ففي الفيدرالية يتم الدوبان القانوني للشخصيات القومية المتكاملة في كيان جديد،وتقوم في هذا الكيانحكومة واحدة .على حين تحتفظ الدول المتكاملة بسيادتها ويقتصر التكامل في بعض الامور السياسية والإقتصادية والإستراتيجية المحدودة.

ثانيا:النظرية الوظيفية الجديدة:
تستمد النظرية الوظيفية الجديدة كمدخل للتكامل الأندماجي الإقليمي بعض عناصرها من النظرية الوظيفية،فهي تعتبر أن التكامل يبدأ في مجالات السياسة الدنيا،في ظل قيادات سياسية.فمسار التكامل الإندماجي تؤثر فيه مباشرة وبشكل فعال الدول،وهو بذلك جزء غير منفصل عن المسار السياسي.
ومحور الوظيفية الجديدة هو أن الدول تتخلى عن سلطاتها فب مجالات تعتبر أنه من غير الممكن أن تتعاطى فيه بنجاح وفعاليةإنفراديا،ويكون ذلك بإنشاء مؤسسات إقليميةلها سلطات وصلاحيات فوق قومية أو فوق دولاتية.وفي هذا الإطار تنشأ نخبة سياسية جديدة في هذه المنظمات لها توجهات وولاءات إقليمية تتعمق نتيجة إمتلاكها للقرار على المستوى الإقليمي،كما أنه لابد من تسييس عملية التكامل بإنتقالها من ميادين السياسة الدنيا إلى ميادين السياسة العليا.

ويؤكد أرنست هاس_وهو من أبرز الوظيفيين الجدد_ على الإقليمية مقابل العالمية في التكامل منمنطق أن الإقليمية أكثر قابلية لإحلال التكامل، بسبب التقارب القيمي والثقلفي المفترض بين المجتمعات.ويركز الوظيفيون الجدد على الطبيعة التعددية للمجتمع الحديث التي تتنافس فيه وتتصارع النخب والمصالح ومن ثم يرون أن عملية التكامل الإقليمي عملية تعيدفيها النخب بطريقة سياسية متدرجة صياغة مصالحها بمصطلحات وأساليب تعبر عن توجه ٌليمي أكثر منها توجهاوطنياخالصا.

ثالثا: النظرية الإتصالية:
تعتبر النظرية الإتصالية من أهم نظريات التكامل الأندماجي الإقليمي،وهي تركز على التفاعلات بين الودات المتكاملة كدخل لتحقيق التكامل،ويعتبر كارل دويتش من أبرز رواد هته النظرية،والذي أوضح أن غاية التكامل هي تكوين مجتمع أمن يضم الوحدات المتكاملة وتختفي فيه إحتمالات نشوب الحروب فيما بينها بسبب ماينشأمن كثافة في الإعتماد المتبادل وماتتبناه من آليات وإجراءات لفض النزاعات سلميا،وإحلال التعاون محل الصراع والحرب.
وقد ركز دويتش على قيمة الأمن كغاية للتكامل الإندماجي الإقليمي على إعتبارات ان الأمن هو الحالة الأساسية التي يمكن في ظلها التمتعبمعظم القيم الأخرى.
أما أنواع المجتمعات التكاملية عند دويتش فهي نوعين: مجتمع الأمن الموحد، ومجتمع الأمن المتعدد.ويتم التمييزبين النوعين السابقين على أساس الهدف من التكامل، ف‘ذا كان الهدف الرئيسي للعملية التكاملية مجرد الحفاظ على السلام بين الوحدات السياسية المتكاملة يكفي تكوين مجتمع أمن متعدد لأنه في الواقع يكون أسهل. أماإذا كان الهدف من وراء العملية التكاملية هوتحقيق السلام بين الأعضاء وإكتساب قوة أكبر لتحقيق الأغراض العامة المبنية أو إكتساب تطابق مشترك للأدوار أو خليط من كل ذلك فإن الأفضل هو تكوين مجتمع أمن موحد.

_قائمة المراجع:
1_اكرام عبد الرحيم.التحديات المستقبلية للتكتل الإقتصادي العربي، العولمة والتكتلات البديلة،عربية للطباعة والنشر، القاهرة،مصر.الطبعة الأولى:2000.

2_جندلي عبد الناصر. التنظير في العلاقات الدولية بين الإتجاهات التفسيرية والنظريات التكوينية، دار الخلدونية،الجزائر،الطبعة الأولى:2007.

3_جيمس دورتي و روبرت بالستغراف. النظريات المتضاربة في العلاقات الدولية، ترجمة:وليد عبد الحي،المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر والتوزيع،بيروت، لبنان.الطبعة الأولى:1985.

4_جهاد عودة. النظام الدولي نظريات وإشكاليات،دار الهدى للنشر والتوزيع،مصر.الطبعة الأولى:2005.

5-جون بيليس وستيفن سميث.عولمة السياسة العالمية،ترجمة:مركز الخليج للأبحاث،دبي،الغمارات العربية المتحدة.الطبعة الأولى:2004.

6_قدري محمود إسماعيل.الإتجاهات المعاصرة ومابعد المعاصرة في دراسة العلاقات الدولية،إليكس لتكنولوجيا المعلومات،مصر،2004.

7_ناصف يوسف حتي. النظرية في العلاقات الدولية،دار الكتاب العربي،بيروت ،لبنان،1987.

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى