مفاهيم عسكرية: الثورة الجديدة في الشؤون العسكرية

رغم ما كتب ونشر حول التبشير بحدوث ثورة في الشؤون العسكرية، والتي ستؤدي إلى إحداث انقلاب حاد في نظريات القتال وأساليب إدارة الحرب، فإن السؤال الذي يجب أن يثار هو: ما هي حقيقة وأبعاد هذه الثورة؟ ومدى جدية حدوثها؟

هذه الثورة تعتمد على ما تقدمه التقنيات العسكرية المتقدمة من إمكانيات وقدرات لم تتوفر من قبل، وهو أمر يلزم تقويمه من خلال الإبحار في أغوار التاريخ، لإثبات العلاقة الطردية بين التقدم التقاني العسكري من جهة، وبين فكر الأداء العملياتي من جهة ثانية، فكلما زاد التقدم التقاني العسكري ظهر فكر عسكري جديد، حيث كانت الحاجة تدعو دائماً لتطوير الأسلحة والعتاد الحربي لتلبية متطلبات العمليات، فيجد العسكريون أنفسهم أمام إمكانات جديدة في مسرح الحرب، فينعكس ذلك على تطوير العقائد القتالية، سعياً لتحقيق الهدف من الصراع المسلح بأقل خسائر مادية وبشرية ممكنة.

وفي كل عصر على مدى التاريخ تستغل القوات العسكرية التقدم العلمي والتقاني فيه من أجل تطوير أسلوبها وتحقيق تقدم عسكري على أعدائها. فإذا كانت الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، قد حققت انتصارها معتمدة على أفكار مثل الحرية والإخاء والمساواة، فإن حروب بروسيا في أوروبا والحرب الأهلية الأمريكية في منتصف القرن التاسع عشر، قد اعتمدت على التلغراف والسكك الحديدية والبنادق للانتصار. وفي الثلاثينيات من القرن العشرين وضعت ألمانيا التكتيك والإدارة العالية في خدمة الدبابات وموجات الراديو والقنابل التي انتشرت في هذا العصر، لكي تحقق ما عرف باسم “بليتزكريج”، أي قصف خاطف ومفاجئ.

الثورة العسكرية الأولى

منذ ظهور الحروب البدائية تنقسم أسلحة القتال إلي فئتين هما:

أسلحة الصدمة، مثل: السيف والرمح والسونكي، وهي تستخدم للقتال القريب.

القذائف، والتي تعمل على تدمير العدو من بعد، مثل: السهم، والطلقة، والقنبلة شديدة الانفجار التي تطلق من مختلف الوسائل.

ولذلك كانت الثورة التقانية العسكرية الأولى تكمن في ظهور القوس، الذي يطلق من (8 12) سهماً، وبمدى يصل ما بين (200-400) ياردة، ليظهر قتال العمق ومرونة الأداء. وزادت كثافة التشكيلات، ومعدات القتال، مع المرونة في توزيعها على مسرح العمليات، وجرت المساعي لتوفير الحماية للقوة البشرية، من خلال الدروع الفردية في القرن الثالث عشر، والبدلة الحديدية الكاملة في القرن الرابع عشر، في ظل اتساع نطاق عتاد الاقتراب والالتحام.

الثورة العسكرية الثانية

ثم جاءت الثورة التقانية العسكرية الثانية، بظهور البارود على يد الإنجليزي “روجر بيكون” عام 1260م، ليبدأ عصر جديد تسود فيه الأسلحة النارية بمختلف أنواعها، وتعم المدفعية مختلف جيوش العالم، ويظل استخدامها مستمراً حتى الآن، وتغير الفكر العسكري في البداية بتبني نظرية الاستنزاف والمناورة، ثم الانقضاض على القلب والمؤخرة.

ومع تزايد حجم الحروب واتساع نطاقها واتجاهها نحو العالمية، وظهور المستعمرات الغربية والصراع على الأسواق ومصادر الثروة، صار على كل دولة تود القوة، وتتوق إلى المنعة، أن تسعى إلى السيطرة على طرق ومحاور المواصلات البحرية العالمية، فغدت السيطرة على البحار والأجواء من العوامل الاستراتيجية بالغة الأهمية، فتزايدت قوة الأسلحة وسهولة استخدامها، ولذا تفوقت المدفعية على الخيالة، وأخذت مكانها كمطرقة للمعركة، تدمر قوات العدو في العمق، وتقطع طرق انسحاب قواته الأمامية، وتهيئ أفضل السبل لقوات المشاة الصديقة المهاجمة من الأمام، للقضاء على العدو، وفرض الإرادة عليه.

ثم كان لتأثير التطور التكنولوجي الذي أحدثته الثورة الصناعية في أوروبا أن أجبرت العسكريين المتمسكين بالقديم إلى البحث عن أساليب جديدة لإدارة الحروب والمعارك، فقد توفرت وسائل لنقل المدفعية والقوات، وسرعة أعمال الإمداد، والسهولة النسبية في المناورة على أجناب ومؤخرة الخصم، وظهرت الدبابة عام (1910م). ورغم هذا ظلت المدفعية على احتكارها لقوة النيران في الميدان.

أما الطيران الحربي الذي ظهر عام (1911م)، فقد أدى إلى إحياء حرب الحركة من جديد، وصار بوسع الجيوش زيادة سرعة إيقاع المعارك. وكان لوقع ظهور الغواصة الألمانية عام (1914م) أثره الكبير في المسرح البحري.

ولذلك عكف المفكرون العسكريون في كل أنحاء العالم على دراسة خبرات الحرب العالمية الأولى، والأسلحة الرئيسة المستخدمة خلالها، لتحديد اتجاهات تطوير القوات المسلحة، وطبيعة أي حرب مقبلة، فسرعان ما ظهرت نظريات وآراء جديدة، مثل: نظرية “الجيش الصغير القوي”، التي نادى بها الجنرال “فولر” و “ليدل هارت” في بريطانيا، و “سيكت” في ألمانيا. و “ديجول” في فرنسا. ثم نظرية الحرب الجوية التي نادى بها “ديوي” في إيطاليا، و “زوكوف” في روسيا، و “ميتشيل” في الولايات المتحدة. وكان هذا يخالف النظريات المسيطرة في ذلك الوقت، وهي القوة البحرية في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، وحرب المواقع، أو الحرب الثابتة في فرنسا، والحرب الشاملة والضربة الخاطفة في ألمانيا.

فلقد ظهرت نظرية الجيش الصغير نتيجة لتقويم دور المعدات والأسلحة الجديدة ذات التطور التكنولوجي في حينها، وخاصة الدبابات. ففي عام (1922م) نادى الجنرال “فولر” رئيس أركان قوات التاج البريطاني في كتابه “دور الدبابات في الحرب العظمى (1914 1918م)” أن نجاح الحلفاء في الحرب العالمية الأولى يعود إلى الدبابة. وأنه يجب على الغرب أن يبني جيوشاً مدرعة وميكانيكية، تتميز بصغر حجم القوات البشرية، ولكنها كبيرة الحجم من حيث التأثير النوعي للمدرعات، كما رأى “فولر” أن (99%) من النجاح في الحرب سيتوقف على السلاح، بينما باقي العناصر الأخرى من استخدام وقيادة وشجاعة وانضباط وإمداد بالاحتياجات لا تمثل سوى (1%) فقط من النجاح.

ولقد أيّد ديجول في مذكراته حول الحرب أفكار “فولر”، بل إنه اعتبر أن سر انهيار فرنسا في بداية الحرب العالمية الثانية يرجع إلى سوء تقديرها لنظرية الجيش الصغير المدرع. ومن ثم اعتمدت نظرية الجيش الصغير القوي على المعدّة. وترى هذه النظرية أن الدبابة بإمكاناتها، كقوة نيران، وقدرة على إحداث الصدمة، سوف تلعب الدور الحاسم في الحرب الحديثة للقتال في العمق، وتحقيق الاختراق السريع في دفاعات الخصم.

أما نظرية “الحرب الجوية”، فلقد ابتدعها الجنرال الإيطالي “ديوي”، ونادى بها في عام (1920م)، وأيدها “زوكوف” وزير الدفاع الروسي وقتها بشدة. وتتلخص هذه النظرية في إنشاء جيش جوي يتألف من ألف قاذفة قنابل، يتم استخدامها في موجات، كل منها (500) طائرة لتدمير (100) هدف استراتيجي في العمق التعبوي والاستراتيجي بما يؤدي إلى استسلامه. كما ترى هذه النظرية أن دور القوات البرية يأتي بعد ذلك، كدور ثانوي وهو مجرد احتلال أراضي الدولة المستسلمة.

ولكن هذه النظريات قد أساءت فهم دور الفرد، وجعلته ثانوياً، وأكّدت على أن الآلة ستحل محله، ولكن الواقع الذي ظهر في الحرب العالمية الثانية (1939 1945م) أكّد على الدور الرئيس للفرد في أي حرب، لأنه القادر على استخدام المعدّة.

ومن أهم التطورات التي حدثت في الفكر العسكري فيما بين الحربين العالميتين، هو ظهور القوات المنقولة جواً كنتيجة لتطور تقانة الطائرات، وإنتاج المظلات، مما أدى إلى زيادة خفة الحركة الاستراتيجية للقوات البرية. ورغم أن الروس كانوا أول من بدأ التجارب لاستخدام هذه القوات إلا أن الألمان هم أول من استخدموها في حربهم الخاطفة محققين نتائج حاسمة.

ونظراً لأن القاذفة الاستراتيجية قد ظهرت في هذه الآونة فكان يتم استخدامها كأحد وسائل إيصال الذخائر لمدى بعيد، فلم تكن هناك ثمة غرابة في أن المبدعين والمفكرين العسكريين قد سعوا لاستبدالها بحاملة ذخائر لا يقودها بشر، وقادرة على إحداث القدر نفسه من الدمار، فظهرت القنبلة الطائرة، لأول مرة في سماء بريطانيا، في فجر الثالث عشر من يونيو (1994م)، وكانت تعمل بمحرك نفاث بسيط، وبسرعة (350 ميل- ساعة)، وتطلق من على مسافة (320 كم)، وليصبح ذلك إعلاناً بظهور عصر الصواريخ أرض-أرض.

الثورة العسكرية الثالثة

ثم جاءت الثورة العسكرية الثالثة، بظهور السلاح النووي يوم (6 أغسطس 1945م)، عندما ألقى الحلفاء أول قنبلة ذرية تعادل قوتها (20 ألف طن) من المتفجرات على مدينة هيروشيما اليابانية، ليتم قتل وجرح أكثر من (150) ألف شخص، ولتدخل الأسلحة النووية التاريخ.

الثورة العسكرية الرابعة

وكانت الثورة التكنولوجية العسكرية الرابعة بظهور الترانزيستور عام (1947م)، ليبدأ السباق المذهل في مجال الإلكترونيات، وتصبح بعداً رئيساً ثابتاً في تطوير كل سلاح أو معدّة، وتسمح ببناء الأقمار الصناعية. ويبدأ سباق الفضاء بإطلاق السوفييت لأول قمر صناعي، وهو “سبوتنيك” يوم (4 نوفمبر عام 1957م)، ويعقبهم الأمريكيون بإطلاق القمر “إكسبلورر 1” في (31 ينابر عام 1958م). و رغم البداية المتواضعة في استخدام هذه الأقمار بغرض الإنذار، إلا أنه سرعان ما اتسع استخدامها في مجال الاستخبارات والتجسس والاتصالات والتصوير، بل وفي حمل الأسلحة الموجهة، والتي ظهرت في بداية الستينيات، وتم استخدامها في فيتنام، وبعضها يعتمد على المستشعرات الكهروضوئية أو التليفزيونية، بينما البعض الآخر يستخدم مستشعرات الليزر.

ومن ثم انتشرت المساعي الرامية إلى تطوير وسائل نقل المواد المتفجرة أو النووية، سواء من على سطح الأرض، بواسطة المدفعية بأنواعها، وقواعد الصواريخ، أو من الجو، بواسطة الطائرات المختلفة، أو من الفضاء، من خلال الأقمار الصناعية، أو من الجو من فوق السفن أو الغواصات؛ أي أن إمكانات ووسائل التدمير ظلت كما هي، بينما تركز التطوير التقاني وسائل الحمل والنقل، ولذا جرى الاهتمام بتقانة التوجيه لزيادة المدى.

الثورة العسكرية الخامسة

ولم يشأ القرن العشرون أن ينتهي ليسلم زمام البشرية إلي القرن الحادي والعشرين، قبل أن يحسم بشكل نهائي الصراع بين الرأسمالية والماركسية، لتسقط الأخيرة. وتصعد الأولى، ويبدأ التحوّل في الأيدلوجية الكونية المقبلة، ويقوم النظام العالمي الأحادي القطبية، والذي تسعى خلاله الدولة الكبرى المهيمنة إلى فرض نظريات عسكرية جديدة في العرض، ولكنها قديمة في الجوهر، اعتماداً على الثورة التقانية الخامسة بالتطور الحاسم في مجال الحواسب الآلية، والتي تتميز بقدرات عالية لمعالجات البيانات، فظهرت منظومات التسليح الآلية المتكاملة، الفائقة الدقة، والقوية التأثير، خاصة في ظل توفير تقانة الطاقة الموجهة.

ويتوقع الخبراء أن هذه الثورة ستغير من أدوات وأسلوب شن الحرب في المستقبل، فهذه التقانة ستؤدي إلى توفير مستشعرات متنوعة تضمن الدقة العالية في تحديد أهداف العدو، والعمل على تدميرها من خلال التقدم الهائل في تصنيع مختلف الذخائر، مما سيجعل الصراع العسكري في المستقبل يعتمد على استراتيجية الشلل والصدمة، كبديل لحروب الاستنزاف المتعارف عليها. ويقصد بالاستنزاف هذا التدمير المتتالي للعدو، ثم في النهاية يكون زيادة العقاب العسكري هو الضمان لهزيمة واستسلام العدو، بينما نجد أن حرب الصدمة تطيح مبكراً بأي أمل للخصم في الاستمرار في القتال، ولذلك نجد أن التكامل بين عمليات حرب المعلومات، وضربات العمق المركزة من خارج المدى سوف تؤدي إلى حدوث مثل هذه الصدمة.

ومن ثم أصبح الهدف الأساسي من المرحلة الافتتاحية للحرب، هو السعي لإحراز الشلل في منظومة الإنذار والدفاع الجوي واتخاذ القرار للخصم، مما يجعله يتشكك في قدرته على إدارة الصراع العسكري، ومما يزيد من حجم المفاجأة.

وقد حاولت قوات التحالف الدولي اختبار بعض عناصر هذه النظرية خلال حرب تحرير الكويت، بشن حملة جوية لمدة (39) يوماً، وإن كانت تطبيقاً واقعياً لنظرية الحرب الجوية لديوي وزوكوف، إلا أنها تميزت بالتوسّع في استخدام الطائرات الموجهة بدون طيار، والتي أنجزت (530) مهمة متنوعة، وقضت (1700) ساعة في الأجواء، فضلاً عن ارتفاع دقة الإصابة للطائرات ضد الأهداف الأرضية، بنسبة (85%) فكانت الحملة البرية لمدة (100) ساعة، بدون خسائر بشرية تذكر في قوات التحالف، وقد دارت هذه الحملة بتغير واضح في ديناميكية إدارة العمليات، حيث تم القتال متزامناً في ثلاثة أبعاد رئيسة هي: البعد القريب، والعميق، والمؤخرة، مما جعل كل قوات الخصم في مسرح العمليات،سواء في الأمام أو العمق، معرضة لقتال مستمر، الأمر الذي أحدث الصدمة المطلوبة.

ثم تم تعديل الفكر العسكري الأمريكي لاختبار نظرية القتال عن بعد ضد بعض الأهداف الاستراتيجية العراقية في سبتمير (1996م)، والتي حققت أهدافها بفرض الإرادة على القوات العراقية، دون مواجهات دامية في مسرح الحرب.

ولذلك تم الإسراع في تطوير تقانة التوجيه المتقدمة، لضمان إنتاج صواريخ وطائرات تعمل بدون طيار، يتم توجيهها آلياً، من خلال النظام الكوني لتحديد المواقع Global Positioning System GPS على سطح الكرة الأرضية، وبما يضمن توجيه ضربات نيرانية قوية للأهداف المعادية، وبدقة عالية، ومن مسافات كبيرة للغاية.

وتم إنتاج الصواريخ المبرمجة على أهداف بعينها، تقوم بالتعرف عليها، وتمييزها، والكشف والتتبع لها، ثم تدميرها دون غيرها، ويضاف إلى ذلك نظام مستشعرات تجميع ومعالجة البيانات في آن واحد، في الزمن الحقيقي Real Time ليؤكد على إمكانية إنتاج أسلحة بالغة الدقة، ويؤدي إلي زيادة فعالية دائرة العمل المتكاملة (المعلومات القرار الفعل) لتتيح للقوات الصديقة سرعة الأداء العالي عن الخصم، ومن ثم فرض الإرادة عليه، لمحافظتها على المبادأة والحسم في إدارة أعمال القتال، لأنه كلما زادت سرعة استكمال هذه الدائرة لأي من القوات المتضادة، تم توفير الوقت اللازم للتأثير في الجانب الآخر، والعكس صحيح.

والآن يقف العالم على أعتاب عصر عسكري جديد، أو ثورة عسكرية، حيث التقانة المستخدمة تضم:

الاتصالات الرقمية، التي تسمح بضغط المعلومات وحفظها.

نظام أقمار صناعية يسمح بتوجيه الصواريخ بدقة.

طائرات خفية لا يلتقطها الرادار.

وأخيراً، والأهم، المعالجة بالحاسب الآلي.

هذه الثورة الجديدة بدأت تظهر بوادرها منذ الثمانينيات، وكانت أولى الحروب التي شنت في ظل الثورة الجديدة، حرب الخليج، عام (1991م)، حيث استخدمت قاذفات طراز F-117، والقنابل الموجهة بالليزر، وصواريخ كروز، التي تحددت أهدافها بدقة، والتي دمرت عديد من القواعد العراقية.

وفي البوسنة، استخدم الأمريكيون نظام JSTARS وهو نظام لمراقبة الأرض من الجو، ويمكن من خلاله التقاط على شاشة واحدة وفي أي نوع مناخ مكان وطراز أي نوع من أنواع الآلات، التي تسير على الأرض، على مساحة مائتي كيلومتر مربع.

وهذه الثورة الوليدة لم تبرز من أجل التصدي لأي نوع من التهديد ضد الولايات المتحدة، أو حلفائها، كما حدث مع الأسلحة النووية، بل ظهرت لمجرد أنها أمر واقع، أي أن هناك مسؤولين عسكريين يرون ضرورة الاستفادة من التقانة الحديثة، ليكونوا مستعدين في حالة تعرضهم في المستقبل إلى التهديد. وهو نفسه ما حدث في ألمانيا في العشرينيات، حيث قامت الدولة بتطوير ما عرف ب “القصف الخاطف”، الذي اعتمد على تقانة هذا العصر، دون أن يكون هناك تهديد لألمانيا أو احتمالات تفجر حرب عالمية جديدة، كما كانت أوروبا تتجه إلى خفض ميزانياتها العسكرية.

إن الثورة في الشؤون العسكرية تدور حول تحقيق التفوق في ثلاثة عناصر:

1 تجميع المعلومات: إن مراكز الاستشعار في الأقمار الصناعية والطائرات الموجهة بدون طيار، يمكنها التقاط كل شيء يتحرك في منطقة محددة.

2 معالجة المعلومات: وهو ما تم من خلال نظم متقدمة للقيادة والسيطرة والاتصال ونظم المعلومات عرفت باسم C41، والتي تفسر المعلومات التي تتلقاها من مراكز الاستشعار، وتعرضها على الشاشة، ثم تقوم تلك النظم بتكليف الصواريخ والدبابات بالقيام بمهام محددة.

3 استخدام كل تلك المعلومات، في القيام بقصف الأهداف بعيدة المدى، ولكن بدرجة عالية من الدقة. فالصواريخ من طراز كروز، التي توجهها الأقمار الصناعية، يمكنها إصابة مبنى واحد على بعد مئات الأميال.

والقوات المسلحة الأمريكية تملك عناصر من تلك النظم الجديدة التي تعمل حالياً، ففي البحرية الأمريكية هناك نظام يسمى “القدرة في التعاون على التلاحم”، والذي يسمح لعديد من السفن الحربية على ضم راداراتها معاً في رادار واحد أكثر قوة، يكون متاحاً لكل سفينة، ولكن أمريكا لم تصل بعد إلى دمج كل العناصر التقدمية في نظام النظم، هذا النظام الجديد سيسمح للقائد أن يتابع على الشاشة كل ما يجري على أرض المعركة، وأن يختار هدفاً، ويدمره بضغطة زر.

سيناريو لحروب المستقبل

ومن هنا سنجد أن القائد الاستراتيجي في القرن الحادي والعشرين، سيدير الحرب بالأزرار، أي (بالريموت كنترول)، ولكن هذه العملية مرهونة بالعديد من المحاذير، لأن الحرب عندما تقع تكون دموية، كما أن هذه الحرب يصعب عليها مواجهة حروب العصابات، والحروب غير النظامية، كما يصعب تنفيذها في مناطق الغابات والمدن والأدغال.

ولنتأمل معاً هذا السيناريو: جلس قائد القوات الاستراتيجية أمام الشاشة العملاقة في مركز إدارة العمليات، والتي توضح أحدث موقف لأوضاع القوات المعادية وأهدافها الاستراتيجية والتعبوية، وكانت الإضاءة الخضراء المتقطعة توضح مواقع منظومة القيادة والسيطرة والاتصالات للعدو وأماكن عناصر إطلاق النيران المعادية، بينما الإضاءة (الفلاش) توضح حجم الاتصالات الجارية على وسائل الاتصال للخصم، لقد بدأت الحرب منذ ثلاثة أسابيع عندما وافق الرئيس على التسلل إلى أنظمة الحواسب للعدو.

وعلى بعد آلاف الأميال، بدأت الضربة الأولى في منتصف الليل، وأُضيئت سماء العدو بموجات متتالية من الصواريخ البالستية، المطلقة من السفن والغواصات والقواعد الصاروخية بعيدة المدى، وقامت الطائرات القاذفة بدون طيار بإلقاء آلاف الأطنان من القنابل والذخائر الذكية والموجهة، وتم إطلاق الصواريخ الجوالة المصممة لتعطيل الأنظمة الإلكترونية لدى العدو.

وفي مجال الفضاء بدأت بعض الأقمار الصناعية الصغيرة في إطلاق أشعتها الليزرية، الموجهة ضد أقوى الأهداف المعادية لتدمرها، وسرعان ما نقلت الأقمار الصناعية والطائرات بدون طيار فوق مسرح العمليات نتائج الخسائر لمركز القيادة الاستراتيجي، للتأكد من تحقيق هدف الضربة، والذي يتركز في تعمية العدو، من خلال شل فعالية نظام القيادة والسيطرة والإنذار والدفاع الجوي، ولذلك عندما ظهرت الإضاءة الحمراء فوق الأهداف المعادية، كان ذلك يعني نجاح الضربة في تحقيق أهدافها، والإعلان عن حرب جديدة بلا دماء أو أشلاء.

كان هذا السيناريو المحتمل الحدوث في حرب المستقبل، والذي يجري التجهيز له الآن في ولاية فرجينيا الشمالية في الولايات المتحدة الأمريكية، بهدف إدارة حرب تحقق التحكم في سلوك الخصم، وتجعله يعمل وفق ما نريد، من خلال تحييد استخدام العدو لقواته المسلحة، أو تقويض قدراته العسكرية دون أي مواجهة بشرية، وفي مراحل تالية يتم القضاء على الخصم دون مواجهة في ميدان القتال، وهو ما أطلق عليه الثورة في الشؤون العسكرية للقرن القادم.

النتائج المترتبة على ذلك

إن قوة الصواريخ الحديثة والقنابل أصبحت عالية إلى حد أن كل جانب يسعى إلى أن تكون له الضربة الأولى لمنع العدو من القيام بالرد، وفي الوقت نفسه، ستتسع العمليات العسكرية جغرافيا أيضاً، بينما يقل عدد القوات والآلات المستخدمة فيها، فعلى مدى التاريخ، يلاحظ أن حجم القوات المستخدمة في منطقة المعارك تقل مع الوقت، وعلى سبيل المثال، في عام (1815م) كانت الفرقة العسكرية، التي تضم ما بين (15 و 20) ألف شخص تحتل مساحة تبلغ (25) ميلاً مربعاً، ومع حلول عام (2015م) قد تحتاج الفرقة نفسها مساحة لا تقل عن مائة ميل مربع. حيث تتحرك القوات بسرعة على أرض المعركة، في وحدات صغيرة، ولن يكن هناك ما عرف ب “خط مواجهة”، كما كان في الماضي.

وبما أن الدفاعات ضد الصواريخ لن تكون سهلة تماماً، فإن الموانئ والقواعد الجوية، وأي مواقع ثابتة، ستكون معرضة للضرب، ولذلك فسيكون من الصعب الاحتفاظ بالتسلسل في نقل الإمدادات، مما يعني أن قوات الاستكشاف ستضطر إلى حمل كميات أكبر من المؤن معها، بينما سيجد المقاتلون ومعداتهم أن المناورة وسهولة الحركة أهم من الدروع الواقية.

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button