دراسات سياسية

مفهوم الدولة العلمانية في الغرب

الدول الغربية الديمقراطية اليوم هي علمانية. لا دخل للدين ومؤسساته في أمور الدولة والتشريع. القوانين مدنية لا تستند على قواعد الدين بل على قوانين وضعية بنيت نتيجة توازن القوى السياسية والاجتماعية وعلى أرضية ثقافية عقلانية بعيدة عن التأويلات والمعتقدات الدينية.

الاعتقاد الراسخ في عقليتنا كعرب أن الغرب يدين بالمسيحية اعتقاد خاطئ لأننا نقارنه بما نراه في مجتمعاتنا بربط الدين عنوتا بالسياسة وبالدولة وبالمجتمع ارتباطا عضويا لا انفصام فيه. الغرب ” المسيحي” هو مسيحي من حيث التقاليد والثقافة والتاريخ. أما الايمان بالدين فهو اختيار حر يعود إلى القناعة الفردية دون أي إكراه خارجي. لا دخل للدولة بتوجيه سلوك الناس نحو قيم أو معتقدات أو شعائر أو سلوك أو قوانين صادرة عن أي دين. الدولة حيادية بالنسبة إلى الأديان، هي ليست مع ولا ضد أي دين. الوطن للجميع دون اعتبارات دينية. حياد هذه الدولة العلمانية الديمقراطية، فتحت أبواب الحداثة وأوجدت المساواة بين المواطنين وساعدت بذلك ظهور مؤهلات كبيرة في كافة المجالات دون طابع ديني مميز ومعلن بمكبرات الصوت! في هذه المجتمعات العلمانية الديمقراطية يمكن لأي مواطن أن يصل مثلا إلى قمة السلطة في الدولة. لا تسأل الدولة الغربية عن الأصول الدينية للسياسي ولا عن معتقداته وممارساته أو عدم ممارساته للدين.

الإكراه في الدين الذي نراه في مجتمعاتنا العربية والذي يظهر مثلا في حالات خروج الناس عن شريعة الصوم في شهر رمضان، أو تغيير الدين أو الكفر بالدين… له دلالات واضحة من أننا لا نقبل بتصرف مخالف لسلوك “القطعان” الذي يطالب الجميع بعدم الخروج عن الاتجاه العام مهما كان الاتجاه مخالفا لأي حق من حقوق الإنسان. في اعتقادنا الراسخ منذ القرون الوسطى من أن الدين – رسالة الله – هي المرجع الأعلى يسبق ويقوّم أي تشريع بشري ولا يجوز الخروج عنه. الدين هو العقيدة الوحيدة الممكنة وغير ذلك شرّ يجب استئصاله وحتى بالعنف.

هذا لا يعني أن المجتمع الغربي لا يحوي على جماعات متعصبة دينيا تستغل حرية العقيدة في النظام الديمقراطي للتأثير على السياسة وتحريكها تبعا لأغراضها الخاصة الدينية كما هو الحال في المؤسسات المسيحية الصهيونية في الولايات المتحدة الامريكية مثلا. لكن مؤسسات الدولة أخذت منذ زمن اتجاها علمانيا أصبح من أوائل عقائدها الديمقراطية. التجربة العلمانية الديمقراطية الغربية أظهرت جليا لشعوبها نجاعة هذه الفلسفة التي دفعت بهذه البلاد إلى تقدم هائل في كثير من الميادين وأدى ذلك كله إلى سلام للمجتمع وتعايش لكافة الاديان والمعتقدات المتنوعة.

المشكلة التي يجابهها الغرب اليوم بالنسبة للدين تصدر من المهاجرين والجاليات الآتية من دول تسيطر عليها عقلية ومرجعية دينية قويّة. التقوقع الاجتماعي-الديني-السياسي وحتى الاقتصادي للجاليات الإسلامية خاصة، أظهر تناقضا فاضحا مع الفلسفة العلمانية الديمقراطية المنفتحة. التظاهر بالدين في المجتمع الغربي من حيث اللباس المسمى تدجيلا باللباس الإسلامي! وخاصة حجاب المرأة وحجاب دورها في المجتمع، وممارسة الطقوس علانية والمطالبة بالمزيد من الامتيازات الخاصة بالدين كالمدارس الخاصة والحصول على إجازات خاصة في الأعياد الدينية… يولد صدمة حضارية للشعوب التي تستضيف هؤلاء المهاجرين. ليس من المعقول أن نفرض، على المجتمع الذي قدّم لنا جنسية جديدة في دولة ديمقراطية مع كل الحقوق التي لا نحلم بها في بلادنا العربية، العودة إلى الوراء بإقحام الدين بالسياسة والمجتمع دون أي اعتبار لقيم الحداثة التي تسيّر المجتمع الغربي، من ضمنها عدم وضع الدين كمرجع أولي وأساسي للحياة العامة في المجتمع والمساواة بين الرجل والمرأة. رغم أننا على بينة واضحة بأن إقحام الدين في كل المجالات في وطننا العربي وغيره من المجتمعات القديمة أدى إلى مزيد من التخلف السياسي والاجتماعي والثقافي وحتى الديني. وأدى إلى مزيد من التطرف الذي أضرّ ضررا هائلا ببلادنا العربية وبكل الجاليات العربية باختلاف انتماآتها الدينية في الدول الغربية.

التبشير الديني، لكافة الأديان، في الدول الغربية ، أخذ بالنسبة إلى سكانه مكانة ثانوية هناك تسامح لوجود أي دين جديد شرط ألا يكون إكراها للناس. لكن هناك حساسية سلبية بالنسبة للمبشر المتزمت، خاصة إن كان قادما من مجتمعات متخلفة لا مجال فيها للنقاش والرأي المخالف، والذي يظن أنه يملك الحقائق المطلقة وأن من واجبه فرضها على الآخرين. في عصر نرى فيه الحقائق نسبية حتى في المجال العلمي. العقل الحديث عقل تجريبي يبني “حقائقه” تبعا للعقل وللاكتشافات العلمية والتفكير الرصين بعيدا عن التحجّر العقائدي، تاركا مجال الإيمان الديني الغيبي أو عدم الإيمان لاختيار الفرد.

محاولة وضع الجاليات العربية الإسلامية في العالم تحت وصاية رجال الدين والحركات الاسلامية كحركة الإخوان المسلمين وغيرهم لن تؤدي إلاّ إلى تخلف هذه الجاليات في العيش السليم في دول ديمقراطية متقدمة وإلى تقوقعها بعيدا عن الحداثة والعيش في عالم من المعتقدات التي “قولبها” لهم دعاتها. دعاة الدين المرسلين من الحركات الوهابية خاصة الى المراكز الدينية في الغرب، يشوهون عقول المهاجرين وخاصة الاطفال والشباب منهم لرفض قيم الحضارة التي يعيشون فيها وتكفير سلوكيات غير المؤمنين وإدخال أسطورة التفوق الاخلاقي للمسلم في مجتمعات غير مسلمة. هذا التعالي والتقوقع يضعهم في موضع الشبهات لعدم تأقلمهم وعدم مساهمتهم الفعالة في المجتمع الجديد ويولّد ريبة عند الغربيين في إخلاص هذه الجاليات لأوطانهم الجديدة. أموال البترول التي يوزع قسم منها لنشر الدين وتشجيع الحركات الاسلامية وحتى الإرهابية منها تجعل من الشبهات يقينا عند المواطن العادي الذي يرى بلده يعود إلى صراعات قديمة ومنسية بسبب انفتاحه على المهاجرين الجدد. مع العلم أن العقيدة لا تنشر لا بالمال ولا بالدعاية المغرضة ولا بالإرهاب، خاصة في دول علمانية وضعت الدين في المجال الخاص وحيث القانون هو صاحب السيادة.

الرهان على أن الفراغ الديني في الغرب سوف يسهل دخول الاسلام اليه ليأخذ مكان المسيحية فيه، وأن “النصر في الاخير هو للإسلام ” رهان سيؤدي إلى عكس ذلك، لأن المجتمع الغربي أخذ منعطفا إنسانيا ملخصا في ميثاق حقوق الإنسان. لقد أنزل الغرب مكانة االدين كقيمة مطلقة ، إلى مكانة نسبية. الدين له مكانته في هذا المجتمع الغربي مع بقية المعتقدات وبقية الانشطة البشرية من علمية وتكنولوجية وثقافية وفلسفية وفنية … في أجواء من التسامح والتعايش المشترك. لم يعد هناك قبول شامل للغربيين لدين يطغي على كل شيء

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى