مقارنة المقاربات النقدية للأمن

تقاسم العديد من الخبراء والبحاثة المختصين في الدراسات الأمنية طيلة عقود من الزمن قناعة راسخة مفادها أن مصطلح الأمن يعتبر أحد الألغاز الغامضة في تخصص العلاقات الدولية. وقد قادت هذه القناعة علماء آخرين للمجادلة بشكل انفعالي بأنه “ليس هناك مفهوم آخر في العلاقات الدولية أكثر ميتافيزيقية من الأمن”.

وهذه الصعوبة في تعريف الأمن جعلته مرشحًا لمرتبة ما دعته “والتر غالي” بــ”مفهوم متنازع عليه جوهريًا”، ومثل جميع المفاهيم المتنازع عليها جوهريًا، كالقوة والحق والعدالة …الخ، لا يتوفر الأمن على قاعدة تصورية مشتركة يستند عليها الباحثون في بناء الأبعاد الدلالية للمفهوم.

هذا وتعتبر فكرة صعوبة تعريف الأمن، وقناعة الخبراء فيه بعدم جدوى المحاولة، من أهم أسباب صمود المفاهيم التقليدية للأمن (المدولنة والمعسكرة)، فقد أدت هذه الفكرة إلى قبول المفاهيم المتداولة للأمن كبديهيات، كما جعلت الأمن أحد المصطلحات الملغمة التي يخشى الباحثون الاقتراب منها.

ولكن مع وصول نظريات أمنية جديدة وتطور البحوث والدراسات التي تتناول الشؤون الأمنية، لم تعد الصعوبة المزعومة في تعريف الأمن مبررًا لعدم القيام بالمحاولة.

كما لم يعد الجدل امتدادا للتساؤلات التي طرحت حتى قبل نهاية الحرب الباردة حول المفهوم التقليدي للأمن والمرتكز على أمن الدولة القومية باعتبارها الفاعل الرئيسي والوحيد المؤثر في الساحة العالمية ، فقد برزت المنظمات الحكومية وغير الحكومية والجماعات المسلحة ، والتي بدأت تتموضع بشكل بارز في العلاقات الدولية وأضحت تهدد حتى الدولة القومية، ومن جهة ثانية لم يعد مصدر تهديد أمن الدول ينبع من خارج الحدود فقط بل برزت تهديدات داخلية لا تستطيع الأداة العسكرية التعامل معها في كثير من الأحيان .

ولا شك في أن جميع تعريفات الأمن تتلخص في بعض التعديل والتغيير في كلمات عبارة “عدم وجود تهديد”. وتمكن رؤية ذلك في قائمة من التعريفات لعدد من المؤلفين وردت في كتاب باري بوزان Barry Buzan المنشور عام 1991 “الناس والدول والخوف People, States and Fear”، وتشمل القائمة عبارات مثل: “التحرر النسبي من الخوف”، و”القدرة على مقاومة العدوان الخارجي”، و”التحرر النسبي من التهديدات الضارة”، و”وعدم وجود تهديدات لقيم مكتسبة”.

ولعل من أبرز ما كتب عن “الأمن” هو ما أوضحه “روبرت مكنمارا” وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، وأحد مفكري الإستراتيجية البارزين، في كتابه “جوهر الأمن”، حيث قال: “إن الأمن يعني التطور والتنمية، سواء منها الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية في ظل حماية مضمونة”. واستطرد قائلاً: “إن الأمن الحقيقي للدولة ينبع من معرفتها العميقة للمصادر التي تهدد مختلف قدراتها ومواجهتها؛ لإعطاء الفرصة لتنمية تلك القدرات تنمية حقيقية في كافة المجالات سواء في الحاضر أو المستقبل.

تأسيسًا على ما تقدم، نرى أن ثمة خلافا مريرا بين الخبراء حول نطاق “الأمن”، والواقع أن كثيرا من الأكاديميين الذين يصرخون أنهم من أتباع مدرسة “الدراسات الأمنية النقدية” يدللون على أن مفهوم الأمن “عرضة للنقاش بصورة جوهرية” والمضمون هنا هو أن ثمة شيئت يتعلق بجوهر الأمن يؤكد أنه لن يكون هناك إمكانية للوصول الى اتفاق حول معناه.

إلا أن الظاهر للباحثين والدارسين أيضا أن ثمة تغير واضح طرأ على هذا المفهوم الذي تعقّد بسبب التراكم التاريخي وتعقد الظاهرة الإنسانية، فيعتبر التحول في مفهوم الأمن نتيجة منطقية لتغير المشهد الدولي حيث تعددت الفواعل على الساحة العالمية كما تنوعت مصادر التهديد داخل وخارج الدولة فتزايدت الأصوات الداعية إلى إعادة تفسير الأمن، حتى أن الناقدين للواقعية باتوا يرون بأننا بحاجة إلى زيادة فهمنا للموضوع وتعميق هذا الفهم: زيادته، بحيث يشمل قضايا أمن البيئة والأمن المجتمعي والأمن الاقتصادي وتعميقه، بحيث ينقل النقطة المرجعية بعيدا عن الدولة القومية حتى ينزل بها إلى مستوى الفرد.

ما يجدر ذكره في هذا السياق، أن مفهوم الأمن يمر بمنعطفات جديدة، هذه المنعطفات إنما تأتي كتعبير واضح عن دخول لاعبين جدد في المشهد الدولي، إذ أن احتكار الدولة القومية بدور المؤثر في تشكيل معالم الوضع الدولي لم يعد قائمًا، وهذا ما أدى إلى دخول عناصر جديدة مهددة لأمن الدول غير ذلك الخطر المتمثل بالدول المماثلة. وبفعل العولمة أيضاً، فإن مفهوم الأمن يعيش توسيعاً، ويعد هذا من بين تحولات المشهد الأمني العالمي.

أما التحول الآخر في المجال الأمني، فهو تحول القوة، ذلك أن القوة لم تعد ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعامل العسكري، بل تعدته إلى التكنولوجيا، والتعليم، والنمو الاقتصادي… إلا أنه يبقى العامل العسكري الوسيلة النهائية لحماية الدول نفسها.

خلاصة لقول هو أنه بالرغم من إجماع العلماء النقديين على ضرورة تجاوز اعتبار الأمن كمفهوم غامض أو صعب التعريف، إلا أنهم ظلوا مؤمنين بصعوبة بناء حوار في النظرية الأمنية النقدية عبر اعتباره مفهومًا قابلًا للاشتقاق.

 

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button