...
قضايا فلسفية

مقالات فلسفية: اللغة و الفكر

يعتبر موضوع اللغة من المفاهيم الشائكة والمعقدة نظرا لما تطرحه من قضايا جدلية فهي ترتبط بدراسات نفسية من جهة ومن دراسات فيزيولوجية من جهة أخرى ، وعلى هذا النحو اختلف الفلاسفة في تعريف اللغة إذ كان فيلسوف يعرفها حسب مفهومه الخاص إلا أنهم اجمعوا على أن اللغة قد تكون رموز وإشارات قصد التفاهم وقد تكون ألفاظ منتظمة لها دلالات معينة ، ومن بين المواضيع المعقدة التي أثارت إهتمام الفلاسفة و علماء اللغة هي علاقة اللغة بالفكر وفي هذه النقطة كان محل جدال و خلاف بينهم فانقسموا إلى معارض و مؤيد للغة فمنهم من يرى أن العلاقة بينهما هي علاقة إنفصال و منهم من يرى أنها علاقة إنفصال و الإشكال الذي نطرحه هنا:ماهي العلاقة بين اللغة و الفكر؟ هل هي علاقة إتصال أم إنفصال؟.
التحليل:
الموقف الأول: العلاقة بين اللغة و الفكر علاقة إنفصال “الإتجاه الثنائي”
يرى أنصار الإتجاه الثنائي أن العلاقة بين اللغة و الفكر علاقة أنفصال ذلك أن هناك تمايز واضح بين الفكر واللغة ومنه يقرون بأسبقية الفكر عن اللغة لأن الإنسان يفكر بعقله قبل أن يعبر بلسانه ومن أنصار هذا الإتجاه نجد الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون، ديكارت،فاليري.
حيث يرى الفيسلوف الفرنسي ذو النزعة الحدسية هنري برغسون أن علاقة اللغة بالفكر هي علاقة انفصال و تمايز و أن الفكر أسبق من الناحية الزمنية عن اللغة، فأنا أفكر ثم أتكلم حيث يقول:” اللغة عاجزة عن مسايرة ديمومة الفكر”. و دليله على ذلك أنه لا يوجد تناسب بين ما نملكه من أفكار و ما لدينا من ألفاظ و الذي يوحي بذلك هو توقف المتكلم أو الكاتب طويلا باحثا عن اللفظ المناسب الذي يؤدي المعنى، بالإضافة إلى أن الألفاظ ثابتة و محدودة و منفصلة بعضها عن بعض في حين أن الأفكار متصلة و دائمة فهي ديمومة مستمرة لا تعرف الانقطاع فيمكنني أن أتوقف عن الكلام في حين لا أستطيع التوقف عن التفكير. قال برغسون:” نحن نفشل عن التعبير بصفة كاملة عما تشعر به روحنا لذلك الفكر يبقى أوسع من اللغة” وقال أيضا:” إننا نملك أفكارا أكثر مما نملك اصواتا”.
وهذا ما يؤكده مواطنه الفيلسوف الفرنسي ديكارت من اعتبار الفكر جوهرا لا ماديا هو مبدأ كل وجود، و لهذا فهو سابق على اللغة التي تعتبر من طبيعة مادية، و لهذا يعتبر ديكارت أننا في حاجة إلى أداة لإخراج الفكر إلى حيز الوجود و جعله مدركا من قبل الآخرين، و هـذه الأداة هي اللغة ولا يوجد تناسب بين القـــدرة على الفهم و التمثل و القدرة على التعبير. و هذا ما يؤكد أسبقية الفكر على اللغة و انفصاله عنها.
وهذا ما يذهب إليه أيضا فاليري في أن اللغة عاجزة عن التعبير عن حالاتنا النفسية، لأن الأصل الإجتماعي للغة وطابعها الأداتي يوجهها للتعبير عن عما هوعام مشترك موضوعي لا ما هو خاص وفردي وحميمي، فرغم أن كل واحد منا يحب ويكره.. إلاّ أننا نختلف في الحب و الكراهية. إذن فاللغة محدودة حيث نجده يقول:” إن أجمــــل الأفكار هي تلك التي لا نستطيع التعبير عنها” ولهذ ا تمّ ابتكار وسائل تعبير بديلة عن اللغة كالرسم والموسيقى،…..

النقد:
لقد بالغ أنصار الإتجاه الثنائي في نفيهم لوجود علاقة بين اللغة و الفكر فعلى الرغم من أن الإنسان أحيانا يتوقف بل يعجز عن التعبير عما يريد لكن هذا لا يعني استقلالية الفكر عن اللغة كما ذهب إليه بعض الحدسيين ولا تثبته للواقع إذن كيف يمكن أن تمثل في الذهن تصورات لا اسم لها؟وكيف تتمايز الأفكار فيما بينها لولا إدراجها في قوالب لغوية،أضف إلى هذا أنه لا يمكن إنكار الدور الفعال للغة في الحفاظ على الفكر من الضياع.

الموقف الثاني: العلاقة بين اللغة و الفكر علاقة إتصال “الإتجاه الأحادي”
يذهب انصار الاتجاه الأحدي إلى أنه لا و جود لفكر دون لغة. فهما مترابطان ومتلازمان أي أن العلاقة بينهما علاقة اتصال ومن أنصار هذا الإتجاه نجد العديد من الفلاسفة و علماء اللغة ومنهم دي سوسير، ميرلوبنتي، هاميلتون، هيغل، وأخرون…..
حيث يرى عالم اللسانيات السوسري فرناند دي سوسير أن العـلاقة بين اللغة و الفكر هي علاقة تلاحم و تداخل و يشبه هذه العلاقة بورقة العملة النقدية، بحيث لا يمكن تمزيق الوجه الأول دون أن يتمزق الوجه الثاني ليس الفكر والكلام موضوعين منفصلين، ذلك أن كل منهما محتوى في الآخر، فالعلاقة بينهما هي علاقة وثيقة بحيث لا يمكن الحديث عن أسبقية أحدهما عن الآخر، فهما ينبثقان في آن واحد.
وهذا ما يذهب إليه الفيلسوف الفرنسي مرلوبوتي الذي يرى أن علاقة اللغة و الفكر علاقة إتصال، فلا وجود لفكر قبل اللغة، إنهما متزامنان ففي الوقت الذي يصنع فيه الفكر اللغة فإن اللغة تحتوي معاني ذلك الفكر و ينتقد الموقف الديكارتي الذي يفصل الفكر عن اللغة، فاللغة في نظره لا يمكن أن تكون أداة للتعبير عن الفكر و ما يدل على ذلك هو أن التفكير في صمت هو في الواقع ضجيج من الكلمات، فالتفكير الداخلي هو لغة داخلية يقول:” إن الفكر لا يوجد خارج العالم وبمعزل عن الكلمات… ن الأفكار التي عبرنا عنها من قبل هي التي نستدعيها”.
و الرأي نفسه نجده عند الفيلسوف الانجليزي هاملتون الذي يؤكد على العلاقة الوطيدة بين اللغة و الفكر حيث يقول : أن المعاني شبيهة بشرار النار لا تومض إلا لتغيب ولا يمكن إظهارها وتثبيتها إلا بالألفاظ ” فاللغة هي الوعاء الذي تصب فيه الأفكا ر وعليه فهناك وحدة عضوية بين اللغة و الفكر حيث يقول أيضا : “فالألفاظ حصون المعاني”.
وهذا ما يؤكده أيضا الفيلسوف الألماني هيغل الذي يرى أن الإنسان يفكر داخل اللغة لا خارجها وأن فعل التفكير لا يتحقق في استقلال عن فعل الكلام أو تركيب الجمل. ويستدل على ذلك بقوله إن الفكرة لا تكتسب وجودها الفعلي إلا عندما تصاغ صياغة لغوية. إن الصياغة اللغوية هي ما يجعل الفكرة تتحقق بالفعل، وبذلك نتمكن من الوعي بها،حيث يقول”إننا نفكر داخل كلمات” ويقول أيضا:” اللغة تعطي الفكر وجوده الأسمى”
وهذا أيضا ما يؤكده علم النفس أن الطفل يتعلم الفكر عن طريق اللغة ويتعلمهما في آن واحد فالطفل يولد صفحة بيضاء خاليا تماما من أي أفكار ، ويبدأ في اكتسابها بالموازاة مع تعلمه اللغة ، أي أنه يتعلم التفكير في نفس الوقت الذي يتعلم فيه اللغة . وعندما يصل الفرد إلى مرحلة النضج العقلي فإنه يفكر باللغة التي يتقنها ، فالأفكار لا ترد إلى الذهن مجردة ، بل مغلفة باللغة التي نعرفها .
النقد:
لقد بالغ أنصار الإتجاه الأحادي في تأكيدهم للمطابقة بين اللغة والفكر، لأن السؤال الذي يطرح نفسه إلى أي حد تصح هذه المطابقة؟ ثم كيف نطابق بينهما ولكل منا تجربة شخصية تعلمه أن الفكرة أحيانا تحضر أولا ونتأخر أو نفشل في إيجاد التعبير الملائم عنها؟ فالإنسان في الكثير من الأحيان يعجز عن التعبير عما يدور في خاطره خصوصا الأفكار المتعلقة بالجانب العاطفي.

التركيب:
إن العلاقة بين اللغة والفكر هي علاقة تداخل فاللغة هي الوسيلة الأساسية لنقل أفكارنا إلى غيرنا ولولاها لضاع تراث البشرية والأفكار لا تتضح إلا باللغة فهي تصنع الفكر في الوقت الذي يصنعها الفكر كما قال دولاكروا : إن الفكر يصنع اللغة وهي تصنعه”
وحسب رأيي الشخصي فإنني أرفض القول بوجود فكر مستقل عن اللغة أي لا يمكن فصل الفكر عن اللغة ، كما نرفض المطابقة بينهما أي لا يمكن اعتبارهما شيئا واحدا.و لذلك فالعلاقة بين اللغة و الفكر هي علاقة تبادلية أي علاقة تأثير و تأثر، فاللغة تؤثر في الفكر و تتأثر به، فاللغة تزود الفكر بأطر التفكير من خلال المفاهيم و العلاقات و الفكر يساعد اللغة على التجديد.
الخاتمة:
إذا كانت اللغة تعبر حقا إلا على القليل من مضمون الفكر فلا ينبغي رفضها لأن الفكر بأوسع معانيه بحاجة إليها فهي بالنسبة إليه أداة توضح وتنظم ، فالعجز الذي يصيب اللغة لا يجب أن يوحي برفضها كوسيلة للتواصل ، إن التخلي عنها يعني إنكار الفكر ومنه نستنتج أن كلا منهما مكمل للأخر فلا يمكن إنكار دور الفكر الذي يميز الإنسان عن الحيوان و لا يمكن إنكار اللغة التي تحفظ الفكر من الضياع .

العلاقة بين اللغة والفكر

اللُّغة هي وسيلة للتعبير والتبليغ، وهي عبارة عن نسقٍ من الإشارات التي يمكن أن تستعمل للتواصل، ولا شكَّ أنَّ العامل الأساسي في نشأة اللُّغة الإنسانيَّة يرجع إلى المجتمع نفسِه وإلى الحياة الاجتماعية؛ فلولا اجتماع الأفراد فيما بينهم وحاجتهم للتفاهم والتواصُل والتعبير عمَّا يجول بخواطرهم ما وُجدَت لغة، فهي ظاهرةٌ اجتماعيَّة تَنشأ كما يَنشأ غيرها من الظَّواهر الاجتماعيَّة، فتنشأ بصورة طبيعية تلقائيَّة، تنبعث عن الحياة الجماعيَّة وما تقتضيه من شؤون.

إلاَّ أنَّ هناك سؤالاً يطرح نفسَه باستمرار: ما هو أصل اللغة؟ وكيف وُضعَت الكلمات؟ وما هي العلاقة بين الكلمة والشيء أو المعنى الذي تدل عليه؟[1]

إن َّالإجابة على هذه الأسئلة يَجعلنا نفكِّر في علاقة الكلمة وما تدلُّ عليه، وبمعنًى أوضح علاقة اللُّغة بالفِكر: “اللغة والفِكر وجهانِ لعملةٍ واحدة، فلا بدَّ للفكر من لغة يعبِّر بها الإنسان عن أفكاره ورغباته، ولا بد للُّغة من فكرٍ حتى يطوِّرها ويَسمو بها”[2].

إنَّ الله سبحانه وتعالى منح الإنسان عقلاً يفكِّر به، ولسانًا يعبِّر به؛ لهذا ما يزال موضوع الفِكر واللغة وتحديد الرَّوابط بينهما من أشدِّ المباحث تعقيدًا، وقد شغل هذا الموضوع الباحثين على اختلاف فنونِهم وعلومهم؛ إذ لم تقتَصر دراسةُ العلاقة بين اللُّغة والفِكر على العلوم الحياتيَّة؛ بل امتدَّت لتشمل العلومَ الاجتماعيَّة وفي مقدِّمتها علم النفس والفلسفة وعلم الاجتماع،وقد تنازع البحثَ فيها اللغويُّون والفلاسفة، كلٌّ يحاول تحديدَ العلاقة التي تربط بين اللغة والفكر؛ فاللغة هي الوسيلة التي يعبِّر بها الإنسان عن أفكاره وما يلِج بداخله، وهي أيضًا وسيلة للتفاهم والتواصل بين الأفراد، فاللُّغة تعبِّر عن الفِكر، وبما أنَّ الفكر في تغيُّر مستمرٍّ نتيجة العوامل والتغيُّرات الخارجيَّة والتطورات العلميَّة، فلا بدَّ للغة أن تساير هذا الفِكرَ بكلِّ تغيُّراته وتطوراته؛ لهذا فعلاقة اللُّغة بالفِكر هي علاقة وطيدة، يقول العالِم دولا كروا: “إنَّ الفِكر يصنع اللُّغة في نفس الوقت الذي يُصنَع فيه من طرف اللغة”[3]، فاللُّغة هي التي تعبِّر عن الفِكر؛ لذا فالبحث في هذا الجانب من جوانب الدَّرس اللُّغوي لا بدَّ أن يكون بحثًا لغويًّا فلسفيًّا.

لهذا نشير أنَّ البحث في هذه المسألة يَقتضي التعرُّف على بعض مناهِج عِلم النَّفس؛ إذ يَلعب هذا العلم دورًا هامًّا في الكَشف عن حقيقة العلاقة بين اللُّغة والفِكر؛ لأنَّ الفِكر يتَّصل اتصالاً وثيقًا بعمليات شعوريَّة وعقليَّة تتم داخل عقل الإنسان الواعي واللاواعي أيضًا؛ ومن ثمَّ فإنَّ علم النَّفس يساعد على الكَشف عن طبيعة هذه العلاقة[4]، ولقد كانت هناك محاولات عمليَّة متعدِّدة على مرِّ العصور تعرض لهذه المشكلة، وخاصَّة أثناء البحث في اللُّغة ونشأتها أو في الفلسفة بشكلٍ عامٍّ، وقد بدأتْ تلك المحاولات عند اليونان مرورًا بالعرَب والأوروبيين إلى العصر الحديث الذي أضاف باكتشافاته العلميَّة في ميادين عِلم اللُّغة وعلم النَّفس والفلسفة ونحوها – أدوات ساعدَت إلى حدٍّ كبير على تحديد هذه العلاقة.

إنَّ تصور العلاقة بين اللُّغة والفِكر في الدراسات اللغويَّة المعاصِرة أصبح أكثر تعقيدًا بسبب تطوُّر الدراسات في علم اللغة؛ حيث إنَّ هذه الدِّراسات المعاصرة تتَّصل بميادين أخرى، منها: الميدان النفسي، والميدان الروحي، والميدان الاجتماعي، هذا التداخل بين علم اللُّغة وعِلم النَّفس أدَّى إلى ظهور ما يُعرف بـعلم اللُّغة النَّفسي؛ لأنَّ اللُّغة مظهر من مظاهِر السلوك الإنسانيِّ، هذا الأخير الذي يُعتبر مبحثًا من مباحث عِلم النَّفس، وهو من المباحث التي يَرتبط فيها علمُ اللُّغة وعلم النفس.

ومهما يكن من أمرٍ، فإنَّ الدراسات اللغويَّة المعاصرة قدَّمَت آراء مختلفة ونظريات عدَّة توضح العلاقةَ بين اللغة والفِكر، ويمكن القول: إنَّ خلاصة تلك النظريَّات والآراء تكمن في نظريَّتين رئيستين، هما:

النظرية الأولى: نظرية استقلال الفِكر عن اللُّغة استقلالاً غير نسبي، مع وجود التأثير المتبادل بينهما.

النظرية الثانية: نظرية العزل، ومضمون هذه النظريَّة هو الإقرار بأنَّ اللُّغة معزولة عن الفِكر، فأصحاب نظريَّة العزل يجرِّدون التفكير من جميع ارتباطاته الحسيَّة الماديَّة باللُّغة، وينظرون إلى كلٍّ منهما بمعزل تامٍّ عن الآخر[5].

وعلى الرغم من كلِّ هذه النظريَّات والمحاولات، فقد ظلَّت العلاقة بين اللُّغة والفِكر من الأمور التي لم يستقر على تحديدها الباحثون بعد، ولم يتَّفقوا على رأيٍ قاطع فيها، ولعلَّ لطبيعة تلك المشكلة من حيث هي مشكلة فلسفيَّة أكثر منها مشكلة لغويَّة دخلاً كبيرًا[6].

والخلاف القائم ليس في مدى ارتباط اللُّغة بالفِكر، فهذه قضيَّة يبدو أنَّ هناك قدرًا من الاتفاق عليها؛ وإنَّما الخلاف في أسبقيَّة وجود كلٍّ منهما على الآخر، هل الفِكر وُجد قبل اللغة؟ أم اللُّغة قبل الفِكر؟ هل الفِكر خالق اللُّغة وموجِدها؟ أم أنَّ اللغة هي التي تَصنع الفِكرَ وتكوِّنه؟

هذا الخلاف في الواقع خلافٌ طويل، ويكاد يكون الخوض فيه عملاً قليل الجدوى، ضعيف النتائج، ولكن على أيَّة حال، فالعلاقة بين اللُّغة والفِكر هي علاقة قائمة على الاتِّحاد بينهما، كلٌّ منهما يتأثَّر بالآخر ويؤثِّر فيه؛ فالفِكر إذَا تغيَّر أو تطوَّر تغيَّرَت معاني الكلمات وتطوَّرَت هي الأخرى، وكذلك اللُّغة فهي لم تَقتصر على كونها معبِّرة عن الفِكر، بل كانت كذلك أداة نموِّه وارتقائه أو كما قال إدوارد سابير: “إنَّ نموَّ وتطور اللغة يعتمد إلى حدٍّ كبير على نمو وتطور الفكر”[7].

هذا عن علاقة اللُّغة بالفِكر، أمَّا إذا أردنا معرفة أصل اللُّغة وكيف نشأَت، فهي كذلك من الأمور التي ما زالت غامِضة، ولكي نَكشف هذا الغموض علينا أن نَرجع إلى العهود القديمة التي لا نعلم عنها شيئًا يقينًا، والعِلم لا يأخذ بالغيبيَّات أو الحدس، إلاَّ إذا كانت افتراضات قيد البرهان[8].

ولكن أصل الإنسان ونشأة لغته أمرٌ يثير الخيال، وأصل اللُّغة ليست قضيَّة لغوية بحتة، ولا تدخل في نطاق عِلم اللُّغة، بل في نطاق البسيكولوجيا والأنتروبولوجيا والفلسفة.

ومعرفة أصل اللُّغة من أقدم المشاكل الفكريَّة التي جابهَت عقل الإنسان، وليس من السَّهل اليسير البحث فيها؛ ذلك أنَّ اللُّغة أداة مركَّبة معقَّدة، فهي ذات جوانب كثيرة، وتتألَّف من عناصر متعدِّدة، وتأخذ خلال الزَّمن أشكالاً مختلفة تتنوَّع وتتعدَّد بتنوُّع وتعدُّد البيئات والمجتمعات.

ونجد أنَّ العرب انقسموا إلى قِسمين إزاء هذه المشكلة – أصل اللغة – فقالت جماعة: إنَّ اللغة توقيفيَّة في عهد آدم عليه السلام؛ أي: إنَّ الله علَّمها الإنسان، ويمثِّل هذه النظريَّة ابن فارس المتوفي عام 395 هـ؛ إذ يقول: “إنَّ لغة العرب توقيف، ودليل ذلك قولُه عز وجل: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة: 31 – 33].

وقالت جماعة: إنَّها “اصطلاحيَّة توافقيَّة اجتماعية” في العهود التالية؛ لأنَّ الحياة تتطوَّر وتتغيَّر، ولا بدَّ لهذا التغيُّر من مسايرَة اللُّغة لكي تعبِّر عن متطلبات أهلها، يقول ابن جني: “وذلك بأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعدًا، فيحتاجوا إلى الإبانة عن الأشياء والمعلومات، فيضعوا لكلِّ واحدة منها سِمَة ولفظًا إذا ذُكر عرف به مسمَّاه؛ ليمتاز عن غيره، ويغني بذكره عن إحضاره لبلوغ الغرض في إبانة حاله”[9].

ولكن الملاحظ أنَّ كلَّ الآراء التي كانت تدور حول أصل اللُّغة كانت تدور في حلقة مفرغة، فكثر القولُ فيها إلى حدٍّ جعل علماءَ اللُّغة المحدَثين قد فصلوا مسألةَ البحث في أصل اللُّغة وألفاظها ونشأتها الأولى عن مباحث عِلم اللغة، واعتبروا البحثَ فيها كسائر المباحث التي هدفها مَعرفة بداية الحياة الإنسانيَّة والاجتماعيَّة التي ارتبط البحثُ فيها بنطاق الفلسفة أكثر من أن يكون من اختصاص العلم، أضِف إلى ذلك قلَّة جدوى هذا البحث، وقد كان هذا الموقف نفسه موقف كثيرٍ من علماء السلَف في تاريخنا العربي، فقد قال ابن السبكي: “الصحيح عندي أن لا فائدة لهذه المسألة”[10].

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى