منظورات التحليل الإستراتيجي

مقياس:  منظورات التحليل الإستراتيجي

تخصص: دراسات إستراتيجية وأمنية – سنة أولى ماستر

 

منظور الثقافة الإستراتيجية

    الثقافة بصفة عامة ظاهرة ملازمة لعالم الاجتماع، تعمل كمتغير مستقل وتابع في نفس الوقت، من حيث أن الإنسان يصنعها وتؤثر في إدراكاته وسلوكياته بشكل متزامن؛ على افتراض أن البشر في كل الوضعيات يفكرون ويتصرفون ككائنات ثقافية. وطالما أنهم كذلك، فإنه لا يمكن فهم طريقة البشر في التفكير، مضمون الإدراكات التي يحملونها إزاء أنفسهم والآخرين، وتوقع الخيارات السلوكية التي سوف يتبنونها إزاء البيئة المحيطة بهم؛ إلا عن طريق فهم الثقافة التي يحملونها عبر عمليات التنشئة الاجتماعية، الاتصال، التعليم والمحاكات السلوكية. إن الثقافة في النهاية المطاف هي طريقة سلوكية وأسلوب حياة تعطي معنى للوجود الإنساني، وتوفر مرجعية لتوجيه وتقييم السلوك، وحتى تأكيد الذات الاجتماعية للفرد والمجتمع على حد سواء؛ بحيث أنها تمثل مصدر إشباع لحاجات لا نستطيع تحديدها بدقة لكننا نشعر بها ونسعى وراءها، وفي أحيان أخرى نضحي بالكثير من الأشياء المادية من أجلها.

    اتّخذت المعاني الثقافية السابقة كأرضية نظرية لبلورة مفهوم جديد في حقل علم الإستراتيجية، من قبل جاك سنايدر أطلق عليه اسم “الثقافة الإستراتيجية”، لتفسير الجوانب المهملة من قبل النظرية التقليدية في تفسير السلوك الإستراتيجي للدول خلال الحرب الباردة، واتخذ من الاتحاد السوفياتي كحالة للتحليل. يقضي الافتراض العام الذي بني عليه هذا الاتجاه الجديد في التحليل الإستراتيجي بأن الثقافة الإستراتيجية للدولة هي المتحكمة في توجيه سلوكياتها وطريقة ترتيب أولوياتها في عملية صناعة القرار، وتوفر البنية المعيارية في تصنيف الفواعل الأخرى وتشخيص مصالحها الإستراتيجية.

   وإذا كان لسنايدر فضل يجب أن يذكر، فإنه وضع الأساس الأول لانطلاق اتجاه جديد في التفكير الإستراتيجي، يركز على العلاقة المحتملة بين العناصر الثقافية (الأفكار، الاتجاهات، والاعتقادات..) والشؤون الإستراتيجية؛ خاصة في ما يتعلق بدوافع شن الحرب، طريقة استخدام الأسلحة، وبناء السلم في العلاقات الدولية. اتخذ أنصار النظرية التكوينية من هذه الأرضية قاعدة لبيان الدور الكبير للثقافة في تحليل وفهم الشؤون الأمنية المركبة، من خلال افتراض أن التحليل المتكامل للشؤون الإستراتيجية والأمنية لا يستوفي شروطه ما لم يأخذ في الحسبان العناصر الثقافية إلى جانب العناصر المادية في تفسير سلوك الجماعات والدول إزاء القضايا الدولية.

    بناءً على الأهمية التي تتمتع بها الثقافة الإستراتيجية في فهم وتفسير الشؤون الأمنية والإستراتيجية في العالم المعاصر، قمنا بتقسيم هذا الكتاب إلى ستة فصول، تضمّن الفصل الأول الجانب المفاهيمي الخاص بالثقافة الإستراتيجية والمصطلحات ذات العلاقة التحليلية بها؛ تناول الفصل الثاني تطور الفكر في الثقافة الإستراتيجية عبر الأجيال الثلاثة والحوارات الإستراتيجية بينها؛ عالج الفصل الثالث الجوانب النظرية في تحليل الثقافة الإستراتيجية؛ في حين تناول الفصل الرابع المسائل المنهجية في تحليل موضوعات الثقافة الإستراتيجية؛ تم تخصيص الفصل الخامس لتفسير طريقة القتال كأحد الموضوعات الرئيسية في تحليل الثقافة الإستراتيجية للدول؛ وأخيرا عالج الفصل السادس بعض حالات الثقافة الإستراتيجية عبر العالم، لتقديم نماذج توضيحية حول أهمية الثقافة الإستراتيجية كأحد مجالات البحث في علم الإستراتيجية المساهمة في تطور هذا الحقل.

تعريف الثقافة الإستراتيجية

    عند استقراء تراث الثقافة الإستراتيجية، نجد أن هناك آراء كثيرة حول تحديد مضمون هذا المصطلح، البعض منها متقارب والآخر متباين بشكل شديد، إلى درجة أن المنظّر الواحد اقترح أكثر من تعريف؛ لكن في كل الأحوال الغاية النهائية من كل التعاريف مفيدة من الناحية النظرية والمنهجية، لأنها ساهمت في إبراز أهمية موضوع الثقافة الإستراتيجية كأحد أجندة البحوث الأكاديمية والدراسات الإستراتيجية الحديثة، ولهذا السبب سوف نعرض الكثير من هذه التعاريف المقترحة. في هذا الصدد، عرّف روبرت باثيرستRobert Bathurst  الثقافة الإستراتيجية بأنها: “تلك الأنماط البارزة للسلوك الإستراتيجي الذي يؤشر على الطرق الاجتماعية في رؤية والاستجابة للواقع”. ويرى دنيس كافنافDennis Kavanagh  أن الثقافة الإستراتيجية هي: “ثقافة سياسية في الأصل كتعبير مختصر في إعطاء البيئة العاطفية والاتجاهية ضمن النظام السياسي لجماعة الدفاع [معنى ذي قيمة إستراتيجية]”.

    وهناك من يرى أن الثقافة الإستراتيجية تتضمن: “الاعتقادات، القرارات، المعايير، وقيم صناع القرار الرئيسيين وقادة الدول .. تؤثر الثقافة على الأفراد، والقادة فرادى الذين يصنعون السياسة”؛ أو هي: “الاعتقادات الفلسفية، الافتراضات والبديهيات التي تصنع من قبل فاعل ينظر إلى عالم السياسة والنزاعات السياسية”.

    تعرّف وكالة خفض التهديد الأمريكية الثقافة الإستراتيجية بأنها: “مجموعة من الاعتقادات، الافتراضات، ونماذج السلوك المشتركة، المشتقة من التجارب المشتركة والتراث المقبول (الشفهي والمكتوب)، التي تشكل الهوية الجماعية والعلاقة بالجماعات الأخرى، والتي تحدد الأهداف المناسبة والأدوات من أجل إنجاز الأهداف الأمنية”.

اتجاهات التفكير في تحليل الثقافة الإستراتيجية

    بدأت البحوث في تحليل الثقافة الإستراتيجية من خلال طرح التساؤلات حول العلاقة بين الثقافة والسلوك الإستراتيجي للدول في التعامل مع بعضها البعض على المستوى الدولي، أو في التعاطي مع التحديات الأمنية الداخلية والمقاربات المناسبة لتثبيت الاستقرار الأمني والمحافظة على تماسك المجتمع؛ وذلك بناءً على افتراض عام أن كل سلوك إستراتيجي له امتداداته الغائرة في التاريخ الإستراتيجي، وبالتالي تظهر حاجة الباحثين في الشؤون الإستراتيجية والعسكرية بحاجة لعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا من أجل تطوير إطار نظري حول الخلفية التاريخية للسلوك الإستراتيجي. لا يتناول البحث في الثقافة الإستراتيجية فقط الجذور التاريخية للسلوك، وإنما أيضا تحليل الثقافة كسياق لتطور الأفكار الإستراتيجية، وفي نفس الوقت كبعد لرسم وتنفيذ وتقييم الإستراتيجية.

    وإذا أردنا تصنيف مجالات البحث في الثقافة الإستراتيجية، فإنه يمكن تقسيمها إلى مجموعة من الاتجاهات الرئيسية: 1)الاتجاه الأنثربولوجي وعلم الاجتماع الثقافي، الذي يبحث في تطور الثقافة عبر الزمن من الحضارات القديمة إلى الدول الحديثة؛ ورصد حالات الاستمرارية والقطيعة، وتحديد جسور الترابط الثقافي وتأثيرها على السلوك الإستراتيجي الحالي. تندرج في هذا الصدد دراسة ابن خلدون الذي حلل خلالها ثقافات الأمم الغابرة قبل الميلاد مثل عاد وثمود والحضارة الفرعونية وعلاقتها بالسلوك القتالي في الأمم الحاضرة (تحليل العلاقة بين الرياسة والعصبية وديناميكية قيام الملك[1])، والدراسات الثقافية لعلماء الأنثروبولوجية وعلم الاجتماع التي تضمنت تحليل الأنماط الثقافية وتأثيرها على السلوك عبر الزمن[2].

    2) تحليل الثقافة كسياق لتطور الأفكار الإستراتيجية، المذاهب، فن العمليات والتكتيكات القتالية؛ وهي المحاولات التنظيرية التي وردت في أعمال كولن جراي ضمن ما أسماه بالإطار النظري “للنزعة السياقيةContextualization ” في التحليل الإستراتيجي.

    3)تحليل الثقافة كأحد أبعاد الإستراتيجية، وهي الأفكار التي ظهرت جزئيا في عمل مايكل هاورد Michael Haward عام 1979، وقام كولن جراي بإثرائها لاحقا في عمله المشهور “الإستراتيجية الحديثة Modern Strategy”.[3] 4)الاتجاه التكويني الذي ظهر حديثا في الدراسات الأمنية الدولية من قبل ألكسندر واندت Alexander Wendt[4] ومايكل وليامز Michael C. Williams، اللذان ركزا اهتمامهما على تحليل العلاقة بين الأفكار والهوية والسلوك الإستراتيجي والأمني. الحقيقة أن هذا الاتجاه نال اهتماما واسعا في الدراسات الإستراتيجية خلال فترة ما بعد نهاية الحرب الباردة، بسبب انتشار الحروب الأهلية والصراعات الإثنية وعمليات التطهير العرقي والطائفي وحتى الديني في عدد من الدول عبر العالم، والتي كانت محرّكة بواسطة الانقسامات العرقية والدينية والمذهبية والأزمات الاقتصادية والأمنية داخل المجتمع الواحد، في مقابل ضعف ملحوظ في قوة الدولة.

      5) الاتجاه الخامس الذي ساهم في تطوير دراسات الثقافة الإستراتيجية هو الذي ركز اهتمامه على تحليل العلاقة بين الإدراك الإستراتيجي والسلوك الفعلي لصناع القرار في الحكومة، وأحد المساهمين في تطوير هذا الاتجاه ستيفن كوفينجتن Stephen R. Covington. لكن من ناحية الامتداد المعرفي، يرجع الفضل في طرح مقاربة الإدراك في فهم وتفسير العلاقات الدولية إلى روبرت جيرفيز Robert Jervis، الذي حاول تفسير تأثير الإدراك وسوء الإدراك لصناع القرار على توجهات السياسة الخارجية للدولة، ونقل مجال الاهتمام والتحليل إلى البنية المعرفية/الإدراكية لصناع القرار؛ بناءً على افتراض عام أن الحرب أو السلم يصنعان في عقول صناع القرار قبل أن يتجسدا على البيئة الفيزيقية للعلاقات الدولية.

    6)يتمثل الاتجاه السادس الذي ساهم في إثراء وتطور الدراسات في موضوعات الثقافة الإستراتيجية -ولو بطريقة غير مباشرة- في تلك الأعمال الأكاديمية التي بحثت موضوع الثقافة السياسية وتأثيرها على سلوك الأفراد، الجماعات، والدول؛ سواء على المستوى الوطني أو الدولي. يقضي الافتراض العام الذي يقوم عليه تقدير أهمية الثقافة السياسية في توجيه السلوك بأنها تتضمن: “التعهد بقيم [معينة] مثل المبادئ الديمقراطية والمؤسسات، الأفكار حول الأخلاق واستخدام القوة، حقوق الأفراد أو الجماعات، والميول نحو دور الدولة في السياسة العالمية”. هناك الكثير من المنظّرين والباحثين الذين ركزوا اهتمامهم على بحث الثقافة السياسية من أجل فهم وتفسير سلوك الدولة في البيئة الداخلية والخارجية، يقودهم علماء الاجتماع من أمثال ماكس فيبرMax Weber ، تالكون بارسونز Talcott Parsons وآن سويلدرAnn Swidler ، قدّم هذا الأخير “نموذجا أكثر تعقيدا للترابطات بين الثقافة وسلوك الدولة، تتوسطها الإستراتيجيات الثقافية للفعل”. 

   الجيل الأول:  التأثير الثابت

    كل الاتجاهات المشار إليها آنفا في تحليل الثقافة الإستراتيجية قامت على الأرضية الأولى التي طرحت خلال أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين (الجيل الأول في تحليل الثقافة الإستراتيجية) في تحليل تأثير الثقافة على السلوك المجتمعي بصفة عامة، المصنفة تحت عنوان عام “دراسات الخاصية الوطنيةNational Character Studies “، التي عملت على تحليل وفهم العلاقة بين الثقافة وسلوك الدولة في النظام الإستراتيجي الدولي، أو بمعنى آخر تأثير الثقافة في رسم التوجهات العامة للسياسة الخارجية الأمنية والعسكرية للدولة؛ بناءً على افتراض أن لكل دولة هوية ثقافية، سياسية، دينية، إيديولوجية، ولغوية. ومن ثم، سوف تكون اللغة، الدين، التقاليد، التنشئة الاجتماعية، والذاكرة المشتركة، كمتغيرات مستقلة في تحليل الخاصيات الوطنية للدولة التي تشكل محتوى الثقافة الوطنية. إن السياق الإستراتيجي والسياسي الذي أجريت خلاله هذه الدراسات هو تهديدات الحرب العالمية الثانية واستمرار آثارها المأساوية في تقويض الأمن الدولي خلال خمسينيات القرن العشرين. إذ في هذا السياق، لا يمكن فهم السلوك الإستراتيجي لألمانيا في تلك الفترة بدون تحليل الإيديولوجية النازية وجذورها الفلسفية والثقافية في الفكر الاجتماعي الألماني؛ وكذلك لا يمكن فهم السلوك السوفياتي بدون فهم الإيديولوجية الشيوعية وجذورها في الفلسفة السياسية والفكرية خلال القرن التاسع عشر.

    استمر البحث حول دور الثقافة الإستراتيجية في توجيه سلوك الدول خلال فترة الحرب الباردة، خاصة فيما يتعلق بتحليل العلاقة بين الثقافة والإستراتيجية النووية. أحد المنظرين الذين تناولوا تفسير هذه العلاقة جاك سنايدر في نهاية سبعينات القرن العشرين عند تفسيره لدور النخبة في تصميم الإستراتيجية النووية الأمريكية والسوفياتية، ثم ظهر لاحقا أنصار النظرية النقدية الجديدة[5] خلال فترة تسعينيات القرن العشرين الذين ركزوا على نقد الثقافة الإستراتيجية التقليدية بسبب أنها مجرد تبرير لهيمنة القوى العظمى الليبرالية على النظام الدولي.

    تؤكد الكثير من الدراسات الإستراتيجية على أن البحث الجدي والمنظم في موضوع الثقافة الإستراتيجية، قد بدأ في النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين بقيادة جاك سنايدر Jack Snyder، وبالتالي يعتبر رائد الجيل الأول من الباحثين في تحليل الثقافة الإستراتيجية، بواسطة عمله المشهور حول “الثقافة الإستراتيجية السوفياتية: مضامين العمليات النووية المحدودةThe Soviet Culture : Implications for Limited Nuclear Operations “، الذي نشر عام 1977. قام جاك سنايدر في النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين من خلال عمله في مؤسسة راند -كمنظمة تفكير أمريكية-، بدراسة الثقافة الإستراتيجية السوفياتية من خلال دراسة الحالة لمذهب القتال النووي السوفياتي المحدود، بناءً على افتراض وجود علاقة محتملة بين الثقافة السوفياتية وميل القادة السوفيات نحو التهديد باستخدام الأسلحة النووية؛ وهذا يعني من ناحية أخرى، أن دوائر التفكير في الولايات المتحدة كانت تنظر آنذاك إلى إمكانية لجوء السوفيات للأسلحة النووية في نزاعهم مع الغرب كمسلّمة عالية الاحتمال. في هذا الصدد، ذهب فورست مورغان Forrest E. Morgan إلى الاعتقاد بأن سنايدر هو من أطلق واستخدم مصطلح “الثقافة الإستراتيجية Strategic Culture” في تحليل الشؤون الإستراتيجية كمقاربة مغايرة للاتجاهات العامة القائمة على تغليب العناصر المادية والعملياتية في فهم السلوك الإستراتيجي للقوى العظمى؛ وكان بذلك تأسيس لنهج جديد يهدف إلى “تفسير مجموعة من الاتجاهات والاعتقادات التي توجه وتحدد التفكير حول المسائل الإستراتيجية، والمؤثرة في طريقة صياغة القضايا الإستراتيجية، ومجموعة الكلمات والمعلمات الإدراكية  في الحوار الإستراتيجي”.

    لقد كانت بحوث الجيل الأول حول الثقافة الإستراتيجية مدفوعة بواسطة تأثير الحرب الباردة، خاصة خلال الفترة التي اقترب فيها الاتحاد السوفياتي من التوازن الإستراتيجي المتطابق مع الولايات المتحدة في مجال الأسلحة النووية والتقليدية على حد سواء، ومن ثم كان البحث مركزا حول احتمال نشوب حرب نووية بين القطبين والتساؤل حول ما إذا هناك عوامل ثقافية تدفع السوفيات لشن حرب نووية ضد قوات الحلف الأطلسي في أوربا. تندرج بحوث الثقافة الإستراتيجية ضمن جهود التوقع المستقبلي للسلوك الإستراتيجي والبحث في الأسباب القبلية غير المادية، التي من المحتمل أن تكون مسئولة عن نشوب حرب شاملة. السؤال الجوهري في هذا الصدد، هل توجد أسباب ثقافية لنشوب حرب نووية بين الاتحاد السوفياتي والقوى الغربية؟ وذلك فقط من أجل اتخاذ الإجراءات القبلية لأي نزاع محتمل وتحضير الإستراتيجيات الوقائية لاحتواء هذا النوع من التهديدات الأمنية. لذلك، حاول سنايدر تحليل العناصر الثقافية لفهم السلوك الإستراتيجي السوفياتي بالاستناد إلى التاريخ، القيم، المنظومة المعيارية، الهوية، الإدراكات الإستراتيجية نحو الذات والآخرين، نظم تشخيص التهديدات ودور الأسلحة النووية في إنجاز أهداف السياسة السوفياتية العليا، وتأثير الأفكار القيصرية القديمة المتجذرة في الثقافة الروسية القديمة على السلوك الإستراتيجي السوفياتي في العصر النووي.

   الجيل الثاني: توسيع أجندة البحث

    يعتبر روبن لوكهام أكثر المنظرين البارزين في الجيل الثاني الذين كتبوا حول نظرية الثقافة الإستراتيجية، من خلال تركيزه على موضوع جديد وهو ثقافة التسلح والنظم الاعتقادية في تقديس الأسلحة، كأسلوب مميز في التفكير الإستراتيجي، مشتق من الفكر الغربي حول التفوق بواسطة زيادة التسلح على الخصم. فهو ينظر إلى أن الكثير من العمليات الإستراتيجية (سباق التسلح، المنافسة الأمنية، المساعدة الذاتية، التعبئة العسكرية[6]) ناتجة عن ثقافة تقديس الأسلحة التي تجعل صناع القرار في الدوائر المختلفة يميلون إلى تأييد برامج التسلح وتخصيص نفقات كبيرة للقطاعات العسكرية، انطلاقا من افتراض عام بأن الأسلحة والجيوش الكبيرة تمثل ضمانة كبرى للمحافظة على البقاء القومي، والسيطرة على الآخرين أو التأثير على سلوكهم. إن مثل هذه السلوكيات ليست مجرد وظائف إستراتيجية أو ردود أفعال سلوكية إزاء مواقف الآخرين، وإنما هي متجذرة ثقافيا في نظم التعليم التربوي وأنماط التفكير التي يحملها الأفراد والجماعات؛ أو بطريقة أخرى، هي عملية ثقافية تصنع وتتبلور ضمن البنية الاجتماعية للمجتمع، ويتم تعزيزها بواسطة نظم التعليم، البحث الأكاديمي، الحملات الإعلامية والدعاية السياسية.

   من ناحية أخرى، لم يذهب بعيدا الجيل الثاني من المنظرين في الثقافة الإستراتيجية عن الافتراضات الأولية التي طرحها على وجه التحديد جاك سنايدر، بالرغم من اتساع دائرة المهتمين بهذا الموضوع في فهم الشؤون الإستراتيجية خلال فترة الحرب الباردة. لقد اهتمت هذه الطبقة من الباحثين بما أسماه فروست مروغان “بالوصف الواسعBroad Descriptive  “[7] لأبعاد وخصائص وعناصر الثقافة الإستراتيجية، اعتمادا على الأرضية النظرية المطوّرة في الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع الثقافي، وكذلك توظيف تراث التاريخ الإستراتيجي القديم والحديث لعدد من دراسات الحالة (الاتحاد السوفياتي، الصين، ألمانيا مثلا)؛ فقط من أجل اختبار العلاقة المحتملة بين المتغيرات الثقافية والسلوك الإستراتيجي للحكومات، والمقاربات الإستراتيجية التي تتبناها في مواجهة التهديدات أو إسقاط الهيمنة على العلاقات الإقليمية أو الدولية؛ وصولا إلى رسم سيناريوهات للمستقبل خاصة في ما يتعلق بسلوك الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو في أي نزاع محتمل مع الغرب.

    الهدف الأساسي من وراء هذه التحاليل هو خلق أنماط التوقع الصحيح وتفادي الوقوع في التنبؤات الخاطئة حول السلوك المستقبلي للقوى الأخرى، بناءً على الافتراض الشائع بأن الأعداء سوف يتصرفون دائما بنفس الطريقة التي تصرفوا بها في الماضي؛ أو افتراض أنصار الواقعية/الواقعية الجديدة الذي يقضي بأن الدول تتصرف بطريقة متشابهة في البحث عن مصالحها الوطنية، وكما ادعى كنيث ولتز أنها تتصرف بطريقة متشابهة بسبب تأثير البنية الفوضوية للنظام الدولي التي تدفع كل الوحدات نحو خيارات المساعدة الذاتية والمنافسة الأمنية. بالرغم من هيمنة أطروحات الواقعية/الواقعية الجديدة على التفكير الإستراتيجي، إلا أن المنظرين في الثقافة الإستراتيجية لم يلتزموا بالحتمية السلوكية المطروحة من قبل الواقعيين، وأخذوا يبحثون في مقاربات أخرى. صحيح أن كلا الاتجاهين محفزان بواسطة أسباب موحدة والملخصة في الخوف من نشوب حرب شاملة بين الحلف الأطلسي وحلف وارسو التي من المحتمل أن تستخدم فيها الأسلحة النووية، لكن طبقة الجيل الثاني من المنظرين وسّعوا البحث في الثقافة الإستراتيجية لتشمل التاريخ الإستراتيجي، البنية المعيارية والقيمية للمجتمعات، التقاليد الإستراتيجية السابقة، وتأثير العوامل الجغرافية في صياغة أنماط التفكير الإستراتيجي.

   الجيل الثالث: النقد، المراجعة، والتحديات المنهجية

    تعتبر فترة تسعينيات القرن العشرين بداية لظهور أفكار الجيل الثالث من المنظّرين في الثقافة الإستراتيجية، يتقدمهم ألستار جونستونAlastair Johnston  من خلال عمله المشهور الذي يحمل عنوان “الواقعية الثقافية: الثقافة الإستراتيجية والإستراتيجية الكبرى في التاريخ الصينيCulture Realism : Strategic Culture and Grand Strategy in Chinese History”، الذي نشر عام 1995؛ وكولن جراي Colin S. Gray الذي ناقش بطريقة نقدية المنهجية التي اتبعها جونستون والأفكار التي طرحها، وذلك من خلال عملين أكاديميين الأول يحمل عنوان “الإستراتيجية والتاريخ: مقالات حول النظرية والتطبيق Strategy and History : Essays on Theory and Practice”، والثاني يحمل عنوان “الإستراتيجية الحديثة Modern Strategy”؛ يندرج ضمن قائمة الجيل الثالث أيضا عمل توماس بيرجرThomas Berger  حول “الثقافات المضادة للعسكرتارية: الأمن القومي في ألمانيا واليابانCultures of Antimilitarism : National Security in Germany and Japan ” الذي نشر عام 1998؛ وبالطبع تبقى القائمة طويلة من الباحثين الذين تبنوا أفكار النظرية التكوينية في مراجعة مفاهيم الأمن والإستراتيجية في ضوء التطورات السياسية والأمنية الدولية خلال تلك الفترة من تاريخ العلاقات الإستراتيجية الدولية. على عكس السياق الدولي الذي كان سائدا خلال ظهور الجيل الأول والثاني، فإن تسعينيات القرن شهدت تغيرات راديكالية في النظام الدولي وعلى رأسها انهيار الثنائية القطبية، وانتقال الاهتمام الإستراتيجي إلى مخاوف حيازة واستخدام أسلحة الدمار الشامل من قبل دول العالم الثالث والجماعات المسلحة؛ ومن ثم، كان محور البحث الأكاديمي مركزا حول العلاقة بين أسلحة الدمار الشامل والثقافة الإستراتيجية، وكذلك بحث العلاقة بين الثقافة والأمن كجزء من الاهتمامات الأكاديمية الجديدة التي تزعمها أنصار النظرية التكوينية[8] والنظرية المعيارية[9] في تحليل العلاقات الدولية. بالنسبة لجونسون، تمثل الثقافة الإستراتيجية “نظاما مترابطا من الرموز التي هي اللغة، التناظرات، المجازات، بنية المحاججة”،[10] الذي شكّل أرضية لتحليل القضايا الإستراتيجية المتعلقة بإعادة ترتيب السلم واستعادة الأمن في المناطق التي تعاني من اضطرابات وحروب داخلية وتصاعد حدة العنف، كنتيجة لاختفاء الاتحاد السوفياتي من معادلة النظام الدولي.

    نتيجة لمجالات القضية الملّحة في الشؤون الإستراتيجية –الانتشار النووي، السيطرة على التكنولوجية النووية العسكرية، أسلحة الدمار الشامل، الإرهاب، والتمرد-، شاعت البحوث حول الثقافة الإستراتيجية التي قادها عدد كبير من المنظّرين في الجيل الثالث، من أمثال إليزابث كايرElizabeth Kier ، جيفرو ليقرو Jeffrey Legro، ألكسندر واندتAlexander Wendt ، بيتر كاتزنستين Peter Katzenstein؛ وهذه الأسماء هي مجرد أمثلة عن طبقة من الباحثين المهتمين بتحليل العلاقة بين الثقافة والشؤون الإستراتيجية والأمنية. الحقيقة أن جهود البحث أخذت مسارين أساسيين ومتكاملين، يتمثل الأول في التركيز على بحث والتحقق من افتراض وجود علاقة بين الثقافة الإستراتيجية والسلوك الإستراتيجي؛ والاتجاه الثاني ركّز على نقد المنظور المادي في تحليل العلاقات الإستراتيجية الدولية الذي طرحه أنصار النظرية الواقعية/الواقعية الجديدة، خاصة فيما يتعلق بثنائية الهجومية/ الدفاعية المتحكمة في السلوك الإستراتيجي للدولة. لم يكن أنصار “النظرية التكوينية Constructivism Theory” متطرفين في أطروحتهم مثل الواقعيين الذين بالغوا في تمجيد دور العناصر المادية في تشكيل الإستراتيجية، وإنما على العكس من ذلك نادوا بضرورة الاعتدال في التحليل بإضافة العناصر الثقافية إلى جانب نظيرتها المادية في تحليل الشؤون الإستراتيجية والأمنية؛ خاصة فيما يتعلق بدور الأفكار في صياغة الأفعال الإستراتيجية، سواء كسلوكيات في عمليات صناعة القرار، التقييم الإستراتيجي، أو كتصرفات عملياتية فوق حقل المعركة.

    من الناحية العملية بالنسبة للتكوينيين، لا يمكن مثلا فصل العملية العسكرية للحلف الأطلسي ضد صربيا في حرب كوسوفو عام 1999 عن جهود استعادة السلم وبناء مؤسسات الدولة ودعم الأفكار الديمقراطية، التي تجعل الجماعات المختلفة تقبل بمبدأ أحقية الآخر في الوجود بسلام واحترام حقوق الإنسان وأهمية الأمن الإنساني؛ كما جاءت متضمنة في أفكار أنصار نظرية الجماعة الأمنية[11] حول دور المعايير، الهوية، الثقافة، وحقوق الأقليات في الشؤون الأمنية والإستراتيجية. الفكرة الأساسية للتكوينية هي نسبية أهمية العناصر المادية في التأثير على السلوك الإستراتيجي، وإنما تتشاطرها العناصر الثقافية غير المادية؛ ظهر ذلك بجلاء من خلال حربي الولايات المتحدة في أفغانستان 2001 والعراق 2003، بحيث أن السيطرة العسكرية المادية لم تخلق الاستقرار والسيطرة الإستراتيجية، وإنما كانت بحاجة إلى فهم وتوظيف العناصر الثقافية. لقد حدد جانا أورليكا Jana Orlick دور التكوينية في توسيع البحث ومجال التنظير في العلاقات الإستراتيجية الدولية ليشمل العناصر غير المادية المهملة من قبل أنصار الواقعية/الواقعية الجديدة، انسجاما مع الافتراض التقليدي في بحوث الثقافة الإستراتيجية بأن هذه الأخيرة مسئولة إلى حد ما عن توجيه السلوك الإستراتيجي لصناع القرار والمقاتلين فوق حقل المعركة.

   منظور العلاقات المدنية-العسكرية

    تعتبر “العلاقات المدنية-العسكرية” إحدى أكثر الأطروحات النظرية حداثة وإبداعا في حقل الدراسات الإستراتيجية، التي عالجت إشكالية معقدة خاصة بالدولة الديمقراطية الحديثة، سواء بالنسبة للديمقراطيات العريقة أو الناشئة؛ والمتعلقة بالمعايير الضرورية الواجب توفرها في الدولة الديمقراطية، التي تميزها عن الأشكال الأخرى من الدول، مثل الدولة الشمولية، الملكية، أو العسكرتارية. جوهر هذه النظرية مركّز حول وضع مجموعة من الترتيبات القانونية والدستورية والإجراءات العملية، التي تبقي القوات المسلحة تحت قيادة مدنية منتخبة ديمقراطيا؛ وفي نفس تتمتع، هذه القوات بالفعالية في أداء المهام العسكرية المخولة لها من قبل القيادة المدنية، والكفاية والقدرة على توفير حاجات الدفاع عن سيادة الدولة وحماية بقائها القومي والمحافظة على سلامة واستمرار أراضيها موحدة.

    الجانب المميز في “العلاقات المدنية-العسكرية” كنظرية جديدة في حقل الدراسات الإستراتيجية، أنها جمعت بين العناصر المدنية والعسكرية في آن واحد؛ بما يخدم في النهاية الأهداف الإستراتيجية للدولة، والملخصة في توثيق الرابطة السوسيو-سياسية واجتماعية بين القوات المسلحة والمجتمع، كشرط موضوعي لتوفير التماسك الأمني والدفاعي للدولة. يظهر ذلك بجلاء من خلال إدراج الديمقراطية، الليبرالية الاقتصادية، وحقوق الإنسان؛ جنبا إلى جنب التحكم المدني، الكفاية الدفاعية، والفعالية العسكرية في تحليل الشؤون الإستراتيجية. مما يعني بطريقة أخرى، عدم فصل موضوعات علم الإستراتيجية البحتة والتقليدية عن الشؤون المدنية المجتمعية، مثل حقوق الإنسان والاقتصاد والديمقراطية. ليس هذا فحسب، وإنما ذهبت النظرية بعيدا في اقتراح ضرورة إشراك المدنيين، وفي حالات أخرى توليهم كلية صناعة وتوجيه السياسة الدفاعية للدولة، كجزء من المعايير المطلوب توفرها في الديمقراطيات الناشئة والقديمة على حد سواء. وذلك بأن تضطلع القيادة المدنية المنتخبة برسم سياسة الدفاع الوطني بالاستشارة مع قيادة الأركان، وتوفير الموارد المطلوبة لتنفيذها، وكذلك السماح بإجراء التعديلات والمرجعات المستمرة للإستراتيجية والمذاهب العسكرية وفن العمليات؛ بشكل يجعل القوات المسلحة أكثر قدرة على مواجهة التحديات الأمنية والفعالية القتالية فوق حقل المعركة، والتأقلم السريع مع الظروف الجديدة في الحرب.

    إن نظرية العلاقات المدنية-العسكرية مشتقة من الأفكار الجديدة للأمن والدفاع، المحددة في ضرورة إشراك عناصر المجتمع في صناعة الأمن؛ سواء عن طريق الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمع، أو عن طريق إشراك المدنيين للمساهمة في صناعة الدفاع. يشترك المدنيون في رسم وصياغة الإستراتيجية بواسطة العمل كمستشارين في وزارة الدفاع، عاملين في مراكز الدراسات الإستراتيجية، أساتذة في الأكاديميات والمدارس العسكرية، أو كشركات اقتصادية وصناعية خاصة متخصصة في توفير حاجات القوات المسلحة من المواد المختلفة وتقوية مصادر الدعم اللوجستي. لا تتوقف مساهمة القطاع الخاص في شؤون الدفاع فقط في توفير المواد التموينية والألبسة وغير ذلك من حاجات القوة العسكرية البشرية، وإنما تمتد إلى توفير أدوات القتال من آليات، ذخائر، أسلحة، طائرات، سفن، أدوات اتصال، تدفق قوي للإنترنت، أجهزة استشعار؛ وتبقى القائمة مفتوحة. السبب وراء إشراك المدنيين في الشؤون العسكرية هو التغير في طريقة القتال في الحروب الحديثة، الناشئ عن ظهور المعدات الجديدة التي تستلزم المهارة الفنية البشرية في إدارتها، مثل دمج أجهزة الحاسوب والبرمجيات في معظم المعدات القتالية بما فيها الذخائر، ظهور القيمة الحيوية للإنترنت في التواصل بين القيادة والوحدات القتالية على الأرض، ظهور أهمية الطب في القتال للتعامل مع آثار الحروق أو الإشعاعات النووية أو الأسلحة الكيماوية والبيولوجية. وبالتالي لم يعد القتال مختزلا فقط في القدرة على إطلاق النار من فوهات البنادق، وإنما أيضا الوفرة الكافية في أولئك المهندسين الذين يتوفرون على المهارات الكافية في إبداع الأدوات القتالية الجديدة وتشغيلها أثناء القتال.

    صحيح أن مساهمة القطاع الخاص في الشؤون العسكرية هي أكثر بروزا في المجتمعات الصناعية المتقدمة منها في نظيرتها المتخلفة، ولكن أخذت تنتقل تدريجيا وتنتشر كتقليد اجتماعي في الديمقراطيات الليبرالية الناشئة مثل البرازيل، الأرجنتين، تركيا. وفي الحالات الأقل من ذلك، يعمل القطاع الخاص على توفير المواد التموينية والأداتية غير القتالية، التي هي الأخرى مهمة في أداء القوات المسلحة لمهامها؛ مثل الألبسة، الأحذية، الأغذية المعلبة المقاومة للتلف السريع، الإنشاءات التحتية، مهام الصيانة للمنشآت وهكذا. يقضي الافتراض الأساسي الذي يقوم عليه دور القطاع الخاص في الشؤون العسكرية بأن مبدأ الاحترافية العسكرية تتطلب من القوات العسكرية تركيز اهتمامها على الشؤون القتالية والأمنية البحتة؛ مما يعني بطريقة أخرى، إنهاء التقليد السائد في بعض الجيوش في العالم الثالث المتمثل في انشغال الجيش بمسائل الفلاحة والزراعة، والصناعة التي تحرّفه عن مهامه الحقيقية؛ ويتحول إلى عبء على الميزانية الوطنية العامة للدولة.

   من الناحية المنهجية، يتضمن هذا الكتاب محورين أساسيين، يتعلق المحور الأول بالجانب النظري البحت، من خلال التطرق إلى تحديد مجموعة من المفاهيم الخاصة بالنظرية؛ الفلسفة النظرية للعلاقات المدنية-العسكرية؛ متغيرات النظرية، ومفردات التحليل الخاصة بالنظرية. وتم تخصيص المحور الثاني للحديث عن ست دراسات حالة الخاصة بتطبيق العلاقات المدنية-العسكرية، مختارة من القارة الأوربية (رومانيا)، الأسيوية (تايوان والهند) والأمريكية (الولايات المتحدة الأمريكية والشيلي وكولومبيا)؛ في تحليل العلاقات المدنية-العسكرية من حيث صورها التطبيقية، ورصد التغايرات التطبيقية من حالة لأخرى. تعتبر دراسات الحالة المقترحة مجرد أمثلة لتطبيق نظرية العلاقات المدنية-العسكرية على البيئة الواقعية لحقل الإستراتيجية؛ لأن من حيث الأصل، تعتبر كل حالة على حدة موضوعا لدراسة متكاملة ومستقلة. ولذلك، يعتبر هذا الكتاب مجرد أرضية نظرية للباحثين والطلبة، من أجل التخصص في هذا المجال الأكاديمي من علم الإستراتيجية.

تحديد المفاهيم وتطور البحث

    من ناحية المضمون النظري، تستلزم العلاقات المدنية العسكرية وجود ثلاث عناصر رئيسية وهي: التحكم المدني في القوات المسلحة، الكفاية الدفاعية، والفعالية العسكرية، ويزيد البعض الآخر شرط ليبرالية الاقتصاد الوطني؛ عند توفر هذه العناصر الأربع يمكن الحديث عن وجود علاقات مدنية-عسكرية ديمقراطية وفق المعايير الدولية، بغض النظر عن الجدل حول نسبية توفر كل عنصر من حالة دولية لأخرى. إن المهم عند دراسة أي حالة للعلاقات المدنية-العسكرية الإجابة عن أسئلة توماس برونو Thomas Bruneau وهارولد ترينكيناس  Harold Trinkunas المحددة في: “كيف نطوّر فهما متكاملا حول كيف تؤثر هذه الاتجاهات الكبرى على الإصلاح الدفاعي؟ كيف يمكننا الحكم على ما إذا الإصلاح الدفاعي أنجز فعليا؟ هل نستطيع العلم ما إذا تأثير الإصلاح الدفاعي هو إيجابي أو سلبي؟”.[12] تشكل هذه الأسئلة إشكالية البحث في هذا المجال من الدراسات الإستراتيجية الحديثة، بحيث يجب إخضاع كل دراسة حالة لمثل هذه التساؤلات أو القريبة منها، وفي نفس الوقت يتم تأطيرها بالمتغيرات المستقلة المؤثرة في عملية الإصلاح الدفاعي أو إصلاح سياسة الدفاع (كمتغير تابع)، وهي التحكم المدني، الفعالية العسكرية، والكفاية الدفاعية. يقر أنصار نظرية العلاقات المدنية-العسكرية في التحليل الاستراتيجي بوجود غموض نسبي في هذه المصطلحات، وذلك من حيث عدم القدرة على القيام بالقياس الكمي الدقيق وكذلك الاختلاف حول اختبار التحكيم في حد ذاته، أي بمعنى قياس المتغيرات المستقلة مقارنة بماذا؟ وما هو النموذج المتفق عليه المحدد للمضامين المفاهيمية لهذه المتغيرات، حتى يؤخذ كمقياس معياري لمعرفة مدى تقدم هذه الحالة أو تلك في عملية الإصلاح الدفاعي.

    بسبب أهمية هذه المشكلة وإثارتها للجدل، حاول المنظّرون في الدراسات الإستراتيجية تحديد المضامين الاصطلاحية للمتغيرات المستقلة المتحكمة في العلاقات المدنية-العسكرية.

    تعريف التحكم المدني

    يعني التحكم المدني Civil Control: “السيطرة المدنية على القوات المسلحة والبنيات الأمنية الأخرى، بما في ذلك الشرطة والمصالح الاستخبارية، مع تأكيد خاص على درجة [التحكم] بحيث أن للضباط آليات مؤسساتية للرقابة وأدوات لتطوير جماعة محترفي الدفاع المدنيين”.[13] بالنسبة لتوماس برونو Thomas Bruneau وهارولد تريكوناس Harold Trinkunas، لا يمكن الحديث عن وجود تحكم مدني ديمقراطي في القوات المسلحة ما لم تتوفر “أرضية في الممارسة [العملية] عبر وجود المؤسسات المصففة من قوانين العضوية التي تتعامل مع وزارة الدفاع أو لجان المراقبة، إلى عمليات [وضع وإقرار] الميزانية والتحكم المدني في ترقيات الضباط. إذا هذه المؤسسات هي ليست في المكان [المناسب] وتعمل [بحرية]، فإن التحكم المدني هو فقط واجهة”.[14]

    تعريف الفعالية العسكرية

    وتعني الفعالية العسكريةMilitary Effectiveness : “قدرة قوات الدفاع والأمن على تحمّل الأدوار بنجاح و[تنفيذ] المهام المحددة لها من قبل القادة المنتخبين [ديمقراطيا]. تصطف هذه  الأدوار والمهام من الدفاع عن الإقليم التقليدي إلى [القيام] بالمساعدة الإنسانية، حفظ السلام، مكافحة الإرهاب، وجمع الاستخبارات”.[15]

    تعريف الكفاية الدفاعية

    أما بالنسبة لمتغير الكفاية الدفاعيةDefensive Efficiency ، فإنها تعني بالنسبة لتوماس برونو Thomas Bruneau وهارولد تريكوناس  Harold Trinkunas: “البحث في تحديد ما إذا المؤسسات العسكرية والأمنية يمكن أن تنجز أدوارها ومهامها المحددة لها بكلفة مقبولة للمجتمع. من أجل تحديد الكفاية، يجب أن يتفق القادة المدنيون والعسكريون ابتداءً على الأدوار والمهام”.[16] ويعرّفانها في مناسبة أخرى بأنها: “الفعالية في استخدام الموارد لإنجاز الأدوار والمهام المحددة”.[17]

    تعريف إصلاح سياسة الدفاع

    فيما يخص المتغير التابع (إصلاح سياسة الدفاعDefense Policy Reform) في تحليل دراسات الحالة للعلاقات المدنية-العسكرية عبر العالم، فإن هناك اختلاف بين المنظرين في الولايات المتحدة وأوربا، فإذا كان المنظّرون في أمريكا يفضلون إطلاق مصطلح “إصلاح الدفاع Defense Reform” لوصف المتغير التابع في تحليل العلاقات المدنية العسكرية، فإن نظراءهم في أوربا يفضلون استخدام مصطلح “إصلاح القطاع الأمنيSecurity Sector Reform (SSR) “؛ وكلاهما يعبّران عن عملية إصلاح سياسة الدفاع سنعتمده في التحليل خلال هذا الكتاب. مهما اختلفت التسميات، فإن المضمون واحد المعبّر عن تلك النتائج أو المخرجات المترتبة عن المتغيرات المستقلة المشار لها سابقا، ضمن الإطار العام لنظرية العلاقات المدنية-العسكرية؛ استنباطا من تجارب المجتمعات المختلفة في تنظيم العلاقة بين المؤسسات المدنية والعسكرية، وتثبيت نمط معين للعلاقة، الذي يُنظر له على أنه مظهر يعكس الاستقرار السياسي والمجتمع الحداثي القادر على إدارة شؤونه بنفسه وبطريقة سلمية؛ يطلق على هذا النمط بالحكم المدني الديمقراطي، الذي توضع فيه القوات المسلحة تحت قيادة مدنية منتخبة ديمقراطيا.

    تعريف نظرية العلاقات المدنية-العسكرية

    لقد كان التنظير في العلاقات المدنية-العسكرية موجها نحو معالجة تلك التوترات والاختلاف في وجهات النظر بين القادة العسكريين المزاولين لمهامهم  لفترة طويلة، والقادة المدنيين الذين يتداولون على السلطة وفق فترات زمنية محددة في الدستور؛ في المجتمعات الديمقراطية العريقة. وأيضا هو موجه نحو تفادي مشاكل الانقلابات العسكرية وحدوث الاضطرابات الأمنية والتخلف السياسي في مجتمعات العالم الثالث، خاصة في فترات الانتقال الديمقراطي التي عادة تأخذ فترة زمنية طويلة. الحقيقة أن ليس هناك وصفة دقيقة ومتكاملة للعلاقات المدنية-العسكرية صالحة للتطبيق على كل الحالات عبر العالم، وإنما هناك تجارب مختلفة ونسبية كبيرة من حيث المضمون والفترة الزمنية المطلوبة لتحقيق الإصلاح في الشؤون الدفاعية؛ لكن ما هو مهم من كل ذلك، أن العلاقات المدنية-العسكرية تعني في جوهرها الاستقرار السياسي والأمني ومؤشر أساسي على تقدم الدولة والمجتمع نحو الحكم المدني والنمط الحداثي في طريقة إدارة شؤون السياسة الداخلية والخارجية. ليس هذا فحسب، وإنما تعكس العلاقات المدنية-العسكرية مستوى معين من قدرة المجتمع ونجاحه في إدارة شؤون الدولة بنفسه؛ في مقابل ذلك، استمرار الحكم العسكري أو تحكم الجيش في شؤون السياسة الداخلية يعكس عنصر الفشل السياسي للمجتمع في إدارة الدولة.

    انطلاقا مما سبق، يمكن تعريف نظرية العلاقات المدنية-العسكرية بأنها: كل الإجراءات والقرارات والسياسات التي تجعل القيادة العسكرية/الأمنية تعمل تحت إمرة القيادة السياسية المدنية، وتقوم بأداء دور الدعم والتعزيز لوظائف القيادة المدنية في إدارة البلاد محليا وخارجيا، والحفاظ على الاستقرار السياسي والأمني للمجتمع؛ خاصة تحت ظروف بروز تحديات إستراتيجية كبيرة تواجه البلاد، من قبيل تلك التي كانت سائدة خلال فترة الحرب الباردة، أو خلال موجة الدمقرطة والعولمة في تسعينيات القرن العشرين، أين شهدت العديد من مناطق العالم اضطرابات أمنية حادة.

   

    الفلسفة النظرية للعلاقات المدنية-العسكرية

    يرجع الفضل الأول للتنظير حول مجال العلاقات المدنية-العسكرية في الدراسات الإستراتيجية إلى كل من صامويل هانتغتونSamuel Huntington  وموريس جانويتزMorris Janowitz ؛ اللذان ركزا على تطور الظاهرة عبر الفترات التاريخية التي مرت بها الديمقراطيات الجديدة منذ الثورة البرتغالية في عام 1975 إلى غاية نهاية تسعينيات القرن العشرين، وكل الدراسات والأبحاث التي جاءت بعد ذلك مدينة للأرضية النظرية التي صاغها هذان المنظّران في العلاقات الإستراتيجية الدولية. ما هو مهم في التنظير للعلاقات المدنية-العسكرية، أن المنظرين اتخذوا من الديمقراطيات العريقة المستقرة سياسيا وأمنيا كمرجعية معيارية أساسية للتحكيم والقياس عليها كل الديمقراطيات الأخرى الناشئة أو حتى الجديدة أو الفتية؛ على افتراض أن المفاهيم والعناصر النظرية مشتقة من تجربة الديمقراطيات العريقة في التعامل مع المنظمات العسكرية والأمنية، بطريقة يستطيع فيها القادة المدنيون استرضاء قادة الجيش والأمن من أجل القيام بالمهام وتنفيذ السياسات التي يرسمونها.

    من الناحية التاريخية، ظهرت أهمية تحليل العلاقات المدنية-العسكرية كموضوع أساسي في الدراسات الإستراتيجية الحديثة مع بداية ما اسماه صامويل هانتغتون “بالموجة الثالثة للديمقراطية” في منتصف سبعينيات القرن العشرين في البرتغال وإسبانيا مع موت الجنرال فرانسيسكو فرانكوFrancisco Franco  في أواخر 1975. الحقيقة أن كل من البرتغال وإسبانيا -مثل العديد من الدول عبر العالم- كانت تحكمها ديكتاتوريات عسكرية، لعبت خلالها المنظمات العسكرية والأمنية دورا مهيمنا على السياسة الداخلية والخارجية، بل والهيمنة حتى على الاقتصاد الوطني والتجارة الخارجية؛ مع ارتكاب انتهاكات كبيرة لحقوق الإنسان بواسطة الملاحقات الأمنية والقضائية لكل المعارضين السياسيين في الداخل والخارج. لذلك، عندما يأتي التحول الديمقراطي يتطلب تغييرات راديكالية في النظم والقوانين والسياسات العامة لتلك البلدان.

    المفارقة الإستراتيجية المثيرة للاهتمام أن نهاية الديكتاتوريات العسكرية كانت بواسطة المنظمات العسكرية، بحيث لعبت الجيوش في تلك الدول دورا مهما في التحول نحو الديمقراطية وإرساء قواعد النظام الديمقراطي المدني. الأعمق من ذلك، أن الحالات المستشهد بها في التنظير للعلاقات المدنية-العسكرية، قد نجحت مجتمعاتها في تحقيق التحول الديمقراطي والتأسيس لنظام مدني، وأصبحت فيها الجيوش تقبل العمل تحت قيادة مدنية منتخبة ديمقراطيا. على عكس حالات الدول العربية (الجزائر، مصر، سوريا، العراق، اليمن مثلا) التي كان للجيش فيها دورا مهيمنا، لكنه لم يقبل تسليم السلطة لحكومات مدنية منتخبة ديمقراطيا، وفي حالات أخرى تنازل عن بعض السلطات فقط، وأبقى هيمنته قائمة على مجالات حيوية في السياسة الداخلية والخارجية.   

    بالنسبة لصامويل هانتغتون، بدأت الموجه الثالثة للديمقراطية من البرتغال عام 1975 ثم انتشرت لاحقا لتشمل الأنظمة العسكرية في أمريكا اللاتينية، أسيا، بعض الدول الإفريقية، وأوربا الشرقية بعد سقوط  جدار برلين عام 1989. الحقيقة أن ليس هناك مثالا واحدا في الاستدلال على دور الجيش في إحداث التحول الديمقراطي، بل شملت دراسة هانتغتون وغيرها عددا كبيرا من الأمثلة، والتي منها رومانيا مثلا التي لعب فيها الجيش دورا مركزيا في الانتقال من النظام الديكتاتوري الذي كان يحكمه نيكولاي شاوسيسكو Nicolae Ceausescu بواسطة قبضته الأمنية الحديدية على شؤون السياسة الداخلية والخارجية، إلى النظام الديمقراطي القائم على التعددية السياسية، الليبرالية الاقتصادية وحماية حقوق الإنسان. لذلك، معظم دراسات الحالة التي درست ضمن موضوع العلاقات المدنية-العسكرية من قبل عدد من المنظرين، اتخذت من المنظمات العسكرية كمتغيرات مستقلة جزئية في إحداث الانتقال الديمقراطي وتأسيس قواعد جديدة للعلاقات المدنية-العسكرية؛ على افتراض أن حالات الانتقال الديمقراطي في أوربا الجنوبية، أمريكا الجنوبية، وأوربا الشرقية قد لعب فيها الجيش دورا مركزيا، بواسطة تأمين الانتقال من الأنظمة الشمولية العسكرية إلى النظم الديمقراطية المفتوحة؛ ومن وراء ذلك القبول بقواعد العلاقات المدنية-الجديدة، مثل التحكم المدني في المؤسسات العسكرية والأمنية، الفعالية العسكرية، الكفاية الدفاعية، والليبرالية الاقتصادية.

    مع نهاية الحرب الباردة عام 1991، توسعت دائرة اهتمامات نظرية العلاقات المدنية-العسكرية مع موجة الدمقرطة والعولمة الاقتصادية التي اجتاحت العالم، بأن انضم عدد كبير من الدول إلى قائمة التحول الديمقراطي، وكثر عدد الديمقراطيات الناشئة عبر العالم؛ وبالتالي ظهرت الحاجة الملّحة لضبط والتنظير للعلاقات التي يجب أن تربط القيادة العسكرية بالقيادة السياسية المدنية المنتخبة من منظور المعيارية الديمقراطية. تأكدت أهمية العلاقات المدنية-العسكرية مع ظهور فواعل المجتمع المدني العالمي الجديدة، وزيادة أنشطة المؤسسات والمراكز القديمة في إنجاح عملية التحول الديمقراطي عبر العالم، ومساعدة الحكومات الجديدة على تطوير علاقات وظيفية وجديدة مع المنظمات العسكرية والأمنية، بشكل يمنع وقوع أي صدام بين الطرفين من شأنه أن يقوّض عملية الانتقال الديمقراطي كلية.

    من هذه المؤسسات والمنظمات غير الحكومية التي لعبت دورا كبيرا في إرساء معايير وقواعد العلاقات المدنية-العسكرية، نجد “منظمة الأمن والتعاون الأوربيةOrganization Security and Cooperation European” التي تأسست في أغسطس 1957، خلال اجتماع هلسنكي الذي ضم 35 دولة وهي كندا والولايات المتحدة وكل الدول الأوربية آنذاك بما فيهم الاتحاد السوفياتي باستثناء ألبانيا. وقد تم تأسيس هذه المنظمة تحت إعلان ما سمي آنذاك “باتفاق هلنسكي النهائي Helsinki Final Act”.[18] لعبت هذه المنظمة دورا كبيرا في نجاح الانتقال الديمقراطي في كل من البرتغال وإسبانيا خلال ثمانينيات القرن العشرين. وكذلك هناك “مركز التحكم الديمقراطي في القوات المسلحةCenter for the Democratic Control of Armed Forces”، الذي اتخذ من مدينة جنيف مقرا له. إحدى جوانب المساعدة التي قدمتها هذه المؤسسات الدولية غير الحكومية من أجل تطوير العلاقات المدنية-العسكرية في الديمقراطيات الجديدة، تأهيل المنظمات العسكرية على القيام بمهام الإغاثة الإنسانية، التدخل العسكري لفض النزاعات الأهلية وإنهاء الحروب، المشاركة في قوات حفظ السلام الأممية، التدخل في الكوارث الطبيعية والمناخية، تعليم الطرق الجديدة في مكافحة أعمال الشغب المنسجمة مع معايير حقوق الإنسانية العالمية، وغيرها من الأنشطة ذات مضامين الأمن الإنساني بصفة عامة، كما هي مطروحة من قبل المنظّرين في هذا المجال.[19]

    كانت إحدى النتائج المباشرة للعلاقات المدنية-العسكرية في تسعينيات القرن العشرين وما بعدها، انخراط عدد كبير من جيوش الحكومات الديمقراطية الجديدة في العمل تحت قيادة الأمم المتحدة من أجل القيام بعمليات حفظ السلام، المساعدة في أعمال الإغاثة وفض النزاعات التقليدية وغير التقليدية في مناطق النزاعات والبيئات الهشة أمنيا عبر العالم. لقد ازدادت الحاجة إلى القوات المسلحة المحترفة وتعميق عمليات إصلاح الدفاع تحت ظروف انتشار الحرب العالمية على الإرهاب وظهور الاضطرابات الأمنية في الشرق الأوسط وإفريقيا، أين أصبحت العديد من الدول مهددة بالسقوط في قبضة الجماعات المتشددة في منطقة الساحل وغرب إفريقيا والشرق الأوسط. لذلك، ازدادت الأعباء الأمنية على الأمم المتحدة في القيام بمهام التدخل الإنساني، والحاجة المتزايدة لمزيد من القوات لنشرها في المناطق المتفجرة أمنيا.

    لم تكن مهام إصلاح سياسة الدفاع محددة فقط في المشاركة الفعالة في الأمن العالمي تحت قيادة الأمم المتحدة، ولكن كان مطلوب من الجيوش المحترفة القيام بمهام حماية حقوق الإنسان، الديمقراطية، احتواء انتشار العنف المجتمعي، والعمل الاستخباري المشترك من أجل الحد من تهديدات الإرهاب العالمي. أي بمعنى آخر، ليس القيام فقط بمهام الدفاع التقليدي كما هي محددة من قبل أنصار الواقعية الجديدة،[20] وإنما أيضا تنفيذ مهام الدفاع المجتمعي والأمن الإنساني عبر العالم، مثل مواجهة الكوارث الطبيعية، الأوبئة، الاضطرابات المناخية، الجريمة المنظمة، ومكافحة المخدرات؛ أي المزاوجة بين الأمن القومي، الأمن الديمقراطي، والأمن الإنساني. يجري تنفيذ هذه الأبعاد لفئات المهام ضمن العلاقات المدنية-العسكرية وفق ثلاثية: التحكم المدني في القوات المسلحةCivil Control ، الكفاية الدفاعية Defensive Efficiency، والفعالية العسكريةMilitary Effectiveness  . لكن يجب التأكيد على ملاحظة مهمة، أن هذه العناصر لا يمكن أن تعمل بفعالية وفي علاقة اعتماد متبادل إلا تحت ظروف الديمقراطية السياسية المجتمعية، ووجود حكومة منتخبة ديمقراطيا تدير شؤون الدولة والمجتمع.

   من الناحية العملية، لم تكن هناك وصفة مثالية لتطبيق المضامين الثلاثة للعلاقات المدنية-العسكرية على كل حالات العالم، وإنما كانت هناك أوصاف مختلفة واجتهادات متغايرة، وكذلك اختلفت الدول في الامتثال لمضامين كل عنصر كما هي موصوفة من قبل المنظرين في الدراسات الإستراتيجية. لكن بالرغم من التباين في الامتثال لمتطلبات كل عنصر، إلا أن هناك حد أدنى من المعايير التي يجب أن تتوفر في عملية إصلاح سياسة الدفاع التي تقوم بها الحكومات الديمقراطية الجديدة. يجب أن يتضمن مفهوم التحكم المدني من ناحية الممارسة العملية والتشريع القانوني، وجود قيادة مدنية على رأس وزارة الدفاع، مزودة بكادر محترف من العسكريين والمستشارين المدنيين ذوي خبرة بالشؤون الإستراتيجية والعسكرية، وكذلك وجود رقابة مدنية على اللجان التي تشرف على صياغة سياسات الدفاع، دراسة ميزانيات الدفاع وترشيد النفقات العسكرية؛ بالإضافة إلى الإشراف المدني على تحديد مهام وأدوار القوات المسلحة على المستوى الداخلي والخارجي على حد سواء، والإشراف على مسائل الموظفين في المنظمات العسكرية والأمنية مثل طرق وشروط التوظيف، التعليم العسكري، التدريب القتالي، معايير الترقية، ونظام التقاعد.

     كذلك بالنسبة للعنصر الثاني في العلاقات المدنية-العسكرية وهو الفعالية العسكرية، فإن النسبية هي المسيطرة على توفير متطلباتها من دولة لأخرى بين ما هو موصوف نظريا، وما هو وجود على البيئة الفعلية للدولة. كما ذكرنا من قبل، تقوم القيادة المدنية بتحديد أدوار ومهام القوات المسلحة، وما هو مطلوب من هذه الأخيرة الفعالية العسكرية في تنفيذ هذه المهام والأدوار بأقصى سرعة وأقل التكاليف. تتضمن الأدوار المطلوبة من القوات المسلحة عمليات الإغاثة في الكوارث، دعم الشرطة، جمع الاستخبارات، عمليات دعم السلم، مكافحة الإرهاب، مكافحة التمرد، وشن الحرب؛ العنصر الذي يربط بين كل هذه المهام هو الفعالية العسكرية، التي في معظم الأحيان تشكل تحديا استراتيجيا كبيرا أمام القوات المسلحة. من خلال التجربة العملية في السنوات الأخيرة، نجد أن هناك تباينا كبيرا في مستوى الفعالية العسكرية في إنجاز مثل هذه المهام من منطقة لأخرى ومن ظرف زمني لآخر. فإذا كانت قوات حفظ السلام الأممية قد استطاعت استعادة الأمن وتثبيت الاستقرار في منطقة البلقان، فإن أداءها كان متدنيا جدا في مناطق أخرى مثل منطقة الساحل في إفريقيا، أفغانستان، وإفريقيا الوسطى. كذلك كانت فعالية القوات الأمريكية والغربية عموما متدنية في احتواء تهديدات الجماعات الإرهابية، والحد من العنف المسلح في العراق وأفغانستان. صحيح أن الفعالية العسكرية تتطلب شروطا موضوعية من قبيل وجود موارد كافية، بما في ذلك المال، التجهيز، والتدريب؛ إلا أن القوات الأطلسية في أفغانستان والأمريكية في العراق كانت تتوفر على معظم هذه الشروط إن لم نقل كلها، إلا أن نتائج عملها كانت محدودة من الناحية العملية.

    صحيح أن الكثير من المنظمات العسكرية والأمنية في الدول تلجأ إلى تفعيل آليات الأحلاف، التنسيق الأمني، التبادل الاستخباري، إشراك الوكالات والمنظمات المدنية الرديفة، من أجل تصعيد الفعالية العسكرية لإنجاز المهام والأدوار أو إحباط التهديدات وتحقيق مهام الردع والحماية؛ إلا أن حجم التهديدات المتعددة الخواص في تعاظم مستمر من فترة زمنية لأخرى، سواء تلك المتعلقة بالعطب الفيزيقي أو العطب السايبيري. اشتقاقا من طبيعة وخاصيات التهديدات الأمنية وقابليات العطب، فإن الفعالية العسكرية لا تبنى فقط على دور القوات المسلحة، وإنما أيضا إشراك الوكالات والفواعل المدنية مثل المهندسين في الحاسوب، الاتصالات، العلماء في الرقميات، الخبراء في الإقناع وحرب الأفكار وهكذا. يمكن الاستشهاد في هذا الصدد بالهجمات الإلكترونية يوم 14/05/2017 بواسطة فيروس “الفدية” الذي ضرب 150 دولة عبر العالم معظمها في القارة الأوربية، وألحقت أضرارا بـ 200 ألف حساب إلكتروني خاص بالأفراد والمؤسسات. تحتاج الفعالية العسكرية في هذا النوع من التهديدات إلى عنصرين أساسيين هما: وجود تحالف دولي لتعقب مصدر الهجوم وتفادي الأضرار المحتملة، والثاني الاستعانة بمهندسين محترفين في تصميم وإبداع أنظمة الحماية والفيروسات المضادة من أجل إدارة الحرب السايبيرية.[21]

    الفكرة الأساسية المطروحة من قبل أنصار أطروحة العلاقات المدنية-العسكرية في الدراسات الإستراتيجية أن الفعالية العسكرية لا تشتق فقط من عمليات إصلاح الدفاع المترافقة مع عملية الدمقرطة السياسية، وإنما يمكن أن تشتق أيضا من لجوء الحكومات الديمقراطية الجديدة إلى بناء علاقات التحالف والتعاون حول الشؤون العسكرية والاستخبارية وعمليات حفظ السلم ودعم الأمن الإقليمي والدولي، مع الحكومات الديمقراطية الأخرى عبر العالم. على افتراض أنه في بعض الظروف والسياقات الأمنية والإستراتيجية، تكون القوات المسلحة غير قادرة على احتواء كل المشكلات الأمنية واستيعاب كل التعقيدات الإستراتيجية المطروحة في الشؤون الدولية المركبة، اعتمادا على قدراتها الذاتية؛ وبالتالي تحتاج إلى خبرة ودعم ومساعدة الآخرين لتعزيز الفعالية العسكرية لوحداتها القتالية الميدانية وقوات الدعم القتالي واللوجستي. يستشهدون على ذلك بمثال منغوليا التي كانت خلال الحرب الباردة مرتبطة استراتيجيا وأمنيا بعلاقتها الوثيقة مع الاتحاد السوفياتي، كدولة مغلقة عن البحر؛ لكن منذ عام 1990، انفتحت على العالم الخارجي ونسجت علاقات التعاون مع القوى الديمقراطية الغربية مثل الولايات المتحدة، اليابان، كوريا الجنوبية وأوربا؛ وبالتالي تشتق الفعالية العسكرية لقواتها المسلحة من علاقات التحالف والتعاون العسكري والأمني مع القوى الديمقراطية في الخارج، وانخرطت بموجب في العمليات الدولية لحفظ السلام باسم الأمم المتحدة. لا تعتبر منغوليات المثال الوحيد الذي تشتق فيه القوات المسلحة فعاليتها العسكرية من علاقات التحالف الاستراتيجي والأمني الخارجي، وإنما معظم الديمقراطيات الجديدة في أوربا وأمريكا اللاتينية وأسيا، نهجت نفس المقاربة من أجل تأكيد فعاليتها السياسية والأمنية على المستوى الدولي، وفي نفس الوقت الحصول على المساعدات والاستفادة من الخبرات لتعزيز الفعالية العسكرية لقواتها المسلحة.

    العنصر الثالث المهم في مقاربة العلاقات المدنية-العسكرية -كما هي مطروحة من قبل أنصارها- هو الكفاية الدفاعية والتي تعني في أحد أبعادها توفير الموارد الكافية لتغطية حاجات الدفاع الضرورية في كل أبعاده، بشكل يصبح هناك توازن مقبول وأكثر فعالية بين الموارد المتاحة والحاجات الدفاعية المطلوبة والأهداف المحددة لإنجازها من قبل القوات المسلحة. ليس من المنطقي أن توضع أهداف دفاعية تفوق الحاجات أو الموارد المتاحة، لأن ذلك سوف يفقد القوات المسلحة توازنها ويضعف قدراتها في القيام بالمهام العسكرية، سواء كانت ذات خاصية التقليدية أو غير تقليدية. التقليد الشائع لدى كل الحكومات عبر العالم، أن تحدد نسبة معينة من الدخل القومي لشؤون الدفاع والأمن، تشمل تغطية نفقات عمليات التدريب، تحديث المعدات، التسليح، الرواتب والحوافز، وعمليات التعليم وبرامج التكوين العسكري في المدارس الوطنية أو بواسطة الشراكة مع الأطراف الخارجية.

    تخضع عملية تحديد نسبة الدخل القومي الموجّهة نحو الشؤون العسكرية لعدد من الاعتبارات السياسية والإستراتيجية والسياقية، الداخلية والخارجية. إذ أن عادة الدول التي تواجه أزمات أمنية داخلية أو تواجه تهديدات أمنية على حدودها، أو لديها تعهدات أمنية نحو الآخرين على المستوى الدولي، أو تقع جغرافيا في منطقة غير مستقرة أو متفجرة أمنية (منطقة الخليج العربي مثلا)؛ تميل إلى تخصيص نسبة معتبرة من دخلها القومي لتغطية نفقات شؤون الدفاع. لكل الأسباب السابقة الذكر وأخرى، تتباين الدول في طريقة استخدامها للموارد من أجل تحقيق غايات الدفاع، بل بعض الدول تكون رهينة عقيدتها العسكرية في مقاربة استخدامها للموارد، إذ أن الدول التي تتبنى مقاربات التدخل الخارجي المتعدد الأشكال والانخراط في الأحلاف العسكرية والشراكات الإستراتيجية، عادة تتضاعف أعباؤها العسكرية؛ على عكس الدول التي تتبنى عقيدة عدم التدخل أو عدم التورط في الأزمات الأمنية الخارجية.

   الفكرة الأساسية المطروحة في هذا الصدد أن الكفاية الدفاعية مسألة نسبية يصعب توحيد معاييرها وإسقاطها على كل دراسات الحالة الدولية، لذلك المعيار الأساسي في تحديدها هو ذاتي يخضع لتقدير كل دولة على حدة، وبالتالي هو قائم على تقدير الدولة أنها قادرة على إبقاء خصومها بعيدين عن حدودها أو منع التدخل في شؤونها الداخلية، أو منع التأثير على خياراتها الإستراتيجية وسياستها الخارجية. لكن ما هو مهم وذو علاقة بالعلاقات المدنية-العسكرية، أن تحرص الحكومات الديمقراطية على توفير الموارد اللازمة للمخططين الدفاعيين في القوات المسلحة، من أجل تحقيق الغايات الدفاعية بفعالية كبيرة، وتبديد مخاوف القادة العسكريين حول احتمال نكوص الحكومة عن تعهداتها إزاء تطوير قدرات القوات المسلحة الدفاعية، تحت ضغوط مطالب الرفاهية الاجتماعية والتنمية الاقتصادية الملّحة، أو هيمنة أولويات الشراكات الاقتصادية وتشجيع الاستثمارات الأجنبية على حساب شؤون الدفاع. وهنا يتدخل الذكاء السياسي لدى القيادات الديمقراطية الجديدة في حسن قراءة إدراكات العسكريين ومعرفة مخاوفهم، من أجل التجاوب معها بإيجابية؛ وأن الفشل في ذلك سوف يؤدي إلى تقويض العملية الديمقراطية بواسطة الانقلاب العسكري، أو السماح بانتشار الفوضى الأمنية وتشجيع الاضطرابات الاجتماعية في البلاد.

    استنباطا من واقع تجارب التحول الديمقراطي الحديثة، هناك مشكلة جد معقدة تواجه أطروحة العلاقات المدنية-العسكرية في الدراسات الإستراتيجية، والمتمثلة في ظهور التناقض في بعض الأحيان بين الأبعاد الثلاثة: التحكم المدني، الفعالية العسكرية، والكفاية الدفاعية. إذ يمكن أن يؤدي التحكم المدني إلى إضعاف الفعالية العسكرية للقوات المسلحة، بسبب الميول الكبيرة للقادة المدنيين نحو القطاعات الاقتصادية والاجتماعية أكثر من غيرها، أو بسبب الخوف من هيمنة العسكريين على السياسة أو استمرار تأثير الماضي السياسي-الأمني للمؤسسة العسكرية على طريقة تفكير القيادة الديمقراطية الجديدة؛ لذلك، تميل الأخيرة إلى الحد من نفوذ الأولى وحتى إضعافها. ولذلك، ظهرت بعض الصراعات والمنافسة بين القيادة العسكرية والسياسية حول من هو الأولى بقيادة وزارة الدفاع والمنظمات الأمنية الأخرى، خاصة تحت ادعاء العسكريين أن المدنيين الذين حملتهم الانتخابات الديمقراطية إلى السلطة، ليست لديهم دراية كبيرة بالشؤون العسكرية وحاجات الدفاع.

    لقد كان تأثير هذه المشكلة على العلاقات المدنية-العسكرية متباينا من حالة لأخرى، إذ نجحت الكثير من الديمقراطيات الجديدة في أوربا وأمريكا اللاتينية في تطوير صياغات جديدة وناضجة ومقبولة من الطرفين، من أجل وضع حزمة من المعايير والقوانين التي تضبط علاقة المدني بالعسكري في السلطة، وتنتج الآثار المرغوبة. وفي حالات أخرى، قوضت هذه المشكلة العملية الديمقراطية بواسطة عودة العسكريين من جديد إلى الهيمنة على السياسة، وهي الحالات الأكثر شيوعا في العالم العربي وبعض الدول الإسلامية (باكستان، ومحاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا في يوليو 2016). تتحدد عادة مخاوف العسكريين حول لجوء القيادة المدنية إلى تقليص ميزانية الدفاع التي تؤثر بدورها على أداء المهام الدفاعية للقوات المسلحة، تقليص الامتيازات المعهودة للقادة العسكريين، وتهميش دور القوات المسلحة في السياسة؛ في مقابل ذلك، تتحدد مخاوف القيادة المدنية في سلب مهامها الدستورية من قبل القيادة العسكرية، وقوعها تحت سيطرة العسكريين، مخاوف وقوع انقلاب عسكري، تأثير الخبرة السياسية الماضية مع القوات المسلحة على تفكير النخبة السياسية الجديدة الحاكمة. تشكل كل هذه العناصر وأخرى مضمون المشكلة المركّبة، التي يمكن أن تواجه العلاقات المدنية-العسكرية في الديمقراطيات الجديدة. 

منظور مركب الأمن

مفهوم مركب الأمن الإقليمي

   لقد قدم باري بوزان وزميله[22] عددا من التعاريف لمفهوم مركب الأمن الإقليمي Regional Security Complexe، والتي منها أنه: “مجموعة الدول التي اهتماماتها الأمنية الأولية مرتبطة مع بعضها البعض بشكل وثيق وكاف بحيث أن الأمن القومي للواحدة لا يمكن أن يكون معتبرا بشكل معقول بعيدا عن الأخرى”. وهذا أول تعريف صاغه في تحديد المضمون الإستراتيجي للمفهوم.

    وفي مناسبة أخرى –وهو التعريف الأكثر حداثة-، عرّفه بأنه: “مجموعة الوحدات التي تكون بينها العمليات الكبرى للأمننةSecuritisation  أو اللاأمننةDesecuritisation ، أو كلاهما هي جد مترابطة بحيث أن مشكلات الأمن لا يمكن أن تكون محلّلة بشكل معقول بعيدة الواحدة عن الأخرى”.

 

    ظهور مفهوم مركب الأمن

    المنظر الأول الذي طرح هذا المصطلح هو باري بوزان في كتابه “الشعب، الدول، والخوف: مشكلة الأمن القومي في العلاقات الدولية People, States, and Fear : The National Security Problem in International Relations”[23]، وكان إشارة منه إلى بداية التحول في مضمون المفاهيم التقليدية لقضية الأمن في تحليل العلاقات الدولية؛ لتنتقل من المستوى الوطني إلى المستوى الإقليمي. لا شك أن هذا المفهوم لم يتنصل تماما من الأساس الواقعي في اعتبار الدول أطرافا أساسية أو أحادية في العلاقات الدولية؛ لكن يركز في المقام الأول على الديناميكيات الأمنية التي تخترق الحدود الوطنية للدولة بحيث يصبح الاستقرار الأمني المحلي محددا بما يحدث في المنطقة الإقليمية التي تحيط بالدولة.

    في مقابل ذلك، يرى بوزان وويفر أن الكثير من الخاصيات الجوهرية للدول التي اعتمد عليها الواقعيون في تحليل العلاقات الدولية وفهم السياسة الدولية لم تعد لها نفس الأهمية في إنتاج الديناميكيات الأمنية. فالتباين في القوة والموقع الجغرافي والقدرات الطبيعية والبشرية لا تتدخل كثيرا في تحديد ثقل الدولة وتأثيرها في العلاقات الأمنية الإقليمية، فباكستان لا تقارن مع الهند من حيث القوة العسكرية والثقل الديمغرافي والعمق الجغرافي؛ إلا أنها طرف أساسي أو أحد القطبين في إنتاج الديناميكيات الأمنية الإقليمية بحيث أن الاستقرار أو عدم الاستقرار في جنوب أسيا متوقف على العلاقات الأمنية الهندية الباكستانية.

    كما أن مفهوم القوة في مركبات الأمن الإقليمية هو غير ثابت أو محدد في مضمون معين بشكل صارم بالنسبة لكل الأطراف، فالدول التي تتمتع بتماسك وتلاحم قومي بين معظم المكونات الاجتماعية عادة ما تحدد التهديدات في البيئة الخارجية، وتكون أكثر حساسية لمسائل السيادة الوطنية، في حين أن الدول الضعيفة أو التي تعاني من انقسامات قومية حادة أو صراعات داخلية تكون فضاء لتنافس القوى الخارجية المختلفة والمجاورة لها على وجه الخصوص؛ وتكون أقل تشبثا بالسيادة وأكثر عرضة للعطب بواسطة التهديدات الخارجية. وبشكل عام، تكون بيئتها الأمنية أكثر هشاشة وأقل استقرارا. ومن ثم، سوف تتباين الديناميكيات الأمنية من منطقة لأخرى بناءً على طبيعة وخاصيات البيئة القائمة، والأعمق من ذلك طبيعة المجتمع من حيث التحديث وعدمه، ومن حيث تماسكه السوسيولوجي من عدمه.

    لذلك، حاول بوزان وويفر أن يضعا تصنيفا آخر للدول -المناقض للمنظور الشائع في تراث الواقعية/الواقعية الجديدة-، والذي يتضمن الدول ما بعد الحداثة، ودول الحداثة، والدول ما قبل الحداثة. الحقيقة أن هذا التصنيف لا يختلف من حيث المضمون عن التصنيف الذي ورد في نظرية التبعية[24] ونظرية النظام العالمي للعلاقات الدولية،[25] اللتان تقسمان وحدات النظام الدولي إلى دول القلب ودول المحيط ودول شبه المحيط، لكن يختلفان من حيث التسمية والشكل. فالدول ما بعد الحداثة عادة هي دول القلب الرأسمالي التي عرفت مجتمعاتها طفرة نوعية في التطور التكنولوجي وأدوات الاتصال والاندماج والتكامل. أما دول الحداثة فهي تلك الدول التي اقتربت كثيرا من دول القلب من حيث التصنيع والتحديث الاجتماعي والنظمي وتميل إلى تحقيق الأمن في الداخل وفي الخارج. أما دول ما قبل الحداثة، فهي تلك الدول التي تعاني من حالة التخلف في جميع القطاعات وتقع على هامش التطور الاقتصادي العالمي. لكن الخاصية المشتركة التي تجمع بين الفئات الثلاثة هي أنها كلها دول قومية وفواعل مركزية في العلاقات الدولية، مما يعني أن بوزان وزميله لم يتحررا عن الواقعية الجديدة وإنما يمكن اعتبار أفكارهما إحدى الصيغ المتطورة عنها.

    لكن مع وجود هذه الخاصية المشتركة، إلا أن هناك بعض التباينات بينها مثل المرونة حول الخاصيات الجوهرية كالسيادة والهوية الوطنية والحدود القومية. فدول ما بعد الحداثة هي أكثر انفتاحا وتسامحا حول حرية التفاعلات الاقتصادية والتجارية والثقافية والتعددية وتقلص أهمية الحدود القومية أمام هذه القضايا. وبذلك، لم تعد تعاني من التهديدات التقليدية للأمن، لكن في نفس الوقت ظهرت لها تهديدات من نوع جديد مثل تصاعد حساسية مجتمعاتها نحو المهاجرين والهوية ومشاكل البيئة ونظافة المحيط واستقرار النظام الاقتصادي العالمي وأسواق المال والوظائف. وتعتبر أمريكا الشمالية وأوربا الغربية واليابان أكثر تمثيلا لمركبات الأمن التي تضم دول ما بعد الحداثة؛ وهي في نفس الوقت قلب النظام الدولي. في مناطق أخرى من العالم في إفريقيا وأسيا وأمريكا اللاتينية، يوجد عدد من الدول التي يمكن أن يطلق عليها اسم دول الحداثة تسيطر عليها أجندة أمنية لا تتشابه تماما مع تلك الشائعة في دول القلب. أما دول ما قبل الحداثة عادة هي موجودة في صحراء إفريقيا وباقي أطرافها والتي تعاني من صعوبات أمنية قاسية.

    الفكرة الأساسية هنا هي أن كل نموذج من النماذج السابقة للدول يواجه تحديات أمنية من نوع خاص. فعلى سبيل المثال بالنسبة لدول الحداثة، تشكل العولمة لها تهديدا في اتجاهين الإقصاء والخوف من الاحتواء. وغالبا الدول التي تعاني من الخوف من الإقصاء هي تلك الدول التي هي متاخمة لدول القلب وتخشى أن تُبتلع أسواقها مثل المكسيك بالنسبة للولايات المتحدة وتركيا بالنسبة لأوربا. ففي حالة تركيا، المعاناة من الإقصاء هي بارزة من خلال حرمانها من منافع الانضمام إلى الاتحاد الأوربي؛ وكذلك المكسيك التي بالرغم من عضويتها في اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، إلا أنها لازالت تعاني من وجودها في الصف الثاني بعد الولايات المتحدة وكندا وتعاني من مشاكل اقتصادية واجتماعية حادة.

    في نفس الوقت، نجد أن مطالب دول ما بعد الحداثة نحو دول الحداثة مقابل الاستفادة من الامتيازات الاقتصادية، تكون لها تأثيرات مأساوية على مجتمعاتها وترافقها كلفة اقتصادية عالية التي في بعض الأحيان تتحول إلى اضطرابات اجتماعية وأمنية. فمثلا مطالب الانفتاح الاقتصادي وتبني معايير مجتمعات دول القلب في السياسة والثقافة، ينظر لها في دول الحداثة على أنها تهديد حضاري وثقافي خاصة في الدول الإسلامية أو الدول التي لها أغلبية مسلمة، مثل هذه الإدراكات يمكن أن تتحول إلى تهديدات أمنية أو على الأقل مخاوف أمنية. وفي أحيان أخرى، تكون القيود على بعض المعايير الاقتصادية في دول الحداثة ضمانات أمنية للاستقرار الاجتماعي في مجتمعاتها وهي في نفس الوقت شروط ضرورية لدول ما بعد الحداثة، وهكذا تظهر الديناميكيات الأمنية الإقليمية أو ما يسميه بوزان وزميله بمركب الأمن الإقليمي.

    بالنسبة لبوزان وزميله، مثل هذه التباينات في الأولويات والتفضيلات هي المسؤولة بشكل كبير عن إنتاج الديناميكيات الأمنية الإقليمية، وتحدد السمات الرئيسية للبيئة الأمنية الدولية المعاصرة وتساعد على عقد المقارنات والتناظرات بين مركبات الأمن الإقليمية.[26]

    متغيرات النظرية

    1-العداوة/الصداقة عادة تكون العوامل المتحكمة في ديناميكيات التفاعل في مركبات الأمن الإقليمية محددة في علاقات “العداوة/الصداقة Enemity/Amity” التاريخية والتلاحم الجغرافي الذي يخلّف حالة الاعتماد المتبادل الأمني، سواء باتجاه الاستقرار أو عدم الاستقرار. فالعلاقات الأمنية الإقليمية غالبا ما تكون متأثرة بشكل كبير بالعداوة أو الصداقة التاريخية وكذا المنافسة الأمنية أو التعاون بين الأطراف الإقليمية؛ مثل العلاقة الهندية-الباكستانية في جنوب أسيا والعلاقة التركية-اليونانية في جنوب أوربا والعلاقة الجزائرية-المغربية في شمال إفريقيا والعلاقة العربية–الإيرانية في الخليج العربي. كما لا تهمل نظرية مركب الأمن الإقليمي أيضا نمط العلاقات الثقافية بين الحضارات الكبرى كعلاقة الحضارة الغربية-الإسلامية، وأمريكا الشمالية-أمريكا الجنوبية. يشكل مجموع أنماط التفاعلات الأمنية الإقليمية مضمون مركب الأمن الإقليمي كإطار نظري لتحليل العلاقات الأمنية الدولية المعاصرة. تتضمن هذه التفاعلات خليطا من تأثير البنية الفوضوية للنظام الدولي وميزان القوى وتأثير التقارب الجغرافي للأطراف الدولية، الذي يساعد على إنعاش وتغذية التأثير المتبادل للمظاهر الأمنية المختلفة من بيئة لأخرى، سواء كانت في شكلها المستقر أو المضطرب.

    فالتحليل الأمني لنمط علاقات العداوة/الصداقة يبدأ من المستوى الإقليمي ثم يتم تقفي أثره وامتداده عالميا ومحليا. على افتراض أن المستوى الإقليمي لنمط علاقة العداوة/الصداقة يفرز الخيارات الإستراتيجية ويحدد مضمون الأهداف الأمنية لكل طرف، ثم يفرغها في المستوى المحلي والدولي.

    الأكثر من ذلك، أن هذا المستوى من التفاعل الأمني ليس مهما فقط للقوى الإقليمية المعنية بمركب الأمن، وإنما أيضا بالنسبة للقوى العظمى الخارجية، لكن لا يتوقف استمراره على هذه الأخيرة. على اعتبار أن جدوى متغير “العداوة/الصداقة” في التحليل الإقليمي لقضايا الأمن، يكمن في أنه مستمر في تحديد المخرجات الأمنية الإقليمية حتى ولو اختفت بعض القوى العظمى من النظام الدولي التي كانت فواعل مساعدة على تحريك الديناميكيات الأمنية الإقليمية. فالعداوة العربية-الإسرائيلية استمرت في مرحلة ما بعد الحرب الباردة بعد اختفاء الاتحاد السوفياتي من النظام الدولي، وكذلك الأمر بالنسبة للعداوة الهندية-الباكستانية والعداوة بين كوريا الشمالية وغريمتها الجنوبية. ومازالت العلاقات التاريخية بين الصين وتايوان (العداوة) هي التي تتحكم في الديناميكيات الأمنية الإقليمية في البحر الأصفر في شرق أسيا بالإضافة إلى أنماط أمنية أخرى.

    2-التخومية. المتغير المستقل الآخر الذي يؤثر في الديناميكيات الأمنية الإقليمية هو مبدأ “التخومية Adjacency”، الذي يعمل على إنتاج الديناميكيات الأمنية العابرة للحدود، على افتراض أن التقارب الجغرافي يعني في جوهره الإستراتيجي التقارب في التأثير المتبادل لمفهوم الأمننة التي تتضمن المكونات العسكرية والسياسية والسوسيولجية والبيئية؛ فهي أجندة موسعة أو تعكس مفهوم الأمن في صيغته الجديدة المفهممة. فالأمن أو عدم الأمن هو مرتبط بالتقارب الجغرافي من جهة أن هذا الأخير ينتج الأنماط الأمنية المختلفة (التوازن، المنافسة الأمنية، المساعدة الذاتية، سباق التسلح)، وبالتالي وجود مجموعة من الأطراف متقاربة جغرافيا يشكل مفهوم المنطقة التي بدورها تكّون مركب الأمن الإقليمي، الذي يتميز بوجود علاقات أمنية أكثر كثافة من تلك العلاقات بين الدول المتباعدة جغرافيا. وبسبب التباينات الجغرافية والثقافية والسياسية، تتعدد المناطق ومن ثم يكون لدينا مركبات أمن إقليمية وليس مركب أمن واحد في النظام الدولي.

    من الشواهد التي يستدل بها بوزان وزميله في هذا الصدد، جنوب أسيا الذي يشكل مركب أمن إقليمي متميز بكثافة العلاقات الأمنية التي لا تتأثر في الغالب بالأحداث الأمنية التي تجري في منطقة الخليج العربي أو جنوب شرق أسيا. النتيجة النظرية هي أن الجغرافيا والتمايزات القومية والسياسية ضمن حدود جغرافية معينة، قد أدت إلى إنتاج التجمعات الأمنية الإقليمية المتمايزة عبر العالم، أطلق عليها اسم مركب الأمن الإقليمي.

    3-الاعتماد المتبادل الأمني. المتغير المستقل الآخر في تحليل نظرية مركب الأمن الإقليمي للعلاقات الأمنية الدولية هو الاعتماد المتبادل الأمني، الذي هو الآخر متأثر بمبدأ التخومية أو التقارب الجغرافي من جهة، وبوجود وحدات سياسية قوية تشكل قلب مركب الأمن الإقليمي من جهة ثانية. على افتراض أن هذه الوحدات تملك قدرات كبيرة يمكن أن توجهها نحو تحريك وتفعيل التفاعلات الأمنية الإقليمية. ولو أن في كثير من الأحيان تعمل القوى العظمى على تخطي الحدود الإقليمية (الصين مثلا) من أجل زيادة نفوذها العالمي أو بسبب الحاجات المتزايدة التي لا تستوعبها المنطقة الإقليمية، لكن معظم أطراف مركب الإقليمي تبقى مقيدة بالحدود الإقليمية وتربط أمنها بالجيران القريبين منها وتجد نفسها مغلقة بالزامات وديناميكيات الأمن الإقليمية؛ بسبب محدودية قدراتها العسكرية والسياسية وبالتالي سوف تعزز النظام الأمني الإقليمي بدل أن تتخطاه. فالقوى العظمى (التي ركز الواقعيون الجدد[27] تحليلهم عليها) تميل إلى التخلي عن القيود الإقليمية في حين أن القوى الصغرى تميل إلى تعزيزها، لكن ما هو مهم من الناحية المنهجية بالنسبة لنظرية مركب الأمن الإقليمي هو أن عدد القوى العظمى قليل في العالم في حين أن القوى الصغرى تشكل الغالبية العظمى في النظام الدولي، ومادام الأمر كذلك، فإن التحليل الإقليمي للعلاقات الأمنية هو الأكثر أهمية في تفسير وفهم نمط السياسة الدولية المعاصرة.

    فالاعتماد المتبادل الأمني كمتغير مستقل، يعمل على إنتاج الديناميكيات الأمنية الإقليمية سواء في الاتجاه السلبي أو الاتجاه الإيجابي، على افتراض أنه لا يمكن إطلاق مركب الأمن الإقليمي على أي تجمع من الدول ما لم تكن بينها علاقات أمنية مكثفة، تستجيب بشكل متكرر للمنبهات الأمنية المرسلة من بعضها البعض نحو بعضها البعض. الاعتماد المتبادل عند أنصار النظرية الوظيفية الجديدة[28] هو وجود علاقات وظيفية بين مجموعة من الأطراف بحيث أن كل طرف ينتج وظيفة ويتلقى حاجة، ومؤشره أن حدوث أي خلل في بيئة طرف معين المحلية يؤثر مباشرة في بيئات الأطراف الأخرى. الاعتماد المتبادل الأمني لدى نظرية مركب الأمن الإقليمي هو موسع المجال، بحيث تكون علاقات تأثير أمني متبادل سواء كانت الأفعال إيجابية (تنسيق أمني، استقرار) أو سلبية (الإعداد للحرب، توسيع النفقات العسكرية، زيادة النفوذ على حساب الآخرين).

    السمة المميزة لمركبات الأمن الإقليمية التي تعتمد كخلفية نظرية للتحليل هي عمومية الاعتماد المتبادل الأمني بين الأطراف المشكّلة للمنطقة. فالفكرة الجوهرية لهذا المتغير المستقل في التحليل الإقليمي لقضايا الأمن هي الترابط الأمني الشديد والتأثير المتبادل بشكل صارم بين الأطراف الإقليمية، بحيث أن حالة التفكك أو الانسجام داخل بيئة أحد الأطراف تصدّر مخرجاتها إلى بيئات الأطراف الأخرى، مثل الحرب الطائفية في العراق في 2006 وتأثيرها على صحوة الانقسامات المذهبية في دول الخليج واليمن وحتى باكستان في جنوب أسيا. هذا المتغير هو الآخر ليس مفصولا عن النظام الدولي، إذ يعتقد أنصار هذه النظرية أن حالة الاعتماد المتبادل لمركبات الأمن الإقليمية هي التي تؤهلها لأن تكون نظاما فرعيا من النظام الدولي.

    4-الاختراق. من المتغيرات المستقلة الأخرى في تحليل نظرية مركب الأمن الإقليمي للعلاقات الأمنية الدولية هو مفهوم “الاختراقPenetration “. يحتوي هذا المفهوم مضامين نظرية في اتجاهات مختلفة، إذ يتضمن معنى اختراق القوى العظمى مركبات الأمن الإقليمية من أجل دعم حلفائها الإقليميين وحماية مصالحها؛ عبر وضع الترتيبات الأمنية بالمشاركة مع القوى الإقليمية داخل مركب الأمن الإقليمي. لكن عملية الاختراق لا تحدث إلا بدوافع نابعة من داخل المنطقة لا من خارجها، عن طريق قيام طرف إقليمي أو أكثر بخلق فرص أو مطالب لتدخل القوى العظمى الخارجية، المتمثلة في تهديد ميزان القوى أو السيطرة على مصالح معينة أو زيادة النفوذ على حساب الآخرين أو تنامي دافع الهيمنة لدى طرف معين للسيطرة على المنطقة ككل أو محاولة السيطرة على المواقع الحيوية للنظام الاقتصادي العالمي. كل هذه التفاعلات هي بمثابة محفزات حيوية لسلوك القوى العظمى الخارجية للتدخل في مركبات الأمن الإقليمية، كما هو الحال مع الولايات المتحدة في شبه الجزيرة الكورية وأوربا ومناطق أخرى من العالم.

    من ناحية أخرى، يعتبر توازن القوى ومنطق المنافسة الأمنية الإقليمية مصدران محفزان للأطراف المحلية لطلب المساعدة من الأطراف الخارجية، وبذلك ترتبط الديناميكيات الأمنية الإقليمية بنظيرتها العالمية. فخلال الفترة الممتدة ما بين عامي 1952 و1971 ارتبطت مصر بالاتحاد السوفياتي، وارتبطت إسرائيل بالولايات المتحدة؛ وأصبحت مخرجات العلاقات الأمنية الإقليمية مرتبطة بسلوك وسياسات هاتين القوتين العظميين. يعتقد بوزان وزميله أن هذا الارتباط الأمني بين البيئتين (الإقليمية والدولية) هو خاصية طبيعة للبنية الفوضوية للنظام الدولي؛ وفي نفس الوقت هو مظهر أساسي لمتغير الاختراق في نظرية مركب الأمن الإقليمي حول تحليل العلاقات الأمنية الدولية.

    كما يمكن للقوى الإقليمية اختراق مركبات الأمن الإقليمية في المناطق المجاورة، مثل حالة الصين الموجودة في شمال شرق أسيا وفي جنوب شرق أسيا وفي جنوب أسيا. في نفس الوقت يمكن أن ينعكس الاختراق في معنى اختراق الديناميكيات الأمنية للحدود الجغرافية للدول نحو بعضها البعض بسبب وجود الإثنيات الموزعة على عدد من دول المنطقة كما هي حالة الأكراد في الشرق الأوسط والطوارق في دول ساحل الصحراء بإفريقيا. أو بسبب اختراق المذاهب الدينية لعدد من الدول كالسنة والشيعة في الشرق الأوسط. نشوب النزاعات بين هذه الفئات سوف تخترق بسهولة الحدود القومية نحو المناطق الأخرى.

    التأكيد على مبدأ “الاختراق” هو في نفس الوقت وبطريقة أخرى تحدي لنظرية مركب الأمن الإقليمي، من حيث مبالغة الواقعية الجديدة[29] في تعظيم دور القوى العظمى في السيطرة على العلاقات الدولية. لا تنف نظرية مركب الأمن الإقليمي تماما دور القوى العظمى في اختراق مركبات الأمن الإقليمي عبر العالم، ولكن المستوى الإقليمي في التحليل هو الأهم في فهم العلاقات الأمنية الدولية. تشتق هذه الأهمية من أنماط التفاعل الأمني مثل المنافسة الأمنية الإقليمية وتوازن القوى والتحالفات بين القوى الإقليمية. كل هذه الديناميكيات تحدث في المنطقة وليس في النظام الدولي. وحتى الأسباب العميقة للنزاعات والحروب الدولية هي في الأساس إقليمية وليست كونية، كما هي حالة البيئة الأمنية في الشرق الأوسط وجنوب أسيا. فهنا وظف بوزان وويفر وحدات التحليل للواقعية الجديدة، لكن في اتجاه التحليل الإقليمي وليس الكوني على عكس ما فعل جون ميرشيمر.

    5-مبدأ القوة. المتغير الآخر في تحليل نظرية مركب الأمن الإقليمي للقضايا الأمنية هو “القوة”، كعامل أساسي منتج للتفاعلات الأمنية بشكل مكرر وكثيف، وربما هو أكثر المتغيرات تأثير في الديناميكيات الأمنية الإقليمية. عندما يتفاعل مفهوم القوة عبر المستوى الإقليمي، سوف ينتج خاصية توازن القوى التي تشكل النظام الأمني الإقليمي وتتفاعل الأطراف بناء على إلزامات هذا النظام. تظهر الأنماط الأمنية للقوة في شكل مخاوف تحرك سلوك الفواعل الإقليمية باتجاهات مختلفة، سوف تتصاعد مثل هذه المخاوف بشكل صارم كلما احتد الصراع من أجل التفوق في حيازة القوة؛ جراء التوقعات المأساوية حول نتائج اكتساب طرف معين لعناصر القوة على حساب الآخرين. يمكن أن تترافق مثل هذه المخاوف بتهديدات للاستقرار الإقليمي تتحكم في المخرجات الأمنية لمركب الأمن، كما هو الوضع اليوم قائما في الخليج العربي (2012)، بحيث أن تنامي القوة الهجومية الإيرانية يبث الخوف في دول الخليج العربية، وهذه المخاوف هي مترافقة بتهديدات إيرانية بأنها سوف تهاجم هذه الدول إذا استخدمت أراضيها لتهديد أمنها القومي من قبل القوى العظمى. كل هذه الديناميكيات الأمنية المنتجة بواسطة متغير القوة، تشكل مفهوم مركب الأمن الإقليمي.[30]

    مستويات التحليل

    ميّز بوزان وزميله[31] بين مستويين رئيسيين من التحليل للقضايا الأمنية وهما المستوى الإقليمي والمستوى العالمي، مع الإقرار بغموض هذا التمييز أو صعوبة وضع حد فاصل بين ما هو إقليمي وما هو عالمي؛ لكن التمييز بين المستويين يعطي نظرية مركب الأمن الإقليمي قوتها التحليلية. إذ يستهدف التمييز في المقام الأول إبراز الأهمية المنهجية والنظرية للتحليل الإقليمي للقضايا الأمنية، وكيف أنه أكثر قدرة على فهم الأبعاد الحقيقية ويذهب إلى ما وراء الأحداث الجارية في البيئة الدولية. كما أنه يثبت العلامة الفارقة لنظرية مركب الأمن الإقليمي وتميزها عن النظريات الأخرى، بل ذهب بوزان وزميله بعيدا في تمييزها حتى عن المضمون التحليلي للواقعية الجديدة.

    فإذا كان تحليل كنيث ولتز[32] قد ركز على أهمية البنية في تحليل العلاقات الدولية وأعطى المستوى العالمي الأولوية في التحليل، فإن بوزان وزميله حاولا الاعتماد على الفهم التعددي للعلاقات الدولية انطلاقا من الوحدة ثم المنطقة ثم ما بين إقليمي ثم المستوى الكوني؛ لكن لا معنى ولا أهمية لأي تحليل لكل هذه المستويات ما لم يؤخذ بعين الاعتبار المستوى الإقليمي في التحليل؛ الذي يشكل المجال الحيوي في إنتاج الديناميكيات الأمنية. على اعتبار أنه بالرغم من أن العولمة الاقتصادية والتجارية وحتى الإعلامية تشكل محركا مهما للعلاقات الكونية، إلا أن قوة الدفع الحقيقة هي نابعة من مصادر إقليمية وليست كونية سواء تعلق الأمر بالقضايا الأمنية أو الاقتصادية. المبرر لذلك هو أنه في نهاية المطاف هناك تقسيمات بين المجالات الجغرافية للأمن، فهناك الأمن الأوربي وأمن جنوب شرق أسيا وأمن جنوب أسيا وأمن الشرق الأوسط وأمن شمال إفريقيا، وهكذا. في نفس الوقت لا ينف أنصار نظرية مركب الأمن الإقليمي مسألة الترابط الأمني ما بين المناطق المطروح من قبل الكونيين أيضا،[33] لكن مرجعية هذا الترابط الأمني النهائية هي موجودة في المناطق الإقليمية.

    الفكرة الأساسية هنا هي أن الديناميكيات الأمنية المتحكمة في سلوك الدول لها أصولها في المنطقة الإقليمية، وهي تستمد قوتها من مستوى المنطقة الإقليمي وليس من مستويات أخرى؛ لذلك النزعة الإقليمية هي مركز على تحليل العلاقات الإقليمية الأمنية. المبرر المقدم من قبل أنصار هذه النظرية لتحدي الكونيين هو التمايز الواضح بين المناطق وأن الديناميكيات الأمنية الإقليمية لكل منطقة تعمل بطريقة معينة، على عكس ما يدعيه الكونيون[34] من أن كل المستويات منحلة في مستوى واحد. فالإقليمية هي السمة البارزة في العلاقات الدولية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، تشتق تمايزها من العناصر الجغرافية والاقتصادية والديموغرافية والنظمية وتاريخ تشكيل الدول وعلاقات العداء والصداقة بين الدول؛ بل حتى الصراعات الكبرى تساهم في تمييز المناطق عن بعضها البعض.

    لذلك، وجه النقص في النظرية الواقعية/الواقعية الجديدة[35] والنظرية الكونية[36] في تحليل العلاقات الأمنية الدولية، هو أنهما يبالغان بشدة في إعطاء المستوى الكوني أهمية كبرى على حساب المستوى الإقليمي الذي منه تشتق الديناميكيات الأمنية قوتها التأثيرية في العلاقات الدولية. وأن مبررات كل نظرية هي متباينة، لا تؤدي في نهاية المطاف إلى تقديم تحليل واف لحقيقة العلاقات الدولية، مع إقرار أنصار نظرية مركب الأمن الإقليمي بإبقاء افتراض مركزية الدولة كوحدة أساسية في التحليل باعتبارها الطرف المهيمن على العلاقات الدولية الإقليمية. حرص كل من بوزان وويفر[37] على تمييز نظرية مركب الأمن الإقليمي عن النظرية الواقعية/الواقعية الجديدة والنظرية الكونية، لا يعني أنها لا تلتق معهما في عدد من النقاط، مثل الاعتراف بأن الكونية وفرت فضاء للتحليل الإقليمي وأن الواقعية الجديدة وفرت إطار جيدا للتمييز بين المستويات الكونية والإقليمية.

 

  الهوامش

      [1]عبد الرحمان بن خلدون، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، 7أج. (بيروت: دار الكتب العلمية، 1992)، 1: 140.

      [2] إميل دوركايم، قواعد المنهج في علم الاجتماع  (الجزائر: المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، 1990)، ص. 57.

    [3] Colin S. Gray, Modern Strategy (Oxford New York : Oxford University Press, 1999), pp.23.-28

      [4] Alexander Wendt, «Four Sociologies of International Politics,» in Perspective on World Politics, 3rd ed., ed. Richard Little and Michael Smith (London and New York: Routledge Taylor & Francis Group, 2006), pp. 446-47.

      [5] Richard Wyn Jones, 1999, Publishers, Inc, Internet. Available from file://A:/ Security, %20 and %20 Critical%20Theory%20Chapter%201. Htm; accessed 22/08/2004.

      [6] John Mearcheimer, “Strategies for survival,” in Perspectives on World politics, 3rd ed. Ed. Richard Little and Michael Smith (London and New York: Routledge Taylor & Francis Group, 2006), pp. 69 -78.

    [7] Forrest E. Morgan, Op. Cit., p. 06.

      [8] Alexander Wendt, «Four Sociologies of International Politics,» in Perspective on World Politics, 3rd ed., ed. Richard Little and Michael Smith (London and New york: Routledge Taylor & Francis Group, 2006), pp. 446-58.

          [9]Mark J. Hoffman, “Normative Approaches,”  In International Relations: A Handbook of Current Theory, ed. Margot Light and A. J. R. Groom (Great Britain: Frances Pinter (Publishers) Limited, 1985), pp. 17-23.

    [10] Jana Orlicka, «Strategic Culture as an Important Way of Security,» Nauka –Praktyka- Refleksje 21(2016), p. 193.

      [11] Emanuel Adler and Michael Barnett, « Security Communities in Theoretical Perspective, » in Security Communities (United Kingdom : Cambridge University Press, 1998), pp. 03-26.  

    [12]Thomas Bruneau and Harold Trinkunas, « Global Trends and Their Impact on Civil-Military Relations, » in Global Politics Of Defense Reform, ed. Thomas Bruneau and Harold Trinkunas (United States of America: Palgrave Macmillan, 2008), p. 10.

    [13]Thomas Bruneau and Harold Trinkunas, Op. Cit., p. 10.

    [14]Thomas Bruneau and Harold Trinkunas,Op. Cit., p. 10.

    [15]Thomas Bruneau and Harold Trinkunas, Op.cit., p. 10.

    [16]Iid., p. 10.

    [17]Thomas Bruneau and Harold Trinkunas, Op. cit., pp. 11-15.

      [18] Emanuel Adler, “Seeds of Peaceful Change: The OSCE’s Security Community-Building Model Model,” in Security Communities (United Kingdom : Cambridge University Press, 1998), pp. 123-36.  

      [19] جاريث إيفانز، “تغير معايير الأمن في القرن الحادي والعشرين،” في الخليج: تحديات المستقبل (أبو ظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، 2005)، ص ص. 44-48.

    [20] John J. Mearsheimer, The Tragedy Of Great Power Politics (New York, London: W. W. Norton & Company, 2003), Pp. 51 – 54.

    [21]Thomas K. Adams, The Army after Next : The First Postindustrial Army (London : Praeger Security International, 2006), pp. 07-12.

      [22]Barry Buzan and Ole Waever, Regions and Powers: The Structure of International Security (Cambridge, New York, Melbourne, Madrid, Cape Town, Singapore, Sào Paulo: Cambridge University Press, 2003), pp. 21-22.

          [23] Barry Buzan, People, States, and Fear : The National Security Problem in International Relations ( London: Wheatsheaf Books, 1982), pp. 73-75.

          [24]Chris Brown, “Development and Dependecy,”  In International Relations: A Handbook of Current Theory, ed. Margot Light and A. J. R. Groom (Great Britain: Frances Pinter (Publishers) Limited, 1985), pp. 64 -65.

      [25] Immanuel Wallerstein, “Patterns and Perspectives of the Capitalist World –Economy,” In: International Relations Theory: Realism, Pluralism, Globalism, ed. by Paul R. Viotti & Mark V. Kauppi (New York: Mac Millan Publishing Company, 1993), pp. 501-12.  

      [26]Barry Buzan and Ole Waever, Regions and Powers: The Structure of International Security (Cambridge, New York, Melbourne, Madrid, Cape Town, Singapore, Sào Paulo: Cambridge University Press, 2003), pp. 22-25.

      [27] John Mearcheimer, “Strategies for survival,” in Perspectives on World politics, 3rd ed. Ed. Richard Little and Michael Smith (London and New York: Routledge Taylor & Francis Group, 2006), pp. 69 -78.

      [28] Robert O. Keohane and Joseph S. Nye, “Power, interdependence and the information age,” in Perspectives on World Politics, 3rd ed. Ed. Richard Little and Michael Smith (London and New York: Routledge Taylor & Francis Group, 2006), pp. 217 – 27.

      [29] Jack Donnelly, Realism and International Relations (U K: The Edinburgh Building, Cambridge CB2 2RU, 2004), pp. 81- 107.

      [30]Barry Buzan and Ole Waever, Op. Cit., pp. 45-50.

      [31]Barry Buzan and Ole Waever, Op. Cit., pp. 25-26.

      [32] Kenneth N. Waltz, “Explaining War,”  In: International Relations Theory: Realism, Pluralism, Globalism, ed. by Paul R. Viotti & Mark V. Kauppi (New York: Mac Millan Publishing Company, 1993), pp. 123-40. 

      [33] David Held, «Cosmopolitanism: Globalization Tamed,» in Perspective on World Politics, 3rd ed., ed. Richard Little and Michael Smith (London and New york: Routledge Taylor & Francis Group, 2006), pp. 247-48.

      [34] William S. Cohen, « Globalization Today : How Interconnected Is The World, » in Globalization In The 21th Century : How Interconnecte dis the World ? (Abu Dhabi : The Emirates Center For Strategic Studies And Research, 2008), pp. 13-19.

      [35] K. J. Hols, “States and statehood,” in Perspectives on World Politics, 3rd ed., ed. Richard Little and Michael Smith (London, New York: Routledge Taylor &  Francis Group, 2006), pp. 18-30.

      [36] Frances Fox Piven, «Globalizing Capitalism and the Rise of Identity Politics,» in Perspective on World Politics, 3rd ed., ed. Richard Little and Michael Smith (London and New york: Routledge Taylor & Francis Group, 2006), pp. 308-12.

      [37]Barry Buzan and Ole Waever, Op. Cit., pp. 25-28.

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button