دراسات سياسيةدراسات عسكرية

منظور العلاقات المدنية – العسكرية

مقدمة

  تعتبر “العلاقات المدنية-العسكرية” إحدى أكثر الأطروحات النظرية حداثة وإبداعا في حقل الدراسات الإستراتيجية، التي عالجت إشكالية معقدة خاصة بالدولة الديمقراطية الحديثة، سواء بالنسبة للديمقراطيات العريقة أو الناشئة؛ والمتعلقة بالمعايير الضرورية الواجب توفرها في الدولة الديمقراطية، التي تميزها عن الأشكال الأخرى من الدول، مثل الدولة الشمولية، الملكية، أو العسكرتارية. جوهر هذه النظرية مركّز حول وضع مجموعة من الترتيبات القانونية والدستورية والإجراءات العملية، التي تبقي القوات المسلحة تحت قيادة مدنية منتخبة ديمقراطيا؛ وفي نفس تتمتع، هذه القوات بالفعالية في أداء المهام العسكرية المخولة لها من قبل القيادة المدنية، والكفاية والقدرة على توفير حاجات الدفاع عن سيادة الدولة وحماية بقائها القومي والمحافظة على سلامة واستمرار أراضيها موحدة.

    الجانب المميز في “العلاقات المدنية-العسكرية” كنظرية جديدة في حقل الدراسات الإستراتيجية، أنها جمعت بين العناصر المدنية والعسكرية في آن واحد؛ بما يخدم في النهاية الأهداف الإستراتيجية للدولة، والملخصة في توثيق الرابطة السوسيو-سياسية واجتماعية بين القوات المسلحة والمجتمع، كشرط موضوعي لتوفير التماسك الأمني والدفاعي للدولة. يظهر ذلك بجلاء من خلال إدراج الديمقراطية، الليبرالية الاقتصادية، وحقوق الإنسان؛ جنبا إلى جنب التحكم المدني، الكفاية الدفاعية، والفعالية العسكرية في تحليل الشؤون الإستراتيجية. مما يعني بطريقة أخرى، عدم فصل موضوعات علم الإستراتيجية البحتة والتقليدية عن الشؤون المدنية المجتمعية، مثل حقوق الإنسان والاقتصاد والديمقراطية. ليس هذا فحسب، وإنما ذهبت النظرية بعيدا في اقتراح ضرورة إشراك المدنيين، وفي حالات أخرى توليهم كلية صناعة وتوجيه السياسة الدفاعية للدولة، كجزء من المعايير المطلوب توفرها في الديمقراطيات الناشئة والقديمة على حد سواء. وذلك بأن تضطلع القيادة المدنية المنتخبة برسم سياسة الدفاع الوطني بالاستشارة مع قيادة الأركان، وتوفير الموارد المطلوبة لتنفيذها، وكذلك السماح بإجراء التعديلات والمرجعات المستمرة للإستراتيجية والمذاهب العسكرية وفن العمليات؛ بشكل يجعل القوات المسلحة أكثر قدرة على مواجهة التحديات الأمنية والفعالية القتالية فوق حقل المعركة، والتأقلم السريع مع الظروف الجديدة في الحرب.

    إن نظرية العلاقات المدنية-العسكرية مشتقة من الأفكار الجديدة للأمن والدفاع، المحددة في ضرورة إشراك عناصر المجتمع في صناعة الأمن؛ سواء عن طريق الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمع، أو عن طريق إشراك المدنيين للمساهمة في صناعة الدفاع. يشترك المدنيون في رسم وصياغة الإستراتيجية بواسطة العمل كمستشارين في وزارة الدفاع، عاملين في مراكز الدراسات الإستراتيجية، أساتذة في الأكاديميات والمدارس العسكرية، أو كشركات اقتصادية وصناعية خاصة متخصصة في توفير حاجات القوات المسلحة من المواد المختلفة وتقوية مصادر الدعم اللوجستي. لا تتوقف مساهمة القطاع الخاص في شؤون الدفاع فقط في توفير المواد التموينية والألبسة وغير ذلك من حاجات القوة العسكرية البشرية، وإنما تمتد إلى توفير أدوات القتال من آليات، ذخائر، أسلحة، طائرات، سفن، أدوات اتصال، تدفق قوي للإنترنت، أجهزة استشعار؛ وتبقى القائمة مفتوحة. السبب وراء إشراك المدنيين في الشؤون العسكرية هو التغير في طريقة القتال في الحروب الحديثة، الناشئ عن ظهور المعدات الجديدة التي تستلزم المهارة الفنية البشرية في إدارتها، مثل دمج أجهزة الحاسوب والبرمجيات في معظم المعدات القتالية بما فيها الذخائر، ظهور القيمة الحيوية للإنترنت في التواصل بين القيادة والوحدات القتالية على الأرض، ظهور أهمية الطب في القتال للتعامل مع آثار الحروق أو الإشعاعات النووية أو الأسلحة الكيماوية والبيولوجية. وبالتالي لم يعد القتال مختزلا فقط في القدرة على إطلاق النار من فوهات البنادق، وإنما أيضا الوفرة الكافية في أولئك المهندسين الذين يتوفرون على المهارات الكافية في إبداع الأدوات القتالية الجديدة وتشغيلها أثناء القتال.

    صحيح أن مساهمة القطاع الخاص في الشؤون العسكرية هي أكثر بروزا في المجتمعات الصناعية المتقدمة منها في نظيرتها المتخلفة، ولكن أخذت تنتقل تدريجيا وتنتشر كتقليد اجتماعي في الديمقراطيات الليبرالية الناشئة مثل البرازيل، الأرجنتين، تركيا. وفي الحالات الأقل من ذلك، يعمل القطاع الخاص على توفير المواد التموينية والأداتية غير القتالية، التي هي الأخرى مهمة في أداء القوات المسلحة لمهامها؛ مثل الألبسة، الأحذية، الأغذية المعلبة المقاومة للتلف السريع، الإنشاءات التحتية، مهام الصيانة للمنشآت وهكذا. يقضي الافتراض الأساسي الذي يقوم عليه دور القطاع الخاص في الشؤون العسكرية بأن مبدأ الاحترافية العسكرية تتطلب من القوات العسكرية تركيز اهتمامها على الشؤون القتالية والأمنية البحتة؛ مما يعني بطريقة أخرى، إنهاء التقليد السائد في بعض الجيوش في العالم الثالث المتمثل في انشغال الجيش بمسائل الفلاحة والزراعة، والصناعة التي تحرّفه عن مهامه الحقيقية؛ ويتحول إلى عبء على الميزانية الوطنية العامة للدولة.

   من الناحية المنهجية، يتضمن هذا الكتاب محورين أساسيين، يتعلق المحور الأول بالجانب النظري البحت، من خلال التطرق إلى تحديد مجموعة من المفاهيم الخاصة بالنظرية؛ الفلسفة النظرية للعلاقات المدنية-العسكرية؛ متغيرات النظرية، ومفردات التحليل الخاصة بالنظرية. وتم تخصيص المحور الثاني للحديث عن ست دراسات حالة الخاصة بتطبيق العلاقات المدنية-العسكرية، مختارة من القارة الأوربية (رومانيا)، الأسيوية (تايوان والهند) والأمريكية (الولايات المتحدة الأمريكية والشيلي وكولومبيا)؛ في تحليل العلاقات المدنية-العسكرية من حيث صورها التطبيقية، ورصد التغايرات التطبيقية من حالة لأخرى. تعتبر دراسات الحالة المقترحة مجرد أمثلة لتطبيق نظرية العلاقات المدنية-العسكرية على البيئة الواقعية لحقل الإستراتيجية؛ لأن من حيث الأصل، تعتبر كل حالة على حدة موضوعا لدراسة متكاملة ومستقلة. ولذلك، يعتبر هذا الكتاب مجرد أرضية نظرية للباحثين والطلبة، من أجل التخصص في هذا المجال الأكاديمي من علم الإستراتيجية.

تحديد المفاهيم وتطور البحث

 من ناحية المضمون النظري، تستلزم العلاقات المدنية العسكرية وجود ثلاث عناصر رئيسية وهي: التحكم المدني في القوات المسلحة، الكفاية الدفاعية، والفعالية العسكرية، ويزيد البعض الآخر شرط ليبرالية الاقتصاد الوطني؛ عند توفر هذه العناصر الأربع يمكن الحديث عن وجود علاقات مدنية-عسكرية ديمقراطية وفق المعايير الدولية، بغض النظر عن الجدل حول نسبية توفر كل عنصر من حالة دولية لأخرى. إن المهم عند دراسة أي حالة للعلاقات المدنية-العسكرية الإجابة عن أسئلة توماس برونو Thomas Bruneau وهارولد ترينكيناس  Harold Trinkunas المحددة في: “كيف نطوّر فهما متكاملا حول كيف تؤثر هذه الاتجاهات الكبرى على الإصلاح الدفاعي؟ كيف يمكننا الحكم على ما إذا الإصلاح الدفاعي أنجز فعليا؟ هل نستطيع العلم ما إذا تأثير الإصلاح الدفاعي هو إيجابي أو سلبي؟”.[1] تشكل هذه الأسئلة إشكالية البحث في هذا المجال من الدراسات الإستراتيجية الحديثة، بحيث يجب إخضاع كل دراسة حالة لمثل هذه التساؤلات أو القريبة منها، وفي نفس الوقت يتم تأطيرها بالمتغيرات المستقلة المؤثرة في عملية الإصلاح الدفاعي أو إصلاح سياسة الدفاع (كمتغير تابع)، وهي التحكم المدني، الفعالية العسكرية، والكفاية الدفاعية. يقر أنصار نظرية العلاقات المدنية-العسكرية في التحليل الاستراتيجي بوجود غموض نسبي في هذه المصطلحات، وذلك من حيث عدم القدرة على القيام بالقياس الكمي الدقيق وكذلك الاختلاف حول اختبار التحكيم في حد ذاته، أي بمعنى قياس المتغيرات المستقلة مقارنة بماذا؟ وما هو النموذج المتفق عليه المحدد للمضامين المفاهيمية لهذه المتغيرات، حتى يؤخذ كمقياس معياري لمعرفة مدى تقدم هذه الحالة أو تلك في عملية الإصلاح الدفاعي.

    بسبب أهمية هذه المشكلة وإثارتها للجدل، حاول المنظّرون في الدراسات الإستراتيجية تحديد المضامين الاصطلاحية للمتغيرات المستقلة المتحكمة في العلاقات المدنية-العسكرية.

    تعريف التحكم المدني

    يعني التحكم المدني Civil Control: “السيطرة المدنية على القوات المسلحة والبنيات الأمنية الأخرى، بما في ذلك الشرطة والمصالح الاستخبارية، مع تأكيد خاص على درجة [التحكم] بحيث أن للضباط آليات مؤسساتية للرقابة وأدوات لتطوير جماعة محترفي الدفاع المدنيين”.[2] بالنسبة لتوماس برونو Thomas Bruneau وهارولد تريكوناس Harold Trinkunas، لا يمكن الحديث عن وجود تحكم مدني ديمقراطي في القوات المسلحة ما لم تتوفر “أرضية في الممارسة [العملية] عبر وجود المؤسسات المصففة من قوانين العضوية التي تتعامل مع وزارة الدفاع أو لجان المراقبة، إلى عمليات [وضع وإقرار] الميزانية والتحكم المدني في ترقيات الضباط. إذا هذه المؤسسات هي ليست في المكان [المناسب] وتعمل [بحرية]، فإن التحكم المدني هو فقط واجهة”.[3]

    تعريف الفعالية العسكرية

    وتعني الفعالية العسكريةMilitary Effectiveness : “قدرة قوات الدفاع والأمن على تحمّل الأدوار بنجاح و[تنفيذ] المهام المحددة لها من قبل القادة المنتخبين [ديمقراطيا]. تصطف هذه  الأدوار والمهام من الدفاع عن الإقليم التقليدي إلى [القيام] بالمساعدة الإنسانية، حفظ السلام، مكافحة الإرهاب، وجمع الاستخبارات”.[4]

    تعريف الكفاية الدفاعية

    أما بالنسبة لمتغير الكفاية الدفاعيةDefensive Efficiency ، فإنها تعني بالنسبة لتوماس برونو Thomas Bruneau وهارولد تريكوناس  Harold Trinkunas: “البحث في تحديد ما إذا المؤسسات العسكرية والأمنية يمكن أن تنجز أدوارها ومهامها المحددة لها بكلفة مقبولة للمجتمع. من أجل تحديد الكفاية، يجب أن يتفق القادة المدنيون والعسكريون ابتداءً على الأدوار والمهام”.[5] ويعرّفانها في مناسبة أخرى بأنها: “الفعالية في استخدام الموارد لإنجاز الأدوار والمهام المحددة”.[6]

    تعريف إصلاح سياسة الدفاع

    فيما يخص المتغير التابع (إصلاح سياسة الدفاعDefense Policy Reform) في تحليل دراسات الحالة للعلاقات المدنية-العسكرية عبر العالم، فإن هناك اختلاف بين المنظرين في الولايات المتحدة وأوربا، فإذا كان المنظّرون في أمريكا يفضلون إطلاق مصطلح “إصلاح الدفاع Defense Reform” لوصف المتغير التابع في تحليل العلاقات المدنية العسكرية، فإن نظراءهم في أوربا يفضلون استخدام مصطلح “إصلاح القطاع الأمنيSecurity Sector Reform (SSR) “؛ وكلاهما يعبّران عن عملية إصلاح سياسة الدفاع سنعتمده في التحليل خلال هذا الكتاب. مهما اختلفت التسميات، فإن المضمون واحد المعبّر عن تلك النتائج أو المخرجات المترتبة عن المتغيرات المستقلة المشار لها سابقا، ضمن الإطار العام لنظرية العلاقات المدنية-العسكرية؛ استنباطا من تجارب المجتمعات المختلفة في تنظيم العلاقة بين المؤسسات المدنية والعسكرية، وتثبيت نمط معين للعلاقة، الذي يُنظر له على أنه مظهر يعكس الاستقرار السياسي والمجتمع الحداثي القادر على إدارة شؤونه بنفسه وبطريقة سلمية؛ يطلق على هذا النمط بالحكم المدني الديمقراطي، الذي توضع فيه القوات المسلحة تحت قيادة مدنية منتخبة ديمقراطيا.

    تعريف نظرية العلاقات المدنية-العسكرية

    لقد كان التنظير في العلاقات المدنية-العسكرية موجها نحو معالجة تلك التوترات والاختلاف في وجهات النظر بين القادة العسكريين المزاولين لمهامهم  لفترة طويلة، والقادة المدنيين الذين يتداولون على السلطة وفق فترات زمنية محددة في الدستور؛ في المجتمعات الديمقراطية العريقة. وأيضا هو موجه نحو تفادي مشاكل الانقلابات العسكرية وحدوث الاضطرابات الأمنية والتخلف السياسي في مجتمعات العالم الثالث، خاصة في فترات الانتقال الديمقراطي التي عادة تأخذ فترة زمنية طويلة. الحقيقة أن ليس هناك وصفة دقيقة ومتكاملة للعلاقات المدنية-العسكرية صالحة للتطبيق على كل الحالات عبر العالم، وإنما هناك تجارب مختلفة ونسبية كبيرة من حيث المضمون والفترة الزمنية المطلوبة لتحقيق الإصلاح في الشؤون الدفاعية؛ لكن ما هو مهم من كل ذلك، أن العلاقات المدنية-العسكرية تعني في جوهرها الاستقرار السياسي والأمني ومؤشر أساسي على تقدم الدولة والمجتمع نحو الحكم المدني والنمط الحداثي في طريقة إدارة شؤون السياسة الداخلية والخارجية. ليس هذا فحسب، وإنما تعكس العلاقات المدنية-العسكرية مستوى معين من قدرة المجتمع ونجاحه في إدارة شؤون الدولة بنفسه؛ في مقابل ذلك، استمرار الحكم العسكري أو تحكم الجيش في شؤون السياسة الداخلية يعكس عنصر الفشل السياسي للمجتمع في إدارة الدولة.

    انطلاقا مما سبق، يمكن تعريف نظرية العلاقات المدنية-العسكرية بأنها: كل الإجراءات والقرارات والسياسات التي تجعل القيادة العسكرية/الأمنية تعمل تحت إمرة القيادة السياسية المدنية، وتقوم بأداء دور الدعم والتعزيز لوظائف القيادة المدنية في إدارة البلاد محليا وخارجيا، والحفاظ على الاستقرار السياسي والأمني للمجتمع؛ خاصة تحت ظروف بروز تحديات إستراتيجية كبيرة تواجه البلاد، من قبيل تلك التي كانت سائدة خلال فترة الحرب الباردة، أو خلال موجة الدمقرطة والعولمة في تسعينيات القرن العشرين، أين شهدت العديد من مناطق العالم اضطرابات أمنية حادة.

    الفلسفة النظرية للعلاقات المدنية-العسكرية

    يرجع الفضل الأول للتنظير حول مجال العلاقات المدنية-العسكرية في الدراسات الإستراتيجية إلى كل من صامويل هانتغتونSamuel Huntington  وموريس جانويتزMorris Janowitz ؛ اللذان ركزا على تطور الظاهرة عبر الفترات التاريخية التي مرت بها الديمقراطيات الجديدة منذ الثورة البرتغالية في عام 1975 إلى غاية نهاية تسعينيات القرن العشرين، وكل الدراسات والأبحاث التي جاءت بعد ذلك مدينة للأرضية النظرية التي صاغها هذان المنظّران في العلاقات الإستراتيجية الدولية. ما هو مهم في التنظير للعلاقات المدنية-العسكرية، أن المنظرين اتخذوا من الديمقراطيات العريقة المستقرة سياسيا وأمنيا كمرجعية معيارية أساسية للتحكيم والقياس عليها كل الديمقراطيات الأخرى الناشئة أو حتى الجديدة أو الفتية؛ على افتراض أن المفاهيم والعناصر النظرية مشتقة من تجربة الديمقراطيات العريقة في التعامل مع المنظمات العسكرية والأمنية، بطريقة يستطيع فيها القادة المدنيون استرضاء قادة الجيش والأمن من أجل القيام بالمهام وتنفيذ السياسات التي يرسمونها.

    من الناحية التاريخية، ظهرت أهمية تحليل العلاقات المدنية-العسكرية كموضوع أساسي في الدراسات الإستراتيجية الحديثة مع بداية ما اسماه صامويل هانتغتون “بالموجة الثالثة للديمقراطية” في منتصف سبعينيات القرن العشرين في البرتغال وإسبانيا مع موت الجنرال فرانسيسكو فرانكوFrancisco Franco  في أواخر 1975. الحقيقة أن كل من البرتغال وإسبانيا -مثل العديد من الدول عبر العالم- كانت تحكمها ديكتاتوريات عسكرية، لعبت خلالها المنظمات العسكرية والأمنية دورا مهيمنا على السياسة الداخلية والخارجية، بل والهيمنة حتى على الاقتصاد الوطني والتجارة الخارجية؛ مع ارتكاب انتهاكات كبيرة لحقوق الإنسان بواسطة الملاحقات الأمنية والقضائية لكل المعارضين السياسيين في الداخل والخارج. لذلك، عندما يأتي التحول الديمقراطي يتطلب تغييرات راديكالية في النظم والقوانين والسياسات العامة لتلك البلدان.

    المفارقة الإستراتيجية المثيرة للاهتمام أن نهاية الديكتاتوريات العسكرية كانت بواسطة المنظمات العسكرية، بحيث لعبت الجيوش في تلك الدول دورا مهما في التحول نحو الديمقراطية وإرساء قواعد النظام الديمقراطي المدني. الأعمق من ذلك، أن الحالات المستشهد بها في التنظير للعلاقات المدنية-العسكرية، قد نجحت مجتمعاتها في تحقيق التحول الديمقراطي والتأسيس لنظام مدني، وأصبحت فيها الجيوش تقبل العمل تحت قيادة مدنية منتخبة ديمقراطيا. على عكس حالات الدول العربية (الجزائر، مصر، سوريا، العراق، اليمن مثلا) التي كان للجيش فيها دورا مهيمنا، لكنه لم يقبل تسليم السلطة لحكومات مدنية منتخبة ديمقراطيا، وفي حالات أخرى تنازل عن بعض السلطات فقط، وأبقى هيمنته قائمة على مجالات حيوية في السياسة الداخلية والخارجية.   

    بالنسبة لصامويل هانتغتون، بدأت الموجه الثالثة للديمقراطية من البرتغال عام 1975 ثم انتشرت لاحقا لتشمل الأنظمة العسكرية في أمريكا اللاتينية، أسيا، بعض الدول الإفريقية، وأوربا الشرقية بعد سقوط  جدار برلين عام 1989. الحقيقة أن ليس هناك مثالا واحدا في الاستدلال على دور الجيش في إحداث التحول الديمقراطي، بل شملت دراسة هانتغتون وغيرها عددا كبيرا من الأمثلة، والتي منها رومانيا مثلا التي لعب فيها الجيش دورا مركزيا في الانتقال من النظام الديكتاتوري الذي كان يحكمه نيكولاي شاوسيسكو Nicolae Ceausescu بواسطة قبضته الأمنية الحديدية على شؤون السياسة الداخلية والخارجية، إلى النظام الديمقراطي القائم على التعددية السياسية، الليبرالية الاقتصادية وحماية حقوق الإنسان. لذلك، معظم دراسات الحالة التي درست ضمن موضوع العلاقات المدنية-العسكرية من قبل عدد من المنظرين، اتخذت من المنظمات العسكرية كمتغيرات مستقلة جزئية في إحداث الانتقال الديمقراطي وتأسيس قواعد جديدة للعلاقات المدنية-العسكرية؛ على افتراض أن حالات الانتقال الديمقراطي في أوربا الجنوبية، أمريكا الجنوبية، وأوربا الشرقية قد لعب فيها الجيش دورا مركزيا، بواسطة تأمين الانتقال من الأنظمة الشمولية العسكرية إلى النظم الديمقراطية المفتوحة؛ ومن وراء ذلك القبول بقواعد العلاقات المدنية-الجديدة، مثل التحكم المدني في المؤسسات العسكرية والأمنية، الفعالية العسكرية، الكفاية الدفاعية، والليبرالية الاقتصادية.

    مع نهاية الحرب الباردة عام 1991، توسعت دائرة اهتمامات نظرية العلاقات المدنية-العسكرية مع موجة الدمقرطة والعولمة الاقتصادية التي اجتاحت العالم، بأن انضم عدد كبير من الدول إلى قائمة التحول الديمقراطي، وكثر عدد الديمقراطيات الناشئة عبر العالم؛ وبالتالي ظهرت الحاجة الملّحة لضبط والتنظير للعلاقات التي يجب أن تربط القيادة العسكرية بالقيادة السياسية المدنية المنتخبة من منظور المعيارية الديمقراطية. تأكدت أهمية العلاقات المدنية-العسكرية مع ظهور فواعل المجتمع المدني العالمي الجديدة، وزيادة أنشطة المؤسسات والمراكز القديمة في إنجاح عملية التحول الديمقراطي عبر العالم، ومساعدة الحكومات الجديدة على تطوير علاقات وظيفية وجديدة مع المنظمات العسكرية والأمنية، بشكل يمنع وقوع أي صدام بين الطرفين من شأنه أن يقوّض عملية الانتقال الديمقراطي كلية.

    من هذه المؤسسات والمنظمات غير الحكومية التي لعبت دورا كبيرا في إرساء معايير وقواعد العلاقات المدنية-العسكرية، نجد “منظمة الأمن والتعاون الأوربيةOrganization Security and Cooperation European” التي تأسست في أغسطس 1957، خلال اجتماع هلسنكي الذي ضم 35 دولة وهي كندا والولايات المتحدة وكل الدول الأوربية آنذاك بما فيهم الاتحاد السوفياتي باستثناء ألبانيا. وقد تم تأسيس هذه المنظمة تحت إعلان ما سمي آنذاك “باتفاق هلنسكي النهائي Helsinki Final Act”.[7] لعبت هذه المنظمة دورا كبيرا في نجاح الانتقال الديمقراطي في كل من البرتغال وإسبانيا خلال ثمانينيات القرن العشرين. وكذلك هناك “مركز التحكم الديمقراطي في القوات المسلحةCenter for the Democratic Control of Armed Forces”، الذي اتخذ من مدينة جنيف مقرا له. إحدى جوانب المساعدة التي قدمتها هذه المؤسسات الدولية غير الحكومية من أجل تطوير العلاقات المدنية-العسكرية في الديمقراطيات الجديدة، تأهيل المنظمات العسكرية على القيام بمهام الإغاثة الإنسانية، التدخل العسكري لفض النزاعات الأهلية وإنهاء الحروب، المشاركة في قوات حفظ السلام الأممية، التدخل في الكوارث الطبيعية والمناخية، تعليم الطرق الجديدة في مكافحة أعمال الشغب المنسجمة مع معايير حقوق الإنسانية العالمية، وغيرها من الأنشطة ذات مضامين الأمن الإنساني بصفة عامة، كما هي مطروحة من قبل المنظّرين في هذا المجال.[8]

    كانت إحدى النتائج المباشرة للعلاقات المدنية-العسكرية في تسعينيات القرن العشرين وما بعدها، انخراط عدد كبير من جيوش الحكومات الديمقراطية الجديدة في العمل تحت قيادة الأمم المتحدة من أجل القيام بعمليات حفظ السلام، المساعدة في أعمال الإغاثة وفض النزاعات التقليدية وغير التقليدية في مناطق النزاعات والبيئات الهشة أمنيا عبر العالم. لقد ازدادت الحاجة إلى القوات المسلحة المحترفة وتعميق عمليات إصلاح الدفاع تحت ظروف انتشار الحرب العالمية على الإرهاب وظهور الاضطرابات الأمنية في الشرق الأوسط وإفريقيا، أين أصبحت العديد من الدول مهددة بالسقوط في قبضة الجماعات المتشددة في منطقة الساحل وغرب إفريقيا والشرق الأوسط. لذلك، ازدادت الأعباء الأمنية على الأمم المتحدة في القيام بمهام التدخل الإنساني، والحاجة المتزايدة لمزيد من القوات لنشرها في المناطق المتفجرة أمنيا.

    لم تكن مهام إصلاح سياسة الدفاع محددة فقط في المشاركة الفعالة في الأمن العالمي تحت قيادة الأمم المتحدة، ولكن كان مطلوب من الجيوش المحترفة القيام بمهام حماية حقوق الإنسان، الديمقراطية، احتواء انتشار العنف المجتمعي، والعمل الاستخباري المشترك من أجل الحد من تهديدات الإرهاب العالمي. أي بمعنى آخر، ليس القيام فقط بمهام الدفاع التقليدي كما هي محددة من قبل أنصار الواقعية الجديدة،[9] وإنما أيضا تنفيذ مهام الدفاع المجتمعي والأمن الإنساني عبر العالم، مثل مواجهة الكوارث الطبيعية، الأوبئة، الاضطرابات المناخية، الجريمة المنظمة، ومكافحة المخدرات؛ أي المزاوجة بين الأمن القومي، الأمن الديمقراطي، والأمن الإنساني. يجري تنفيذ هذه الأبعاد لفئات المهام ضمن العلاقات المدنية-العسكرية وفق ثلاثية: التحكم المدني في القوات المسلحةCivil Control ، الكفاية الدفاعية Defensive Efficiency، والفعالية العسكريةMilitary Effectiveness  . لكن يجب التأكيد على ملاحظة مهمة، أن هذه العناصر لا يمكن أن تعمل بفعالية وفي علاقة اعتماد متبادل إلا تحت ظروف الديمقراطية السياسية المجتمعية، ووجود حكومة منتخبة ديمقراطيا تدير شؤون الدولة والمجتمع.

   من الناحية العملية، لم تكن هناك وصفة مثالية لتطبيق المضامين الثلاثة للعلاقات المدنية-العسكرية على كل حالات العالم، وإنما كانت هناك أوصاف مختلفة واجتهادات متغايرة، وكذلك اختلفت الدول في الامتثال لمضامين كل عنصر كما هي موصوفة من قبل المنظرين في الدراسات الإستراتيجية. لكن بالرغم من التباين في الامتثال لمتطلبات كل عنصر، إلا أن هناك حد أدنى من المعايير التي يجب أن تتوفر في عملية إصلاح سياسة الدفاع التي تقوم بها الحكومات الديمقراطية الجديدة. يجب أن يتضمن مفهوم التحكم المدني من ناحية الممارسة العملية والتشريع القانوني، وجود قيادة مدنية على رأس وزارة الدفاع، مزودة بكادر محترف من العسكريين والمستشارين المدنيين ذوي خبرة بالشؤون الإستراتيجية والعسكرية، وكذلك وجود رقابة مدنية على اللجان التي تشرف على صياغة سياسات الدفاع، دراسة ميزانيات الدفاع وترشيد النفقات العسكرية؛ بالإضافة إلى الإشراف المدني على تحديد مهام وأدوار القوات المسلحة على المستوى الداخلي والخارجي على حد سواء، والإشراف على مسائل الموظفين في المنظمات العسكرية والأمنية مثل طرق وشروط التوظيف، التعليم العسكري، التدريب القتالي، معايير الترقية، ونظام التقاعد.

     كذلك بالنسبة للعنصر الثاني في العلاقات المدنية-العسكرية وهو الفعالية العسكرية، فإن النسبية هي المسيطرة على توفير متطلباتها من دولة لأخرى بين ما هو موصوف نظريا، وما هو وجود على البيئة الفعلية للدولة. كما ذكرنا من قبل، تقوم القيادة المدنية بتحديد أدوار ومهام القوات المسلحة، وما هو مطلوب من هذه الأخيرة الفعالية العسكرية في تنفيذ هذه المهام والأدوار بأقصى سرعة وأقل التكاليف. تتضمن الأدوار المطلوبة من القوات المسلحة عمليات الإغاثة في الكوارث، دعم الشرطة، جمع الاستخبارات، عمليات دعم السلم، مكافحة الإرهاب، مكافحة التمرد، وشن الحرب؛ العنصر الذي يربط بين كل هذه المهام هو الفعالية العسكرية، التي في معظم الأحيان تشكل تحديا استراتيجيا كبيرا أمام القوات المسلحة. من خلال التجربة العملية في السنوات الأخيرة، نجد أن هناك تباينا كبيرا في مستوى الفعالية العسكرية في إنجاز مثل هذه المهام من منطقة لأخرى ومن ظرف زمني لآخر. فإذا كانت قوات حفظ السلام الأممية قد استطاعت استعادة الأمن وتثبيت الاستقرار في منطقة البلقان، فإن أداءها كان متدنيا جدا في مناطق أخرى مثل منطقة الساحل في إفريقيا، أفغانستان، وإفريقيا الوسطى. كذلك كانت فعالية القوات الأمريكية والغربية عموما متدنية في احتواء تهديدات الجماعات الإرهابية، والحد من العنف المسلح في العراق وأفغانستان. صحيح أن الفعالية العسكرية تتطلب شروطا موضوعية من قبيل وجود موارد كافية، بما في ذلك المال، التجهيز، والتدريب؛ إلا أن القوات الأطلسية في أفغانستان والأمريكية في العراق كانت تتوفر على معظم هذه الشروط إن لم نقل كلها، إلا أن نتائج عملها كانت محدودة من الناحية العملية.

    صحيح أن الكثير من المنظمات العسكرية والأمنية في الدول تلجأ إلى تفعيل آليات الأحلاف، التنسيق الأمني، التبادل الاستخباري، إشراك الوكالات والمنظمات المدنية الرديفة، من أجل تصعيد الفعالية العسكرية لإنجاز المهام والأدوار أو إحباط التهديدات وتحقيق مهام الردع والحماية؛ إلا أن حجم التهديدات المتعددة الخواص في تعاظم مستمر من فترة زمنية لأخرى، سواء تلك المتعلقة بالعطب الفيزيقي أو العطب السايبيري. اشتقاقا من طبيعة وخاصيات التهديدات الأمنية وقابليات العطب، فإن الفعالية العسكرية لا تبنى فقط على دور القوات المسلحة، وإنما أيضا إشراك الوكالات والفواعل المدنية مثل المهندسين في الحاسوب، الاتصالات، العلماء في الرقميات، الخبراء في الإقناع وحرب الأفكار وهكذا. يمكن الاستشهاد في هذا الصدد بالهجمات الإلكترونية يوم 14/05/2017 بواسطة فيروس “الفدية” الذي ضرب 150 دولة عبر العالم معظمها في القارة الأوربية، وألحقت أضرارا بـ 200 ألف حساب إلكتروني خاص بالأفراد والمؤسسات. تحتاج الفعالية العسكرية في هذا النوع من التهديدات إلى عنصرين أساسيين هما: وجود تحالف دولي لتعقب مصدر الهجوم وتفادي الأضرار المحتملة، والثاني الاستعانة بمهندسين محترفين في تصميم وإبداع أنظمة الحماية والفيروسات المضادة من أجل إدارة الحرب السايبيرية.[10]

    الفكرة الأساسية المطروحة من قبل أنصار أطروحة العلاقات المدنية-العسكرية في الدراسات الإستراتيجية أن الفعالية العسكرية لا تشتق فقط من عمليات إصلاح الدفاع المترافقة مع عملية الدمقرطة السياسية، وإنما يمكن أن تشتق أيضا من لجوء الحكومات الديمقراطية الجديدة إلى بناء علاقات التحالف والتعاون حول الشؤون العسكرية والاستخبارية وعمليات حفظ السلم ودعم الأمن الإقليمي والدولي، مع الحكومات الديمقراطية الأخرى عبر العالم. على افتراض أنه في بعض الظروف والسياقات الأمنية والإستراتيجية، تكون القوات المسلحة غير قادرة على احتواء كل المشكلات الأمنية واستيعاب كل التعقيدات الإستراتيجية المطروحة في الشؤون الدولية المركبة، اعتمادا على قدراتها الذاتية؛ وبالتالي تحتاج إلى خبرة ودعم ومساعدة الآخرين لتعزيز الفعالية العسكرية لوحداتها القتالية الميدانية وقوات الدعم القتالي واللوجستي. يستشهدون على ذلك بمثال منغوليا التي كانت خلال الحرب الباردة مرتبطة استراتيجيا وأمنيا بعلاقتها الوثيقة مع الاتحاد السوفياتي، كدولة مغلقة عن البحر؛ لكن منذ عام 1990، انفتحت على العالم الخارجي ونسجت علاقات التعاون مع القوى الديمقراطية الغربية مثل الولايات المتحدة، اليابان، كوريا الجنوبية وأوربا؛ وبالتالي تشتق الفعالية العسكرية لقواتها المسلحة من علاقات التحالف والتعاون العسكري والأمني مع القوى الديمقراطية في الخارج، وانخرطت بموجب في العمليات الدولية لحفظ السلام باسم الأمم المتحدة. لا تعتبر منغوليات المثال الوحيد الذي تشتق فيه القوات المسلحة فعاليتها العسكرية من علاقات التحالف الاستراتيجي والأمني الخارجي، وإنما معظم الديمقراطيات الجديدة في أوربا وأمريكا اللاتينية وأسيا، نهجت نفس المقاربة من أجل تأكيد فعاليتها السياسية والأمنية على المستوى الدولي، وفي نفس الوقت الحصول على المساعدات والاستفادة من الخبرات لتعزيز الفعالية العسكرية لقواتها المسلحة.

    العنصر الثالث المهم في مقاربة العلاقات المدنية-العسكرية -كما هي مطروحة من قبل أنصارها- هو الكفاية الدفاعية والتي تعني في أحد أبعادها توفير الموارد الكافية لتغطية حاجات الدفاع الضرورية في كل أبعاده، بشكل يصبح هناك توازن مقبول وأكثر فعالية بين الموارد المتاحة والحاجات الدفاعية المطلوبة والأهداف المحددة لإنجازها من قبل القوات المسلحة. ليس من المنطقي أن توضع أهداف دفاعية تفوق الحاجات أو الموارد المتاحة، لأن ذلك سوف يفقد القوات المسلحة توازنها ويضعف قدراتها في القيام بالمهام العسكرية، سواء كانت ذات خاصية التقليدية أو غير تقليدية. التقليد الشائع لدى كل الحكومات عبر العالم، أن تحدد نسبة معينة من الدخل القومي لشؤون الدفاع والأمن، تشمل تغطية نفقات عمليات التدريب، تحديث المعدات، التسليح، الرواتب والحوافز، وعمليات التعليم وبرامج التكوين العسكري في المدارس الوطنية أو بواسطة الشراكة مع الأطراف الخارجية.

    تخضع عملية تحديد نسبة الدخل القومي الموجّهة نحو الشؤون العسكرية لعدد من الاعتبارات السياسية والإستراتيجية والسياقية، الداخلية والخارجية. إذ أن عادة الدول التي تواجه أزمات أمنية داخلية أو تواجه تهديدات أمنية على حدودها، أو لديها تعهدات أمنية نحو الآخرين على المستوى الدولي، أو تقع جغرافيا في منطقة غير مستقرة أو متفجرة أمنية (منطقة الخليج العربي مثلا)؛ تميل إلى تخصيص نسبة معتبرة من دخلها القومي لتغطية نفقات شؤون الدفاع. لكل الأسباب السابقة الذكر وأخرى، تتباين الدول في طريقة استخدامها للموارد من أجل تحقيق غايات الدفاع، بل بعض الدول تكون رهينة عقيدتها العسكرية في مقاربة استخدامها للموارد، إذ أن الدول التي تتبنى مقاربات التدخل الخارجي المتعدد الأشكال والانخراط في الأحلاف العسكرية والشراكات الإستراتيجية، عادة تتضاعف أعباؤها العسكرية؛ على عكس الدول التي تتبنى عقيدة عدم التدخل أو عدم التورط في الأزمات الأمنية الخارجية.

   الفكرة الأساسية المطروحة في هذا الصدد أن الكفاية الدفاعية مسألة نسبية يصعب توحيد معاييرها وإسقاطها على كل دراسات الحالة الدولية، لذلك المعيار الأساسي في تحديدها هو ذاتي يخضع لتقدير كل دولة على حدة، وبالتالي هو قائم على تقدير الدولة أنها قادرة على إبقاء خصومها بعيدين عن حدودها أو منع التدخل في شؤونها الداخلية، أو منع التأثير على خياراتها الإستراتيجية وسياستها الخارجية. لكن ما هو مهم وذو علاقة بالعلاقات المدنية-العسكرية، أن تحرص الحكومات الديمقراطية على توفير الموارد اللازمة للمخططين الدفاعيين في القوات المسلحة، من أجل تحقيق الغايات الدفاعية بفعالية كبيرة، وتبديد مخاوف القادة العسكريين حول احتمال نكوص الحكومة عن تعهداتها إزاء تطوير قدرات القوات المسلحة الدفاعية، تحت ضغوط مطالب الرفاهية الاجتماعية والتنمية الاقتصادية الملّحة، أو هيمنة أولويات الشراكات الاقتصادية وتشجيع الاستثمارات الأجنبية على حساب شؤون الدفاع. وهنا يتدخل الذكاء السياسي لدى القيادات الديمقراطية الجديدة في حسن قراءة إدراكات العسكريين ومعرفة مخاوفهم، من أجل التجاوب معها بإيجابية؛ وأن الفشل في ذلك سوف يؤدي إلى تقويض العملية الديمقراطية بواسطة الانقلاب العسكري، أو السماح بانتشار الفوضى الأمنية وتشجيع الاضطرابات الاجتماعية في البلاد.

    استنباطا من واقع تجارب التحول الديمقراطي الحديثة، هناك مشكلة جد معقدة تواجه أطروحة العلاقات المدنية-العسكرية في الدراسات الإستراتيجية، والمتمثلة في ظهور التناقض في بعض الأحيان بين الأبعاد الثلاثة: التحكم المدني، الفعالية العسكرية، والكفاية الدفاعية. إذ يمكن أن يؤدي التحكم المدني إلى إضعاف الفعالية العسكرية للقوات المسلحة، بسبب الميول الكبيرة للقادة المدنيين نحو القطاعات الاقتصادية والاجتماعية أكثر من غيرها، أو بسبب الخوف من هيمنة العسكريين على السياسة أو استمرار تأثير الماضي السياسي-الأمني للمؤسسة العسكرية على طريقة تفكير القيادة الديمقراطية الجديدة؛ لذلك، تميل الأخيرة إلى الحد من نفوذ الأولى وحتى إضعافها. ولذلك، ظهرت بعض الصراعات والمنافسة بين القيادة العسكرية والسياسية حول من هو الأولى بقيادة وزارة الدفاع والمنظمات الأمنية الأخرى، خاصة تحت ادعاء العسكريين أن المدنيين الذين حملتهم الانتخابات الديمقراطية إلى السلطة، ليست لديهم دراية كبيرة بالشؤون العسكرية وحاجات الدفاع.

    لقد كان تأثير هذه المشكلة على العلاقات المدنية-العسكرية متباينا من حالة لأخرى، إذ نجحت الكثير من الديمقراطيات الجديدة في أوربا وأمريكا اللاتينية في تطوير صياغات جديدة وناضجة ومقبولة من الطرفين، من أجل وضع حزمة من المعايير والقوانين التي تضبط علاقة المدني بالعسكري في السلطة، وتنتج الآثار المرغوبة. وفي حالات أخرى، قوضت هذه المشكلة العملية الديمقراطية بواسطة عودة العسكريين من جديد إلى الهيمنة على السياسة، وهي الحالات الأكثر شيوعا في العالم العربي وبعض الدول الإسلامية (باكستان، ومحاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا في يوليو 2016). تتحدد عادة مخاوف العسكريين حول لجوء القيادة المدنية إلى تقليص ميزانية الدفاع التي تؤثر بدورها على أداء المهام الدفاعية للقوات المسلحة، تقليص الامتيازات المعهودة للقادة العسكريين، وتهميش دور القوات المسلحة في السياسة؛ في مقابل ذلك، تتحدد مخاوف القيادة المدنية في سلب مهامها الدستورية من قبل القيادة العسكرية، وقوعها تحت سيطرة العسكريين، مخاوف وقوع انقلاب عسكري، تأثير الخبرة السياسية الماضية مع القوات المسلحة على تفكير النخبة السياسية الجديدة الحاكمة. تشكل كل هذه العناصر وأخرى مضمون المشكلة المركّبة، التي يمكن أن تواجه العلاقات المدنية-العسكرية في الديمقراطيات الجديدة. 

    [1]Thomas Bruneau and Harold Trinkunas, « Global Trends and Their Impact on Civil-Military Relations, » in Global Politics Of Defense Reform, ed. Thomas Bruneau and Harold Trinkunas (United States of America: Palgrave Macmillan, 2008), p. 10.

    [2]Thomas Bruneau and Harold Trinkunas, Op. Cit., p. 10.

    [3]Thomas Bruneau and Harold Trinkunas,Op. Cit., p. 10.

    [4]Thomas Bruneau and Harold Trinkunas, Op.cit., p. 10.

    [5]Iid., p. 10.

    [6]Thomas Bruneau and Harold Trinkunas, Op. cit., pp. 11-15.

      [7] Emanuel Adler, “Seeds of Peaceful Change: The OSCE’s Security Community-Building Model Model,” in Security Communities (United Kingdom : Cambridge University Press, 1998), pp. 123-36.  

      [8] جاريث إيفانز، “تغير معايير الأمن في القرن الحادي والعشرين،” في الخليج: تحديات المستقبل (أبو ظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، 2005)، ص ص. 44-48.

    [9] John J. Mearsheimer, The Tragedy Of Great Power Politics (New York, London: W. W. Norton & Company, 2003), Pp. 51 – 54.

    [10]Thomas K. Adams, The Army after Next : The First Postindustrial Army (London : Praeger Security International, 2006), pp. 07-12.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى