نظرية العلاقات الدولية

نشأة وتطور النظام الدولي عبر العصور

المبحث الأول/ نشؤ وتطور النظام الدولي
المبحث لثاني / طبيعة ومفهوم النظام الدولي
المبحث الثالث / أثر تطور النظام الدولي على مفهوم السيادة

المبحث الأول
نشؤ وتطور النظام الدولي

فكرة التنظيم الدولي فكرة قديمة راودت المفكرين والحكام منذ اقدم العهود اذ يمكن العثور على جذورها عند الشعوب القديمة وكذلك في العصور التاريخية التالية. ومع ذلك لم تظهر الفكرة الى الواقع العملي اذ لم تكن قد كتملت لها الأسباب الموجبة لوضعها موضع التنفيذ (1)، وجوهر فكرة التنظيم الدولي يكمن في أن العلاقات بين الدول تكون أكثر سلمآ وأعمق أمنا وأشمل تعاونآ اذ كانت هذه العلاقات تجرى من خلال قنوات منتظمة أى اجهزة منظمة ، والبديل لايمكن أن يكون الا سيادة لقانون الغاب سواء تمثل ذلك في فوضى عالمية أو في أمبراطورية عالمية حيث أن العالم تردى بين هاتين الصورتين لهذا البديل دون أن يتمكن أيهما من تحقيق السلم أو التعاون.

هذا التنظيم الدولي وهو يعني حل المشاكل وتحقيق التعاون لا يتصور قيامه بهذا الدور على وجه ملائم وفعال الا بوجود هيئة أو منظمة دائمة يتم من خلالها وعن طريقها العمل على تحقيق ذلك . وانطلاقآ من هذا فأن لمنظمة الدولية هي مقتضى جوهر فكرة التنظيم الدولي بالاضافة الى أنها تقدم لنا الدليل لخارجي أو الظاهر على وجود هذا التنظيم . ومع ذلك فاذا كانت المنظمة الدولية ليست غاية في ذاتها بقدر ما هي وسيلة لتحقيق التنظيم لدولي لاأنه لا يتصور تحقيق ذلك بدون وجود منظمة أو منظمات دولية . وهكذا تصبح الوسيلة غاية كما هو الحال تماما داخل الدول حيث لا يتصور تحقيق الأمن والعدل داخل أي اقليم ما لم يكن هناك تنظيم ما في هذا الاقليم (2).

يكمن مضمون التنظيم لدولي في الحيلولة دون تغيير الواقع الدولي، او الاخلال بأوضاعه، والعلاقات فيه، او تبديلها بما يلائم مصالح دولة ما، وذلك باتخاذ اجراءات دولية جماعية ضاغطة، او مانعة لمحاولات هذه الدولة او مجموعة الدول. كما ان نظام الامن الجماعي ينكر استعمال وسائل العنف المسلح لحلّ التناقضات والخلافات القائمة في مصالح الدول، وسياساتها، بل يؤكد على استعمال الطرق والأساليب السلمية.

ولما كانت القوة ما تزال هي الأساس في تحديد إطار الاستراتيجيات للدول، وهي المحرك لأنماط العلاقات الخارجية وتقرير طبيعة اهداف سياساتها، (وباعتبار ان امكانات الدول في مجال القوة ليست متساوية في الكم والكيف)، فإن الأقوى كان وما زال يستغل هذه القوة لفرض مصالحه على الآخرين من دون اعتبار لمصالحهم، وبغضّ النظر عما يسببه من أضرار لهذه المصالح، من هنا كانت فلسفة «الحق للقوة» (Might makes right) هي السائدة في المجتمع الدولي منذ القديم. وحتى اليوم، وعلى الرغم من النظريات المثالية الحالمة، فإن القوة هي الواقع في التعامل الدولي، اما الاخلاقيات فتقع في مكان ما بينهما.

انطلاقاً من هذا الواقع ونتيجة الحروب التي لم تتوقف عبر التاريخ، قام منظرو السياسة الدولية بوضع النظريات لإقامة السلام العالمي، ونظام الامن الجماعي لردع المعتدي مهما كان قوياً او ضعيفاً، لتمكين المجتمع البشري من العيش بسلام وكرامة، وفق مبادئ واسس تلتزم باحترامها الدول كافة، وعلى قدم المساواة كبيرها وصغيرها، فهل تحقق ذلك فعلاً؟!

1. ترجمة د.حسن صعب باسم:تكوين الدولة.بيروت1966 دار العلم للملايين ص.465 وما بعدها.

2. د.محمد عزيز شكري:التنظيم الدولي العالمي بين النظرية والواقع،الطبعة الأول1973.دار الفكر ص.49 هامش رقم 2.

يعتبر منظرو السياسة الدولية ان اعلى منافع البشرية وخيرها يوجد في سيادة القانون: القانون الدولي، والقانون الخاص، وضرورة تطبيق القوانين التي اتفق عليها، ولكن الواقع التطبيقي، والممارسة الفعلية في العلاقات الدولية يسمح بطرح التساؤل: أي قانون؟ وقانون من؟ فالقانون ليس شيئاً مجرداً، كما لا يمكن فهمه بمعزل عن مكوناته السياسية التي أوجدته، ولا عن المصالح السياسية والاقتصادية التي يخدمها، ذلك ان القوانين الدولية والتنظيم الدولي، والنظام الدولي المنبثق عنها، انما هو تعبير عن ارادة، ورغبات، ومصالح القوى التي صاغت هذا القانون، ووضعت قواعده، وهو يعمل في الحقيقة، وبنسبة كبيرة من الواقع، لخدمتها، وتحقيق أهدافها.

هكذا فان هذا التنظيم الدولي لم يتم طفرة واحدة ، ولكنه- مثله في ذلك مثل كل التنظيمات الاجتماعية الأخرى ، أخذ صورة التطور . واذا كان هذا التطور بطيئا غالبا الا أنه لا يزال مستمرا.

وعليه فان نظرة سريعة الى الفكر السياسي في القرون الماضية تظهر الملامح العامة التي نظر اليها بعض المفكرين لرؤيتهم للنظام العالمي الامثل والسبل الآيلة الى سعادة البشر ورفاه حياتهم وعلاقاتهم ، وان كان تضارب الافكار والمعتقدات شيئا ظاهرا وبارزا بين هذه الافكار الا ان كل منها سعت جاهدة الى اظهار نفسها البديل الملائم والصحيح للحياة الكريمة والرقي والازدهار الذي يحلم فيه جميع بنو البشر .

وبناء على ذلك سنتعرض في الفقرة التالية وفي أيجاز شديد لأهم ما يميز هذه الحقبة التاريخية خلال عصورها المختلفة مركزين في بحثنا على الجوانب التاريخية لفكرة التنظيم الدولي أما الأحداث والتطورات القانونية فسيتم التنوية عنها في موضوع لاحق عند الحديث عن تطور القواعد القانونية الدولية في العصور الحديثة.

لقد مر النظام العالمي بالعديد من التحولات المتداخلة خلال العصور المختلفة التي قسمها علماء التاريخ الى ثلاث عصور رئيسية: العصر القديم _ العصور لوسطى _العصر الحديث ،حيث تدرجت ملامح النظام العالمي من الأنظمة القبلية الى الأنظمة الامبراطورية ثم ظهور الدويلات والوحدات السياسية وصولآ الى الدولة القومية في العصر الحديث وكانت هم سمات النظم العالمي في هذه العصور فيما يلي :

أولآ : في العصر القديم 5500 ق.م __ 500 م

تمتد هذه الحقبة من بداية التاريخ المعروف وحتى سقوط الامبراطورية الرومانية عام 476 م، ويذكر المؤرخون القدماء اكثر من دليل على وجود علاقات دولية في العصور القديمة تحكمها بعض القواعد، كمعاهدات الصلح التي انهت الكثير من الحروب، الا انها كانت ضيقة ولا تشمل الا الشعوب المتجاورة، التي كانت تشن الحروب على بعضها البعض، وما كان يتطلبه ذلك من عقد تحالفات ومعاهدات صلح. لقد تمّ العثور على عدة نصوص لبعض المعاهدات القديمة، من بينها معاهدة للتحالف و التعاون وتسليم المجرمين السياسيين ابرمت في القرن الثالث عشر قبل الميلاد ( حوالي 1292 ق.م. ) بين «رمسيس الثاني» فرعون مصر و«خاتيسار» ملك الحثيين وأطلق عليها “المعاهدة اللؤلؤة “.(1) كذلك معاهدات صداقة وعدم اعتداء بين بعض بلدان الشرق القديمة. كما تبيّن للباحثين في تاريخ الشرق القديم ان العلاقات بين الشعوب القديمة لم تكن مقتصرة على ميادين القتال والقيام بالحرب او الغزو، بل ان هذه الشعوب عرفت الكثير من العلاقات السلمية المستقرة، وذلك من خلال اتفاق او معاهدة بين الاطراف صاحبة العلاقة، كما ان هذه الكيانات كانت تعرف كيفية القيام بالوساطة والتحكيم كوسيلة لحل المنازعات بينها سلمياً.

أولا : الشرق القديم

دول العراق :

وصل العرب القدامى بلاد ما بين النهرين في فترة مبكرة من الألف الرابع قبل الميلاد وشرعو في أعمار وبناء مجتمعاتهم بناء تنظيميآ متميزآ ، يعتبر بحق صورة مبكرة للدولة التي مثلتها _ آنذاك _ الدولة الآكادية ، لما عرفت به من نظم راسخ وجيش قوي مكن لها من بسط سيادتها على رقعة جغرافية عظيمة . (2) وقد كانت الفترة السابقة على بناء الدولة الموحدة من قبل سرغون الأول _ حافلة بعدد من دويلات المدن ، ولعلها أول دول _ المدن لتي عرفها التريخ ، الذي حفظ لنا معاهدة الصلح بين دولة _ مدينة “لكش” ودولة _ مدينة “أأوما” العراقيتين في عام 3100 قبل الميلاد . (3)

1- علي صادق ابو الهيف .القانون الدولي العام.منشأة المعارف بالاسكندرية مصر ، الطبعة الحدية عشرة 1975

2- د.عبد العزيز صالح، الشرق الأدنى لقديم،الجزء الأول مصر والعراق،مكتبة الأنجلو المصرية 1990،ص.478 وم بعد

3- د.عصام العطية،القانون الدولي العام ،مطبعة جامعة بغداد ، 1983 الطبعة الثانية ص.153

وبعد أن دالت الدولة الآكادية ، تعاقبت من بعدها دول ، لعل أكثرها صيتآ الدولة البابلية الأولى التي أرسى دعائمها _في عام 2460 قبل الميلاد ، أول ملوكها “سأموابي” ثم تخذ خليفته ” سامو ليلا ” بابل عاصمة لها . وقد بسطت تلك الدولة نفوذها على كامل أرض العرق والشام ، وغدت بابل عاصمة البر الغربي لآسيا كلها ، فلا يثبت أمير على امارته الا من بعد أن يشخص اليها ، وبلغت أوج مجدها في عهد ” حمورابي” سادس ملوكها، وصاحب أقدم مدونة تشريعية عرفها التاريخ . (1)

وقد تضمنت مدونة ” حموربي” 282 مادة ، وقد وجدت منقوشة بالحرف المسماري على مسلة من الحجر الأسود الصلب ، تم أكتشافها في عام 1901 م، وقد شملت تلك المواد على تنظيم راق للأحول الشخصية والعقود المدنية والتجارية ووسائل الاثبات والمسائل الجنائية وسوها.

وخلف من بعد ” حموربي” خلف لم يحفظ للدولة سيادتها ولا وحدتها ، فدالت الدولة البابلية الأولى ، وتقلبت الأمور في بلاد الرافدين كثيرآ ، قبل أن تنهض دولة عربية قوية أخرى هي الدولة الآشورية ، التي ازدهرت لما أشتهرت به من قوة وتنظيم مكن لها من بسط سيادتها على كامل التراب البابلي ، غير أن ظروفآ تضافرت وعجلت بأنهيارها أمام الدولة الفارسية بقيادة كورش في عام 538 قبل الميلاد. (2)

دولة مصر القديمة:

دولة مصر القديمة والتي تطوي في جنباتها ثلاث ألاف عام كانت تضم ثلاث دول :القديمة والوسطى والحديثة ، تعاقبت على الحكم فيها ثلاثون أسرة حاكمة ، وقد تركت ورائها شواهد شاخصة تحفل بثروة ضخمة من المصادر التاريخية سواء تلك المنقوشة على جدران القصور والمعابد ، أو المدونة على أوراق البردي في مختلف عصورها .(3)

أن الدولة المصرية القديمة، لما تمتعت به من قوة ورقي ، قد بلغت مكانة رفيعة أعطتها دورآ فاعلآ بين الدول القائمة أنذك ، ولا سيما في عهد رمسيس الثاني الذي أنهى عهدآ طويلآ من النزاع مع الحيثيين بسابقة مهمة في تاريخ العلاقات الدولية في العالم القديم ، هي المعاهدت لتي وقعها مع ملك الحثيين Hittites لتنهي حالة الحرب بينهما ، بل لتقودهم الى التعاون والتحالف سويآ ، كما تضمنت مبادئ هامة أخرى ، وقد وقعت عام 1292 ق.م. وسميت” اللؤلؤ”.(4)

دولة الشام القديمة:

أهم ما تميزت به ، قيامها على نظام الدولة _المدنية قبل اليونان ومدنها _ وأن كان بعضها قد اتسع ليغدو مملكة مترامية الأطراف كمملكة تدمر.(5) . وقد أشتهر الفينقيون ، وهم من العرب الكنعانيين سكان بلاد الشام القدماء ، وكانوا يسمون أنفسهم بهذا الأسم الأخير ، أطلقه عليهم اليونانيون وهو مشتق من الكلمة اليونانية phoinix بمعنى النخلة ، أو من الجذر Phoinos بمعنى الأحمر بسبب اللون الأرجواني الأصيل بالبلاد ، أو بسبب لون بشرتهم البرونزية ،اذا ما قيست بلون البشرة اليونانية . (6)

وقد أشتهر الفينقيون طوال التاريخ القديم بشجاعتهم في ارتياد عالم البحار ، وتأسيس ركائز استراتيجية ، مكنت لهم من السيادة على البحر الأبيض المتوسط ، كانت أهمها على وجه الاطلاق ” قرطاجة ” التي انتقلت اليها لسيادة الفينيقية ، بعد أنكسار الدولة الكنعانية الأم على يد نبو خذ نصر _ الملك الآشوري _ما بين (604 _ 561 ) قبل الميلاد .

1- جرجي زيدان ،ا لعرب قبل الاسلام دار الهلال، ص.55 ، وأيضا : د. شفيق الجراح ، المؤسسات الحقوقية في بابل ، مطبعة جامعة دمشق ، 1987 . ص. 36
2- انظر : جرجيزيدان ، مرجع سابق ، ص. 58 وما بعدها
3- لمزيد من التفاصيل أنظر:
SMITH ;H.S;&Hall ;R.M; Ancient centers of Egyptian Civilizations;The Kensal press;UK: 1983.p 10.
4- Voir.NGUYEN Quc Dind et autre, Droit intrnational public, 3eme edition. L.G.D.J. paris 1987 . p.36 .
5- أنظر : جرجي زيدان ، العرب قبل الاسلام مرجع سابق ، ص.65 وما بعدها
6- ج.كونتتو . الحضارة الفينيقية ، ترجمة د. محمد عبد الهادي شعيرة ، مراجعة د. طه حسين ، الهيئة المصرية العامة للكتاب،1997 ص.44 .

والواقع أن الدولة الكنعانية لم تنته نهائيآ _ آنذلك _ بل يمكن القول بأنها خضعت لنوع من الانتداب أو الحماية ، بدليل أن الملك الأشوري اكتفى بازحة الملك “بابل ” واحلال آخر من أنصاره محله، ثم تحولت بعد ذلك الى النظام الجمهوري برئاسة قاض يلقب ” بالسوفيت”(1)

دولة المغرب العربي:

قد يبدو غريبآ أن تسقط الدولة ” الفينقية” في المشرق ، ثم تعود الى الحياة في المغرب ، بذلك الفرع العنيد ” قرطاجة” التي تأسست حولي عام 814 ق. م. _ قبل أن تؤسس روما بما يناهز الستة عقود في عام 756 ق.م. وحافظت على ارتباطها الوثيق بالوطن الأم ، الى أن وقعت تحت السيادة الآشورية ، فآلت اليها المكانة الدولية التي كانت تشغلها في الدولة الأم ، بما في ذلك السيدة على الركائز الاستراتيجية في البحر الأبيض المتوسط ، فكان لابد من الاصطدام مع اليونانيين ، ثم مع الرومان الذين أرادو فرض سيادتهم على العالم ، وكانت الحروب الفونية ( أي الفينقية) بين روما وقرطاجة أطول الحروب في التاريخ.(2)

وتنقسم الحروب الفونية الى ثلاث مراحل ابتدأت عم 268 ق.م. ، وأشهرها الحرب الثانية (219—202 ق.م.)، وفيها عبر القائد القرطاجي الشهير هانيبغل الى أسبانيا ، عبر بلاد الغال وانتصر على الرومان في موقعة كان في عام 216 ق.م. ثم أجتاز جبال الألب ، وكان على مشارف روما عندم علم بهزيمة شقيقه أزدروبال ، فاضطر للتراجع والدفاع عن الوطن ، وكن لانكسار في موقعة زاما . وانتهت تلك الحروب .(3)

اليونان القديمة:

استوطن الاغريق شبه الجزيرة اليونانية حوالي 1500 ق.م. ، وقد عرفت المدن اليونانية قبل توحيدها على يد ( فيليب المقدوني) نظام الحياد وحرمة السفراء وافتداء أسرى الحرب والتحكيم فيما بينها.(4) الا أنها في علاقتها مع الشعوب الأخرى ، كانت الحروب وتقوم بالفتوحات انطلاقا من اعتقادها بالتفوق على باقي البشر ، وفي ذلك يقول أرسطو : ” لا يجوز لمدينة يونانية أن تمارس سياسة لغزو والفتح ضد مدينة يونانية أخرى، لأن اليونانيين أحرارآ في الطبيعة ” (5)

ويقول أيضآ في كتابه ” السياسة” : ان المدن اليونانية لها الحق بأن تتقدم معآ لفتح أراضي الشعوب البربرية ، وهذا الحق يصبح واجبآ ، بمجرد أن يصبح مستندآ لى قوة عسكرية تعطي الأمل بالنصر” (6) ، ولقد تحقق ذاك لأمل على يدي الاسكندر تلميذ أرسطو ، الذي أنشأ امبراطورية كبرى ، بيد نتهت بموته عام 333 ق.م. واقتسم قواده الثلاثة ( أنتيغون _ بطليموس _ سلوقس ) امبراطوريته الواسعة .(7)

وتميزت الدولة اليونانية القديمة _ التي كرسها الفكر الغربي أصلا من الأصول الرئيسة لمنظومتة الفكرية _ بنهوضها على تراتيبية طبقية ، أرست بدورها ركائز المعضلة السياسية الكبرى التي واجهت الفكر الاغريقي آنذك ، وهي ضمان المكان الملائم لكل طبقة في المكان الصالح لها في المجتمع. ولاشك أن الأساس التميزي لممارسة حقوق المواطنة يقدح في الاعتبار القائل بصدقية ” ديمقراطية الاغريق”.

1- أنظر : ج. كونتو ، مرجع سابق ، ص.434
2- أنظر: ه. ج. ويلز، مزجز تريخ العالم، ترجمة: د.عبد العزيز توفيق جاويد ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، الطبعة الثانية 1999 ، ص 140 ومابعدها
3- أنظر : ج. كونتو ، المرجع السابق ، ص 112
4- د. غضبان مبروك ، المجتمع الدولي : الأصول والتطور والأشخاص ، ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر ، الجزائر، 1994 ، ص 34
5- نظر : د. غضبان مبروك ، المرجع السابق ص 34 _ 35
6- د. بن عامر تونسي ، قانون المجتمع الدولي المعاصر ، ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر ، 1988 ، ص 12
7- أ نظر : ج . كونتو ، مرجع سابق ، ص 99

وفي المقابل عرفت العلاقات بين المدن اليونانية ، والتي بلغت أوجها مع الديمقراطية الأثينية ، قدرا كبير من الاستقرار ، مرده الخصائص المشتركة للمجتمع الهيليني من عرق وثقافة وحضارة ودين ، والتي كانت تجمع هذه المدن في رباط روحي واحد ، يعززه شعور واضح بالعداء لغير اليونانيين . ولهذا ازدهرت العلاقات الاقتصادية والتبادل التجاري بين المدن اليونانية ، وأمكن الحديث عن “قانون دولي اقليمي هيليني “.(1) لحكم العلاقات فيما بين المدن المذكورة .

وقد أسهم تطور التجارة الدولية في ذلك الوقت ، في عقد مجموعة من الاتفاقات الثنائية لحماية أشخاص وأموال التجار الأجانب . وابتدعت اليونان مؤسسة البروكسيني Proxenie التي يعدها البعض أساس الحماية القنصلية التي نعرفها الآن ، والتي يقوم أحد وجهاء المدينة بمقتضاها بحماية أشخاص الأجانب وأموالهم . كما ابتدعت التحكيم لتسوية المنازعات بين المدن اليونانية . وقد تم حصاء ما مجموعه 110 تحكيمات خلال خمسة قرون تنتهي مع الغزو المكدوني في منتصف القرن الرابع قبل الميلاد .

وكثيرآ ما انتهت حالة التهديد بالحرب بين المدن اليونانية بفترات سلم تم ترتيبها في معاهدات دولية معروفة (مثل معاهدت سلام الثلاثين عاما بين سبارطة وأثينا عام 446 ق.م. ، ومعاهدت سلام الخمسين عاما فيما بينهما عام 431 ق.م.) . وعرفت اليونان القديمة بعض قوانين وأعراف الحرب : قاعدة أعلان الحرب ، و ” أنسنة ” الحروب عن طريق المعاملة الانسانية للأسرى ، وحرمة المعابد الدينية في بلاد العدو ، وحرمة رجال الدين . كما عرفت محاولات اولية لاقامة نوع من التنظيمات الدولية التي تقدم على اسس دينية ، حيث يجتمع ممثلون عن المدن اليونانية في جمعيات خاصة Ampyctionies لادارة المعابد الدينية بشكل مشترك . وعرفت محاولات لاقامة أحلاف عسكرية للدفاع المشترك Sympachies ( انشئ أشهرها عام 476 ق.م. وثانيها بعد حوالي قرن من الزمان عام 378 ق.م.) ولكن هذه المحاولات الأولية للتنظيم لم تعمر طويلا بسبب النزعة الأثينية للسيطرة على المدن اليونانية الأخرى . والسمة البارزة للقواعد التي عرفتها اليونان القديمة هي الطابع الديني في زمن لم يكن فيه الفصل بين القانون والأخلاق والعدل والدين بهذا الوضع الذي نعرفه اليوم . (2)

عصر الرومان:

لم يختلف الرومان كثيراً عن الاغريق في نظرتهم الى ما عداهم من الشعوب وتميزت علاقاتهم بها بسلسلة متواصلة من الحروب انطلاقاً من سياسة روما العليا في السيطرة على العالم، وضم اكبر عدد ممكن من الأقاليم الى الامبراطورية، وهذا ما حدث بالفعل، فقط اخضعت روما العالم المتمدن القديم بكامله تقريباً، وكانت معاهدات الصلح التي ابرمت مع هذه الشعوب والدول المغلوبة تمليها ارادة الغالب وتفسر وفق رغباته، أي الحق للأقوى!

أسهمت روما حين كانت تسيطر على العالم القديم اسهاما لاينكر في تطور القانون الدولي . فقد كانت روما أول “دولة” في العالم تضع مجموعة من القواعد الداخلية التي تحكم علاقتها مع الدول الأخرى . وكان هناك مثلا قانون روماني للسلام والحرب Jus Fetial . وهذا القانون ذو صبغة دينية أساسا ، اذ يعد بتطبيقه وتفسيره الى رجال الدين من الرهبان Fetiales الذين هم في نفس الوقت سفراء روما ، وبهذه الصفة كانوا يتمتعون بالحصانة الشخصية . ويختص هؤلاء بالبت في اخلال أي أمة أجنبية بالتزاماتها نحو روما ، وفي الاعتراف لها في هذه الحالة بالحق في شن حرب ” عادلة “بعد القيام بمجموعة من الطقوس الشكلية . وبهذا يكون القانون الروماني قد فرق بين الحرب العادلة والحرب الظالمة .ولكن هذه التفرقة أنما تستند الى قاعدة رومانية لا الى قاعدة دولية . وبمعنى اخر لم يكن القانون الروماني للسلم والحرب قانونا دوليا بالمعنى الدقيق ، وأنما هو قانون داخلي تضعه روما ،من جانب واحد ، وتلزم نفسها به في مواجهة العالم الخارجي .

وقد قامت علاقات دولية بين روما والعالم الخارجي . وكثيرآ ما تضمنت معاهدات الصداقة Amicitia والضيافة Hospitium والتحالف Foedus التي عقدتها روما بنودا لتسوية المنازعات بالتحكيم . وكذلك تبادلت الامبراطورية الرومانية السفراء مع الممالك الأخرى واعترفت بالحصانة للسفراء الموفدين اليها .

1- د. محمد سامي عبد الحميد ، أصول القانون الدولي ، الجزء الأول ، الجماعة الدولية ص.54

2- د.محمد يوسف علوان ، القانون الدولي العام المقدمة والمصادر، عمان ، دار وائل الطبعة الثالثة 2003 ص.38 وما بعدها .

وأوجدت روما مجموعة كبيرة من القواعد القانونية التي تحكم علاقات المواطنين الرومان مع الأجانب الذين تعقد دولهم معهدات صداقة مع روما . وتندرج هذه المجموعة من القواعد ضمن القانون الذي أطلق عليه الرومان أسم قانون الشعوب Jus gentium الذي لم يكن من القانون الدولي في شيئ ، وانما هو قانون روماني خاص بالمعاملات بين الرعايا الأجانب بعضهم ببعض أو بينهم وبين المواطنين الرومان . وبمعنى آخر فهو مجموعة من القواعد القانونية الداخلية التي أوجدتها روما بعد ازدهار العلاقات التجارية بينها وبين الشعوب الأخرى ، وبعد أستقطاب ” المدينة الخالدة ” لأعداد كبيرة من الأجانب لكي تصبح ” عاصمة العالم “. وهو ينظم أنشطة الأجانب في روما ولا علاقة له بأنشطة الدول. ولكنه لا يمكن مع ذلك انكار الدور الذي لعبه قانون الشعوب على الصعيد العالمي . فهو ينطلق من فكرة أساسية مفادها لزوم وجود قانون عالمي مشترك للأنسانية . وهو يوضح من جهة أخرى أن للأجانب مجموعة من الحقوق الدنيا التي تحميها القوانين المحلية لدولة الأقامة ( حق تكوين العائلة ، الذمة المالية ، حق المتاجرة ) . (1)

هذا عن القانون الذي يحكم علاقات الرومان مع الشعوب الأجنبية . أما العلاقات بين الرعايا الرومان أنفسهم فيحكمها القانون المدني Jus civile . كما احتل القانون الطبيعي Jus naturae مكانة متميزة في القانون الروماني .

وقد تأثر الفقهاء الرومان بالفلسفة الرواقية Stoicisme التي نادت منذ القرن الثالث قبل الميلاد عبر زعيم هذه المدرسة المفكر زينون ZENON ، الذي دعا الى مدينة عالمية يكون فيها جميع البشر متساوون ، ومواطنون اخوة تجمعهم حياة واحدة ونظام واحد للاشياء على قاعدة القانون الطبيعي الذي يتسق ويتألف مع القواعد والمبادئ الاساسية للعدل والعقل ، فهم يقولون (ان لله أب لجميع الناس ، فنحن جميعآ أخوة ، ويجب علينا ألا نقول :انني أثيني وأنني روماني ،بل يجب علينا أن نقول “انني مواطن في العالم” ). (2) . وتعتبر الرواقية ان القانون الطبيعي هو فوق القوانين الوضعية وانه يسمو عليها . ولهذا نرى الفقيه الروماني المعروف شيشرون CICERON يقول بوجود قانون طبيعي أزلي ينطبق على جميع الناس و “قواعد منطق ” مشتركة بين جميع البشر .

وكما كان الامر مع الرواقية لجهة تطويع القانون الطبيعي لخدمة افكرها ومعتقداتها ، اتت مرحلة الامبراطورية الرومانية لتبرر حتلالها وفرض شرعيتها على الشعوب عبر القانون الطبيعي كذلك ، وفي الواقع استلهمت قانون الشعوب Jus Gentium لهذا الغرض با عتبار قانونا عالميا من وجهة نظرها .(3) وواقعا لقد تلاشت الدول في شخصية الامبراطورية الرومانية في تلك الفترة ، وقد ساعدة هذا التلاشي ظهور المسيحية واتخاذها كديانة رسمية في القرن الرابع ، وقد سعت الكنيسة الرومانية انذاك الى التبشير بالرسالة المسيحية للعالم على مبادئ السلام بين الشعوب واقامة العلاقات التي تخدم هذه التوجهت على قاعدة الخضوع لله ،الا أن فكرة المدينة العالمية اقتصرت على العالم المسيحي ليس الا ، ولم يطل الزمن حتى انتشرت الحروب في القرون الوسطى وتبين ان حكم الشعوب بالقانون الذي فرضته الامبراطورية الرومانية بالقوة غير قادر على استيعاب مصالح الشعوب وتطلعاتها، الامر الذي ادى الى تفكك الامبراطورية الرومانية الى اقطاعيات تحكمها الامراء واصحاب السلالات العريقة في اوربا .

الصين

بعد وفاة الامبراطور شي هوانج تي أشهر أباطرة الصين ، والية ينسب سور الصين الذي تم انجازه في سنة 300 ق.م. يبلغ طوله النهائي 2250 كم ؛ ويتراوح ارتفاعة مابين 6_9 م وعرضه مابين 3_4 م وهو يعبر عن ثقة الصينيين الكاملة بالأسوار . انقضى عهد أسرة تسئن ، فخلفتها في حكم الصين أسرة هان ، وازدهرت في عهدها ،بل أصبحت أفضل نظام سياسي في العالم تمدنآ وتنظيمآ انذاك ، ثم تدهورت الأوضاع الى أن جاءت للحكم أسرة تانج ، لا سيما في عصر الامبراطور تايسونج الذي وصل الى الحكم عام 627 ميلادي. (4)

1- انظر محمد يوسف علوان .مرجع سابق ص.39

2- د.محمد حسن الأبياري . المنظمات الدولية الحديثة وفكرة الحكومة العالمية ،الهيئة المصرية العامة للكتاب 1978 ص.25

3- حول الفلسفة الرواقية :أميل برهييه ، الفلسفة الهلنسية والرواقية ، ترجمة جورج طرابيشي ، دار الطليعة للطباعة والنشر ، ج2 ،بيروت،1982 ، ص.34 وما يليها

4- ه.ج.ويلز موجز تاريخ العالم ، ترجمة د. عبد العزيز توفيق جاويد ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، الطبعة الثنية ،1999 ، ص.140

وقد قدم فلاسفة الصين تصورت جديرة بالاعتبار فيما يتعلق بالتنظيم الدولي والعلاقات الدولية ، اذ أن كونفوشيوس CONFUCIUS آمن بوجود قانون مشترك للعالم بأسره وعلى ضوء ذلك بنى نظريته في العلاقات الاجتماعية والدولية .(1) أما الفيلسوف لاوتزو Laottsu فقد دعا الى الحد من الحروب وبحث في العقوبات الدولية التي يمكن ايقاعها بالمخالفين .

أن أثرالفلسفة الصينية التقليدية _ لما تمثله الصين عالميآ _ لا ينكر ، فقد تضمنت أيضآ مدرسة الشرائع ؛ التي دعت للقوة والسلطة الشمولية ، ومدرسة الأسماء الجدلية ، التي بالغت بتعريف الأسماء ، سيما وأن بعضها ظل حيآ حتى مطلع القرن العشرين .(2)

الهند

اقدم الوثائق عن الهند يرجع تاريخها الى الفترة التي تقع ما بين 1200 _ 8000 ق.م. ، وهي تكشف عن مدينة بدائية تدل على وجود امارات صغيرة يحكمها ملوك ضعاف . بيد انه ومنذ القرن الخامس قبل الميلاد ، وصلت مدينة الهند الى مرحلة متقدمة ن وحدث تطور هام في الديانة والأفكار الفلسفية لدى البراهمة ن تجلى فيما استحدثه بوذابالمطالبة بالغاء الطبقات ، فكان مذهبه ثورة اجتماعية على النظم القديمة .(3) ولكن أثر هذه الفلسفة لم يدم طويلآ ، لأن نظام الطبقات عاد الى الظهور _ بعد اضمحلال أثر الفلسفة البوذية – وما زال قائمآ حتى الأن في الهند .

أما قوانين مانوLois de Manu تم وضعها حوالي 1000 قبل الميلاد ، فقد بحثت في جوانب عدة ، اذ أمر مانو بتحريم تعطيل الحقول الزراعية وقطع الاشجار في الحرب ، بل أوجب على المحارب ألا يقتل عدوآ استسلم ولا أسير حرب ، ولا عدوآ نائمآ أو أعزل ولا شخصآ مسالمآ غير محارب …. وفي المجال الدبلوماسي يقول مانو .. أن من يرفع يده في وجه السفير يتعرض للهلاك والابادة وذلك لأن السفير مصان من قبل الألهة . (4)

والحقيقة أن تاريخ الهند في مجمل التاريخ العالمي ، يعد صورة نموذجية للحياد بوجهيه السلبي والايجابي ، وهو الدور الذي أضطلعت بأدائه ايجابيآ لمدة وجيزة من الزمان ، عادت بعدها الى الحياد السلبي ، ومع ذلك ، فالهند تبقى _كما قال غوستاف لوبون : ” خلاصة ناطقة لجميع أدوار التاريخ وصورة صادقة للأطوار المتأرجحة بين الهمجية الأولى والحضارة الحديثة .(5)

1- أنظر . د.بن عامر تونسي .مرجع سابق . ص.154 وما بعدها

2- د. عبد الغفار مكاوي ، جذور الاستبداد ، عالم المعرفة ، العدد 192 ، كانون الأول/ ديسمبر 1994 ،الكويت،ص122 .ولتفصيل أكثر في معرفة الحضارة الصينية الأولى، وما لحق بها حتى اصطدامها بالغرب ، ثم الوصول الى مرحلة الثورة وانتصارها ، أنظر ول.ديورانت ، “المدنيات المفقودة والرأي الغربي في مهد الحضارات الأول، قصة الحضارة ” الجزء الرابع ، المجلد الأول ص19 وص 218 وما بعده

3- أنظر : ول ديورانت ، المرجع السابق ، الجزء الثالث من المجلد الأول “الهند وجيرانها ” ص 73 وما بعدها

4- أنظر : د.بن عامر تونسي ، مرجع سابق ، ص 10_11

5- في أحوال الهند القديمة وتطورها التاريخي ، أنظر د. غوستاف لوبون ، حضارة الهند ، نقله الى العربية عادل زعتر ، الطبعة لأول ، 1948 ، ص 9 وما بعدها

 

ثانيا: : في العصور الوسطى 500 م.__ 1500 م.

ضاعت وحدة روما حين قسمها الامبراطور ثيودوس بين ولديه هونوريوس واركاديوس الى امبراطوريتين ( امبراطورية الشرق وامبراطورية الغرب ) . ويؤرخ لبداية القرون الوسطى عادة بسقوط الامبراطورية الغربية على يد البرابرة عام 476 م. مع ما اسفر عنه ذلك من قيام العديد من الممالك والامارات على أنقاضها . أما نهاية القرون الوسطى فيؤرح لها بسقوط الامبراطورية الشرقية على يد محمد الفاتح عام 1453 م .

بعد انحسار الحضارة والامبراطورية الرومانية سيطرت الترعة المسيحية في الغرب والاسلامية في الشرق وظهور الدويلات والوحدات السياسية ، وكذلك ظهور الاقطاع وبداية الراسمالية وتداخل عصر النهضة الأوربية بين هذه العصور والعصور الحديثة .

أصبح التجمع الغربي تحت رأيه الكنيسة الكاثوليكية وتحت رعاية البابا قائمآ ، في ظل هيمنة الكنيسة الكاثوليكية وخضوع الملوك والأمراء لسلطة عليا واحدة متمثلة في البابا وفي الامبراطور :اعتمادا على نظرية ” السيفين ” ، التي تستند الى قول المسيج _ عليه السلام ” ان لله خلق سيفين لقيادة العالم أحدهما روحي والآخر زمني – وأولهما للبابا والآخر للأباطرة ” .(1)

وفي سنة 800 ميلادي ، قبل الملك شارلمان الذي توجه البابا ليون الثالث سيطرة الكنيسة والبابا حين أعاد انشاء الامبراطورية الجرمانية المقدسة ” الكارولنجية ” (2) التي شملت معظم البلاد الأوربية ،واعتبرها الألمان والفرنسيون توحيدآ لأوربا ، وقد بارك البابا قيامها ، ونظر اليها رجال الكنيسة على أنها الآلية المناسبة لقيام امبراطورية تشمل أوربا كلها ، سيما وان أباطرتها قد رسخوا من حمايتهم للكنيسة الكاثوليكية حتى أصبح نفوذها متغلغلآ في شؤن الحياة الأوربية بكافة نواحيها .

تأثير المسيحية:

أوجد انتشار المسيحية في اوروبا رابطة دينية قوية بين معتنقيها. كما ادى الزتبشير بمبادئها والدعوة الى التآخي والمساواة بين الشعوب والأفراد ونبذ الحروب الى بروز نمط جديد في الفكر الكوني قائم على السلام، وإلى بروز فكرة الحرب العادلة التي كانت ترمي الى تقييد اللجوء الى الحرب، وتلطيف عملياتها، فلم تعد مباحة الا عند الضرورة ولسبب عادل، وبعد استنفار الوسائل السلمية لرفع الظلم.

كذلك تمّ وضع نظامين مهمين هما «السلام الالهي» ويقضي بحياد الأماكن المقدسة، ورجال الدين، والاطفال، والعجزة، و«الهدنة الالهية» (Trève Dieu) التي تمنع الحرب في أيام محددة من الاسبوع كالسبت والاثنين وأيام الأعياد. كان لانتشار المسيحية تأثير في التوفيق بين دول اوروبا وقيام أسرة دولية مسيحية تخضع لسلطة البابا، وقد ساعد على توطيد هذه الفكرة ظهور الاسلام وتهديده بانتزاع السيادة على العالم من المسيحية.

وبلغ نفوذ الكنيسة أوجه في عهد الباب بونيفاس الثامن Boniface 1294 – 1303 م.، ثم جاءت الحروب الصليبية فتحآ جديدآ أعلى من شأن البابوية ، أثر النداء الشهير الذي أطلقه البابا أوربان الثاني من مجمع كلير مونت بباريس .(3) اذ قال فيه : ” فلينطلق المسيحيون بالغرب لنجدة الشرق . فيؤدون ما أمر لله به أن يعمل “، ولكن أهم انجازات تلك الحروب أنها وحدة العالم المسيحي ، وجعلت من تلك الوحدة أمرآ مسلمآ به ، وأصبحت المشكلة هي في اقرار السيادة لروما.(4)._

طلب امبراطور القسطنطينية اليكسوس كومينوس يد المعونة من البابا أربان الثاني _ لمقاومة المسلمين _ رغم القطيعة بين الكنيستين الشرقية والغربية .

ومنذ البداية كان هناك توافق بين اسقاط الأندلس وغزو المشرق ، فليس مصادفة أن يكون سقوط طليطلة سنة 1085 ، ثم يعقبه سقوط القدس في سنة 1099 ،الا أن الحروب الصليبية أنتهت فعلآ الى ارتدادها عن دار الاسلام ، وأرسل فرديناد ملك قشتالة رسالة بشرى الى البابا ، ونال حظآ عظيمآ مع شريكته ايزابيل ملكة الأرغون بان أصبحا على رأس قائمة الملوك حماة المسيحية .(1)، وأسبغ عليها البابا لقب العاهلين الكاثوليكيين ،لذلك أصبح عام 1492 _عام سقوط غرناطة _نقطة تحول هامة نحو قيام الامبراطورية الاسبانية التي لمع نجمها على يد كارلوس الخامس حفيد فرديناند ،(2) وأول خمسة ملوك حكموا بأسم آل هابسبورغ.

بعد طرد العرب من الأندلس ــ بموجب معاهدت السلام التي سلمت غرناطة – في كانون الثاني / يناير 1492 ، وفي العالم نفسه بدأت رحلات اكتشاف العالم الجديد ، اذ غادر في 13 آب (أغسطس) البحار الجنوي كريستوف كولمبس قشتالة ، ثم اكتشف الشاطئ الشرقي لذاك العالم (سان سلفادور ) في 12 تشرين الثاني ( نوفمبر ).في 12 تشرين الثاني (نوفمبر). لقد أسهمت تلك الكشوف في تغير وجه العالم القديم ، واعادت التشكيل الستراتيجي للعالم من جديد ، بان غدا ذاك العالم الجديد بعدآ ثالثآ للحضارة الأوربية . تدخلت الكنيسة لتوزيع الغنيمة بين الدول الأوربية ، وقام البابا الاسكندر السادس باصدار صكآ بابويآ لتقسيم الأراضي بين أسبانيا والبرتغال ، وقد أسس الفقه الكنسي مشروعية التدخل البابوي على اعتبار أن سكان العالم الجديد ينتمون الى عرق أدنى من الأسبان كما أنهم كفار ، مما يعطي للأسبان الحق في أحتلال أراضيهم .(3)، بينما أنكر جانب من الفقه ذلك ودعا الى ايجاد مبررآ صالحآ لدخول العالم الجديد ، اذ قال فيتو ريا “انه ليس بوسع البابا أن يعطي ما ليس له ، وليس له أن يطالب باية سيادة زمنية على العالم ” (4).

وقد أباد الغزاة الأوربيون شعوبآ كاملة واقتلعوا حضارات بأسرها ، اذ قضى ” كورتيز ” على حضارة الآزتك Aztequs في المكسيك بين عامي 1519 _1522 ، وفعل فعله ” بيزارو ” حينما أباد شعوب الأنكا Incas واقتلع حضارتهم ابان غزوه بيرو .(5)، وهكذا تمكن الغرب من استيطان العالم الجديد وطمس وجود شعوبه الأصلية ، بل انه طمس حتى الاسم الحقيقي لتلك الشعوب وأصولها العرقية ، وأعطى لها لقبآ ظالمآ يوحي بالجهل والهمجية ،وساير العالم الغرب في جنايته ، حينما أقر تسمية تلك الشعوب ” بالهنود الحمر “.

ادى اعتزاز البابا بسلطته الروحية، الى التدخل في شؤون الدول والملوك. واعتباره المسيحية اساساً للعلاقات الدولية، أدى الى إقصاء الدول التي لا تدين بها، مما ولّد شعوراً لدى هذه الدول بضرورة التحرر من سلطة الكنيسة، فبدأت توحد قواها الداخلية مستعينة بظهور حركة النهضة العلمية والاكتشافات الجديدة في العالم وبروز حركات الاصلاح الدينية في القرن السادس عشر. أثرت حركة الاصلاح الديني في أوروبا، فانقسمت بين مؤيد للكنيسة، ومدافع عنها، وعن مصالحها، ومعارض يعمل للاستقلال عن النفوذ الكنسي. وقد تصادم الفريقان في حرب ضروس عمت كل اوروبا، فقد أسفر الانشقاق الديني عن انقسام أوربا الى معسكرين : المعسكر البروتستانتي معسكر الاستقلال عن نفوذ الكنسي الذي أكد على علو السلطة المدنية في الدولة وأسهم بالتالي بتعزيز ووحدة هذه الأخيرة ،ومعسكر الدول الموالية للكنيسة الذي ضعفت فية الكنيسة تدريجيآ ولم يعد بمقدورها أن تكون منافسا جديا للدولة . وهكذا بدأت حرب استمرت ثلاثين عاماً، وعرفت بحرب «الثلاثين سنة» من عام 1618 كحرب دينية في مبتداها ، ثم مالبثت _ بأشراك أمم أخرى فيها انطلاقآ من عام 1635 _أن أصبحت حربآ دولية أوربية ، وانتهت بمعاهدة «وستفاليا» عام 1648، والتي شكلت اتجاهاً جديداً في العلاقات الدولية، وتأطيراً لنظرية الامن الجماعي الاوروبي، والتي استقت مبادئها من وحي الأديان وكتابات المفكرين، والفلاسفة الذين تأثروا بفلسفة اليونان المثالية خصوصاً افلاطون في كتاب «الجمهورية»، وتوماس مور في كتابه «اليوتوبيا» وغيرهما(5).

1- عادل سعيد بشتاوي ،الأندلسيون المواركة، القاهرة، 1983 ص.107

2- اذا يقول ماكيافيلي متحدثآ عن فرديناند: “أرتفع من مركز أمير صغير الى مكانة أعظم أمير في البلاد النصرانية” أنظر ماكيافيلي ، الأمير، تعريب، محمدلطفي جمعة، الطبعة الثانية نمؤسسة النوري ، دمشق ، 1990 . ص.161 _162

3- د. أحمد اسكندراني و د.محمد ناصر أبو غزالة ،محاضرات في القانون الدولي العام،المدخل والمعاهدات الدولية،دار الفجر ، الطبعة الأول ،1998 ، القاهرة ، ص62

4- كان فيتو ريا ” 1480 _ 1546 ” راهبآ أسبانيآ وأستاذآ لعلم أللاهوت في جامعة سلامانكا ، ويعد من الرعيل المؤسس للقانون الدولي، أنظر المرجع السابق ، ص17لامير نيقولو مكيافللي، تعريب خيري حماد، مكتبة التحرير، بغداد الطبعة التاسعة 1988 – ص 243.يوتوبيا: هي المكان المنشود لهناء البشر، وتعني باليونانية: ليس في مكان ما. جعلها توماس مور (1478-152) عنواناً لكتابه الذي صور فيه دولة مثلى تحقق السعادة للناس، وتمحو الشرور، وهي جزيرة خيالية.

القرون الوسطى الاسلامية واثرها على القانون الدولي:

فإذا استعدنا ظهور الإسلام فى القرن السابع الميلادى، أى قبل نشأة فكرة القانون الدولى بأحد عشر قرنا، نجده قد جاء للإنسانية كلها بآخر رسالة سماوية.

عندما ظهر الإسلام، كان العالم المعروف حينئذ يكاد يكون محصوراً فى إمبراطوريتين كبيرتين، لكنهما كانتا متهالكتين، هما إمبراطورية الفرس، وإمبراطورية الروم، بالإضافة إلى شبه الجزيرة العربية التى كان لها شرف استقبال الدين الجديد، وألف- لأول مرة- بين قبائلّها المتناثرة والمتناحرة، فجعل منها دولة ذات كيان سياسى واضح، وما لبثت هذه الدولة، التى قامت على مبادئ الإسلام وتعاليمه، أن امتدت، واتسع نطاقها، حتى ورثت معظم المناطق التى كانت خاضعة لسلطان الإمبراطوريتين المتهالكتين.

إن الإسلام- كما نعلم-. وهو موجه للبشرية كلها، لذلك فإن النظام السياسى الذى أقامه المسلمون فى المدينة تحت قيادة الرسول (ص)، اتسم منذ اللحظات الأولى بطابع العالمية والدبلوماسية معاً. وقد تجلى ذلك واضحاً فى الرسائل التى بعث بها الرسول (ص)، إلى رؤساء العالم حينئذ: كسرى الفرس وقيصر الروم، ونجاشى الحبشة، ومقوقس مصر وغيرهم. ومن المعروف أن هذه الرسائل قد حملها مبعوثون دبلوماسيون على مستوى عال من الكفاءة. وأن بعض هذه الرسائل كان لها أثرها الإيجابى، كما هو الحال فى مصر والحبشة، بينما قوبل بعضها الآخر بصورة غير متحضرة بالمرة، كما فعل كسرى حين مزق الرسالة.

كذلك كان للّمعاهدات التى وقعها الرسول (ص)، مع القبائل العربية، أو اليهود، نماذج عالية من السياسة الحكيمة التى تحفظ لجماعة المسلمين حقوقها، وترد عنهم كيد المعتدين. وفى هذا المجال ينبغى أن نتأمل معاملة الرسول- (ص)- لمبعوثى أعدائه، وحاملى رسائلهم، وممثليهم السياسيين، وهى معاملة يحق لنا أن نقول فيها إنها سديدة ومستقيمة، فالإسلام فوق ما يكفله لهم من صيانة وأمن على الأرواح، يمنحهم نوعاً من الحصانة الاجتماعية التى تضمن لهم حرية العودة إلى أوطانهم متى شاءوا، ولا يدع سبيلاً إلى احتجازهم فى بلاد المسلمين بحجة أنهم من الأعداء.

يلى ذلك طريقته عليه السلام، فى الاستماع لهؤلاء المتفاوضين، وحسن استعداده للتفاهم أو التعاقد معهم. والقرآن الكريم يحض الرسول (ص)، على قبول مبدأ الصلح، متى وجد من العدو ميلاً إليه:وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ( (الأنفال: 61).

أما شروط الصلح وطرائقه، فقد رأينا فى هدنة الحديبية، كيف أن روح المسالمة، التى كانت تعمر قلب رسول الإسلام، قد جعلته يضحى بكثير من التفاصيل المتعلقة بألقابه الأدبية،وبالسمعة الحربية لجيشه، وببعض الحقوق الفردية لأتباعه، على أن ذلك لا يعنى قبول كل اقتراح من جانب العدو مهما كان شاذاً، أو ضاراً بحقوق الأمة والأجيال المقبلة . ولعل أبسط العقود السياسية هو التصريح الذى يصدر من جانب واحد،ولا يلزم إلا الطرف الذى أصدره، كإعلان دولة ما أنها تلّتزم الأمن والحماية لدولة أخرى. ونحن نجد من هذا النوع مثالاً واضحاً فى العهد الذى أعطاه الرسول (ص) لأهل سوريا ومن معهم فى أثناء غزوة تبوك. وضمن لهم فيه حرية انتقالهم، وأمن قوافلهم البرية والبحرية، بشرط ألا يثيروا شغباً على المسلمين.

لكن المعاهدة بالمعنى الصحيح تتطلب اتفاقاً وتبادلاً للمنافع يقبله طرفا العقد جميعا. وأقل ما يتحقق فى هذا النوع من العهود هو التعاقد الذى لا يتضمن إلا التزامات سلبية تنحصر فى امتناع كلا الطرفين عن كل فعل ضار بالآخر. وقد نقل لنا المؤرخون أمثلة لمواثيق من هذا النوع عقدها الرسول (ص)، والتزم فيها الطرفان- إما لمدة غيرمحصورة، وإما إلى أجل معلوم- ألا يهاجم أحدهما الآخر، ولا يحالف عدوا له، ولا يساعد معتديا عليه. ومن ذلك على سبيل المثال: ميثاق الهدنة التى عقدها الرسول (ص)، مع قريش، فى السنة السادسة من الهجرة، لمدة عشرة أعوام.

على أن الحقوق والواجبات المتبادلة إنما تبرز فى أكمل مظاهرها فى عهود الحلّف. ومن أمثلة ذلك تلّك المحالفتان اللتان تعهد بهما صلح الحديبية، حيث سمح لكلا الفريقين أن يختار حليفا له من بين القبائل العربية، فاختارت قبيلة (خزاعة) أن تحالف محمداً، واختارت قبيلة (بنى بكر) أن تحالف قريشاً.

وهناك مثال طريف لنوع من المواثيق لا نجده إلا فى العصر الحديث،وهو ذلك العهد الذى أعطاه الرسول (ص) ، لنصارى نجران باليمن، يلّتزم لهم فيه بحرية عقيدتهم ما داموا مسالمين، ويلتزمون له بمساعدات مالية. وهو إن كان عهداً محلياً أكثر منه عهداً دولياً، إلا أن فيه شرطاً يذكرنا باتفاق الإعارة أو التأجير الذى عقدته الولايات المتحدة الأمريكية مع بريطانيا، لتمويل الجيوش الإنجليزية فى الحرب العالمية الثانية.

ونخلص من إيراد هذه الأمثلة والنماذج إلى تقرير حقيقة ناصعة، وهى أن العالم الاسلامي على خلاف الحال في أوربا الصراع بين السلطتين الروحية والزمنية بل كان الخليفة يجمع في شخصه بين كلتا السلطتين. ولكن كما حدث في اوربا تمامآ لم تعش وحدة الأمة التي عرفها العالم الاسلامي لمدة طويلة. فقد فقدت دولة الأسلام وحدتها منذ أواخر القرن الثامن الميلادي حينما قام عبد الرحمن الداخل بتاسيس الدولة الأموية في الأندلس عام 756 م. وقامت بعد ذلك دول اسلامية في ديار الاسلام كدولة الأدارسة في المغرب عام 788 م. ودولة الأغالبة عام 800 م. والدولة الطولونية في مصر عام 868 م. (1 )

ولكن المسلمين ــ على خلاف الأوربين ـــ رفضوا الاعتراف بشرعية التجزئة وعاشوا تاريخهم ” ممزقين بين واقع مفروض يرفضونه و ” مثال ” يطمحون اليه فلا يصلون اليه ” .(2 ) . فقد اعترفت الدول الأوربية بعضها ببعض مبكرآ في أواخر القرون الوسطى ومطلع العصور الحديثة . أما في العالم الاسلامي فلزم انتظار نهاية العهد العثماني لكي تشرع الدول الاسلامية بالاعتراف رسميآ بعضها ببعض . ولم يكن لهذا الاعتراف أحيانآ مضامينه الحقيقية . اذ أن أمل الوحدة التامة ـــ أو الحلم المنشود (المفقود ) للوحدة العربية التامة_ وأيا كانت السبل _ لايزال يسيطر على الأفئدة وحتى العقول في بعض أرجاء الوطن العربي .

ثالثا : في العصر الحديث بداية من عام 1500 م

كانت بداية استمرار عصر النهضة واستمرار الاقطاع ثم الأيديولوجية الرأسمالية والكشوفات الجغرافية التي تحولت الى استيطان استعماري ـــ النزاعات الأوربية بسبب التنافس الاستعماري ــــ الثورة الصناعية واستعمار دول الشرق والأمريكتين وحلول السلام في أوربا بعد معاهدة فيينا وتقليم أظافر الثورة الفرنسية مع استمرار ظهور النزاعات الألمانية الفرنسية ثم الأوربية العثمانية وكانت نتيجتها الحربين العالميتين .

أن المفصل الاساس في تلك الحقبة يبدوا جليا فيما اقرته معاهدة وستفاليا سنة 1648 التي جاءت بعد سلسلة من المنازعات والحروب الطاحنة التي اندلعت في عام 1618 بين الدول الكاثوليكية والبروتستانتية وتحولت تدريجيآ الى حرب طاحنة للسيطرة على أوربا . فهي وان وضعت حدا ولو مرحليا لبعض القضايا الاوربية فقد أسست لنوع جديد من العلاقات القائمة على قاعدة التعاون المشترك بدلا من سياسة القوة والاخضاع والسيطرة ، وعلى الرغم من أن جميع المشاركين فيها اوربييون وان جوهرها ومضمون احكامها كانت للقضايا الاوربية ، الا ان ما آلت اليه الامور بطبيعة الحال امتداد مفاعيلها الى خارج النطاق الجغرافي لاوربا لما لهذه الدول الاخيرة من امتدادات استعمارية خارج القارة ،مما أسس عهد جديد للعلاقات الدولية وأول تدوين لقواعد القانون الدولي .

ينصرف مصطلح “معاهدات وستفاليا ” الى معاهدتين تحديدا :الأولى معاهدة Osnabruck التي أبرمت بين كل من ملك السويد وحلفائه ومن بينهم فرنسا من جهة وامبراطور وأمراء ألمانيا من جهة اخرى. أما الثانية فهي معاهدة Munster التي عقدت بين فرنسا وحلفائها ومنهم ملك السويد من جهة وامبراطور وأمراء ألمانيا من جهة أخرى . وكرست معاهدت وستفاليا الهزيمة المزدوجة للامبراطور والبابا ، وولدت معها قانونا الدولة الحديث ذات السيادة .

أما الركائز الذي أقامته معاهدت وستفاليا للنظام الدولي الأوربي فهي :

1ـ انهاء الصراع الديني والاعتراف بالبروتستانتية ، الى جانب الكاثوليكية ، واقرار مبدأ “توطين “الدين ،بارغام الرعية على اتباع دين حكامهما . (3)

2- اعتبار مفهوم السيادة مصطلحآ دوليآ ، تتميز به الدولة وصفة تدل على أهليتها القانونية . بل ان بعض الفقه الغربي يعتبر ان تلك المعاهدة هي التي أرست المفهوم الحديث لسيادة الدولة .

The Peace Of Westphalia Produced the Modern Sovereign State

1- د. سعد عبد الفتاح عاشور ، أوربا العصور الوسطى ،الجزء الأول ، “التاريخ السياسي” الطبعة السابعة مكتبة الأنجلو المصرية ،1994 ص. 394

2- كارلس ديفز ، شارلمان ،نقله الى العربية د. السيد الباز العريني ، مكتبة النهضة المصرية، ص.167

3- أنظر ، د. بن عامر تونسي ، مرجع سابق ، ص.30_31

4- ستيفن رنيسمان ، تاريخ الحروب الصليبية الحرب الأولى وقيام مملكة القدس _ نقله الى العربية ،د.السيد الباز العريني ، دار الثقافة ،بيروت، الطبعة الأولى ، 1967 ، ص. 153 _
—————————-
·  أنظر، د. محمد يوسف علوان ، مرجع سابق ن ص44ـ 45

· 2ـ د. محسن الشيشكلي ، الوسيط في القانون الدولي العام ،الجزء الأول، منشورات الجامعة الليبية ، كلية الحقوق ،1973 ، ص326

of religion by enforcing on the subject the religion of their sovereign . See;Friedmann.W.op.cit.p20-3 “nationalization” the Sanctio

3- ارساء مبادئ الاعتراف بالدولة الناشئة سيما وأنها جاءت في أعقاب أنهيار الامبراطورية الجرمانية المقدسة ، وما نجم عنها من دول جديدة .

4- اقرار مبدأ عدم التدخل في الشؤن الداخلية سواء أكانت سياسية أم دينية .

5- انضمام روسيا الى الجماعة الدولية الأوربية .(1)

 

أما بالنسبة للقواعد القانونية الدولية ، أرست معاهدت وستفاليا .

· ـــــ نظامآ للسفارات الدائمة وتنظيمى للشؤن القنصلية .

· ــــــ القواعد لقدسية المعاهدات ، وتعيين الحدود الدولية والتخوم .

· ـــــ الأسس لتدوين القواعد القانونية الناظمة للعلاقات الدولية .

مبدأ توازن القوى The balance of pozer

ان بساطة ووضوح فكرة التوازن في الظواهر الطبيعية ، تشجع على الاعتقاد بأن نظام توازن القوى ليس من اجتهاد فكر محدد… وقد عرفت الدول القديمة ظاهرة توازن القوى ، وكانت دول وادي الرافدين ومصر ، تتبع أساليب التوازن في علاقاتها ، وكذلك فعلت المدن اليونانية القديمة .(2 )

أما الرومان ، فقد تمكنوا ـــ بعد أنكسار قرطاجة ، من نشر سلطانهم على رقعة واسعة من العالم انذاك، ولم يجدوا ضرورة للتوازن مع قوة خارجية ، بينما انشغل أمراء أوربا في عصورها الوسطى ، باعداد تراتيب على نمط نظام توازن القوى ، تحفظ عليهم اماراتهم وتخدم تطلعاتهم .(3 )

وأهم من هذا أن من ينهزم يعترف لمن كسب بحق فيما كسبه . ولما نشأت الدولة فى صورتها الحديثة فى منتصف القرن السادس عشر برزت فكرة سيادة كل دولة واستقلالها وبالتالى المساواة بين الدول . وكان يقصد بالدول حينئذ الدول المسيحية الكاثوليكية وحدها . ثم بدأت الدول المستقلة ذات السيادة فى الإلتقاء فى سلسلة مؤتمرات للإتفاق على أسلوب التعامل فيما بينها بدلا من الحروب .

أولها مؤتمر وستفاليا (1648) الذى أقر مبدأ توازن القوى ومؤداه أن تقوم الدول معا بردع أية دولة تتوسع على حساب دول أخرى . وتبعتها سلسلة من الإتفاقات ( أوترخت 1713 والحياد المسلح 1780 ) آخرها ” التحالف المقدس 1815 ، والتحالف الثلاثى 1879 والتحالف الفرنسى الروسى 1897 .. الخ ، فقام لأول مرة نظام دولى عام بالنسبة للدول المنضوبة فيه . ورضائى أى بدون سلطة عليا تفرضه وتحميه ، وتأكدت به فى الوقت ذاته سيادة واستقلال الدول . ومع أن تركيا الإسلامية دخلت هذا النظام (1856) وبعدها اليابان غير المسيحية ، إلا أن لم يصبح عالميا . وظل الوضع هكذا حتى الحرب الأوروبية الأولى (1914ـ 1918 ) فبرزت فكرة تجنيب العالم مثل الدمار الشامل الذى عانته فى الحرب فأنشأت منظمة عالمية أسميت عصبة الأمم .

1 ـ أنظر ، د. علي صادق ابو رغيف ، مرجع سابق، ص40ـ41

2 ـ د. كاظم هاشم نعمة ن العلاقات الدولية ، الجزء الأول ، جامعة بغداد ، 1979 ن ص209 ، ولمزيد من التفصيل في مبدا توازن القوى ، أنظر . د. اسماعيل صبري عبد الله ، العلاقات السياسية الدولية ، المكتبة الأكاديمية ن 1991 ، ص 265

3 ـ أنظر . ماكيافيلي ، كتاب الأمير ، مرجع سابق ، ص 114 ــــ 128 …… يعد ماكيافيلي ـــ وهو لم يكن أميرآ ـ أكثر من رصد ودبر لتلك التراتيب

أن أوربا عرفت السلام ، بقدر ما عرفت من الحرب تقريبآ ، وأنها مدينة بفترات السلام لتوازن القوى، هذه التسمية التي شاعت بعد أن استعملها ” روبرت ووليول ” الوزير الانجليزي الأول في خطاب له أما مجلس العموم بتاريخ 13 شباط ” فبراير ” 1474 ، وكان مليكه ” هنري الثامن ” 1509 ، يفخر بلقب الحكم في أوربا The arbiter of Europe” وأمر أن ترسم له لوحة ، حاملآ بيده اليمنى ميزانا ، كفتاة في حالة توازن تام في احدهما فرنسا ، وفي الأخرى النمسا ، ويحمل بيده اليسرى وزنآ ليلقي به … واتخذ شعارآ له ” من أنصره يغلب Cui adhaereo proset “.(1)

الا أن فرنسا كانت السباقة في القيام بدور ” حاملة التوازن ” . أما الولادة الحقيقة لهذا المبدأ ، فقد كانت في صلح ” أوترخت ” ، الذي جاء لتوطيد سلام وأمن العالم المسيحي . اذ جاء النص فيها صريحآ ” ليحفظ في أوربا التوازن .

Ad conserrandum in Europa equilibrium “.(2) وقد أقرته الدول الأوربية وعاشت عصرآ ذهبيآ ، في ظل نظام توازن القوى، وقد أسهم في نجاحه تأدية بريطانيا دور الدولة ” حاملة التوازن “. الا أن الثورة الفرنسية ، وما نجم عنها ، والنزوع الى السيطرة ، وتحقيق الامتيازات هوى بمبدأ ” توازن القوى ” فكان لا بد من اعادة رسم خارطة أوربا السياسية ، والانتقال بذلك من حال الى حال….

الحلف المقدس The Holly Alliance

بدأت فرنسا بعد الثورة عام 1789 م ، بمحاولاتها في اعادة رسم خارطة أوربا من خلال تصوراتها ، في تصدير الثورة التي تجاوزت شعاراتها فرنسا الى محتلف دول أوربا ، وخاصة بعد وصول نابليون بونابرت الى سدة الحكم وأطماعه ، اضافة الى طموحات الثورة ، بيد أن أوربا خالفتها الرأي والهوى فتحالفت ضدها ، وانتهت بسقوط نابليون ، (3 )

فجاءت معاهدة الحلف المقدس في 26 سبتمبر 1815 م ، حيث ترجع فكرة هذا الحلف الى عام 1804 م ، عندما اقترح قيصر روسيا ” اسكندر الأول ” انشاء عصبة تضم الدول الأوربية ، بعد التخلص من نابليون _ تلتزم بالمبادئ المسيحية في العلاقات الدولية ؛ لذلك جاءت المعاهدة المنشئة لهذا الحلف ، مطبوعة بطابع مسيحي واضح ، أشير في ديباجتها الى عزم الدول الأطراف فيها ، الى الالتزام بالمبادئ السامية للمسيحية ، باعتبارها الديانة المقدسة والأبدية.(4)

بيد أن الاغراق في المثالية الدينية _ التي تنطوي عليها تعاليم السيد المسيح عليه السلام _ لم تأتلف والواقعية السياسية السائدة في العلاقات الدولية ، ودفعت بالكثيرين الى التشكيك بقدرة الحلف المقدس على النجاح في تحقيق اتحاد أوربي آمن . الا أن الاخفاق الذي واجه هذا الحلف اعادة الدول الأوربية مرة ثانية في التفكير عن تحالف جديد يظمن الى البحث عن تحالف أقوى ، فظهر هذا التحالف الأوربي الجديد .

1. د. اديب نصور ، ميزان الدول ، منشورات جامعة قار يونس _ بنغازي ، الطبعة الأولى ، 1991 ، ص 19 – 20

2. أوترخت Utrecht سلسة من المعاهدات استمرت مفاوضاتها ما بين نيسان (أبريل ) 1713 م ، و أيلول ( سبتمبر ) 1714 م ، أعقبت وراثة العرش الاسباني بين أل هابسبورغ و أل بوربون ، التي أستمرت 13 عامآ من 1701 حتى 1714 . للمزيد أنظر : د. أديب نصور ، مرجع سابق ، ص 118 _ 119

3. See:SUTHERTAND ,Menzies ,the Doumfall of Napoleon ; in the worlds great event S op .cit.vol 6.pp195-177.

4. ثمة رأي بان الطابع الديني الواضح لهذا المشروع ، انما يعود الى الأثر العميق للبارونة الروسية ” جوليانا دي كرودن Juliana de Kruden (1764 _1824 ) على القيصر

5. اسكندر الأول ، سيما انها كانت معروفة بنزعتها المتطرفة في التصوف ، انظر : د. محمد سامي عبد الحميد ، مرجع سابق ، ص 23

 

الوفاق الأوربي:

فكرة ناضجة تختلف عن الحلف المقدس الذي جاء بطابع ديني للشعوب والدول المسيحية في أوربا ، وانما طرحة فكرة التعاون في أدارة شؤون القارة الأوربية تقوم بها الدول الكبرى بالتشاور فيما بينها بالطرق الدبلوماسية وكذلك المؤتمرات الدولية ( أوربية )، وأعطاء هذه المهمة للدول العظمى أي دول مثل ( روسيا ، النمسا ، بريطانيا وبروسيا ) ، وكان هذا عام 1815 حيث انضمت فرنسا أيضآ ، وفي هذا الأطار عقدة أربعة مؤتمرات ما بين عام 1815 وحتى عام 1822 ، وفي هذه المؤتمرات تبين التباين بين هذه الدول الكبرى رغم السيطرة التامة على شؤون القارة طيلة قرن من الزمن ( 1815 ـــ 1914 ) . حيث أن خلال هذه الفترة الزمنية تكرست أهم مبادئ القانون الدولي التقليدي ، وفي نفس الوقت أرست جذورها في التنظيم الدولي المعاصر .

ملامح المتغيرات الدولية في القرن التاسع عشر وبداية عصر جديد:

أن التفاعلات والتوازنات على ساحة علاقات القوى الرئيسية في القارة الأوربية أدى الى عجز الوفاق الأوربي عن الاستمرار في أداء دوره ، حيث سار العمل السياسي داخل هذه المجموعة ( الأوربية) ، على سياسات ارتجالية في اليات العمل الدولي الجماعي ، في الوقت الذي اتسع حجم العلاقات الدولية وكذلك النمو السكاني الذي شمل كافة انحاء المعمورة ، وكذلك الحرب الغربية الأولى التي عجز الوفاق في منع أندلاعها ، كل هذه الأسباب ادت الى بدء أنحصار و انتهاء دور الوفاق في السياسة الأوربية .

وكما الامر بعد كل جولة من الحروب التي تؤدي الى تحالفات وموازين جديدة ، كانت هزيمة نابليون مناسبة هامة لاعادة صياغة الواقع الاوربي من جديد على قواعد واسس تراعي المتغيرات الحاصلة على الارض . حيث تداعت الدول المنتصرة الى عقد مؤتمر فينا في سبتمبر 1814 وستمر الى شهر يونيه عام 1815 وتضمنت هذه المعاهدة عدة مسائل أهمها:

1. اعادة تنظيم توازن القوى في أوربا ، التي عصفت بها حروب نابليون وأقرار مبدأ المشروعية الملكية ، أي احترام الملك الشرعي على اقليمه ، وطبق هذا المبدأ بأثر رجعي لاعادته بيوت الملك القديمة الى عروشها كما حصل في النمسا وبروسيا وأسبانيا . وأصبحت السويد والنرويج دولة اتحادية اتحاد حقيقي ، وألحقت بلجيكيا بالأراضي المنخفضة هولندا ، ازالة بولندا عن خارطة الجغرافية _ السياسية لاوربا وتوزيعها بين روسيا وبروسيا والنمسا ، وتقرر وضع سويسرا في حياد دائم .

2. اقرار مبدأ التدخل للقضاء على الحركات الثورية ، التي يمكن أن تنهض في أحد البلاد الأوربية ، كما حدث وتدخلت القوى الكبرى في أخماد الثورات التحررية في ايطاليا (1820 ) أسبانيا (1823 ) الانتفاضة الرومانية ضد السيطرة التركية ( 1821 ) كما اخمدوا أيضا ثورات ما بين عامي ( 1830 _1848 ) في العديد من الدول الأوربية الصغرى.

3. التنافس الاستعماري بين الأمبراطوريات الاستعمارية الناشئة فرنسا و انجلترا ، اذ بلغت مساحة المستعمرات البريطانية 33،5 مليون كيلو متر مربع أي ما يعادل ربع مساحة الكرة الأرضية ، وبلغت مساحة المستعمرات الفرنسية 10 مليون كيلو متر مربع .(1)

4. تراجع الدولة العثمانية عن دورها الفاعل في المجتمع الدولي ، لتغدو رجلآ مريضآ ، لا يحتاج الاجهاز عليه كبير العناء فعندما تقرر ضم تركيا الى المجتمع الدولي في معاهدة باريس 1856 ، اذ تقيدت الدولة العثمانية بمجموعة من المعاهدات والالتزامات الدولية ، التي كانت بداية النهاية للدولة العثمانية . (2)

5. سيادة مبادئ القانون الأوربي العام ، أو ما اصطلح على تسميته بالقانون الدولي التقليدي الذي يتناول بالتنظيم والتنسيق مصالح القوى الأوربية ، لن الجماعة الدولية لا تضم الا جماعة الشعوب الأوربية المسيحية المتمدنة .

1- أنظر ، د. غضبان مبروك ، مرجع سابق ن ص 91

2- أنظر ، د. ابراهيم أحمد شلبي ، مرجع سابق ، ص 26 . د. محي الدين محمد محمود قاسم ، مرجع سابق ، ص 311 _312.

كانت أوربا تعتبر أهم قارة وكانت أفريقيا وآسيا مجالا للتوسع الاستعماري والتجاري والديني ، حيث كانت الدول الأوربية ( القوى العظمى ) ، أكثر أهمية من الدول الصغرى لأن نطاق مصالحهم كان أكبر ومسؤلياتهم أعظم فضلا عن كثرة مالديهم من مال وسلاح . حيث قامة هذه القوى بمسؤلية جماعية عن سلوك القوى الصغرى وبنفس الوقت عملت على توطيد السلام بينهم ، حيث تأسست اداراة دبلوماسية محترفة في كل الدول الأوربية ، أضافة الى مبدأ المفاوضات السرية والمتصلة .

المجتمع الدولي في القرن التاسع عشر هو أساسا دول أوربية قليلة العدد ( خمس عشرة دولة في عام 1815 ). أما الدول غير الأوربية فهي مستبعدة من دائرة المجتمع الدولي ، ويمكن للدول الأوربية أن تغزوها وتستولي عليها وقتما تشاء . ولكن الدائرة الجغرافية للقانون الدولي توسعت تدريجيا ، وذلك بعد دخول الامبراطورية العثمانية واليابان والصين وسيام وفارس وجمهوريات أمريكا اللاتينية في مجتمع الأمم ، ومشاركاتها في المؤتمرات الدولية العديدة التي انعقدت خلال القرن .

وبناء على مبادرة من نقولا الثاني قيصر روسيا ، انعقدت مؤتمرات دولية في باريس وبرلين ولاهاي في عامي 1899 _ 1907 ، وكان أخرها مؤتمر لندن عام 1912 _ 1913 بعد الحرب البلقانية الثانية . وقد أعد المؤتمر الأول ثلاث اتفاقيات دولية ، قننت الأولى منها تسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية ( المساعي الحميدة ، الوساطة ، التوفيق ، التحقيق ، التحكيم ) . كما تضمنت الاتفاقية النص على انشاء ” المحكمة الدائمة للتحكيم ” التي هي ليس لها من صفتي المحكمة والدوام غير الاسم . فهي ليست محكمة مكونة من عدد من القضاة . وما هي الا قائمة بأسماء أشخاص يمكن للدول المتنازعة أن تختار من بينهم هيئة التحكيم .

ولاشك أن مؤتمري لاهاي يمثلان أهمية خاصة بالنسبة للتنظيم الدولي وذلك لأسباب عديدة منها :-

أولا : أن هذا النوع من المؤتمرات كان ينعقد في وقت السلم وهو مايعني ظهور نوع من الدبلوماسية الجماعية في وقت السلم وعدم قصرها على وقت الحرب أو لتصفية المشاكل الناجمة عن الحرب .

ثانيآ : أن قاعدة هذا النوع من المؤتمرات كانت أكثر اتساعآ من غيرها حيث لم تعد قاصرة على الدول الأوربية بل ساهمت فيها دول غير أوربية .

ثالثآ : أن هذه المؤتمرات كانت دورية أو على الأقل شبه دوريه حيث كان المؤتمر الأول عام 1899 م والثاني عام 1907 م والثالث كان مقررآ له عام 1915 م ، ولاشك أن اقرار الدورية في ذاته يعتبر تقدمآ ملموسآ ، كما أنه اعتراف بفائدة هذه المؤتمرات .

رابعآ : أن هذين المؤتمرين حاولا ايجاد وسيلة لحل المنازعات بدلا من الحروب وهو مايظهر من الاهتمام الشديد بالقانون الدولي . وتمثل ذلك في التعرض لمسآلة تقنين قواعد هذا القانون وبالذات انتقاء وارتقاء وصياغة قواعد واجراءات حل المنازعات حلا سلميا ، ولو قدر لهذا التطور الاستمرار لكان ذلك مؤثر ليس فقط على تنظيم الجماعة الدولية بل أيضآ على ايجاد وسائل هذا التنظيم وفي مقدمتها المنظمات الدولية .

النظام الدولي (أثناء الحرب العالمية الأولى) متعدد الاقطاب باشراف عصبة الأمم

ترتب على الحرب العالمية الأولى 1914 _ 1919 وما نتج عنها من آثار جسيمة سواء كان ذلك بالنسبة للأنفس او بالنسبة للأموال ادراك ضرورة ايجاد وسيلة تمتاز بالتنظيم والدوام وتكون قادرة على الحيلولة دون تكرار الحروب بواسطة ما يكون لها من احتصاصات تمنع الالتجاء الى القوة لحل المشاكل الدولية وتوفير امكانية حل هذه المشاكل بالطرق السلمية .

كانت دافعا كبيرا لعدد من المفكرين والساسة للبحث عن الوسائل والهياكل التنظيمية الدولية الكفيلة بتحقيق سلام عالمي دائم والحيلولة دون قيام حرب دولية جديدة، وظهرت أثناء هذه الحرب أفكار ومنظمات شعبية؛ وهو ما هيأ الأجواء لظهور “عصبة الأمم”، وهي المنظمة التي دعا إليها الرئيس الأمريكي تودور ولسون في خطابه الشهير أمام الكونجرس في (8 يناير 1918م) حول مبادئه الأربعة عشر؛ فقد دعا إلى إنشاء رابطة بين الأمم من خلال معاهدة دولية خاصة بهدف تقديم ضمانات متبادلة تتعلق بالاستقلال السياسي، وسلامة أراضي كافة الدول صغيرها وكبيرها على حد سواء، وأصر ولسون في مؤتمر الصلح الذي عقد بعد الحرب أن يكون ميثاق “عصبة الأمم” جزءا لا يتجزأ من “معاهدة فرساي” التي وقعت في (28 يوليو 1919)، وبذلك نشأت العصبة وبدأ وجودها الفعلي والقانوني في (10 يناير 1920م)، ورغم الدور الأمريكي في إنشائها فإن الولايات المتحدة لم تصبح شريكا فيها؛ نظرا لرفض الكونجرس الانضمام إليها.

كان قيام “العصبة” قفزة نوعية كبرى في مجال التنظيم الدولي؛ لأنها المرة الأولى في تاريخ البشرية التي يتم فيها إنشاء منظمة سياسية ذات طابع عالمي، ومزودة بأجهزة دائمة، حيث أوجدت العصبة آليات لتحقيق الأمن الجماعي، وتسوية المنازعات بالطرق السلمية، ونزع السلاح.

وقد استطاعت “العصبة” أن تتغلب على إحدى المعضلات الرئيسية التي وقفت على الدوام عقبة في طريق التنظيم الدولي؛ وهي: كيفية التوفيق بين المساواة القانونية بين الدول، وبين عدم المساواة الفعلية بينها. وذلك من خلال إنشاء فرعين للعصبة، أحدهما: عام تتمثل فيه كافة الدول على قدم المساواة وفقا لقاعدة “صوت واحد لكل دولة”، والآخر: محدود العضوية، تشغل فيه الدول الكبرى (بريطانيا ، ايطاليا ، فرنسا واليابان ) وحدها مقاعد دائمة فيه، وهو ما يشبه “مجلس الأمن” في الأمم المتحدة، لكن كان عدد أعضائه تسعة أعضاء فقط.

وقد أصبحت “جنيف” مقرا لعصبة الأمم، وكان أول أمين لها هو البريطاني “أريك دراموند”، وكان عدد دول “العصبة” عند نشأتها (20) دولة، وأخذ هذا العدد في التأرجح بين الزيادة والنقص، وكانت ذروته عام 1937م حيث وصلت العضوية فيها إلى (58) دولة، لكن فشل “العصبة” في منع نشوب أدى إلى انهيارها.

ميثاق العصبة. ضم الميثاق 26 مادة ، مواد تلزم الدول الأعضاء بالمحافظة على استقلال وأرض جميع الأعضاء ضد الاعتداء. وقد اتفقت الدول الأعضاء على إحالة أية نزاعات يمكن أن تؤدي إلى الحرب إما إلى التحكيم (وهو قرار صادر عن طرف ثالث) أو إلى تحقيق يجريه مجلس العصبة. وقد تعاهدت على عدم شن حرب على أي من الدول الأعضاء التي توافق على توصيات مجلس التحكيم أو مجلس العصبة. وإذا شن أي من هذه الدول حربًا خلافًا لأي من هذه المواد، فقد اتفقت الدول الأعضاء على تطبيق العقوبات الاقتصادية، مثل وقف التعامل التجاري مع الدولة المعتدية. وإذا طلب منها مجلس العصبة، فسوف تقوم باستخدام القوة العسكرية ضد تلك الدولة .

المجلس. الجهة الرئيسية للحفاظ على السلام. وقد تراوح حجمه بين ثمانية أعضاء و 14 عضوًا خلال تاريخ العصبة. كان للدول الأعضاء الأكثر قوة في العصبة مقاعد دائمة في المجلس؛ حيث كانت فرنسا وألمانيا، وإنجلترا والاتحاد السوفييتي (السابق) تتمتع بمقاعد دائمة خلال سنوات عضويتهم في العصبة. أما بقية المقاعد فكانت بالتناوب بين الدول الصغيرة في العصبة.

الجمعية. تتألف من جميع الدول الأعضاء، لكل دولة عضو صوتٌ واحدٌ. وكانت الجمعية تراقب ميزانية العصبة، وتوافق على قبول أعضاء جدد، وتنتخب أعضاء المجلس المؤقتين، وتجري التعديلات على الميثاق. وبالنسبة لهذه الأمور فإن بإمكان الجمعية اتخاذ قرار بغالبية ثلثي الأصوات.الأمانة. توفّر الجهاز الإداري، وهناك أمين يرشحه المجلس وتوافق عليه الجمعية، ويرأس جهازًا من الموظفين يبلغ عددهم 600 موظف. يساعد هؤلاء الموظفون في عمل العصبة في حفظ السلام، ويوفرون الموظفين لمهام الدراسات الخاصة بنزع السلاح وشؤون المستعمرات. كانت الأمانة توفّر الموظفين لمختلف المنظمات الدولية التي تؤسسها العصبة لتعزيز التعاون في مجال التجارة الدولية، والتمويل، والنقل، والاتصالات والصحة والعلوم .عمل العصبة كان ويلسون وبقية السياسيين الذين أسسوا العصبة، يأملون أنها ستقود الأمم إلى الامتناع عن طلب الحماية عن طريق حلفاء خاصين. وكانوا يحبّذون بدلاً من ذلك إقامة نظام للأمن الجماعي، يتم فيه ضمان أمن كل دولة من الدول الأعضاء بحماية الجميع. ومن أجل أن ينجح الأمن الجماعي كان من الضروري أن تسارع جميع الدول الأعضاء، وخاصة الأقوى بينها، إلى نجدة أي دولة عضو تواجه اعتداء. لم يكن المجلس ولا الجمعية ليستطيعا إجبار الأعضاء على تقديم العون للدولة التي يقع الاعتداء عليها؛ إذ إن هذا العمل يجب أن يكون طوعيًا، وكان على كل دولة أن تعتقد أن تهديد أمن أي دولة، حتى ولوكانت دولة صغيرة نائية، هو تهديد لأمنها. الخلاف بين الدول الأعضاء. لم تتفق الدول الأقوى على أن الأمن الجماعي هو الهدف الرئيسي للعصبة، فقد رأت فرنسا في العصبة أداة رئيسية للمحافظة على التسوية الإقليمية المفروضة على ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى. وقد استاء الألمان من العصبة؛ لأنهم شعروا أن هذا هو الهدف الحقيقي. أما القادة البريطانيون فقد اعتبروها ملتقى للأمم القوية، لكي تتشاور في حال حدوث تهديد للسلام. لكنهم لم يكونوا يريدون الالتزام مقدَّمًا بفعل أي شيء نتيجة لمثل هذه المحادثات. واعتقد الاتحاد السوفييتي أن العصبة كانت خدعة استعمارية؛ لأنها كانت تعلم أن الحرب حتمية بين الدول الرأسمالية. أما اليابان وإيطاليا فقد أظهرتا ازدراءهما للأمن الجماعي، وذلك بمهاجمتهما الدول الأعضاء.

أخفاق العصبة وأسبابه .

* أنتهى أمر عصبة الأمم بالفشل في عدة مجالات تتمثل في سلسلة الانسحاب المتوالي للدول من العصبة حيث بلغ عدد الدول المنسحبة 20 دولة وهو ما يقارب من ثلث اعضائها حيث انسحبت اليابان من العصبة عام 1933م، لأنها رفضت الاعتراف باستيلائها على منشوريا. أما ألمانيا التي تم قبول عضويتها في العصبة عام 1926م، فقد انسحبت عام 1933م ، لأن العصبة لم تغير قيود التسليح المفروضة على ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، وقد انسحبت إيطاليا من العصبة عام 1937م لتنضم إلى اليابان وألمانيا في التحالف ضد الاتحاد السوفييتي الذي انضم إلى العصبة عام 1934م، وطرد عام 1939م لمهاجمته فنلندا.

*أخفقت العصبة بصورة واضحة، عندما هاجمت إيطاليا إثيوبيا في أكتوبر عام 1935م، وأعلن المجلس أن إيطاليا خرقت الميثاق. وقد ألزم هذا الإجراء الدول الأعضاء في العصبة بتطبيق العقوبات الاقتصادية وبدراسة استخدام القوة ضد إيطاليا. وافقت الدول الأعضاء في العصبة بتطبيق العقوبات الاقتصادية، بوقف جميع الواردات من إيطاليا ومنع إرسال الأموال والمعدات العسكرية إليها. لكن الولايات المتحدة واليابان وألمانيا لم تكن أعضاء في العصبة ولذلك فإن جماعة القوة الساحقة التي كان ويلسون يفكّر في استخدامها ضد المعتدي انخفضت إلى ثلاث دول هي فرنسا وإنجلترا والاتحاد السوفييتي، أما بقية الدول الأعضاء في العصبة فلم تكن تملك القوة الكافية للتأثير في السياسة الإيطالية. وحتى في هذه الحالة كانت فرنسا وإنجلترا والاتحاد السوفييتي تملك القدرة على إيقاف الهجوم الإيطالي لو أنها كانت يدًا واحدة وتملك التصميم على فعل ذلك. لكن إنجلترا وفرنسا لم تكونا راغبتين في استخدام القوة أو اتخاذ إجراءات قد تؤدّي إلى الحرب، حتى إنهما أخفقتا في استخدام الإجراءات الاقتصادية، مثل فرض حظر على النفط، الأمر الذي كان سيلحق ضررًا بالغًا بجهود الحرب الإيطالية. وبحلول مايو عام 1936م، كانت إيطاليا قد استولت على إثيوبيا. وقد ألغت العصبة عقوباتها في شهر يوليو.* كانت السياسة الفرنسية السبب الرئيسي وراء فشل عصبة الأمم. ولعل إنجلترا والاتحاد السوفييتي كانتا ستتخذان إجراءات أقوى ضد إيطاليا لو أن فرنسا أيدتهما. ولكن فرنسا كانت تخشى قيام حرب أخرى مع ألمانيا، وكانت تريد من إيطاليا أن تكون حليفتها، ولم يكن معقولاً بالنسبة للزعماء الفرنسيين أن يخسروا صداقة إيطاليا لمجرد حماية استقلال إثيوبيا.

* أخذت عصبة الأمم بنظام المركزية الجامد ، أي انها حصرت كافة السلطات والاختصاصات في شخص معنوي واحد وهو العصبة نفسها دون مشاركة من تنظيمات دولية أخرى اقليمية كانت او فنية ، وقد اخذت العصبة بهذا النظام المركزي ، لاتبغي منه توحيدا الأساليب الحكم في العالم ، ولا تعزيزا لهيبة السلطة العامة ، وانما لتفادي المخالفات والتكتلات التي قد تنشأ خارج نطاقها ن وقد تكون خطرا على كيانها .

* اعتماد التصويت بالاجماع بدلا من اتباع رأي الاغلبية ، وكذلك التفات الأعضاء المهمين لمصالحهم الوطنية وعدم الاكتراث لبقية العالم .

وهكذا كان التنظيم الدولى الذي قرره عهد العصبة هشا بحيث لم يكن في الامكان الحيلولة دون اندلاع الحرب العالمية الثانية ، وهذه الحرب هي التي قضت على العصبة واقعيآ وان كانت نهاية العصبة قانونا يمكن اعتبارها يوم 18 من ابريل سنة 1946 وهو تاريخ انهاء الدورة الواحدة والعشرين للجمعية العامة أو يوم 31 يولية عام 1947 وهو تاريخ قفل حساباتها في البنوك وتحويل أرصدتها لحساب الأمم المتحدة . وهكذا اختفت العصبة من الوجود بعد أن ظهرت في 10 من يناير سنة 1920 .

النظام الدولي ( أثناء الحرب العالمية الثانية) والثنائية القطبية في ظل الامم المتحدة

على الرغم من فشل عصبة الأمم وعدم تحقيقها لأهم أهدافها وهو حفظ السلم والأمن الدوليين حيث قامة الحرب العالمية الثانية في عام 1939 ، واستمرت ست سنوات ، انتهت كسابقاتها بهزيمة المعتدي واستسلامه دون قيد ولا شرط . الا أن رجال القانون والحكام ظلوا مقدرين لأهمية اقامة تنظيم دولي ، وقد ظهر ذلك أثناء الحرب وفي أعقابها الى ان شهد العالم في 24 أكتوبر سنة 1945 ميلاد منظمة دولية جديدة ودخولها ميدان العمل وهي منظمة الأمم المتحدة .

الاعلانات والتصريحات الفردية

فكرة أنشاء منظمة دولية جديدة انتشرت اثناء وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية ، وكان من أوائل الدعاة لهذه الفكرة الكثير من المفكرين والساسة والتجمعات الخاصة في العديد من الدول وبالذات الدول المتحالفة ، وقد أسرع بعض حكام هذه الدول في التقاط الفكرة وأظهروا تحمسا لها ، فقد أعلن فرنكلين روزفلت رئيس الولايات المتحدة الأمريكية عن ضرورة اقامة تنظيم دولي جديد قادر على منع الحروب وحل المنازعات بالطرق السلمية ، حيث بعث برسالة الى الكونجرس الأمريكي _ مجلس الشيوخ والنواب في 6 من يناير 1941 وكذلك الخطاب الذي القاه في 15 من ديسمبر 1941 .

وقد تعددت اعلانات المسئولين البريطانيين عن ضرورة ايجاد تعاون دولي يهدف الى انهاء الحرب وارساء قواعد السلام في العالم . ومن أهم الوثائق المتعلقة بذلك الخطاب الذي القاه رئيس انجلترا ونستون تشرشل أمام مجلس العموم البريطاني في 21 مارس سنة 1943 .

التصريحات الثنائية (تصريح الأطلنطي )

في 14 أغسطيس سنة 1941 ، وبينما كانت المانيا تظفر بانتصار تلو انتصار ، اجتمع الرئيس روزفلت ومستر تشرشل على ظهر البارجة ” برنس أوف ويلز ” وأصدرا بيانا رسميا عرف باسم (تصريح الأطلنطي )، تضمن بعض المبادئ المشتركة للسياسة الوطنية في دولتيهما والتي يبنون عليها آمالهم في مستقبل أفضل للعالم وهي :

1. أن الدولتين لاتبحثان عن أي توسع أقليمي وغير اقليمي .

2. لاترغب الدولتان في حدوث أية تعديلات اقليمية لاتكون متفقة مع اماني الشعوب المعنية المعبر عنها بحرية .

3. تحترم الدولتان حق كل شعب في اختيار شكل حكومته ، وتؤيد عودة حقوق السيادة والاختيار الحر للحكومات الى كل الشعوب التي حرمت بالقوة من هذه الحقوق .

4. تبذل الدولتان جهودهما – مع مراعاة الالتزامات السابقة – لكي تمكن كل الدول – صغيرها وكبيرها وكذلك المنتصرية والمنهزمة – من الوصول الى المواد الأولية في العالم والمعاملات التجارية الضرورية الازدهار الاقتصادي .

5. ترغب الدولتان في تحقيق التعاون التام بين جميع الأمم في حقل الاقتصاد لضمان تحسين وضع العمل والتقدم الاقتصادي والضمان الاجتماعي لها جميعآ .

6. أن مثل هذا السلام يسمح لكل الأفراد باستخدام البحار بدون معوقات .

7. تأمل الدولتان – بعد الخلاص نهائيا من الاستبداد النازي – اقامة سلام يسمح لجميع الأمم أن تعيش بأمن وسلام داخل حدودها ويضمن لجميع الأفراد من جميع الشعوب العيش متحررين من الخوف والحاجة .

8. تؤمن الدولتان لأسباب روحية وعملية أن على جميع أمم العالم أن تتنازل نهائيا عن استخدام القوة . وان يتم انشاء تنظيم دولي جديد بعد انتهاء الاعمال الحربية القائمة . (1) وقد انضم الى هذا التصريح الموقع في 12 يونيه 1941 الاتحاد السوفيتي .

وعلى أثر هذه الخطوة تكونت لجنة برياسة مستر كوردل هول ، وأجتمعت أول مرة في 12 فبراير سنة 1942، وكان من مبادئها قصر أعمالها على مشكلات ما بعد الحرب . ومن العقبات التي اعترضت طريق الجنه بادئ الأمر النقاش الذي دار حول العلاقات الدولية فيما بعد الحرب ، التنظيم على اساس دولي عالمي ___ أم على أساس دولي أقليمي ، أي بمعنى هل يتولى الاشراف على العلاقات الدولية تنظيم دولي واحد ، ام عدة تنظيمات اقليمية .(2)

وكان الرئيس روزفلت ومستر تشرشل يؤيدان وجهة النظر الثانية ، وقد سجل مستر تشرشل آراءه في رسالة أقترح فيها تقسيم العالم الى ثلاث كتل .

أولآ : الكتلة الأوربية ، وتكون لها حكومة اتحادية تقوم على مبادئ عصبة الأمم المتحدة ، ويكون لها جيش موحد ومحكمة عدل دولية ، ويكون من اعضائها ( الدول الأوربية ودول الشرق الأوسط والولايات المتحدة .

ثانيآ : الكتلة الأمريكية ، وتشمل الاحدى وعشرين جمهورية أمريكية مضافة الى كندا وبهذا يكون الكومنولث البريطاني ممثلا فيها .

ثالثأ : الكتلة الشرقية ، وتشمل الدول الاسيوية ، والولايات المتحدة ، والاتحاد السوفيتي .

أما الرئيس روزفلت فانه يؤيد النزعة الاقليمية التي ناد بها المستر تشرشل . ولكنه يرى أن المحافظة على السلام والأمن يجب أن تكون من اختصاص التنظيم الدولي العام ، أي من اختصاص الدول الأربع الكبرى . حيث كان متفائلا يعتقد أن التحالف العسكري القائم أثناء الحرب سيبقى قائمآ بعدها ، وكما أنه توقع انتصار هذا التحالف في الحرب ، فكذلك كان يرجو له الانتصار في معركة السلام .(3)

1 – أنظر : د. براهيم أحمد شلبي ، مرجع سابق ، ص 143

2 – د. بطرس بطرس غالي ، د. محمود خيري عيس ، مدخل في علم السياسة ، الناشر مكتبة الأنجلو المصرية الطبعة السابعة 1989 ، ص 418

3 – وكان من رأي الرئيس روزفلت أيضا ان تدعيم السلم يقتضي تنظيم العلاقات الاقتصادية ، والاجتماعية الدولية ، وذلك عن طريق انشاء وكالات امنية خاصة مستقلة بعضها عن البعض وليس لها علاقة بالكتل الاقليمية أو التنظيم الدولي ، فكل منها لها دور تؤديه في ميدانها الخاص .

ولم تجد هذه النزعة الاقليمية قبولا عند لجنة شئون ما بعد الحرب ، وانتقد هذا المشروع السيد سمنر ولز فذكر أنه أغفل أمرين اساسيين : أولهما : أن كل تحالف يكون نتيجة لحرب لايدوم بعد انتهائها ، فالسياسات الوطنية والأطماع تتغير ، والزعماء يتبدلون ، والخصومة والتنافس بين المتحالفين قد يحلان محل الصفاء والتعاون . وثانيهما : أن سائر الدول الأخرى من متوسطة وصغرى أو محايدة لاترضى أن تخضع لنظام ديكتاتوري تفرضه عليها الدول الأربع الكبرى ، لأنها لم تحارب ديكتاتورية المحور لتخضع لديكتاتورية جديدة يمثلها هذا التحالف المقترح . حيث تحركة لجنة شئون مابعد الحرب باقناع الرئيس روزفلت والمسؤليين من الانجليز بضرورة اقامة تنظيم دولي عالمي . ومن الحجج التي قدمتها للاقناع بوجهة نظرها ،

أولا: أنها لا تنكر صلاحية التنظيمات الاقليمية لفض المنازعات التي تقع بين أعضائها ، غير أنها ترى أنه لا جدوى من هذه التنظيمات ما لم يوجد تنظيم عالمي اعلى مرتبة منها يستطيع الاشراف عليها وتنسيق الأعمال بينها .

ثانيآ : ترى اللجنة أن أي تنظيم عالمي مهما كان قويا يعجز عن الاشراف على ثلاث كتل اقليمية ، ولا يستطيع فض المنازعات التي لابد أن تقع بينها . بخلاف ما اذا كان هذا التنظيم نفسه يشرف على خمسين دولة غير مرتبطة فيما بينها بتنظيمات اقليمية، لأن قوته تمكنه من السيطرة على كل دولة منفردة تتمرد على نظامه .

ثالثا : تنظيم العالم اقتصاديا واجتماعيا بواسطة وكالات فنية مستقلة بعضها عن البعض لايتم الا بقيام تنظيم دولي عام يكفل تنسيق أعمالها ، ويجنبها شر التضارب والتنافس والتطاول .(1)

تلك هي بعض الحجج التي قدمتها لجنة شئون ما بعد الحرب لتقنع مؤيدي النزعة الاقليمية بنبذها ، وقد نجحة في مسعاها ، وظهرة آثار هذا النجاح في مؤتمر موسكو ( أكتوبر 1943 ) ، فعلى أثر انعقاده تم للنزعة العالمية التغلب نهائيا على النزعة الاقليمية .(1)

1 – تدعيما لهذا الرأي تقدم أعضاء هذه اللجنة بحجة أخرى تتصل بالسياسة الداخلية للولايات المتحدة ، وهي أنه حين يطلب من الرأي العام الأمريكي ممثلا في برلمانه ان يوافق على انضمام بلاده الى أربعة تنظيمات _ هي : الكتلة الامريكية ، والكتلة الأوربية ، والكتلة الشرقية ، واخيرى التنظيم الدولي العام _ فأن أنصار العزلة سيحاربون هذا الوضع وينادون بالحياد أو الاكتفاء بالانضمام الى الكتلة الامريكية وحدها ، ويجدون عندئذ تأييدا واسعا من الرأي العام ، وفي مأساة معاهدة فرساي عبرة لمن يريدون أن تنظم بلادهم الى أربعة تنظيمات دولية .

التصريحات متعددة الأطراف

في أثناء الحرب وفي الفترة التي اعقبتها صدرت عدة تصريحات من بعض دول العالم تؤكد ضرورة تقرير نظام يحفظ السلم ويمنع الحروب . ومن ضمن المشروعات متعددة الأطراف ” التصريح المشترك للمساعدة المتبادلة ومقاومة العدوان ” الموقع في 12 يونيه 1941 بين كل من انجلترا وكندا واستراليا ونيوزلندا وجنوب أفريقيا وبلجيكيا والحكومة التشيكية المؤقتة والحكومة اليونانية والهولندية والبولونية واليوغسلافية وحكومة لكسمبورج وممثلى رئيس الفرنسيين الأحرار الجنرال ديجول . حيث تضمن هذا التصريح في مادته الثالثة ” أن الأساس الوحيد والمتين لسلام دائم هو التعاون التلقائي للشعوب الحرة في عالم يزول فيه التهديد بالعدوان ويطمئن فيه الجميع على أمنهم الاقتصادي والاجتماعي وأنه لديهم النية في العمل لتحقيق هذه الأغراض معآ ومع الشعوب الحرة الأخرى سواء وقت الحرب أو السلم ” . وكانت أهم هذه التصريحات :

أولا : تصريح الأمم المتحدة

صدر هذا التصريح بمدينة واشنطن ولذلك يطلق عليه البعض تصريح واشنطن ويعتبر هذا التصريح أول تصريح تضمن اقتراح اسم الأمم المتحدة United Nations ولذلك حتى وصفه صراحة بتصريح الأمم المتحدة (1) وقد تم التوقيع عليه في أول يناير 1942 من كل من الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد السوفيتي والصين وممثلي اثنتين وعشرين دولة أخرى . ولم تنضم فرنسا اليه الا في 24 سبتمبر 1942 وقد تضمن هذا التصريح عدة مبادئ أساسية من أهمها :

نشر سومر ولرس SUMMER wellers وزير خارجية الولايات المتحدة مشروعآ للنظام الدولي الجديد في كتابه The Time For decision ويظهر أن تصريح الأمم المتحدة قد تأثر بطريق أو آخر بما جاء في هذا الكتاب الذي تضمن ضرورة انشاء منظمة دولية دائمة . هذه المنظمة تقوم على مبادئ واهداف واضحة وتزود بسلطات ملائمة وأجهزة مناسبة وامكانيات مادية بقدر ما يعهد اليها بة من مهام . وتضمن كذلك اقامة مجلس تنفيذي مؤقت من 11 عضوآ اربعة منهم يمثلون الدول الكبرى والسبعة الآخرون يمثلون مناطق العالم . ويقوم هذا المجلس باعداد النظام الدائم لحفظ السلم والمن الدوليين عن طريق الآمم المتحدة . وقد وافقت لجنة ما بعد الحرب بوزارة الخارجية الأمريكية على ما جاء بهذا الكتاب وأعدت مشروعآ بذلك أحالته في عام 1944 الى الاتحاد السوفيتي وبريطانيا . أنظر الدكتور حسن الجبلي :مبادئ الأمم المتحدة . مرجع سابق . صفحة 20 وما بعدها ويتعين ملاحظة أن هذا المشروع كان مغايرآ للمشروع الانجليزي الذي أرسله تشرشل الى روزفلت في فبراير 1943 والذي تضمن انشاء منظمة واحدة “عالمية الاتجاه ” وثلاث منظمات أقليمية . والمنظمة العالمية أو ( المجلس العالمي ) كما أطلق عليها المشروع الانجليزي تكون عضويتها قاصرة على الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا والصين مع عدم الاخلال بحق هذه الدول في الانضمام الى المنظمات أو المجالس الأقليمية التي ترى أن لها مصلحة في الانضمام اليها . هذه المنظمات أو المجالس التي تضمنها المشروع كانت ثلاث موزعة على ” مناطق ” العالم بحيث تكون واحدة لأوربا وأخرى للشرق وثالثة لنصف الكرة الغربي . وقد قبل روزفلت من حيث المبدأ هذا المشروع ثم أحاله الى مستشاريه ولكن هؤلاء تمكنوا من اقناع روزفلت بخطورة هذا المشروع، أولا أن وجود منظمات اقليمية يثير الخلافات ليس فقط بين الدول ولكن بين أقاليم بأكملها وبذلك تتسع دائرة الحروب بدلا من انحصارها بالاضافة الى ما قد ينشأ عن ذلك من قفل الأسواق في مناطق كاملة . ثانيآ ان اعطاء الدول الكبرى حق الانضمام الى المنظماتالاقليميةقد يترتب عليه طلبها الانضمام الى منظمة الدول الأمريكية وهو أمر حساس للولايات المتحدة . وثالثآأن عضوية الولايات المتحدة لبعض المنظمات الأقليمية التي تراها ممثلة لمصلحة مباشرة لها قد يجعلها في وضع حساس بالنسبة للدول الأخرى وكذلك بالنسبة للمنظمة والمجلس العالمي .

1. اعلان الدول الموقعة عن عدم رغبتها في أي توسيع اقليمي أو غير اقليمي .

2. أن كل تغير اقليمي يتعين مراعاته لرغبة سكان الأقليم محل التغير .

3. اعلان مبدأ حق الشعوب في اختيار شكل حكوماتها .

4. ضرورة تحقيق المساواة في المسائل التجارية وكذلك بالنسبة للحصول على المواد الأولية .

5. تحقيق التعاون الكامل في المسائل الاقتصادية .

6. تنظيم السلام الدولي بطريقة تسمح بحفظ الأمن داخل اقليم الدول .

7. تحقيق السلام الدولي يقتضي ضمان حرية البحار .

8. ضرورة امتناع الدول عن استعمال القوة وكذلك نزع سلاح الدولة مصدر التهديد .

ثانيآ : تصريح موسكو

اجتمع في 19 اكتوبر سنة 1943 بمدينة موسكو ممثلو كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وانجلترى والصين للنظر في الأهداف التي يتعين الدعوة اليها بعد انتهاء الحرب. وقد صدر في 30 أكتوبر تصريح الدول الأربع عن الأمن العالمي. حيث كان هذا التصريح ذو طبيعة مزدوجة اذ تضمن من ناحية نوعا من التحالف العسكري حيث أكد ممثلي الدول الأربع عزمهم على التعاون لتحقيق السلم ونزع سلاح الأعداء واتخاذ كل مايلزم لتحقيق ذلك . ومن ناحية أخرى تضمن الالتزام بالتعاون السلمي وعدم استخدام قواتهم بعد الحرب في أراضي دولة أخرى تلا تنفيذآ للتصريح المذكور ، كما تضمن أنهم سيتشاورون فيما بينهم وكذلك مع الدول الأخرى لتقرير نظام عام للتسليح . ولعل أهم ما جاء بهذا التصريح بشأن التنظيم الدولي ما تعلق بضرورة قيام هيئة عالمية واحدة لصيانة السلام والأمن الدولي ، قائمة على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع الدول المحبة للسلام ، والعضوية فيها مفتوحة لكل الدول كبيرها وصغيرها .

ثالثآ: تصريح طهران

اجتمع كل من روزفلت وستالين وتشرشل بمدينة طهران في الفترة من 28 نوفمبر الى ديسمبر 1943 لدراسة موضوعات كثيرة كان من أهمها الخطط النهائية للهجوم على المانيا وايطاليا وجنوب فرنسا وكذلك دور تركيا في الحرب وأيضآ تحديد حدود دولة بولندا ورغبة الروس في الحصول على موانئ بحرية في المضايق وكذلك في الشرق الأقصى والاتفاق على وضع ايران بعد الحرب . على أن أهم ماء جاء في تصريح طهران في أول ديسمبر 1943 ما يتعلق بالتنظيم الدولي هو تقدير المؤتمرين تجاه شعوب العالم وضرورة اقامة نظام للسلام الدولي ترضاه غالبية شعوب العالم يجنب الأجيال المقبلة ويلآت الحروب ويؤكد سبل التعاون الايجابي بين أسرة عالمية للشعوب الديمقراطية .

رابعآ : مشروع دمبارتون أوكس

وهو خلاصة المشروع الذي قدمة مستر سمنر ولز وزير الخارجية الامريكية ، ووافقت عليه لجنة شئون ما بعد الحرب بعد تعديلات قليلة وارسلته معدلا الى انجلترا والاتحاد السوفيتي في 18 يولية سنة 1944 ، وأتفقت الدول الثلاث على عقد مؤتمر لبحث تفصيلات هذا المشروع ، وقد تم انعقاد هذا المؤتمر في 21 من أغسطس الى 28 من سبتمبر عام 1944 في دمبارتون اوكس Dumborten Oaks ( أحد ضواحي واشنطن ) وكان بين كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وانجلترا ، والاجتماع الثاني بدأ في 26 سبتمبر الى7 أكتوبر 1944 وكان بين كل من الولايات المتحدة وانجلترا والصين، وكللت بحوث هذه المؤتمرات بالنجاح ، وفي 7 أكتوبر عام 1944 صدر ما يعرف باسم ( مشروع دمبارتون اوكس ) الذي اتخذ فيما بعد أساسآ للمناقشات في مؤتمر سان فرنسيسكو . ولم يتضمن هذا المشروع صياغة قانونية دقيقة للتنظيم الدولي الجديد بل يتضمن الأسس العامة التي اتفقت عليها الدول الأربع كاساس لهذا التنظيم والتي سوف تعرض على حكومات الدول الأخرى . فهو اذن مشروع يشتمل على ما اتفقت عليه الدول الاربع فيما بينها .

وكان أهم ماجاء بهذا المشروع :

أولا _ قيام تنظيم دولي يعرف بأسم ” الأمم المتحدة “، يكون من أهدافه : حفظ السلم والأمن الدولي ، وتحقيق التعاون الدولي ، ويعمل على تحقيق هذه الأهداف وفق المبادئ الآتية :

1 – المساواة بين الدول 2 – حسن النية في تنفيذ الالتزامات الدولية 3 – فض المنازعات الدولية بالطرق السلمية

4- عدم استعمال القوة في العلاقات الدولية 5 – الامتناع عن مساعدة أية دولة يتخذ أزائها عمل من أعمال القمع .

ثانيآ _ تنشأ الفروع الاتية للتنظيم الدولي :

1- جمعية عامة من مندوبي جميع الدول ، وظيفتها النظر في المبادئ العامة للتعاون في حفظ السلم .

2- مجلس أمن يتألف من الدول العظمى ، وهي : الولايات المتحدة الامريكية والمملكة المتحدة ، والاتحاد السوفيتي ، والصين ، وفرنسا في الوقت المناسب ، وستة أعضاء آخرين تنتخبهم الجمعية العمومية ، ويختص هذا المجلس بالنظر في كل مشكلة دولية يكون استمرارها مهددا للسلم ، وله حق استعمال القوة مع أي دولة تهدد السلم .

3- محكمة عدل دولية تقام على غرار محكمة العدل الدولية الدائمة التابعة لعصبة الأمم .

4- أمانة عامة تشمل أمينا عاما وعددا من الموظفين .

ثالثآ _ حتى يتم اقامة التنظيم الدولي الجديد تتشاور الدول التي أشتركت في تصريح موسكو ، ووقعته بتاريح 30 أكتوبر سنة 1944 ، للقيام نيابة عن التنظيم المزمع أنشاؤه بالاعمال القهرية التي تلزم لحفظ السلام والأمن الدولي . من ناحية أخرى يتعين ادراك عدم اتفاق مندوبي الدول الأربع على أمرين هامين .

الأمر الأول : خاص بنظام التصويت Veto في مجلس الأمن ، كان رأي الاتحاد السوفيتي اطلاق حق الدول الكبرى في استعمال حق الاعتراض Veto على حين رأت الولايات المتحدة أن استعمال هذا الحق لايكون بصورة مطلقة . بمعنى هذا عدم جواز استعمال هذا الحق من احدى الدول الكبرى اذا كانت المسألة المعروضة تمسها مباشرة .

الأمر الثاني : الزام الدول الأعضاء بوضع قوات عسكرية تحت تصرف مجلس الأمن. والدوافع وراء هذا المقترح هو ما قيل من أن فشل عصبة الأمم يرجع الى عدم وجود قوات عسكرية تحت تصرفها ، وكان على الدول الأربع الاتفاق على هذين الأمرين ، وهو ما حدث في مؤتمر يالتا مع تأكيد قرب انتهاء الحرب على المانبا .

المؤتمرات الدولية ( الثلاثة ) في اعقاب الحرب وانشاء المنظمة الدولية

اولآ : مؤتمر يالتا Yalta

في مدينة يالتا Yalta بمنطقة Crimee على البحر الأسود بالاتحاد السوفيتي أجتمع في الفترة من 4 الى 11 فبراير 1945 الزعماء الثلاثة : الرئيس روزفلت ، ومسترتشرشل ، والماريشال ستالين ، وكان هدفهم من هذا الاجتماع البحث في مواضيع هامة هي : (1) الاتفاق على اقامة منظمة دولية ، (2 ) الاتفاق على مسألة حق الفيتو ، (3 ) الاتفاق حول دعوة جمعية للامم المتحدة لصياغة ميثاق الهيئة المقترح ، (4) الاتفاق على توجيه الدعوة لمشرعي الأمم المتحدة لوضع نظام محكمة عدل دولية على نمط المحكمة الدائمة للعدل الدولى .

الأمر الأول : فقد جاء في قرارات المؤتمر ” لقد عقدنا العزم على أن ننشئ مع حلفائنا في أقرب فرصة ممكنة هيئة دولية عامة للمحافظة على السلم والأمن . ونعتقد أن هذه الهيئة ضرورية سواء لمنع الاعتداء أو لازالة الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي قد تؤدي الى الحرب ، وذلك بالتعاون الوثيق والمستمر بين كافة الشعوب المحبة للسلام ” .

الأمر الثاني : الخاص بالتصويت في مجلس الأمن فقد تم اتفاق المؤتمرين الثلاث على الأخذ بوجهة النظر الروسية بحيث يكون استعمال حق الاعتراض أو الفيتو مطلقآ من كل قيد أي دون تفرقة بين المسائل التي تتعلق بالدولة التي تستعمله وبين المسائل التي لا تتعلق بها .

الأمر الثالث : فقد اعلن المؤتمرون – بعد الموافقة على اقتراح الولايات المتحدة بشأن اقامة نظام الوصاية – دعوة جمعية للامم المتحدة تجتمع في صورة مؤتمر بمدينة سان فرنسيسكو يوم 25 أبريل 1945 لوضع ميثاق المنظمة الجديدة على اساس ما تم الاتفاق عليه في يالتا وكذلك على أساس الخطوط الرئيسية التي تضمنها مشروع دمبارتون اوكس ،وعلى أن تشترك فرنسا والصين في توجيه هذه الدعوة ولكن فرنسا اعتذرت على أن تكون دولة داعية – بسبب عدم دعوتها الى مؤتمر دمبارتون أوكس – مع قبولها الاشتراك في هذا المؤتمر .

الأمر الرابع : الاتفاق المتعلق بمشروع نظام محكمة عدل دولية ، فقد اجتمع بمدينة واشنطن ممثلو اربع وأربعين دولة في الفترة من 9 الى 20 أبريل 1945 لبحث الأسس التي يتعين أن تقوم عليها المحكمة المقترحة وقد انتهى هؤلاء الى صياغة مشروع نظام أساس المحكمة مع ضم التقرير الذي قدمه الوفد المصري الى أعمال اللجنة ، حيث كان بحث قانونيآ حول الشريعة الاسلامية .

ثانيآ : مؤتمر بوتسدام Potsdam

عقد هذا المؤتمر في بوتسدام في الفترة من 17 يولية الى 2 أغسطس 1945 ويعد هذا المؤتمر من اهم المؤتمرات لانه عقد بين حدثين كبيرين هما: استسلام المانيا وقبيل استسلام اليابان، وحضره كل من تشرشل وستالين و الرئيس الاميركي الجديد ترومان بعد موت روزفلت في 2/4/1945. ووضع هذا المؤتمر المبادىء التي يجب ان تكون الاساس في اي عملية صلح مع المانيا. وتتضمن المبادىء نزع السلاح الالماني، القضاء على النازية، نشر المبادىء الديمقراطية وتطبيق نظام اللامركزية. وقد عقدت اجتماعات كثيرة بعد استسلام اليابان وانتهاء الحرب العالمية الثانية تمخضت في تقسيم الدول المنتصرة للغنائم فيما بينها، وحصلت الولايات المتحدة الاميركية على الجزء الاكبر من الحصة ويليها الاتحاد السوفيتي ثم بريطانيا ففرنسا. وامتازت الولايات المتحدة، بانها الدولة الوحيدة التي خرجت من الحرب العالمية الثانية كقوة عسكرية عظيمة واقتصاد قوي، وانها لم تعان من الدمار والخراب الذي لحق ببريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفيتي وغيرها من الدول الاوروبية. ولهذا تمكنت من بناء علائق خاصة مع الدول الاوروبية الغربية والهيمنة عليها من خلال طرحها لمشروع «مارشال» لاعادة بناء اوروبا..

ومن جانب آخر فقد هيمن الاتحاد السوفيتي على دول الجزء الشرقي من اوروبا وبدأ بتطبيق الاشتراكية كمرحلة اولى لتطبيق الشيوعية فيها.. ومن هنا برز معسكرين متناقضين في المتبنيات والوسائل هما:
1ـ معسكر شرقي يقوده الاتحاد السوفيتي مع دول اوروبية شرقية.
2ـ معسكر غربي تقوده الولايات المتحدة الاميركية مع دول اوروبية غربية.وبدأ مع اتضاح عالم المعسكرين صراعاً جديداً، ولكنه قديم البدايات. ظاهر الصراع هو ايديولوجي، حيث يدعو المعسكر الشرقي إلى الاشتراكية، والمعسكر الغربي إلى الرأسمالية.. وواقع الصراع هو حول مناطق النفوذ في العالم وحرب المصالح الاقتصادية..وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، نشبت بين المنتصرين من المعسكرين حرب كبيرة ولكنها لم تكن عبر الدبابات والطائرات أو الاسلحة الاخرى، وانما عبر الصراع الايديولوجي المتبطن الصراع على المصالح ومناطق النفوذ.. وسميت هذه الحرب بـ «الحرب الباردة».
وببروز الحرب الباردة، ظهر نظام دولي آخر، حيث بعد ان كانت دول اوروبا والمستعمرات مقسمة بين بريطانيا وفرنسا خلال حوالي ربع قرن تحول النفوذ إلى المعسكرين المنتصرين بعد الحرب العالمية الثانية..ويمكن اعتبار نشوء منظمة الامم المتحدة في عام 1945 انتصاراً مهماً على صعيد صياغة قوانين حقوق الإنسان واتفاق الدول على اسس التعاون والترابط فيما بينها، وايجاد العلائق فيما يخص الوضع الدولي سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وبلورة حالة التفاهم بين الدول في المشتركات والمصالح.. ونقل الصراع العسكري الخطير إلى صراع سياسي في اروقة الامم المتحدة، ولكن هذا الانتصار لم يتمكن من القضاء على محورية التحرك الدولي لصالح القوى العظمى.ويحكم منظمة الامم المتحدة مجلس يسمى بـ «مجلس الامن الدولي» ويسيطر عليه خمسة دول تمتاز بحق النقض «الفيتو» وهذه الدول هي الولايات المتحدة الاميركية، المملكة المتحدة، فرنسا، الاتحاد السوفيتي والصين.

ثالثآ : مؤتمر سان فرنسيسكو

اجتمع في 25 أبريل 1945 بمدينة سان فرنسيسكو مؤتمر دولي ضم خمسين دولة هي الدول الداعية الأربع وهي الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي والمملكة المتحدة والصين والدول المدعوة والتي وقعت تصريح الأمم المتحدة وأعلنت الحرب على دول المحور قبل أول مارس 1945 . وكانت الدول الداعية والمدعوة متساوية من حيث المركز القانوني ، فلكل دولة صوت واحد في المداولات وقرارات المؤتمر ، ومع ذلك كان للدول الداعية أثر كبير في توجيه المقترحات ، وادارة المناقشات ، واصدار التوصيات ، وفق رغباتها . ومما ساعدها على ذلك كونها من الدول المنتصرة ،وانها هي التي وضعت الشروط الواجب توافرها في الدول المدعوة ، كما انها هي التي أعدت جدول أعمال المؤتمر ، والمقترحات المعروض للبحث . وقد تمت الموافقه على جميع مواد الميثاق وعددها 111 مادة في 26 يونية سنة 1945 ، وبذلك أعلن ميثاق الأمم المتحدة .

وقد دخلت هذه الوثائق دور التنفيذ في 24 أكتوبر سنة 1945 حيث تم ايداع تصديق الدول الخمس الكبرى وغالبية الدول الموقعة على الميثاق لدى حكومة الولايات المتحدة الأمريكية تطبيقآ للمادة 110/3 من الميثاق ” الفصل التاسع عشر :في التصديق والتوقيع ” حيث نصت هذه المادة على

” يصبح هذا الميثاق معمول به متى أودعت تصديقاتها جمهورية الصين وفرنسا واتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية والمملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وأيرلندا الشمالية والولايات المتحدة الامريكية وأغلبية الدول الأخرى الموقعة علية وتعد حكومة الولايات المتحدة الامريكية بروتوكولا خاصآ بالتصديقات المودعة وتبلغ صورآ منه لكل الدول الموقعة على الميثاق “.

صوت 89 مقابل 2 عضو في مجلس الشيوخ الامريكي . على تصديق ميثاق الامم المتحدة في 28 يوليو عام 1945 .في ديسمبر عام 1945 طلب مجلس الشيوخ ومجلس النواب الامريكي بالاجماع من الأمم المتحدة أن يكون مقرها الرئيسي في الولايات المتحدة . قبلت الأمم المتحدة الطلب وتم بناء المقر في مدينة نيويورك . بين عامي 1949 و 1950 بجانب النهر الشرقي على أرض اشتريت ب 8.5 مليون دولار تبرعا من الابن جون دي روكيفيلر ، فتح مقر الأمم المتحدة رسميا في 9 يناير عام 1951 . تحت اتفاقية خاصة مع الولايات المتحدة منحت بعض الامتيازات والحصانات الدبلوماسية بينما يقع المقر الرئيسي للأمم المتحدة في مدينة نيويورك ، في 25 أكتوبر صادقة الجمعية العامة التابعة للامم المتحدة على القرار 2758 الذي ينص على استبدال حكومة جمهورية الصين الشعبية كالحاكم القانوني والممثل الشرعي للصين في الامم المتحدة وكأحد الاعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الامن .

أجهزة الأمم المتحدة بين الشرعية والواقعية والاخفاقات

نصت المادة السابعة من الميثاق على أن

1. تنشا الهيئات الآتية فروعا رئيسية للأمم المتحدة : جمعية عامة ، مجلس أمن، مجلس اقتصادي واجتماعي ، مجلس وصاية ، محكمة عدل دولية ، وأمانة .

2. يجوز أن ينشأ وفقآ لأحكام هذا الميثاق ما يرى ضرورة نشائه من فروع ثانوية أخرى .

ويبين من هذا النص وجود ست أجهزة تعمل الأمم المتحدة من خلالها بقصد تحقيق أهدافها . ومن المعروف أن مشروع دمبارتون أوكس كان يتضمن خمسة أجهزة فقط ولكن مؤتمر سان فرنسيسكو قرر تحت ضغط الولايات المتحدة الأمريكية _ انشاء جهاز سادس يحل محل نظام الانتداب القديم والذي كان قائمآ في عهد عصبة الأمم . وهو مجلس الوصاية الدولي .

*وإذا كان التنظيم الدولى للعلاقات الدولية قد توافر له سند قوى تمثل فى هيئة الأمم المتحدة، وفروعها الرئيسية المتمثلة فى الجمعية العامة، ومجلس الأمن، والمجلس الاقتصادى والإجتماعي، ومجلس الوصاية، ومحكمة العدل الدولية، والأمانة العامة- فإن هذه الفروع لم تنجح حتى الآن فى تحقيق المبدأ الذى أعلنته فى ميثاقها، وهو ” مبدأ المساواة فى السيادة بين جميع الأعضاء. ويكفى أن أشير هنا إلى أن نظام التصويت فى مجلس الأمن (المادة 27) يمنح كل دولة من الدول العظمى (جمهورية الصين ، وفرنسا، المملكة المتحدة، الولايات المتحدة الأمريكية ،روسيا الاتحادية) حق تعطيل أى قرار يتفق عليه سائر أعضاء مجلس الأمن فى المسائل الموضوعية بمجرد التصويت بالاعتراض عليه. وحق الاعتراض هذا يشمل أيضاً موضوع أى تعديل على أحكام الميثاق فى المستقبل، كما يشمل دخول مثل هذا التعديل فى دور التنفيذ بواسطة إجراء التصديق.

نصت المادة 27 من ميثاق الأمم المتحدة ( في التصويت )

1- يكون لكل عضو من أعضاء مجلس الأمن صوت واحد .

2- تصدر قرارات مجلس الأمن في المسائل الأجرائية بموافقة تسعة أعضائه .

3- ثصدر قرارات مجلس الأمن في المسائل الأخرى كافة بموافقة اصوات تسعة من أعضائه يكون من بينها أصوات الأعضاء الدائمين متفقة ، بشرط أنه في القرارات المتخذة تطبيقآ لأحكام الفصل السادس والفقرة 3 من المادة 52 يمتنع من كان طرفآ في النزاع عن التصويت 

5/5 - (1 صوت واحد)

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى