نظرية الأمن الإسرائيلي – الجزء الثاني

  • إشكالية الأمن الإستراتيجي القومي بين بيرس ونتنياهو
    أولاً: على المستوى الدولي
    يتضح من أفكار بيرس فيما يتصل بالوضع الدولي، وخصوصاً العلاقة مع الولايات المتحدة أنها تقوم على أساس الإنسجام مع سياستها الخارجية، وفق قراءة للإستراتيجية الأمريكية بعد التغيرات الدولية من مطلع التسعينات وحتى تفجيرات نيويورك وواشنطن، ثم غزو أفغانستان والعراق، ويحاول بيرس استشراف ملامح الأزمات الإقتصادية الدولية (الأمريكية خاصة) ليطرح ضرورة التخفيف من الأعباء التي تلقيها إسرائيل على كاهل دافعي الضرائب الأمريكيين.
    وهو يرد كذلك على الإتهامات التي توجه إلى طروحاته المتعلقة بالسلام، ومفاهيم الأمن الإسرائيلي وقضايا العمق الإستراتيجي، بالإستناد إلى المتغيرات الدولية، وإملاءاتها، وكيفية التعبير عن المصلحة القومية العليا لإسرائيل باستيعاب آثار تلك التغيرات.
    من جهة أخرى يطرح نتنياهو نظرته للعلاقة مع الولايات المتحدة التي تقوم على تأكيد أهمية تلك العلاقة، إلا أنها نظرة تنطوي على السعي لجعل السياسة الأمريكية نحو إسرائيل قائمة على تقدير المصلحة الإسرائيلية الخاصة أولاً، وعلى حاجة الولايات المتحدة للدور الإسرائيلي في سياستها الإقليمية ثانياً.
    وبناء عليه، فإن نتنياهو يتوقع حصول تباينات يمكن أن تؤدي إلى ضغوطات على إسرائيل، وحيال هذا التوقع يطرح ضرورة الصمود في وجه الضغوط، والعمل من داخل صنع القرار في أمريكا لمطابقة موقفها مع التشدد الإسرائيلي من قضايا الوضع الإقليمي ومسائل الأرض والإنسحاب، ويحذر نتنياهو من وجود مؤيدين في الإدارة الأمريكية للمصالح العربية، وبالذات في أروقة الخارجية الأمريكية.
    ثانياً: على المستوى الإقليمي
    تعتمد وجهة نظر بيرس إزاء الأمن الإقليمي وموقع إسرائيل فيه على استبدال العمق الإستراتيجي الجغرافي بالسلام الذي يوفر عمقاً إستراتيجياً إقتصادياً وبنيوياً يتلاءم والمتغيرات الدولية، ويبقى التفوق العسكري الهائل الإسرائيلي كصمام أمان دائم ضد احتمالات الحرب.
    أما نظرة نتنياهو للأمن الإسرائيلي الإقليمي، فتستند إلى نظرية تربط الردع بوجود العمق الإستراتيجي الجغرافي، وما يترتب على ذلك من رفضه الانسحاب من الأراضي المحتلة، وحول العلاقة بين الأسلحة الإستراتيجية والمساحة الجغرافية، يرى نتنياهو أن الأولى لا تعوض عن الثانية، وكلتاهما ضرورة لأمن إسرائيل، ويرى معسكر نتنياهو أن فكرة الشرق الأوسط الجديد بوصفها مجالاً حيوياً للأمن الإقليمي لإسرائيل، هي أقرب إلى الوهم ولا مجال لتحقيقها، ويسعى نتنياهو ومعسكره إلى إقامة تحالفات مركزها إسرائيل، كما هو قائم مع تركيا، والأساس فيها إستراتيجية القوة المتعاظمة لإخضاع المنطقة للإملاءات الإسرائيلية، ويتلخص شعار نتنياهو من قضية السلام بأن: “أمن إسرائيل المطلق شرط لسلام مع العرب”.
    ثالثاً: على المستوى الداخلي
    تقوم فكرة بيرس ومعسكره في النظر إلى إسرائيل وعلاقتها باستكمال المشروع الصهيوني، على ترجيح الإتجاه القائل إن ما يمكن أن تنجزه إسرائيل من مشروعاتها قد تم تحقيقه، ومن الملاحظ أن كتاب بيرس (الشرق الأوسط الجديد) لا يتوقف عند أفكار تنشيط الهجرة والاستيعاب ليهود العالم، بل يدعو إلى أن تقرر حدود الدولة بموجب التطلعات القومية (التاريخ والجغرافيا)، أي الحفاظ على يهودية الدولة لضمان أمنها البنيوي اجتماعياً وقومياً، فالاحتفاظ بمساحات من الأراضي دون تهويدها وتهويد سكانها، هو حسب بيرس التهديد الأمني الحقيقي لدولة إسرائيل، أما الرهان على موجات كبيرة من هجرة اليهود إلى إسرائيل، فهو رهان خاسر من وجهة نظر بيرس ومعسكره اليساري.
    وعلى النقيض تماماً يرى نتنياهو أن الصهيونية ما زالت تواجه مهمتها الرئيسية في جلب غالبية يهود العالم إلى أرض إسرائيل، ويعلن أن الرأي العام الإسرائيلي بغالبيته العظمى يتمسك بالأرض ويرفض إقامة دولة فلسطينية على جزء من هذه الأرض.
    ويمكن ملاحظة مدى ملاءمة سياسة حكومات إسرائيل في عهد كل من نتنياهو وشارون – منذ عودة الليكود إلى الحكم عام 2001 – مع توجهات وأفكار نتنياهو في عمق ركائز المفهوم الأمني الإستراتيجي، سواء فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي أو في العلاقات الدولية وخاصة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
    ورغم كل التكتيكات التي حاول شارون أن يسوقها تحت عنوان الانسحاب من غزة وتفكيك المستوطنات، إلا أنها محاولات كان الهدف منها كسب الوقت لتجنب الضغوط الدولية واحتمال قيام الدولة الفلسطينية من خلال عودة المسيرة السلمية.
    وتحت وطأة الخلافات في الرؤى بين التيارين اليميني واليساري، دعت النخبة الحاكمة في إسرائيل ولأول مرة لعقد مؤتمر عام تحضره الصفوة من رجال الدولة في مختلف المجالات التي تشكل عناصر هامة في إستراتيجية الأمن القومي، وعقد المؤتمر الأول في مدينة هرتسيليا عام 2001 تحت عنوان “ميزان المناعة …” الهدف منه وضع رؤية عامة وشاملة لأهم مرتكزات الأمن القومي في المجالات السياسية والإقتصادية والعسكرية والتكنولوجية والديموغرافية والتربوية.
    ونظراً لأهمية هذا المؤتمر سوف نخصص مبحثاً خاصاً لدراسة الوثيقة التي عرفت بإسم (وثيقة هرتسيليا) التي انبثقت عن هذا المؤتمر.
    الإطار التحليلي لنظرية الأمن الإسرائيلي في وثيقة هرتسيليا
    يهدف هذا المبحث إلى تقديم رؤية تحليلية تفسيرية لأهم بنود ومرتكزات وثيقة هرتسيليا بمؤتمر ميزان المناعة والأمن القومي الإسرائيلي، حيث يتناول هذا المؤتمر العديد من الأفكار في جميع المجالات المتعلقة بإسرائيل وحياة اليهود أينما وُجدوا كما يتناول أيضاً الوضع السيكولوجي للمجتمع الإسرائيلي.
    يعد مؤتمر هرتسيليا، أحد المؤتمرات، التي يمكن القول أنه أحدث ثورة فكرية، في رؤية قادة إسرائيل لمفهوم الأمن الإستراتيجي الشامل، حيث شاركت فيه نخبة النخبة في إسرائيل، سياسياً وأمنياً وأكاديمياً، سواء من المؤسسة الرسمية أو غير الرسمية. فمن خلال استعراض أسماء المدعوين، نجد أنفسنا أمام (صفوة الصفوة) في المجتمع الإسرائيلي، أمام القيادة السياسية جميعها سواء رئيس الدولة (كتساف) أو رؤساء الوزراء السابقين (نتنياهو – بيريس) والحالي في حينه باراك، بالإضافة إلى رئيس المعارضة في الكنيست في حينه (شارون)، يضاف إلى ذلك قادة الأجهزة الأمنية موفاز، عموس مالكا، آفي ديختر، وكذلك الضباط والمستشارون السابقون مثل عوزي أراد أحد ضباط الموساد السابقين والمستشار السياسي لرئيس الوزراء السابق نتنياهو وشلومو غازيت وإسحق حوفيه رئيس الاستخبارات السابق وشبطاي شفيط رئيس الموساد السابق.
    أما الشخصيات الأكاديمية فقد شملت فبرائيل بن دور رئيس مركز الأمن القومي في جامعة حيفا، ويحزكيل درور رئيس قسم العلوم السياسية في الجامعة العبرية وأرنون سوفير وسامي سموحة من جامعة حيفا، وأيهود شبير نتساك عميد مدرسة لادور للسلطة والدبلوماسية والإستراتيجية، ويلاحظ من استعراض الأسماء السابقة أن من لم يتواجد في هذا المؤتمر فهو غير محسوب ضمن الصفوة العليا في إسرائيل.
    وقد أشرفت على رعاية المؤتمر عدة مؤسسات حكومية رسمية، ومؤسسات صهيونية أخرى متعددة، من أهمها ديوان رئيس الوزراء، مجلس الأمن القومي، وزارة الدفاع، صندوق قيصارية، اللجنة اليهودية الأمريكية، الوكالة اليهودية، المؤتمر الصهيوني العالمي، ولم يكن المؤتمر مفتوحاً للجمهور.
    عقد المؤتمر في مدينة هرتسيليا في الفترة بين 19-21/12/2000 تحت عنوان “مؤتمر ميزان المناعة والأمن القومي الإسرائيلي”. ونظراً لخطورة وأهمية المواضيع التي ناقشها المؤتمر فإنه يعد من أخطر المؤتمرات التي حدثت في إسرائيل بعد إعلان قيامها، ويكاد يقارب في أهميته انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897، ويفوق في أهميته وثيقة إسرائيل كنج التي حدثت على أثرها انتفاضة يوم الأرض في 30/3/1976، وأيضاً الفترة الزمنية التي أعد فيها هذا المؤتمر، والتي جاءت قبل فترة وجيزة من بداية القرن الحادي والعشرين، وبعد فشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية واستمرار انتفاضة الأقصى.
    ويمكن اعتبار مكمن الخطورة في وثيقة هرتسيليا في الدعوة إلى تطبيقها وجعلها سياسة عامة، أو خطوط أساسية لحكومة يمينية قادمة، الأمر الذي سيعرض المنطقة الشرق أوسطية إلى حالة من عدم الاستقرار، التي قد تؤدي لاحقاً إلى الحرب، وفيما يلي عرض تحليلي لأهم بنود ومرتكزات وثيقة هرتسيليا.
    منهجية تحليل الوثيقة ونتائجها
    تضمنت وثيقة هرتسيليا ثمانية بنود أو مرتكزات شملت في مجملها مواضيع تتمحور حول الأمة اليهودية، والسياسة، والاقتصاد، والمجتمع، والتكنولوجيا، وآلية العلاقة بين مكونات المجتمع اليهودي، سواء الموجود داخل إسرائيل أو خارجها، وعلاقة هذا المجتمع بالبيئة المحيطة به، ولقد استخدمت في تحليل هذه الوثيقة كمضمون أمني منهج تحليل المضمون في جانبه الكيفي (Content Analysis)بحيث ركزت على مظاهر وجود أو غياب ظاهرة الأمن بأشكالها المختلفة ومن مستوياتها المتعددة في هذه الوثيقة، وذلك في إطار الوقوف على العلاقة بين نظرية الأمن الإسرائيلية وطبيعة سيكولوجية الشخصية الإسرائيلية، واستخدمت القراءة النقدية بمستوياتها الثلاثة الاستنتاجية، والاستنباطية، والاستكشافية، مما يساعد على استقراء الواقع الفعلي لتطبيقات نظرية الأمن الإسرائيلية في الحياة بأبعادها المختلفة، وما تنطوي عليه هذه النظرية من مضامين مستقبلية، وفي ضوء هذه المنهجية وهذا التحليل أمكن التوصل إلى الملامح الأمنية التالية:
    1.النقاط الرئيسية
    الملخص الأساسي الذي تدور عليه هذه المرتكزات هو اعتبار إسرائيل دولة الشعب اليهودي فقط، وهي بذلك لا تشمل سكان إسرائيل غير اليهود، وفي مقدمتهم فلسطينيو 1948.
    يمكن اعتبار ما ورد في هذا البند ملخصاً لجميع المرتكزات التي شملتها الوثيقة سواء اليهودية أو التربوية أو غيرها، وتبدو النزعة العنصرية واضحة في كل بند من المرتكزات الواردة في الوثيقة، وتعود الوثيقة وتؤكد على أن الشعب اليهودي بحاجة إلى مناعة قومية ووحدة هدف. وقد تكررت هذه المفاهيم في الوثيقة، التي أكدت أنها للتعبير عن اليهود (فقط)، وهذه المفاهيم هامة من أجل اكتساب قيم الصهيونية من خلال الأطر التعليمية.
    إلا أن الوثيقة تذهب إلى أبعد من ذلك في عنصريتها، إذ تقسم حسب المعيار الاجتماعي/ الاقتصادي سكان إسرائيل إلى مجموعتين: الأولى فلسطينيو 1948 والحرديم اليهود الذين يتمتعون بالخصائص الإجتماعية / الإقتصادية لمجتمعات دول العالم الثالث، أما المجموعة الثانية فتضم الأغلبية، وهي عبارة عن مجتمع متكامل يقوم على التطور التكنولوجي. السبب الأساسي لهذا التقسيم هو كثرة الإنجاب، ومعدلات المواليد المرتفعة في المجموعة الأولى، إذ يعتبر فلسطينيو 1948 والحرديم من أكثر سكان إسرائيل إنجاباً، ولديهم القدرة على مضاعفة أنفسهم كل 15 ذ 20 سنة، ولذلك فهم يشكلون جماعة فتية جداً وفقيرة جداً وتسبب ضغطاً على النمو والتطور الذي تسعى إليه المجموعة الثانية، كما تؤثر سلباً على الوضع الاقتصادي، الذي يعاني من مشكلتين أساسيتين في سوق العمل مقارنة بالدول الغربية وهما: – نسبة المشاركة المنخفضة في سوق العمل – مستوى إنتاج منخفض للعامل. وتضع الوثيقة مجموعة من السيناريوهات أو التصورات للخروج من هذه الأزمة تتمثل في العمل على تغيير السياسة الديموغرافية من خلال مجموعة كبيرة من الاستثمارات في المجال الإجتماعي.
    إلا أن الوثيقة عادت واعترفت بعدم قدرة هذه الاستثمارات على سد الفجوة بين الوسطين. وقد وضعت الوثيقة إستراتيجيتين للتخلص من استمرار الإتجاهات الديموغرافية المتصاعدة، وتتمثل هاتان الإستراتيجيتان في (كبح جماح ومواجهة)، حيث تستوجب هذه الإستراتيجيات الإعتماد على الرموز الصهيونية التي من شأنها تعزيز الطابع اليهودي للدولة، وتعزيز العلاقة مع الشعب اليهودي في العالم أجمع.
    أما بالنسبة للعملية السياسية، فترى الوثيقة أن صيغة مدريد قد انتهت، وأنه يجب التفكير بصيغة جديدة. وليس بمقدور إسرائيل التفرد بهذه الصيغة أو صياغتها، ولكن في مقدورها أن تفرض آراءها وأفكارها على راعي هذه العملية سواء أكان الولايات المتحدة أو أوروبا، يمكن ملاحظة ترجمة هذه السياسة في التحفظات الإسرائيلية على خارطة الطريق، حيث تضع الوثيقة نطاقاً زمنياً مطولاً قد يستمر لجيلين قادمين من أجل التوصل إلى تسوية، ولذلك دعت إلى جاهزية إسرائيل الدائمة سواء للردع أو الحرب، وأوصت بتبني إستراتيجيات تدعم ركائز وجود إسرائيل.
    2. الركيزة اليهودية
    تقوم هذه الركيزة على تعزيز يهودية الدولة من خلال استمرار تهجير اليهود إليها، وذلك في محاولة للتخلص من الكابوس الديمغرافي وإسقاطاته على طابع وهوية إسرائيل كدولة للشعب اليهودي، وقد بيّنت الوثيقة بشكل لا يقبل الشك من خلال إيرادها لمقارنات بين نسبة الولادات سواء الفلسطينية داخل إسرائيل، أو بالنسبة للفلسطينيين داخل الضفة الغربية وقطاع غزة، بيّنت أن العامل الديمغرافي يشكل امتحاناً مباشراً وصعباً على مستقبل إسرائيل كدولة يهودية – صهيونية وديموقراطية، وكذلك على أمة إسرائيل، ولذلك وضعت عدة بدائل إستراتيجية أهمها:
  • إيجاد نوع من التوازن في نسبة الزيادة الطبيعة.
  • تشجيع وتسريع الهجرات.
  • اتخاذ موقف مناهض لعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى إسرائيل.
  • توزيع السكان اليهود في إسرائيل بما يحفظ تفوقهم إقليمياً وداخلياً.
    بالإضافة إلى ذلك، فقد دعت الوثيقة إلى القيام بمبادرات من أجل ربط اليهود في العالم بإسرائيل من خلال ندوات تثقيفية، في محاولة لتعزيز الوازع القومي الديني، حيث دعت الوثيقة صراحة إلى تدخل عميق من إسرائيل في حياة الشعب اليهودي أينما وجد. ولا شك أن ما ورد في الوثيقة يعبر عمّا يطرحه قادة إسرائيل من أزمات سابقة، ونذكر هنا قضية تهويد الجليل والتي على أساسها جاءت وثيقة كنج.
    أما مشاريع التبادل السكاني التي يقترحها عدد من وزراء إسرائيل الحاليين مثل أفيغدور ليبرمان، فهي تعبر بشكل واضح عمّا يطرحه أساتذة الجغرافيا في إسرائيل مثل البروفسور آرنو سوفير، والذي يعتبر الوضع الديمغرافي من أشد الأخطار التي تواجهها إسرائيل، ولذلك فإن توصية المؤتمر بتغيير الوضع الديمغرافي من خلال المبادرات السياسية، يحمل في طياته نزعة عنصرية واضحة، ودعوة واضحة إلى تطبيق الترانسفير أو التبادل السكاني.
    3.الركيزة السياسية
    استعرضت الوثيقة في بداية عرضها للركيزة السياسية، عملية التسوية السلمية في الشرق الأوسط، كما بينت من خلال عرض موجز مرتكزات ومطالب كل فريق، وخلصت إلى أن إسرائيل تتطلع إلى وضع حد للنزاع يحفظ كونها دولة يهودية، بينما يتطلع الفلسطينيون إلى استعادة حقوقهم بطريقة تضع حداً عملياً لماهية إسرائيل اليهودية. ولذلك دعت الوثيقة إلى التعامل مع العملية السلمية كعملية تسوية، على أن تكون نتائج التسويات نهائية وثابتة، وهي إن دلت على شيء فإنها تدل على غياب تصور حقيقي إسرائيلي لعملية الصراع العربي – الإسرائيلي أو الفلسطيني – الإسرائيلي.
    كما طرحت الوثيقة تصوراً آخر في ظل غياب سلام إقليمي شامل، ودون تسوية مع الفلسطينيين، وأيضاً في غياب تطبيق التسوية، فإن البدائل المطروحة أمام إسرائيل تكمن فيما يلي:
    أ- العودة إلى المفاوضات الثنائية الأطراف، مع مشاركة أمريكية وفي مستويات مختلفة.
    ب – الفصل أحادي الجانب من دون مفاوضات.
    جـ – العمل على وجود مفاوضات متعددة الأطراف.
    ويجب أن يجري كل ما سبق حسب شرطين إسرائيليين مسبقين:
    1. أن تدار المفاوضات في ظل هدوء تام.
    2. قبل بداية أية مفاوضات، يجب التأكيد على تنفيذ متطلبات المفاوضات السابقة.
    يلاحظ في كل ما سبق غياب العنصر الزمني المرحلي، كما يلاحظ أن المعيار الأساسي لنجاح أية خطوة هو المصالح الإسرائيلية، أو حسب ما عبّرت عنه الوثيقة بـ “الشروط المريحة لإسرائيل”.
    4- الركيزة العسكرية
    حددت هذه الركيزة دوائر المواجهة مع إسرائيل، والتي تمركزت حول ثلاث دوائر تم تقسيمها جغرافياً إلى:
    أ. دائرة محاذية، وتشمل الفلسطينيين بمن فيهم فلسطينيو 1948، وكذلك اللبنانيين. ويعتبر هؤلاء ذوو قتالية متدنية مثل حرب العصابات أو العصيان المدني.
    ب. دائرة قريبة، وتشمل سوريا ومصر والأردن والعراق، وهي ذات قدرة قتالية كبيرة براً وبحراً وجواً.
    جـ. دائرة بعيدة، وتشمل العمق السوري والعراق وإيران، كما أن استخدام الأسلحة غير التقليدية وارد. و الأمر الأهم الذي تطرحه الوثيقة هو ارتباط هذه الدوائر ببعضها البعض، أي حدوث انفجار في إحداها قد يؤدي إلى انفجارات في الدوائر الأخرى.
    ثم تطرح الوثيقة بعض القضايا التي قد تؤثر على الاستقرار في المنطقة مثل:
    الصراع العربي – الإسرائيلي، بما يحتويه من احتمال تصعيد عنيف مع احتمال أسلمة الصراع أو تدويله، وتزايد النزعات العسكرية للعرب، وتطوير السلاح غير التقليدي، والتكاثر السكاني العربي، حيث تؤدي هذه العوامل إلى عدم وجود تسويات. ولكن الملاحظ أن الوثيقة تذكر العرب فقط، ولا تأتي على الأعمال والممارسات التي تقوم بها الحكومة الإسرائيلية، مثل استمرار الاحتلال، واستمرار التطور التكنولوجي العسكري الإسرائيلي سواء بالأسلحة التقليدية أو غير التقليدية، وأثر كل ذلك في استمرار الصراع الإقليمي.
    ولكن الأغرب أن الوثيقة تؤكد أن هدف مجمل السياسة الإسرائيلية هو زيادة الاستقرار بواسطة منع محاربة أو تهديد إسرائيل. ولا تخفي الوثيقة أن سبيلها لتحقيق ذلك هو التحالف مع الولايات المتحدة، وهو استمرار لمبادئ الحركة الصهيونية منذ نشأتها في استراتيجياتها المتمثلة في الاعتماد على دولة خارجية قوية، ومع ذلك تؤكد الوثيقة أكثر من مرة على قوة إسرائيل، وقدرتها على الحسم العسكري، واستمرار الصراع عبر عدة أجيال قادمة، ولذلك جاء السيناريو الذي طرحته للمستقبل عاماً، حيث سيتأرجح بين التسويات والحرب، وألحقت ذلك بعبارة أكثر غرابة وهي تشكيكها في وجود تسوية إقليمية كاملة وشاملة. والتصور المطروح للرد هو الإعتماد على الردع ، الذي هو أيضاً بحاجة إلى مزيد من القوة أكثر من أي مجال آخر.
    تضع الوثيقة خطوطاً عريضة وأحياناً تفصيلية لبيان الردع الإستراتيجي الذي قد يشكل أحدث التطورات على النظرية الأمنية الإسرائيلية. ففي الدائرة البعيدة، دعت إلى استمرار نظام العقوبات المفروض على العراق، كما دعت إلى تطوير ترسانتها العسكرية خاصة في المجال الجوي مثل تطوير الصواريخ المضادة للصواريخ مثل حيتس وباتريوت، وحيازة طائرات وصواريخ وطائرات من دون طيار، بالإضافة إلى دعم البرامج الفضائية، يضاف إلى ذلك زيادة إمكانيات التحالف والتعاون مع الولايات المتحدة.
    وفي سياق عرض الوثيقة لآليات وإمكانيات الردع، تركز أيضاً على الجبهة الداخلية الإسرائيلية، من خلال إرشادها وتأهيلها وتنظيمها وتجهيزها سواء على المستوى الفردي أو العام، سواء بإيجاد الملاجئ أو المساعدة على الإنقاذ أو قدرة السكان على القتال غير التقليدي، أي الدعوة إلى تأهيل قادة متدربين على المستوى القومي والمحلي.
    واستمراراً لإستراتيجية الردع في الدائرة القريبة، تؤكد الوثيقة على أن النظرية الأمنية الإسرائيلية يجب أن تقوم على الإنذار والدفاع والحسم، وهو ما يتطلب تدريباً عالياً، وبناء الجيش على أساس مركب من عدة وحدات متتالية وتعديل نظرية القتال الأرضي، لتكون جاهزة من أجل القتال الواسع.
    أما الدائرة المحاذية، فترى في الوثيقة تحدياً تنفيذياً واستراتيجياً قد يؤدي إلى زعزعة المجتمع الإسرائيلي خاصة في حالة وصوله إلى العمق الإسرائيلي، ولذلك فإن إستراتيجية الردع تقوم على تهديد وضرب القيادة التنفيذية للعدو، ومستويات اتخاذ القرار لديه، يجب أن يكون ذلك مشروطاً بتطبيق سياسة تهدف إلى حالة يكون فيها مجرد استخدام العدو للعنف أقل وليس أكثر في إحراز الربح السياسي الذي من أجله لجأ إلى العنف، ومن أجل تحقيق ذلك فإن البدائل والإستراتيجيات الإسرائيلية المطروحة تدور حول:
  • تطوير الوسائل القتالية من خلال استخدام الوحدات العسكرية الخاصة.
  • التنسيق الكامل بين المؤسسة العسكرية والسياسية، وتكون الإدارة فيها للمؤسسة السياسية.
  • ولأن بدائل الحسم غير موجودة، بسبب غياب الحسم في ساحة القتال، فإن القدرة على الصمود والإصرار مطلوبة، وأن التحسن في أساسه هو سياسي.
    مبنى القوة: في نهاية هذه الركيزة تضع الوثيقة مبنى أو هيكلية للقوة الإسرائيلية، لمواجهة الدوائر الثلاث السابقة، ويلاحظ أن مبنى القوة، أو المرتكزات العسكرية الإسرائيلية تقوم على أساس النوعية، سواء البشرية (القتالية والتكنولوجية) أو الاعتماد على التقدم العلمي، يضاف إليها القدرة القتالية التدميرية الدقيقة في وقت قصير. كما أخذت الوثيقة بالحسبان، دور الاستخبارات وضرورة وجود خطة شاملة طويلة الأمد، مع إمكانية تعديلها كل عام، ووجود ميزانية ذات بعد استراتيجي للمؤسسة الأمنية يصل حتى عام 2020.
    يلاحظ أن الهدف الأساسي الذي سعت إليه الوثيقة في الركيزة العسكرية هو عدم وجود خوف وسط الجمهور الإسرائيلي، سواء في وجود حل سلمي أو على الأقل تسوية سلمية، أو وجود حالة من عدم الاستقرار (صراع، حرب) وفي كل الحالات السابقة يجب على إسرائيل أن تبقى ذات قدرة نوعية عسكرية.
    1- الركيزة الاقتصادية
    تحاول الوثيقة التوفيق بين ثلاث مرتكزات من خلال عرضها للركيزة الاقتصادية، فهي تعرض للمفهوم الإستراتيجي للسياسة الإقتصادية الإسرائيلية، باعتبارها تسعى إلى زيادة الإنتاج من خلال استمرار النمو الاقتصادي، ووجود ميزانية كبيرة للأمة، والمساعدات الأمريكية لإسرائيل. ومن خلال مناقشتها لهذه المرتكزات، فإن الوثيقة تسعى جاهدة لعرض بدائل لعدة تساؤلات حول قدرة الإقتصاد الإسرائيلي: هل هو مرتبط بالسلام؟ وهل قوته تعزز المناعة القوية أم أنه تابع لقوى أخرى؟
    ومن خلال طرحها لإجابات على هذه التساؤلات، يلاحظ أن المحاولات المبذولة للإصلاحات ضعيفة وبطيئة بسبب غياب الثروات الطبيعية الحقيقية، سواء في الموارد البشرية أو سوق العمل، ولذلك فقد دعت أكثر من مرة ومن خلال تأييدها المناعة القومية، لتشجيع الهجرة اليهودية إلى إسرائيل، أو إيجاد برنامج لتشغيل عمال أجانب، ولكن لفترة محددة.
    2- الركيزة التكنولوجية
    دعت الركيزة التكنولوجية إلى التركيز على وسائل المعرفة العلمية، وتنمية العامل، كما حددت المجال الذي يجب أن يكون فيه تمييز تكنولوجي مثل الأمن، الاتصال، الحاسوب، … وجميعها تصب في زيادة المناعة القومية، كما تم تحديد آليات العمل لذلك، وتتمثل في:
  • زيادة ميزانيات البحث والتطوير من خلال زيادة الاستثمار فيها وتدفق المعرفة وتشجيع وجود شركات محلية كبيرة، وتحويلها مع مرور الوقت إلى شركات دولية تقود السوق العالمي، إضافة إلى إقامة طاقم بشري للتكنولوجيا الرفيعة، لتكون على إطلاع دائم بالمتغيرات الدولية التكنولوجية.
    3- الركيزة التربوية
    حيث انصب الاهتمام على الإنسان، وتنميته وأهميته، وأهم الأسس لذلك هي قضية التربية والتعليم، ولذلك تمت الدعوة إلى زيادة ميزانيات التعليم.
    كذلك تعدد الوثيقة الأخطار التي يتعرض لها الإسرائيليون، مثل عدم كفاية الدروس القومية ووجود فجوة كبيرة في التعليم التكنولوجي، والفجوات التعليمية بين المجموعات السكانية والذي أدى إلى وجود تآكل في الهوية القومية والتكتل القومي، ولذلك تدعو إلى زيادة الطلبة الجامعيين، وتنفيذ خطة إستراتيجية للتعليم ما بين روضة الأطفال حتى الثانوية العامة تقوم على تعزيز الروح القومية والتعليم التكنولوجي.
    4- الركيزة الإجتماعية
    تعترف الوثيقة صراحة بأن التهديد الوجودي لإسرائيل لا ينحصر في المستوى العسكري أو الاستراتيجي، وإنما أيضاً في المستوى الإجتماعي، باعتبار أن إسرائيل مجتمع متشرد، ذو طوائف وقوميات متعددة، كما تعترف بفشل السياسات والإستراتيجيات التي طبقتها إسرائيل من أجل وجود مناعة إجتماعية، والتي هي مركب هام في المناعة القومية لإسرائيل. ولذلك تدعو الوثيقة إلى وضع آليات عمل، لإيجاد مفاهيم قومية تقوم على العمل الجماعي المشترك الذي يقوم بدوره على:
  • التأكيد على مفاهيم مثل الإيمان المشترك بعدالة الطريق، ووحدة الهدف، والذاكرة الجماعية.
  • التأكيد على القصص التاريخية، وتعزيز رموز الدولة والعادات.
  • تخصيص حيز للقيم الاجتماعية والقومية.
  • الدعوة إلى خدمة القومية باعتبارها عنصراً موحداً لجميع القطاعات.
    وفي عرضها للركيزة الإجتماعية، تحاول الوثيقة جاهدة مخاطبة الإسرائيلي سيكولوجياً، من خلال التركيز على أن محاولة أعداء إسرائيل تقوم على إلحاق الأذى بها من خلال استغلال هؤلاء الأعداء للفجوات والشروخ داخل المجتمع الإسرائيلي، كما أن الوثيقة تؤكد على الاهتمام بالمرتكزات الإجتماعية بقدر الاهتمام بالركيزة العسكرية. كما يلاحظ وجود معظم المفاهيم التي تؤدي محصلتها إلى المناعة القومية، مثل (تقوية الروابط اليهودية الصهيونية، مشاكل إسرائيل تستوجب مجتمعاً مجنداً، المطلوب انقلاب فكري قيمي، إسرائيل هي دولة يهودية صهيونية، التضامن الاجتماعي القومي …) وهناك عدد كبير آخر من المفاهيم تعادل ما ورد في باقي المرتكزات الأخرى.
    وتعالج الوثيقة الحالة النفسية للمجتمع الإسرائيلي من خلال مفاهيم يهودية صهيونية بحتة، أكدت على يهودية الدولة، والأسس التاريخية لوجودها، وإحياء ذكرى (الهولوكوست) والحروب والانتفاضة المتكررة، ثم توصي بعدم تعريض المجتمع لعملية تخويف لا حاجة لها، وذلك من خلال استخدام بعض الأدوات:
  • تحذير قادة الدولة من عدم زيادة العبء على الخوف الشعبي عَبّر التصريح بوجود أخطار زائدة على إسرائيل.
  • عدم استخدام نبرات الذهول والتخويف في وسائل الإعلام.
  • التأكيد على أن نجاح الفكرة الصهيونية مقرون بالمد والجزر.

الفصل الثالث

تداعيات انتفاضة الأقصى 2000 على الأمن الإسرائيلي

القسم الأول: أثر انتفاضة الأقصى على النظرية الأمنية
القسم الثاني: الجدار الفاصل والتحدي الأمني
الفصل الثالث
تداعيات انتفاضة الأقصى على الأمن الإسرائيلي
القسم الأول: أثر انتفاضة الإقصى على النظرية الأمنية
كانت الانتفاضة متوقعة مع انسداد أفق المسار التفاوضي، واضطرار إسرائيل للانسحاب من جنوب لبنان ومدلولات هذا الإنسحاب، ووصول الأوضاع الداخلية في مناطق السلطة الفلسطينية إلى درجة من الغليان الشعبي نتيجة سوء الأوضاع المعيشية واستشراء الفساد.
وقد فاجأت الانتفاضة إسرائيل، رغم توقعات اندلاعها، وأثرت تأثيرات مباشرة وغير مباشرة في مختلف المجالات السياسية والأمنية والإجتماعية، إضافة إلى الدلالات الإستراتيجية في مسائل القرار والأداء والحالة النفسية، ويمكن إجمال تأثير الانتفاضة كما يلي:
1. على الأمن القومي
أثارت الانتفاضة شعوراً قوياً بوجود تهديد يتجاوز مسألة احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، ليشمل إسرائيل ووجودها، وقد عبَّر عن هذا الشعور عدد من كبار صناع القرار والخبراء منهم على سبيل المثال المحلل الاستراتيجي زئيف شيف الذي أكد أن من شأن الانتفاضة أن تقوض المجتمع الإسرائيلي (زئيف شيف، لا يمكن حل كل شيء بالقوة)، وكذلك البروفسور أرنون سوفر من جامعة حيفا، الذي أعرب عن اعتقاده بإمكانية تدهور العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية إلى درجة تهديد الدولة العبرية (أبراهام طال، الفلسطينيون خطر وجودي على إسرائيل). وعكست ردود الفعل مدى القلق الذي أثارته إمكانية تجسيد هذا التهديد، لأول مرة في تاريخ إسرائيل.
2. على الأمن الشخصي
يعتبر الأمن الشخصي ركيزة أساسية من ركائز الأمن القومي، ويتعرض الأمن القومي لخطر الإنهيار كلما افتقر المجتمع للأمن الشخصي، وقد أثرت الانتفاضة تأثيراً مباشراً على مسألة الشعور بالأمن الشخصي عبّر عنه أكثر من مصدر إسرائيلي، منهم نحمان يشاي المنسق العام للنشاطات الإعلامية والدعائية الرسمية، فقد رأى د. يشاي وجود أبعاد وانعكاسات خطيرة للانتفاضة على مجرى الحياة الاعتيادية، وقال: لقد واجهت إسرائيل في الماضي أياماً عصيبة، وربما أخطر مما هو الآن، لكن يبدو أنها لم تكن صعبة وعصيبة كما في هذه الأيام، إن المصائب تنهال على إسرائيل بالجملة (ألوف بن، صحيفة الأيام 26/10/ 2000)، وقد تناول العديد من الكتاب والصحفيين هذا الجانب من تأثيرات الانتفاضة، وأكدوا شعوراً بالتهديد على مستوى الأمن الشخصي، وأفادت نتائج استطلاعات الرأي التي أجريت بعد اندلاع الانتفاضة بأن 59% ممن شملهم الاستطلاع يشعرون بهذا التهديد.
وتحدثت صحيفة “يديعوت أحرونوت” عن الخوف الذي أثارته الانتفاضة، ومدى اتساعه فقالت:“إن كل فرد في إسرائيل يخاف على نفسه”، وتساءلت:“ما دام كل فرد في إسرائيل يخاف فقط على نفسه، فمن بقي يخاف على الدولة؟”. وأكد الكاتب البريطاني المعروف باتريك سيل دور الانتفاضة في إثارة ظاهرة الخوف وتعميقها حيث قال: “إن الانتفاضة أصابت إسرائيل بكاملها بالخوف”، وأعطى لهذه الظاهرة أهمية كبيرة واعتبرها عنصراً جديداً هاماً.
وتناول المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية السابقة ميخائيل بن يائير هذه الظاهرة وأعاد إليها أسباب الشك الذي يتميز به التوجه الإسرائيلي نحو الفلسطينيين، وأعرب عن اعتقاده بأن هذا الشك يجسد المخاوف الكامنة في النفسية الإسرائيلية، ويعبر عن عدم الثقة بالقوة الأخلاقية العسكرية الإسرائيلية. (باتريك سيل، الانتفاضة الفلسطينية تهدد بإشعال الشرق الأوسط).
3. نظرية الأمن والعقيدة القتالية
هزت الانتفاضة نظرية الأمن التي استندت إلى فكرة الحدود الجغرافية الآمنة بعد أن فتحت الانتفاضة المجال لتهديد عسكري حقيقي، وحملت مؤشرات ثورة وطنية امتدت ساحة عملياتها إلى داخل إسرائيل بسهولة نسبية.
فلقد بنت إسرائيل نظريتها الأمنية وعقيدتها القتالية، على أساس المواجهة مع جيوش خارج الحدود، وعلى مواجهة مقاومة فلسطينية مسلحة أيضاً خارج الحدود، وقد فرضت الإنتفاضة مساحة جديدة للمواجهة، تشكل التجمعات البشرية الفلسطينية والإسرائيلية مسرح عملياتها، وهو مسرح يختلف تمام الإختلاف عن المسارح في المعارك المفتوحة، ويتطلب العمل فيه تعديلات كبيرة، في الحالة الإسرائيلية، للنظرية الأمنية والعقيدة القتالية على حد سواء لما لهذه الساحة من خصوصيات لعل من أهمها:

  • إمكانية امتداد مساحة العمليات إلى العمق الإسرائيلي.
  • السهولة النسبية في الوصول إلى الأهداف الحيوية في إسرائيل والتجمعات السكانية الكبيرة.
  • صعوبة السيطرة والتحكم في مسرح العمليات، نظراً لاتساع رقعته، وتداخل جبهات المواجهة وتشابكها، وكثرة المواقع والعراقيل، التي تقيد الحركة وتحول دون نجاعتها.
  • العجز عن الإمساك بزمام المبادرة.
  • إرتفاع تكاليف المواجهة بشرياً ومادياً.
  • انعدام الأمل بحسم المواجهة عسكرياً.
    مما سبق يلاحظ كيف تلجأ إسرائيل إلى تعديل النظرية الأمنية والعقيدة القتالية على ضوء مستجدات المواجهة وخصوصيات مسرحها، ولعل تجربتها في الجنوب اللبناني وانتفاضة الحجارة عام 1987، والتجربة الروسية في الشيشان التي تتابعها إسرائيل عن كثب، أمّلت عليها أن تواجه الانتفاضة بالجيش النظامي، ووحدات نخبوية صغيرة، قادرة على الحركة، وعلى ضرب أهداف محددة في العمق الفلسطيني، (على عكس الطريقة التي واجهت بها انتفاضة الحجارة بقوات الاحتياط وبطرق ووسائل مدنية أكثر منها عسكرية) وذلك في محاولة للحيلولة دون هزيمة يمكن أن تشكل بداية النهاية لدولة إسرائيل.
    4. إرادة القتال
    نجحت إسرائيل في بناء ترسانة حربية متطورة متفوقة، غير أنها فشلت في إقامة مملكة إسرائيل التي دعت إليها الحركة الصهيونية تحت شعارات أرض إسرائيل التاريخية، وأرض إسرائيل الكبرى وغيرها، وقد انعكست هذه المفارقة على مسألة الولاء والانتماء وإرادة القتال منذ أن بدأ دور الجيل المؤسس بالتراجع.
    ويرى المؤلف الذي يتابع الحراك السياسي والاجتماعي في إسرائيل أن الانتفاضة نجحت في تفعيل تساؤلات جادة حول مشروعية الحروب التي خاضتها إسرائيل تحت ذريعة الأمن والخطر الخارجي الذي يهدد وجودها، وقد اتسعت دائرة الإدراك المجتمعي الإسرائيلي للطبيعة العدوانية الاحتلالية للوجود الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة، و انعكس ذلك على مسألة إرادة القتال، فزاد عدد رافضي الخدمة في الجيش الإسرائيلي بدواعي أخلاقية، وتم توقيع العديد من العرائض التي تطالب برفض تنفيذ الأوامر، وخاصة تلك التي قد تسبب قتل مدنيين أبرياء، ومن المؤشرات التي تؤكد وجود هذه الظاهرة نسوق على سبيل المثال ما أوردته بعض الصحف العبرية على لسان بعض أفراد الجيش الإسرائيلي من القوات القائمة في أراضي السلطة، لدراسة وضعهم النفسي وحافزية القتال عندهم، وقد أعرب هؤلاء عن القلق من استمرار الحرب، ومن تذمرهم من الخدمة، واتهموا القيادة باستغلالهم باستمرار الحرب الخاسرة من وجهة نظرهم، وأعربوا عن رغبتهم في الحياة.
    وقد تناول الكاتب البريطاني المعروف باتريك سيل هذا الموضوع فأعرب عن اعتقاده بأن الإسرائيليين فقدوا إرادة القتال، وأنهم باتوا غير قادرين على تحمل الخسائر.
    5. مسألة المبادرة
    لقد أعطت إسرائيل هذا العامل الأولوية في تاريخ الصراع، ونجحت إلى حد كبير في توظيفة، إلا أن الإنتفاضة تمكنت من حرمان إسرائيل من هذا العامل، فالإنتفاضة في حد ذاتها عملية هجومية في كل المعايير والمقاييس، وتمتلك زمام المبادرة نظراً لكونها حركة شعبية، وتحكمت إلى حد ما في رد الفعل الإسرائيلي، وأجبرت إسرائيل على خوض مواجهة لا خيار لها في مسألة التوقيت والمكان، لدرجة أصبح الفلسطينيون فيها يتوقعون الفعل الإسرائيلي قبل حدوثه.
    ويقول الكاتب المصري المعروف فهمي هويدي: “إن الجيش الإسرائيلي فقد المبادرة، وتحول من الفعل إلى رد الفعل”.
    وهذا ما ذهب إليه الكاتب باتريك سيل الذي وصف التصعيد الإسرائيلي “بأنه تعبير عن حالة دفاعية لا هجومية”.
    6. محدودية خيار القوة
    طوال العقود السابقة اعتقدت إسرائيل أن امتلاك ترسانة كبيرة من الأسلحة التقليدية وغير التقليدية هو ضمان أمنها وبقائها، وهو الرادع لأعدائها من تهديد حدودها ومواطنيها. إلا أن الانتفاضة كشفت على أن خيار القوة في هذه الساحة مسدود الأفق، وقد أكد المحلل زئيف شيف أنه لا يمكن حل كل شيء بالقوة، كما اعترف ضابط كبير يشغل منصب قائد لواء نظامي بأن الجيش لا يملك وسيلة لتحقيق النصر (زئيف شيف، عرفات يقود الشرق الأوسط).
    وأوضح البروفسور نسيم مشعال بأن خيار القوة لن يقود إلى أي مكان سوى إلى نقطة البداية، وأكد أن إسرائيل ستعود في النهاية إلى طاولة المفاوضات لبحث القضايا العالقة.
    وتكهن البروفسور مشعال بأن نتيجة المفاوضات القادمة ستفجر الخلافات الداخلية والتصدعات العميقة والاستفزازات اليهودية اليهودية، وحتى شرارات حرب أهلية.
    وتناول السياسي الأمريكي المعروف هنري كيسنجر هذا الموضوع، فأعرب عن اعتقاده بأن أي طرف من الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، لا يملك القدرة على إلحاق الهزيمة بالطرف الآخر، وقال إن الجانب الفلسطيني لا يملك القدرة على تحقيق حسم عسكري، لأن إسرائيل أقوى من أن تهزم عسكرياً، وأن إسرائيل لا تملك القدرة على أن تهزم الفلسطينيين، لأنهم أقوى من أن يهزموا سياسياً، وهذا يعني في معادلة القوة توازناً، يتمثل في قوة الفلسطيني السياسية تعادل قوة إسرائيل العسكرية.
    7. قابلية التواصل والتصعيد
    رأينا كيف بنت إسرائيل نظريتها الأمنية مع ركائز رئيسية منها “الحرب الخاطفة بأقل الخسائر”، وقد خطفت الانتفاضة هذه الركيزة بما تملكه من أدوات التواصل والتصعيد، وقد أعرب أكثر من مصدر أمني عن اعتقاده بهذه الإمكانية، فتوقع رئيس الأركان، وزير الدفاع السابق شاؤول موفاز أن تستمر الانتفاضة لأكثر من عام على الأقل، مع إمكانية تطورها إلى حرب إقليمية.
    أما فرايم سنيه الوزير العمالي السابق، فتوقع تواصل الانتفاضة مدة طويلة، وأعرب عن اعتقاده بأن هذه الانتفاضة ستكون المعركة الأخيرة لأنها سوف تؤدي إلى جولة من المفاوضات ، وكشف المتحدث العسكري السابق رون كنري النقاب عن أن الجيش الإسرائيلي يستعد لخوض حرب طويلة مع الفلسطينيين، وأكد أن الانتفاضة ظاهرة عميقة لا تخمد خلال فترة قصيرة. “يسرائيل هرئيل، الخيار العسكري .. أولاً”.
    وأخيراً يرى المؤلف أن إسرائيل التي رأت أن تواجه انتفاضة الحجارة عام 1987، بإستراتيجية الصد بوتيرة منخفضة القوة حتى ييأس الفلسطينيون من تحقيق أهدافهم بالوسائل العنيفة، إلا أنها عادت لتواجه انتفاضة الأقصى بإستراتيجية الهدم والتدمير القائمة على عدة افتراضات سياسية:
  • إحراز الانتصار خلال وقت قصير لن يطول أكثر من سنة سينشأ في نهايتها وضع جديد تضطر معه المحافل الدولية في المنطقة والعالم إلى استكماله.
  • ردع أية قوة محتملة من الخارج للتدخل العسكري، لكي تبقى السلطة الفلسطينية تقاتل مع شعبها وحدها.
  • والعنصر الحاسم كما يرى المخططون الإسرائيليون سيكون معنويات السكان المدنيين في إسرائيل، لذلك على القيادة السياسية أن توضح لجمهورها أن الحديث يدور عن حرب لا خيار فيها مفروضة عليهم، على إسرائيل أن تنتصر فيها خلال وقت قصير، وعندئذ سيتفهم السكان في إسرائيل الاستخدام المفرط للقوة ضد شعب أعزل تقريباً، وسيظهر الإصرار والعزيمة والتماسك بعد ذلك.
    القسم الثاني: الجدار الفاصل والتحدي الأمني
    تعود فكرة الفصل بين المناطق الفلسطينية والإسرائيلية إلى عام 1967، عندما قدّم عدد من الوزراء الإسرائيليون آنذاك فكرة تدعو إلى الفصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ووضع خط حدودي فاصل بينهما. وقد مثل هذا التوجه في حينه وزير المالية بنحاس سفير، وأيده عدد من القادة الإسرائيليين في الحكومة الإسرائيلية آنذاك مثل غاليلي ويغال آلون، إلا أن موشي ديان وزير الدفاع آنذاك كان يتبنى سياسة الدمج بين الشعبين من أجل تغييب وإزالة الهوية الفلسطينية، وهو الأمر الذي أعاق خطة الفصل التي تبناها الوزراء الآخرون.
    وانتقلت سياسة الفصل من مجرد مفاهيم وأفكار مطروحة لدى الساسة والقادة الإسرائيليين ، إلى شعارات حزبية، تُرفع في الانتخابات الإسرائيلية، وتُحظى بشعبية كبيرة في الأوساط الإسرائيلية. فقد أعلن إيهود باراك مرشح حزب العمل لانتخابات رئاسة الحكومة الإسرائيلية لعام 2000، أنه سيعمل على تطبيق سياسة العزل الديموغرافي على الفلسطينيين ولو بصورة أحادية. “نظام بركات”.
    أما خطة الفصل بين الضفة الغربية وإسرائيل فتعود إلى عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحاق رابين، والتي طرحت بعد موجة العمليات التي شهدتها المدن الإسرائيلية في عهده، وتأجل تنفيذ الخطة في حينها لأسباب سياسية، ومن ثم عادت حكومة إيهود باراك إلى مناقشتها مرة أخرى، عندما خصصت في كانون الأول من عام 2000 مبلغ 25 مليون دولار لإقامة سياج إلكتروني على امتداد مسافة 70 كم لفصل الضفة الغربية عن المناطق الإسرائيلية.
    وتأتي خطة الفصل في مكان مهم ضمن نظرية شارون في التعامل مع الفلسطينيين، بينما كان يتعامل معها رابين وباراك كحاجات أساسية مستجدة، وقد ظهر ذلك واضحاً في الخطط المتتالية التي دأب شارون على تقديمها، قبل وأثناء استلامه لرئاسة الوزارة الإسرائيلية، بدءاً بالخطة التي أطلق عليها “الخطة المتدحرجة”، ومن ثم “الخطة الإسرائيلية العظمى”، ثم “خطة أورانيم الجهنمية” وصولاً إلى خطة “الجدار الوقائي”، وهي عملياً البعد التطبيقي لسياسة الجدار الفولاذي الجابوتنسكية. “مركز الإعلام والمعلومات”.
    وربما يعود إحجام رؤساء الوزراء السابقين عن تنفيذ هذه الفكرة، إلى أنها تحتاج إلى زمن طويل، ومبالغ كبيرة، وهو ما يعني أنها لن تعطي نتائج أمنية في فترة استلام الوزارة، بينما تتحمل الوزارة أعباءها المالية، أما بالنسبة لشارون فإنه يريد أن يؤكد ببناء السور على فكرته القائلة باستحالة إقامة سلام مع الفلسطينيين، ومتى تم البدء في بناء السور فإنه سيصبح حقيقة واقعة.
    وقد أظهرت قضية الفصل أن الصراع العربي – الإسرائيلي قد دخل في ثقب أسود عاد فيه إلى بدايات العشرينيات من القرن الماضي، حين كان المشروع الصهيوني في طور البلورة على الصعيدين المحلي والدولي، ويبدو ذلك واضحاً في ملاحظة التطورات السياسية – الإيديولوجية في الداخل الإسرائيلي، فقد تبخرت الفروقات بين اليمين واليسار بشكل مذهل، وأعاد العلمانيون والدينيون اكتشاف طبيعتهم اليهودية الواحدة، واستعادت الفكرة الصهيونية نفسها الكثير من زخمها المتعلق أساساً بمسألة الأرض، ولم يعد المراقبون يلاحظون الكثير من الفروقات بين طروحات آرئيل شارون زعيم اليمين الإسرائيلي، وبين تلك التي يقدمها بنيامين بن اليعيزر وشمعون بيرس وحاييم رامون وإيهود باراك وغيرهم من أقطاب “اليسار” أصحاب سياسة (نحن هنا وهم هناك) ما يعني الفصل عن الفلسطينيين.
    عودة فكرة الجدار
    مع تصاعد وتيرة العمليات الفلسطينية في العمق الإسرائيلي، ازدادت الدعوات الإسرائيلية للفصل الأمني عن الفلسطينيين، وقد طرحت فكرة الجدار الفاصل عام 1998 تقريباً، لكن هذه الفكرة سرعان ما طويت، حيث خشيت الأحزاب الإسرائيلية في حينه أن يتحول أي جدار مادي إلى حدود مستقبلية للدولة العبرية.
    وقد عادت الفكرة إلى بساط البحث الجدي في شباط 2002، عندما طرحها آفي ديختر رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلي الداخلي (شين بيت) على لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست في 12/2/2002، بعد أن تعرضت التجمعات السكانية الإسرائيلية لقصف بصواريخ فلسطينية محلية الصنع. ورأى ديختر في مداخلته “أن العدد الأكبر من الـ 52 فلسطينياً الذين نفذوا عمليات”انتحارية“داخل إسرائيل خلال الشهور الستة ألأخيرة قدموا من الضفة الغربية”. ولذلك رأى “أن إقامة حاجز هو أمر حيوي وحاسم”. وأشار إلى “أنه في ظل وجود حاجز مادي في منقطة غزة، فإن”خلايا المخربين“، تفضل تنفيذ عمليات داخل غزة، وليس وراء الخط الأخضر.”جمال البابا، الجدار الأصل”.
    ومن جهتها اعترفت نائبة وزير الدفاع السابقة (داليا رابين) بأن التطور النوعي الذي تظهره المقاومة الفلسطينية يدفع بالجيش الإسرائيلي إلى توفير مختلف الطرق الأمنية التي يمكن أن تحد من العمليات الفلسطينية، ففي تصريح لها للإذاعة الإسرائيلية في 16/2/2002 قالت: “إننا نرى أن الفلسطينيين يظهرون تطوراً أكثر، كما يتغلبون على قواتنا هنا وهناك، ولكن لكل أمر من الأمور ردود، وتوفير الإجابة له في نهاية المطاف ممكن، ولا شك بأن هذا قتال نخوضه لا يمكن حسمه عسكرياً، وهناك الكثير من الإجراءات الأمنية المكثفة على خطوط التماس، كما أن معظم المستوطنات على هذا الخط محاطة بالسياج الالكتروني أو السياج العادي، بالإضافة إلى تعزيز تواجد قوات الشرطة وحرس الحدود والجيش، أي أننا نفعل كل ما يمكن لتوفير الإجابات والردود للوضع الناشئ”.
    وقد قرر مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر البدء فوراً بالعمل من أجل إقامة جدار فاصل في خط التماس، على أن تشمل المرحلة الأولى بناء جدار في ثلاث مناطق، هي:
    جنين وطولكرم ومنطقة غلاف القدس. وكذلك قرر المجلس الوزاري المصغر إضافة كتيبتين من حرس الحدود للانتشار في خط التماس في القدس. وقد كلف وزراء المجلس الوزاري رئيس الحكومة السابق إرئيل شارون ليترأس الطاقم الذي سيحدد المعوقات التي ستوضع في خط التماس. وكان شارون قد تحدث في وقت سابق عن حفر خنادق، وأجهزة استشعار، وأفخاخ وكلاب. وقال شارون خلال الجلسة: “إن من المهم أن نوضح أن إقامة الجدار لا يعني حدوداً سياسية، بل مجرد انتشار يقلص الخطر من تسلل الإرهابيين”.
    وقد رحب دعاة الانفصال الأحادي الجانب، في إسرائيل باقتراح رئيس الشين بيت، باعتباره صادراً عن مسؤول توصل إلى استنتاجه هذا انطلاقاً من معطيات أمنية لا سياسية، وهو ما ينسجم مع تفكير حكومة شارون التي تفضل التفكير في الاقتراحات الأمنية المكلفة مالياً والصعبة التحقيق عملياً، على مواجهة الاستحقاق السياسي الأسهل والأقل كلفة.
    الضغوط الشعبية لإقامة الجدار
    مع استمرار عمليات المقاومة الفلسطينية، ارتفعت نسبة الإسرائيليين الذين يؤيدون فكرة إقامة جدار فاصل بين إسرائيل والفلسطينيين، حيث أظهرت استطلاعات الرأي أن حوالى 65% من الإسرائيليين يؤيدون إقامة الجدار، كحل للأوضاع الأمنية المتردية التي تشهدها إسرائيل، بينما تقل نسبة المعارضين لها عن 30%، ويلاحظ أن معظم استطلاعات الرأي تشير إلى تقارب كبير في هذا الأمر بين اليمين واليسار الإسرائيليين، حيث أن نسبة المؤيدين لإقامة الجدار تبلغ حوالى 70% في كلا الطرفين، وهي نسبة تشير إلى استحواذ التفكير الأمني على تفكير المواطن الإسرائيلي، بعيداً عن أيديولوجيات التعايش التي كان يرفعها اليسار الإسرائيلي في السابق.
    وقد أطلق “مجلس السلام والأمن” الإسرائيلي حملة إعلامية من أجل الضغط على الحكومة الإسرائيلية للقبول بفكرة الانفصال الأمني عن الفلسطينيين. وتمثل عملية الانفصال التي يدعو لها المجلس إقامة جدار فاصل بين الكيان الإسرائيلي والضفة الغربية. وسيكون شعار هذه الحملة التي بدأت في 21/4/2002 “الانفصال = الأمن”، حيث يأمل أعضاء مجلس “السلام والأمن” في جمع تواقيع مليون إسرائيلي على العريضة التي تطالب بالانفصال. (جمال البابا، الجدار الأصل).
    كما بدأ عدد من المجالس المحلية اليهودية الواقعة داخل الخط الأخضر، والواقعة بمحاذاة خط التماس ببناء جدران فاصلة خاصة بمناطقهم، ومن أبرز هذه الحالات المجلس الإقليمي لمنطقة “جلبوع” القريبة من جنين، حيث عمل رئيس المجلس داني عطار (الذي شغل منصب رئيس اتحاد بلدات خط التماس في الوقت ذاته) منذ خمس سنوات على شق طريق للدوريات في منطقة نفوذ مجلسه الإقليمي، وعلى مسار الخط الأخضر، كما وضعت حجارة حدودية وحفرت قنوات في إطار العملية. وقد بدأ عطار مع مجموعة من رفاقه في المجلس في منتصف نيسان 2002 حملة للضغط على وزير الدفاع الإسرائيلي حينها بنيامين بن اليعيزر لدفع عملية البدء في بناء السور الفاصل، ولحل المشكلات التي تواجه “إدارة معالجة شؤون الجدار” الموجودة في طور التشكيل.
    وقال داني عطار مدافعاً عن قيامه بالبدء في بناء الجدار: “ليس سراً أن وجود جدار كهذا كان من شأنه أن يمنع وقوع 98% من العمليات (العدائية)، ففيما ينشغل شارون بكيفية تجاوز بنيامين نتنياهو من اليمين، يموت مئات الناس”. وقد توجه داني عطار إلى رؤساء عدد من الجاليات اليهودية في الولايات المتحدة، يطلب العمل على جمع التبرعات لتمويل عملية بناء الجدار. وبحسب أقوال عطار فقد بدأ أفراد الجالية اليهودية في ولاية كونتيكت بإقامة طواقم عمل تمهيداً للبدء في جمع التبرعات. وقال عطار: “إننا نتحدث هنا عن جمع مبلغ مليون دولار لكل كيلومتر واحد من الجدار، واعتقد أن بإمكان الجاليات اليهودية في شتى أنحاء العالم، توفير هذا المبلغ”.
    وقد قدم درور هليفي من “الحركة للفصل” في 24/4/2002 التماساً إلى المحكمة العليا الإسرائيلية بطلب خاص يأمر بإقامة جدار الفصل في منطقة التماس، ويرى هليفي أن جدار الفصل هو الحل الأنجع من الناحية الأمنية لوقف منفذي العمليات والمتسللين، وأن رفض الحكومة لإقامته يدل على “رأي معيب، وغير معقول، وتعسفي، يتجاهل رأي أوساط مهنية”، وأن التقصير في إقامة الجدار ستكون نتيجته “قتل وجرح آلاف المواطنين، والمس بنسيج الحياة لمواطني إسرائيل”.
    وأقامت حركة “الفصل أحادي الجانب” خيمة في (حديقة الورود) قبالة مكتب آرئيل شارون في القدس، للمطالبة بتعجيل إقامة السور الفاصل، وقد أقيمت الخيمة بمبادرة من عضو الحركة العقيد احتياط شلومو ديفر، الذي كان الإخصائي النفسي للجيش في الانتفاضة الأولى.
    كما أشارت بعض الدراسات الإسرائيلية إلى ضرورة تثبيت وضع الفصل بشكل دائم، بحيث يُنهي السيطرة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، بما “يضمن الأمن للإسرائيليين من جهة، ويساعد في إحلال السلام في المنطقة”.
    طبيعة الجدار
    سيكون الجدار الأمني الذي سيقام على مسار الخط الأخضر شبيهاً للجدار الحدودي بين إسرائيل ولبنان (والذي أقيم بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من الجنوب اللبناني)، والجدار المحيط بقطاع غزة، وسوف يشيد بشكل أساسي من أعمدة وأسلاك معدنية ترتبط فيما بينها، وهو مكون من شبكتين قائمتين على بعضهما البعض، مع أسلاك شائكة كعوائق، وجدار معدني الكتروني تحذيري حساس. وستوضع عليه أحياناً كاميرات رؤية ومراقبة. وسيعطي تحذيرات الكترونية في حالة ملامسته من قبل أي شخص، بواسطة معدات الكترونية تشمل أجهزة إنذار مبكر، وكاميرات على الأرض أو في الجو، وسيكون في أماكن كثيرة عبارة عن حواجز إسمنتية.
    وعلى طول المنطقة سترابط قوات متحركة من حرس الحدود بحيث تنطلق في حالة وصول إنذار من إحدى الوسائل الإلكترونية. وسيستعين مقاتلو حرس الحدود بكلاب الأثر. إضافة إلى ذلك ينوي الجيش الإسرائيلي منع عبور سيارات فلسطينية من المناطق إلى داخل “الخط الأخضر”. وهذا المنع سيتم بواسطة أعمدة حديدية، وقنوات، وسواتر ترابية. وستوضع مواقع عسكرية على طوله.
    ويدور الحديث عن استخدام أجهزة إنذار إلكترونية أحدث من تلك المستخدمة في الأسوار القائمة في غزة، أو على الحدود، بحيث تعطي إنذاراً عند الاقتراب من الجدار، وعند اللمس كما هو الحال في الجدران القائمة، ولكن مشكلة هذه الأجهزة أنها تعطي إنذارات كاذبة مهما كانت (ذكية).
    وعلى ما يبدو فإن آرئيل شارون كان مولعاً بالقضايا التكنولوجية، ولذلك فإنه يركز دائماً على استخدامها، بدلاً من الطرق التقليدية، كشق القنوات، واعتقدَ شارون أن التركيز أكثر على الوسائل الإلكترونية القابلة للنقل من شأنها عدم تكريس أي وضع حدودي مستقبلي، ومن الوسائل التي فضلها شارون: أعمدة عليها أجهزة كشف ليلي ونهاري، واستخبارات بصرية تنقل ما يحدث إلى غرفة رقابة. وقد قدّمت بعض الشركات ما لديها من أجهزة تكنولوجية، وعرضت في جلسة لمجلس الوزراء.
    وقد كانت هناك أفكار لوضع ألغام في مقاطع معينة على طول الجانب الشرقي من منطقة التماس وخاصة في محاور التسلل الثابتة، ولكن الموضوع رفض بسرعة خوفاً من سرقة الألغام من قبل المنظمات الفلسطينية، واستخدامها في تدمير آليات الجيش الإسرائيلي.
    وتقام على باقي خط التماس، وخاصة في المناطق المفتوحة التي لن يقام فيها سياج مادي، أبراج رقابة بأنواع مختلفة بما في ذلك مواقع رقابة إلكترونية طورت خلال تواجد الجيش الإسرائيلي في لبنان.
    فاعلية الجدران الأمنية الإسرائيلية
    قامت إسرائيل ببناء جدران أمنية مشابهة لتلك التي بدأت ببنائها حول الضفة الغربية، وقد حدّت هذه الجدران التي أقيمت على الحدود اللبنانية والحدود الأردنية وحول قطاع غزة، من قدرة المقاومين على عبور الحدود. “أحمد عبد الحليم”.
    ومع ذلك، فإن ثمة اختراقات أمنية واسعة لهذه الجدران الأمنية، حيث وقعت العديد من العمليات المسلحة عن طريق فتح ثغرات في الأسيجة الأمنية المحيطة بمدينة غزة، أو تلك المقامة في المناطق الحدودية الفاصلة مع الأردن ومع لبنان، وتلك المحيطة بالمستوطنات.
    ومن أبرز هذه العمليات تلك التي وقعت في الجليل الغربي في 12/3/2002، عندما تسلل فلسطينيان من لبنان إلى التجمعات السكنية الإسرائيلية بعد أن عبرا الجدار الأمني الموجود هناك، دون أن تعمل أجهزة الإنذار الموجودة فيه، حيث تشير المعلومات الإسرائيلية إلى أنهما استخدما جهازاً خاصاً، يتكون أحد طرفيه من سلم ألمنيوم، بينما يتكون الطرف الآخر من سلم منزلق، الأمر الذي مكنهما من الانتقال إلى الجهة الأخرى من غير أن يحول الجدار الإلكتروني دون ذلك. وامتنع الجيش الإسرائيلي عن إظهار الجهاز أمام وسائل الإعلام خوفاً من “إعطاء أفكار لآخرين”. والمقصود هو “خوف الجيش الإسرائيلي من أن يقوم الفلسطينيون بصنع جهاز مماثل لاجتياز الجدار المحيط بقطاع غزة”.
    وفي محاولة أخرى، نجح مقاتلون تسلّلوا من الأردن في تجاوز السور الموجود على المثلث الحدودي الأردني – السوري – الإسرائيلي، قرب نهر اليرموك، حيث أبلغت القوات الأردنية الجيش الإسرائيلي في 23/3/2002 بقيام متسللين بعبور الحدود، ولم يتم العثور على أية آثار طوال الليل، إلا أن قصاصي الأثر لاحظوا في فجر اليوم التالي علامات تسلل عبر الجدار الحدودي بواسطة نفق حفر أسفله، ونجحوا في تجاوز جدار الإنذار الإلكتروني للحدود، إلا أنهم قتلوا في منطقة بعيدة عن موقع التسلل، قبل أن يتمكنوا من تنفيذ مهمتهم.
    وقد صرح وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك بنيامين بن أليعازر أن إقامة جدار فاصل بين أراضي السلطة، والأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل لن ينجح في إيقاف العمليات الفلسطينية، وقال إن “مثل هذه الخطوة لن تمنع تسلل”الانتحاريين“الفلسطينيين إلى داخل إسرائيل، كما أنها لن تحل قضية إطلاق قذائف الهاون والصواريخ الفلسطينية”، وقال: “إن إقامة جدار فاصل بيننا وبين الفلسطينيين سيستغرق عامين …”. ورجح الوزير بن أليعازر أن الأسلوب الأنجع في التعامل مع تلك الهجمات، والنجاح في وقف بعضها هو في استمرار سياسة الاغتيالات ضد ناشطي الانتفاضة من مختلف الفصائل، وزعم أن هذه الطريقة تنجح في إفشال 80% من العمليات الموجهة ضد إسرائيل.
    أثر الجدار على ضم الأراضي
    يلاحظ أن إقامة الجدار ستؤدي إلى ضم مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية، ففي منطقة جنين سيؤدي بناء السور إلى ضم 69 ألف دونم، حيث توجد في المنطقة المقتطعة 11 قرية فلسطينية منها: رمانة، الطيبة، عانين، أم الريحان، طورا الغربية، طورا الشرقية، برطعة.
    أما في طولكرم فتصل مساحة الأراضي التي ستضم عملياً إلى إسرائيل إلى حوالى 8 آلاف دونم، حيث سيقام في المنطقة خندق كبير على أرض مساحتها 250 دونماً.
    وتعني مصادرة هذه الأراضي أن الخط الأخضر قد أزيح إلى الشرق على حساب الأراضي الفلسطينية المصادرة، وهي الأراضي التي لن يكون من السهل على الجانب الفلسطيني الحديث عنها في ما بعد في أية مفاوضات مستقبلية.
    وقد احتج قادة الجمهور العربي في إسرائيل الذين اجتمعوا في 15/6/2002 في أم الفحم على مصادرة نحو ألف دونم من أراضي أم الفحم لغرض إقامة الجدار.
    الدلالات المختلفة لإقامة الجدار
    يتضمن مشروع الجدار الأمني الإسرائيلي عدداً من الدلالات والمعاني المهمة، والتي يمكن في ضوئها فهم موقع هذا الجدار ضمن المشروع الصهيوني، وضمن الفكر السياسي الإسرائيلي.
    1. دلالات قانونية
    يشكل إقامة الجدار الأمني الإسرائيلي، خارج الخط الأخضر، توسعاً عملياً لحدود الدولة العبرية، ومحاولة لفرض الأمر الواقع على أية مفاوضات قادمة، وهو ما يشكل انتهاكاً صريحاً للقوانين الدولية ذات الشأن، وأهمها قرار مجلس الأمن رقم 242.
    وكذلك يشكل الجدار انتهاكاً للاتفاقيات الموقعة بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، التي أكدت على تأجيل قضية الحدود إلى مفاوضات الوضع النهائي، حيث نص إعلان المبادئ الفلسطيني – الإسرائيلي الموقع في 13/9/1993 على تأجيل بحث قضية الحدود “إلى بداية مفاوضات الوضع الدائم”. وأكد الطرفان في مذكرة واي ريفر، التي تم توقيعها في واشنطن بتاريخ 23/10/1998، على تأجيل البت في قضية الحدود مرة أخرى. وبالتالي فإن إقامة الجدار الأمني سيختزل المطالب الفلسطينية لتنحصر فقط في استعادة أجزاء من الضفة الغربية من الاحتلال الإسرائيلي، ويتبع ذلك أن يصبح الوجود الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية مشروعاً، وأن تقتصر المفاوضات النهائية بين الطرفين في هذه المسألة على وضعية المستوطنات التي بقيت داخل المعازل الفلسطينية، أي أن هذا السياج سيكون بمثابة الحدود التي ترسمها إسرائيل للكيان الفلسطيني الذي ترغب بإقامته.
    2. دلالات حضارية
    بالتزامن مع الخطوات المتسارعة التي تقوم في غير مكان من العالم، من أجل إزالة الحدود، ورفع العقبات أمام تنقل البضائع والأشخاص وغيرها، شرعت إسرائيل في إقامة سور مادي يهدف إلى عزل أراضيها، كما كانت تفعل الدول قبل عدة مئات من السنين، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى آثار نفسية وإجتماعية، تنعكس على أولئك الذين يهدف هذا الجدار إلى جلب الأمان لهم، كما سينعكس على نظرة العالم إلى اليهود وقضيتهم.
    3. دلالات إنسانية
    لم تنقطع العلاقات الإجتماعية بين الفلسطينيين الموجودين في الضفة الغربية وغزة، وبين الفلسطينيين الموجودين داخل الخط الأخضر، وشهدت السنوات الأخيرة ارتفاعاً في مستوى هذه العلاقات وصل إلى عشرات الآلاف في حالات الزواج بين الطرفين، والتي يمكن أن تجذر الهوية الوطنية لعرب 1948، وهو ما ظهر واضحاً في مشاركتهم في انتفاضة الأقصى، كما يمكن أن يترك مثل هذا الأمر أثراً واضحاً على الوضع الديمغرافي داخل الخط الأخضر، حيث وصل عدد الفلسطينيين هناك إلى أكثر من مليون نسمة، أي قرابة 17-18% من مجمل السكان، وبالتالي فإن إقامة الجدار الأمني الإسرائيلي سوف يساعد الحكومة الإسرائيلية على قطع وشائج العلاقات بين الطرفين، والتي وصلت إلى وضع غير مسبوق، منذ حرب عام 1948.
    4. دلالات سياسية
    ظل عدد كبير من السياسيين الإسرائيليين وخاصة من أحزاب اليمين والمتدينين، وعلى مدى عقود طويلة، يرفضون فكرة القبول بأية حدود لدولتهم ، يمكن لها أن تمنع أي توسع مستقبلي للمشروع الصهيوني، على أن العمليات الاستشهادية فرضت أمراً واقعاً جديداً، وأحدثت تحولاً رئيسياً في المشروع الصهيوني الكلاسيكي لدى المؤسسة الرسمية الإسرائيلية، بما فيها اليمين الإسرائيلي التقليدي. فهذا المشروع قام على أساس “استعادة أرض إسرائيل كاملة غير منقوصة” لتصبح “الدولة اليهودية النقية العرق” وذلك باستخدام مختلف السبل لتفريغ فلسطين من أهلها الفلسطينيين، ولكن خطة الفصل أثبتت عقم المحاولات المستمرة لتغييب الشعب الفلسطيني.
    وهناك دلالة أخرى تتعلق بالمتغيرات الدولية: فالمجتمع الدولي الذي تبنى خارطة الطريق وهو يضغط للوصول إلى حل سلمي للقضية الفلسطينية قد وصل إلى قناعة مفادها أنه لا بد من تدخل دولي وفرض حل على الطرفين، وقد فهم الإسرائيليون وخاصة حكومة شارون أن في الأفق علامات ضغوط دولية ستمارس على إسرائيل لتحقيق رؤية الرئيس الأمريكي، وهروباً من هذه الاستحقاقات والتفافاً على هذه المساعي الدولية، قررت حكومة شارون تبني قضية الفصل وبناء الجدار والانسحاب من غزة، حتى يشغل العالم بهذه القضية، أكثر من انشغاله برؤية إقامة الدولة الفلسطينية التي يرى فيها نهاية إسرائيل.
    نتائج بناء الجدار على الصعيد الإسرائيلي
    إن إقامة مثل هذا الجدار سوف تكون له الكثير من السلبيات في الجانب الإسرائيلي وأهمها:
    1. أن الفصل يعد بمثابة إعلان حدود للدولة الفلسطينية. وإسرائيل هي التي عارضت دوماً وبشدة وجود الحدود، ويعتبر بناء هذا السور تلميحاً بأن إسرائيل توافق على “الخط الأخضر” كحدود مستقبلية لها.
    2. سوف يكلف إقامة السياج الحدودي المكون من أعمدة وأسلاك معدنية ونقاط معابر التفتيش، الميزانية الإسرائيلية مبالغ باهظة على الصعيد الأمني والاقتصادي. أما الجدار الإسمنتي فسيكون سهل التخريب، ويحول دون مراقبة الطرف الآخر، كما يمكن الاختفاء خلفه ووضع الكمائن للقوات الإسرائيلية إذا أرادات ملاحقة المتسللين.
    3. لا يمكن للسور أن يمنع وصول صواريخ المقاومة الفلسطينية، والتي كانت السبب الرئيس في فتح باب النقاش عن الأوضاع الأمنية في إسرائيل، كما لا يمكنها أن تقف في وجه العمليات التي يرعاها عرب من داخل الأراضي المحتلة عام 1948.
    4. خلافاً لقطاع غزة حيث كان هناك فصل بين مستوطنات “غوش قطيف” والقرى الفلسطينية، فإن من الواضح أن أكثر من مائتي مستوطنة يهودية في الضفة الغربية، معظمها في المناطق (ج). ستبقى خارج مسار السياج الذي سيقام، وهي تمثل حوالى 80% من المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وهكذا سيكون الجدار الفاصل، وبمدى معين، جداراً فاصلاً بين الكيان الإسرائيلي وبين الكثير من المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، لذلك فإن إقامة الجدار يستدعي إيجاد معابر مناسبة للحركة الإسرائيلية من وإلى المستوطنات. وقد دفع هذا الأمر الحكومة الإسرائيلية للقبول بفكرة تفكيك بعض بؤر الاستيطان، حيث قامت بالانتهاء من تفكيك عشر بؤر استيطانية في 24/6/2002، على أن تقوم بتفكيك ثماني بؤر أخرى خلال شهر تموز 2002. حسب ما أعلن في ذلك الوقت، كذلك قامت بتفكيك عدة بؤر استيطانية في شمال الضفة عشية الإنسحاب الأحادي من غزة عام 2005.
    5. يعد بناء السور نصراً لعمليات المقاومة، لأن العمليات التي قامت الحركات والتنظيمات الفلسطينيه بتنفيذها داخل الأراضي المحتلة عام 1948، قد دفعت الكثيرين من الصقور الإسرائيليين، وعلى رأسهم آرئييل شارون، إلى القبول بفكرة بناء جدار حول المناطق التي تسيطر عليها إسرائيل.

الفصل الرابع

تداعيات حرب لبنان الثانية على نظرية الأمن الإسرائيلي

القسم الأول: المقاومة تطيح بأسس النظرية الأمنية الإسرائيلية
القسم الثاني: استحقاقات الحرب السادسة!
القسم الثالث: قراءة في تقرير “لجنة فينوجراد”
الفصل الرابع
القسم الأول: المقاومة اللبنانية تطيح بأسس النظرية الأمنية الإسرائيلية
تواصلت الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان منذ تأسيس هذا الكيان عام 1948 حين دمر الجيش الإسرائيلي عدداً من القرى والمدن المتاخمة للحدود مع فلسطين بغرض احتلال جنوبه وإقامة المستوطنات عليه، والتوسع على حساب الأرض اللبنانية، مروراً باجتياحه السافر والواسع في عملية الليطاني عام 1978، ثم بعد ذلك الاجتياح الكبير عام 1982 واحتلال بيروت ومناطق واسعة من لبنان في عملية أطلق عليها إسم سلامة الجليل، بحجة ضرب البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية، وفي سياق ذلك ارتكبت إسرائيل العديد من المجازر وعمليات التنكيل العنيف ضد المواطنين اللبنانيين والفلسطينيين هناك، والتي كان من أبرزها مذبحة صيدا، ومذبحة صبرا وشاتيلا عام 1982، ومذبحة عين الحلوة، ومذبحة سحمر في جنوب لبنان عام 1984، مروراً بمذبحة قانا عام 1996 والتي كانت جزءاً من عملية كبيرة سُميت عناقيد الغضب، ورغم نجاح إسرائيل في مخططها إخراج م. ت. ف من بيروت، إلا أن الاحتلال الإسرائيلي للبنان جوبه بمقاومة عاتية أجبرته على سحب قواته من بيروت والمناطق الأخرى المجاورة والاحتفاظ بالشريط الحدودي جنوب لبنان، ثم أُجبر على الإنسحاب منه مدحوراً عام 2000 “باستثناء منطقة شبعا”.
ولقد أصبح انتصار المقاومة وإجبارها لإسرائيل على الإنسحاب تاريخاً لوقف التواتر العربي على التنازل أمام المطالب الإسرائيلية، وشكل ذلك الإنتصار نقطة تحول انعكست إيجاباً لجهة التصلب العربي في وجه الغطرسة الإسرائيلية، كما تحول هذا الانتصار إلى ورقة ضاغطة في مفاوضات السلام لصالح المفاوض الفلسطيني في محادثات “كامب ديفيد الثانية” مكّنته من الصمود في مواجهة الضغوط الإسرائيلية أثناء المفاوضات.
وقد كرست المفاهيم ذاتها مجدداً عام 2006 من خلال صمود مقاومة حزب الله أمام العدوان الإسرائيلي على لبنان، حين تجاوزت الحرب قضية الجنديين الإسرائيليين الأسيرين لدى حزب الله إلى تحقيق أهداف أكبر تم تحديدها مسبقاً في انتظار اللحظة المناسبة لتحقيقها، فوجدت إسرائيل في عملية خطف الجنديين الفرصة لتحقيق أهداف سياسية، وخصوصاً أنها تتوافق مع السياسة الأمريكية في المنطقة والتي تمثلت في القضاء على المقاومة واقتلاع بُنيتها الأساسية، وضرب معالم التقدم والازدهار والثقافة والحضارة في هذا البلد الصغير، ولا نقلل من أهمية هذا الهدف الأخير الذي يتفق مع التراث والنظرة العنصرية للصهيونية عن “الذات وعن الآخر”، وما تنطوي عليه من أطروحة الشعب المختار ومقولة التفوق اليهودي على الأغيار، فإسرائيل لا تروق لها هذه المدنية وهذا الانفتاح على العالم في لبنان، إلا أن مجريات هذا العدوان لم تَصبّ في الإتجاه الذي رغبته الولايات المتحدة وإسرائيل، وهو تشكيل شرق أوسط جديد ينسجم مع مصالحهما، بل صَبّت في إتجاه شرق أوسط أكثر مقاومة، وأكثر ثقة بالنفس في مواجهة الآلة العسكرية، وأقل إكتراثاً بقدرة الردع الإسرائيلي، والذي بدأ يتآكل منذ حرب 1973 مروراً بالإنسحاب الإجباري من جنوب لبنان عام 2000، ثم تعمق هذا التآكل في ضوء نتائج العدوان الأخير على لبنان عام 2006.
لقد قدمت أمريكا كل الدعم المعنوي والمادي والسياسي لحرب إسرائيل على لبنان حتى رأينا وزيرة الخارجية الأمريكية تتحدث بلسان إسرائيل دون وسيط أو دون مواربة، في تعبير واضح وترسيخ للسياسة الأمريكية التي أعلنت عنها الوزيرة “رايس” بعنوان الفوضى الخلاقة والتي تبنتّها في أعقاب إحتلال العراق.
لقد توقع العديد من المحللين والخبراء أن تُغَيّر حرب لبنان الأخيرة الكثير من النظريات والعقائد العسكرية التي سادت العالم حتى تاريخه، كما أنها ستدفع بالدول العظمى لإعادة النظر في حقيقة موازين القوى في المنطقة، فحزب الله لم يفاجأ إسرائيل في حجم ترسانة صواريخه وتنوعها ومداها، بل فاجأها أيضاً في تكتيكاته وأسلوبه القتالي وقدرة مقاتليه على الصمود على طول الجبهات الأمامية لأكثر من ثلاثة أسابيع، بل إن حزب الله استطاع تحقيق عدة أهداف خلال سير المعارك على حساب إسرائيل، ويمكن في هذا السياق الحديث عن مفاصل رئيسية برزت في هذه الحرب أهمها:
1. التراجع التدريجي لأهداف إسرائيل من شن العدوان، إذ بعد الإعلان عن هدف الحرب التخلص من المقاومة وضرب بُنيتها الأساسية، تراجع الهدف إلى الاستيلاء على الأراضي الواقعة من الجنوب حتى نهر الليطاني، إلى أن تقلص بعد ذلك إلى احتلال بعض المواقع والقرى على طول الحدود، مما دفع العديد من المحللين العسكريين أمام هذا التراجع حتى في إسرائيل للتشكيك في قدرة إسرائيل على تحقيق أي من أهدافها من هذه الحرب، ومنهم الخبير العسكري الإسرائيلي زئيف شيف، فقد كتب في صحيفة “هآرتس” يوم 10 أغسطس 2006 يقول: “إن الجيش الإسرائيلي الذي يعتبر من أقوى جيوش العالم وأعتاها بالأسلحة والذخيرة عاجز عن اخضاع حزب الله”، وطالب حسب رأيه بإعادة النظر في العديد من النظريات الحربية التي يعمل على أساسها هذا الجيش.
2. إن الجيش الإسرائيلي وعلى خلاف ما هو عليه الحال في جيوش العالم يعتمد في مجهوده الحربي أثناء الحروب على قوات الإحتياط وليس على القوات النظامية، ومن هنا فإن نظرية الأمن الإسرائيلي تشدد على أنه يتوجب على الجيش أن يحسم المواجهة مع “العدو”، ويحرز النصر بالسرعة الفائقة، على اعتبار أنه لا يمكن مواصلة الزج بقوات الإحتياط في المعركة لأمد طويل، لأن ذلك يعني شل الحياة في الدولة مما يؤثر سلباً على سير المعارك، وقد لاحظ المتابع لسير الأحداث في هذه الحرب كيف تهاوى هذا الأساس رأساً على عقب، فقد أدرك صناع القرار في إسرائيل أنه من دون وقف إطلاق النار، فإن ذلك يعني أن الحرب ستتواصل إلى عدة أشهر وأن إسرائيل عاجزة عن تحقيق أي نصر في هذه الحرب.
3. عملت إسرائيل في حروبها السابقة مع الدول العربية على توجيه ضربة قاصمة لـ “العدو” في العمق الإستراتيجي في ساحة المعارك بغرض تكبيد هذا “العدو” خسائر فادحة بقواته وعتاده، وبنيته التحتية، لدفع العربي على الاستسلام والموافقة على وقف إطلاق النار بالشروط التي تفرضها إسرائيل، بل إن مخططي الإستراتيجية الأمنية الإسرائيلية يولون لعنصر “إلحاق الضربة القاصمة بالعدو” أهمية خاصة من حيث تعزيز الردع في مواجهة الطرف العربي حتى تترسخ لديه القناعة بعدم جدوى الحرب مع دولة إسرائيل، وفي هذا السياق يردد شمعون بيرس “رئيس دولة إسرائيل” دائماً عبارته الشهيرة: “إن العرب لا يوافقون على عقد اتفاقيات التسوية معنا إلا بعد أن ييأسوا من إمكانية تحقيق مكاسب في الحرب ضدنا”، وما حدث في حرب لبنان الأخيرة ورغم كثافة النيران التي استخدمتها إسرائيل، ليس فقط ضد مقاتلي حزب الله بل ضد كل لبنان ومؤسساته المدنية والعسكرية، فإن إسرائيل فشلت فشلاً ذريعاً في إرغام المقاومة على الإستسلام بالشروط الإسرائيلية التي وضعتها لوقف المعارك عند بداية العمليات العسكرية، فقد توعد أولمرت في بداية العمليات أنه لن يوقف الحرب إلا في حال تحقيق شرطين هما: الإفراج عن الأسيرين الإسرائيليين وتفكيك حزب الله، ولاحظنا كيف توقفت الحرب دون تحقيق أي من الشرطين.
4. ضربت حرب لبنان الأخيرة نظرية الأمن الإسرائيلي في أهم ركائزها، فرغم صمودها أمام الجيوش العربية سابقاً، إلا أن هذه النظرية تهاوت أمام حزب منفرد من تنظيمات المقاومة العربية، وعليه يمكن الإعتقاد أن ما حدث يُمثل تطوراً نوعياً بالغ الخطورة على تلك النظرية يؤذن بإمكانية نجاح العرب في مواجهة قادمة.
5. إن إرغام إسرائيل على الإنسحاب من الجنوب اللبناني عام 2000 تحت وطأة ضربات المقاومة وبفضل إلتفاف الشعب اللبناني بجميع طوائفه وتياراته حولها، كان بمثابة البشرى لنتائج حرب لبنان عام 2006، وأن ما تمخضت عنه هذه الحرب قد يعزز الأمل لدى البعض في انتصار ساحق على إسرائيل في المعارك القادمة، وأن ما تحقق يعزز خيار المقاومة والصمود أمام التعنت الإسرائيلي لصالح إجبار إسرائيل للإعتراف بالحقوق العربية.
6. الإعتماد المتزايد على سلاح المدرعات في المعارك البرية مع إعطاء دور ثانوي لسلاح المشاة. ومرد ذلك هو العقيدة العسكرية الإسرائيلية التي تعطي أولوية لتقليص عدد الإصابات في جنودها، وتحقيق نصر سريع عبر الحرب الخاطفة التي تعتمد على الحركة السريعة للمدرعات عبر وخلف خطوط الخصم تحت غطاء جوي ومدفعي.
7. افتقار الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية لمعلومات دقيقة عن إمكانات “حزب الله” ومراكز قيادته ونوعية أسلحته وتكتيكاته القتالية ومخازن أسلحته. فأحد أكبر انجازات الحزب، منذ نشأته، هو منع الاستخبارات الإسرائيلية من اختراق صفوفه، وحتى في حال نجاحاتها المحدودة على هذا الصعيد كان الجهاز الأمني للحزب يعالج المشكلة بسرعة ويفكك شبكات التجسس. فكل ما حصل منذ 12 تموز/ يوليو 2006، من تمكن المقاتلين من خطف الجنديين الإسرائيليين ومفاجأة البحرية الإسرائيلية بصاروخ موجه، وتمكنهم من الصمود على الجبهات وإلحاق خسائر في المدرعات وفشل الكوماندوس الإسرائيلي في تحقيق أية أهداف في عمليتي الإنزال في بعلبك وصور، وعدم تمكن إسرائيل من وقف إطلاق صواريخ الكاتيوشا على أراضيها، كل ذلك يعتبر من الناحية العسكرية إخفاقات استخباراتية كبيرة.
8. تأثير الإعتماد المتزايد على التكنولوجيا على القدرات القتالية لسلاح المشاة، خاصة عند فشل المدرعات في تحقيق السيطرة الكاملة على أرض المعركة خلال مواجهة خصم عنيد ومحترف مثل مقاتلي “حزب الله”. كما أن الجيش الاسرائيلي لم يخض أية حروب برية منذ اجتياح لبنان في عام 1982، وغالبية جنوده الذين هم من الاحتياط قد اعتادوا على حياة الترف والأمان. كما أن الجيش الاسرائيلي يفتقر اليوم للضباط والقادة المتمرسين من أبطال الحروب السابقة. فمعظم قادة الفرق في حرب 1982 كانوا من الضباط الذين حققوا انجازات عسكرية مهمة في حرب 1973.
9. عدم وضوح الأهداف الإستراتيجية للحرب، وهو ما بدا جلياً في التناقض المتكرر في تصريحات القادة العسكريين والمسؤولين السياسيين، حيث لم تحسم القيادة الإسرائيلية أمرها حول مدى عمق الهجوم (7 كلم أو حتى نهر الليطاني أو أبعد). كما أنها لم تحدد طبيعة مهمة قواتها بعد التوصل إلى إتفاق على وقف إطلاق النار خاصة مع التأكيدات بأنها لن تتحول إلى قوات احتلال. وأهم شيء أنه لم يتم تحديد ماهية النصر على “حزب الله”.
والواضح أن رئيس الحكومة الإسرائيلية سعى إلى نصر سياسي عبر قرار قوي من مجلس الأمن، في حين أن القيادة العسكرية كانت تبحث عن نصر عسكري حاسم يعيد للجيش هيبة الردع.
لقد أسقطت حرب لبنان كل المسلمات التي كرستها الحروب العربيه السابقة ومنها “الجيش الذي لا يقهر”، ومسلمة احتكار إسرائيل للمبادرة بالحرب، إلى قوة الردع الإسرائيلي، والإدعاء بأن الجبهة الداخلية متماسكة خلف جيشها المقاتل “جيش الشعب”.
إنها المرة الأولى التي توافق فيها إسرائيل على وقف إطلاق النار قبل الطرف العربي، حيث كانت إخفاقاتها وجيشها في هذه الحرب لا تعد ولا تحصى، فأصيبت بحالة من الذهول والتخبط، بل يمكن إعتبار الصدمة في القيادات الإسرائيلية العسكرية والسياسية أعنف الصدمات، فلطالما تغنت إسرائيل بقادتها ورسمت حولهم هالة من التفخيم والتقديس، وجعلت منهم الدعاية الصهيونية عبر العالم رموزاً للبطولة والتضحية والشجاعة، وإذا بالقناع يسقط عن وجوه هؤلاء القادة ويكتشف الشعب أنهم أشخاص عاديون وأقل من ذلك، وهم عديمو الخبرة والتجربة، قيادة عسكرية أعماها الغرور عاجزة عن فعل أي شيء وعدت بتحقيقه رغم ما لديها من قدرات وما يقع تحت أيديها من إمكانيات، رغم القوة النارية الكثيفة التي استعملها الجيش أثناء المعارك والتي قيل إنها تعادل أضعاف ما استعمله في حرب حزيران 1967، أو في حرب تشرين اول 1973، ورغم ذلك لم تستطع هذه القيادة تحقيق أي من أهداف هذه الحرب.
ولقد تجلت أوضح صور هذا الفشل أيضاً في مجموعة الركائز والأسس المتعلقه بنظرية الأمن وفي عقيدتها العسكرية وأبرزها:

  • الفشل في سياسة الردع.
  • الفشل في نقل المعركة إلى أرض “العدو” حيث استمر حزب الله في ضرب العمق الإسرائيلي طوال أيام الحرب، مما تسبب بضربةٍ قويةٍ لهيبة الجيش الإسرائيلي والمؤسسة الأمنية.
  • الفشل في تقصير أمد الحرب، رغم القوة التدميرية التي استخدمتها إسرائيل لضرب المدن اللبنانية طيلة أيام الحرب للضغط على حزب الله داخلياً حين عجزت عن الضغط عليه في ساحات المعارك.
  • وكان الفشل الأكبر في مؤسسة الإستخبارات التي عجزت عن تقدير قدرات وإمكانيات حزب الله، فقد تفاجأت إسرائيل من قدرة المقاومة على الصمود التي لم يظهر عليها الإعياء طيلة فترة الحرب، وكانت الصدمة الكبيرة في اكتشاف قدرة الحزب الإستخبارية والتحليلية لإستراتيجيات وتكتيكات بل وخطط الجيش أثناء المعارك، متجاوزاً كل التخطيطات الأمنية لمنع ذلك.
    لقد صدم العالم كما صدم المواطن في إسرائيل من حجم الفشل الذي كشفت عنه هذه الحرب، خاصة وأن الذي تسبب في هذا الفشل تنظيم لا يتعدى حجم أفراده عدة آلاف، مما ترتب على ذلك زلزال أطاح بعروش كبار القادة العسكريين حتى قبل أن تنتهي العمليات العسكرية، فتم إقالة ثلاثة قادة فرق، وقائد الجبهة الشمالي جنرال عوزي آدم أثناء فترة الحرب والتي اعتبرها المعلق العسكري في صحيفة “يديعوت أحرانوت” أليكس فيشمان مؤشراً على تخبط وعجز إسرائيل ومحاولة يائسة لإنقاذ الجيش من مأزقه، فيما اعتبرها زئيف شيف دلالة على الفشل العسكري في حرب لبنان، ثم استقالة رئيس الأركان دان حالوتس واستقالة قائد سلاح البحرية، ثم وزير الدفاع نفسه عمير بيرس. وقد وضعت نتائج هذه الحرب الدولة العبرية عامة ومؤسستها العسكرية خاصة في حالة من الحرج والإرباك الشديدين، إلى جانب ما اعترى ايهود أولمرت رئيس وزراء إسرائيل من حالة نفسية وإحباط شديد وخيبة أمل كبيرة بسبب عملية التضليل التي تعرض لها من قبل قيادة الجيش، التي أخبرته أنها أحكمت السيطرة على قرية “بنت جبيل” ليتضح فيما بعد أن جنود الاحتلال يتكبدون عشرات القتلى والجرحى نتيجة المعارك هناك، الأمر الذي دفع زئيف شيف إلى القول: إن “قوة إسرائيل الردعية قد تزعزعت في المعارك مع حزب الله”.
    لقد ألحقت المقاومة والصمود اللبناني تصدعاً جوهرياً في عنصر التفوق داخل البنية العسكرية للجيش الإسرائيلي إلى جانب إسقاط الهالة التي أحاط بها هذا الجيش نفسه طوال ما يزيد عن 50 عاماً، لذا فإن الهزيمة طالت الوعي العسكري لديه، وتمكن مقاتلو حزب الله من تكبيد جيش إسرائيل خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، فقد بلغ عدد القتلى من الجنود أكثر مما أعلنته إسرائيل رسمياً، أي ما يقارب 150 جندياً، فيما قدرت الخسائر المادية ما يقارب ملياراً ونصف المليار دولار عدا عن الأضرار في المنازل والممتلكات وفي قواعد الجيش.
    بل إن الحرب وصمود المقاومة في لبنان وفلسطين حولت الاهتمام من مفهوم الحرب الخاطفة، إلى مفهوم وإمكانية حرب طويلة الأمد تستنزف قدرات إسرائيل، تعتمد على أسلوب الإحتكاك المباشر على الأرض الأمر الذي لا يتميز فيه العنصر الإسرائيلي عن العنصر العربي.
    كما كانت حرب 2006 الأخيرة مجالاً حيوياً لاستثمار حزب الله سياسة الغموض البناء في حرب مفاجآت شكلت عنصر قوة أساسياً في إدارة المعركة مكّنته من اللعب بأعصاب عدوه. وبالتأكيد لم تكن هذه الإستراتيجية وليدة ساعة، بل تبين أنها مفهوم متجذّر في العقل العسكري للمقاومة.
    والمشكلة الكبرى التي شكلت علامة فارقة في تلك الحرب أن إسرائيل منذ الأيام الأولى للمعارك وفي ذروة محاولاتها استدراج حزب الله للكشف عن قدراته التسليحية، فإنها لم تكن تتوقع يوماً أن أهم بارجة حربية لها ستصاب بصواريخ يمتلكها حزب الله. وكل الكلام الإسرائيلي عن الحزب طوال السنوات التي سبقت حرب تموز 2006 لم يتطرق بجدية إلى إمكانية أن يحوز هذا التنظيم سلاح أرض – بحر من طراز “سي 802” المتطور، كما حُدِّد طرازه من جانب الإسرائيليين، حيث أن الحزب لم يقدم أي تعليق على نوعية الصواريخ التي استخدمها على رغم ما حققه من إنجازات. لم تجد القيادة الإسرائيلية وسيلة للتخفيف من وطأة الصدمة سوى الزعم أن خبراء إيرانيين هم الذين أداروا منظومة الصواريخ أرض – بحر هذه، باعتبار أنها من اختصاص جيوش عالية التدريب ولديها مهارات لا يمكن لأية قوة عسكرية غير نظامية أن تحوزها وتتعامل معها. لكن حتى هذا الكلام لا يصدقه الإسرائيليون في قرارة أنفسهم، فهو للاستهلاك المحلي للحد من أهمية إنجاز حزب الله. كرّت سبحة المفاجآت من الصواريخ أرض أرض ومداها الذي تجاوز ما بعد حيفا، إلى الصواريخ المضادة للدروع، وغيرها من المفاجآت، بحيث كانت التطبيقات الميدانية لإستراتيجية “الغموض البناء” ذات فعالية استثنائية في تسديد الضربات المؤلمة والقاتلة للجيش الإسرائيلي ولجبهته الداخلية وللعقل العسكري والأمني الإسرائيلي. “عبد الحسين شبيب، صحيفة”الاخبار “31/7/2007”.
    ولئن كان حزب الله قوة منظمة وممأسسة ويعرف ماذا يفعل، فإنه فاجأ الإسرائيليين أيضاً بأن تقنياته في إدارة الصراع تعمل حتى تحت النيران. فكثافة الغارات والقصف المتعدد الجبهات والعمليات العسكرية البرية أخفقت في دفع حزب الله إلى رمي أوراقه دفعة واحدة. وورد في الصحافة الإسرائيلية أن “الجيش الإسرائيلي أدار معارك استخبارية تكتيكية وراء الكواليس هدفت إلى استدراج السيد حسن نصر الله بشكل إستراتيجي ليعطي قواته أوامر باستخدام ما لديهم من أسلحة متطورة”، لكن هذه المعارك لم تفلح في دفع المقاومة إلى الكشف عما تخبئه وبقيت تحتفظ بزمام المبادرة في مفاجأة العدو، وانتهت الحرب وإسرائيل على قناعة بأن حزب الله لم يستخدم كل ما لديه من مفاجآت، لأنه يعمل بموجب قواعد صراع يحتل “الغموض البناء” مرتبة متقدمة في تقنياته، وهو ليس في وارد التخلّي عنها، لا بل إنه كما غذّاها في أثناء السلم فإنه كذلك حافظ على تماسكه وغذّاها بمزيد من الإشارات التي يعتقد الإسرائيليون أن الحزب تقصّد إرسالها إليهم أثناء الحرب لإشغال مخيلتهم وإشعال هواجسهم ومخاوفهم.
    وقد أعد معهد “رؤوت” الإسرائيلي للدراسات الإستراتيجية وثيقة دعت إلى الحاجة المستعجلة لإعادة النظر في النظرية العسكرية الأمنية الإسرائيلية على ضوء حرب لبنان، وجاء فيها “… عام 2006 أصيبت إسرائيل بثلاثة اخفاقات سياسية وعسكرية، عبر تجميد خطة الإنطواء في الضفة الغربية، وعدم نجاحها في غزة ولبنان، ونتائج حرب لبنان … هناك اتجاهات قوية لدى البعض تهدف إلى الوصول لتدمير إسرائيل من الداخل سواء عبر مواصلة السيطرة على الفلسطينيين في غزة والضفَة أو إخفاقات الولايات المتحدة في المنطقة، وبالهجوم على اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، ثم تنامي صورة إيران ومكانتها المعارضة لإسرائيل”.
    وما أن وضعت الحرب أوزارها حتى بدأ خبراء الإستراتيجية والأمن ينشغلون في تحليل نتائج الحرب وتداعياتها وانعكاسات كل ذلك على مستقبل الكيان ككل والذي أصبح في أزمة وجود، ويمكن توقع بعض الفرضيات التي سيطالها هؤلاء بالتحليل والدراسة ومنها:
    1- فرضية اعتبار أن النظام العربي عاجز عن مواجهة إسرائيل، وهذه الفرضية أنتجتها حالة العجز العربي طيلة عقود ماضية، ليأتي حزب الله ليواجه القوات الإسرائيلية في مواجهة لم يخطط لها جيداً ولم يستعد لها ويسجل صموداً عالياً.
    2- فرضية أن المقاومة انتقلت من مرحلة الدفاع عن النفس وردّات الفعل، إلى مرحلة المبادرة بالهجوم، فإسرائيل التي كانت تحضر وتجهز جيشها لهجوم خلال شهري 9-10 / 2006 أو بعد ذلك بقليل بهدف شطب حزب الله عن خارطه المنطقة، يبادرها الحزب بإفشال هذا المخطط، وبالهجوم في التوقيت الذي إرتآه هو، وبذلك ضرب بعرض الحائط ركيزة من ثوابت الأمن الإسرائيلي، ناهيك عما أحدثه ذلك من رفع الروح المعنوية لدى مقاتليه في حين بث روح المفاجأة والصدمة لدى الجيش الإسرائيلي. وبحسب مصادر غربية وإسرائيلية فإن هذه الحرب اندلعت بطريقة عشوائية نتيجة ردّات فعل متسرعة من رئيس الوزراء الذي يفتقر للخبرة العسكرية، كما هو حال وزير دفاعه عمير بيرس، وتضيف المصادر أنه على الرغم من أن إزالة خطر حزب الله ضمن التحضير لضربة محتملة لا يبدو أنه قد إتخذ منذ فترة طويلة، إلا أن إستراتيجية الحرب لم تكن قد وضعت بعد، وأن أولمرت إتخذ قرار الحرب بناء على معلومات استخبارية خاطئة حول حجم حزب الله وقدراته.
    3- فرضية قدرة سلاح الجو على حسم المعركة لصالح إسرائيل، في هذه الحرب لم يحالفه التوفيق على اعتبار أن حزب الله إعتمد أسلوب وتكتيك القتال المتقارب، وهو من أساليب حرب العصابات المتطورة، إلى جانب الفارق الموضوعي وهو التسليح الجيد لرجال المقاومة، وسرعة الحركة، والتدريب الممتاز والمعرفة الوثيقة بالأرض، يضاف إلى كل ذلك التعبئة المعنوية العالية الناجحة لحزب الله، فقد تمكن مقاتلو حزب الله من تحقيق نتائج مهمة في أرض المعركة تمثلت في حسن قراءة الهجوم الإسرائيلي البري، فتم التحضير له بشكل جيد، كما حسبت قيادته احتمالات إقدام إسرائيل على تدمير الجسور وطرق المواصلات وشبكات الإتصال، فقام بتزويد المجموعات المقاتلة والمنتشرة على التلال الإستراتيجية وفي القرى الأمامية بكميات من الذخائر والمؤن تكفي للصمود فترة طويلة، كما قام بحفر أنفاق يصل بعضها ببعض مما مكّن المقاتلين من تغيير مواقعهم بسرعة، إلى جانب حسن استخدام معركة الصواريخ المضادة للدروع والتي مكنت المقاتلين من تدمير وإعاقة العديد من دبابات الجيش الإسرائيلي وآلياته، فحرم من قدرة قوات المشاة على احتلال العديد من المواقع والتلال.
    إن القراءة المتأنية الخالية من أي روح إنهزامية مسبقة تؤكد أن إسرائيل ليست الأقوى وهي قابلة للهزيمة، في حال مواجهتها بقوة حقيقية حتى لو كانت على مستوى مقاتلين يتمتعون بالإرادة والتصميم على النصر.
    يقول يعقوب بيري أحد رؤساء جهاز الإستخبارات السابقين في حديث لإذاعة إسرائيل: إن هناك ما يدعو للقلق بسبب تدهور الأوضاع الأمنية، مما أدى إلى إلحاق ضربة كبيرة بمعنويات الإسرائيليين. إن عدد الفلسطينيين الذين سقطوا في الانتفاضة هو أضعاف عدد اليهود، ومع ذلك فإنه لم يظهر أحد من الفلسطينيين الرغبة في مغادرة بلاده، فكيف بهؤلاء الإنهزاميين يهربون على هذا النحو “مشيرا بذلك إلى آلاف الإسرائيليين الذين حزموا حقائبهم وهربوا من إسرائيل بإتجاه أوروبا وأمريكا”.
    وهنا نصل إلى استنتاج مفاده أن الصراع العربي الإسرائيلي لن يحسم عبر طريق المفاوضات فقط، بل إن إنهاءه يتطلب معالجة جذوره ومسبباته المتمثلة في استعادة الأرض العربية وحل قضايا اللاجئين والمياه والحدود والقدس، أي اعتراف إسرائيل الكامل بحق الشعب الفلسطيني المدعوم من الشرعية الدولية، والمتمثل في حقه في تقرير المصير على أرضه، وانسحاب إسرائيل من كامل الأرض العربية التي احتلت عام 1967، ودون ذلك على إسرائيل والعالم أن يتحملا مسؤولية بقاء المنطقة مرشحة لمزيد من عدم الاستقرار والافتقار إلى الأمن.
    حتى الآن لم يظهر في الأفق حل عادل للقضية الفلسطينية نتيجة التعنت الإسرائيلي والدعم الأمريكي لهذا التعنت، مما يترتب على الجانب العربي والفلسطيني خاصة إعادة النظر في خياراته واعتماد إستراتيجية بديلة للمفاوضات في حال الوصول إلى طريق مسدود في العملية السلمية، تأخذ في الإعتبار تدعيم خيار المقاومة الشعبية على حساب خيار المفاوضات، وحتى تدرك إسرائيل أن كل الاحتمالات والخيارات واردة أمام الفلسطينيين للوصول إلى حقوقهم، وما تمخضت عنه نتائج الحرب الأخيرة توصلنا إلى نتائج بالغة الأهمية على الصعيد الإستراتيجي لجهة مستقبل الصراع على المشروع الصهيوني، فبعد خمس حروب انتهت بنكسات وخسائر، وما بين الواحدة والأخرى كانت عمليات ومعارك خاضتها تنظيمات وأحزاب للمقاومة، يأتي الاستنباط الأهم من كل هذه الحروب والمواجهات، وهو أن إسرائيل تجيد الحرب المحوسبة القائمة على القتال عن بُعد، كالقصف المدفعي بعيد المدى عبر البر والبحر والجو، أو من داخل دبابة محكمة الإغلاق، أما حين يتعلق الأمر بحرب برية فإن هزيمة إسرائيل شبه مؤكدة، وتأكيداً لهذا الاحتمال نذكّر بمعركة الكرامة عام 1968 وحرب 1973 ومواجهات حزب الله الأخيرة، إضافة إلى مواجهات إسرائيل مع المقاومة الفلسطينية وفعاليات الانتفاضة، فالجندي الإسرائيلي ليس مؤهلاً للقتال البري فهو يعتمد أكثر على الآلية الإلكترونية لا على الروح القتالية.
    إن معالم النظرية الأمنية تتبدى في مقال للباحث الإستراتيجي ديفيد رودمان حول نظرية الأمن القومي الواردة بمجلة Middle East Review of International Affairs، حيث يوضح رودمان أن النظرية الأمنية الإسرائيلية قائمة على “ثمانية مفاهيم أمنية أساسية”، عملت حسب رأيه على “توجيه السلوك والتفكير الإسرائيلي على مدى عمر الدولة”، وهي الجغرافيا، القوة البشرية، الكم ضد الكيف، المناورة الهجومية، الردع، التهديدات التقليدية وغير التقليدية، الإعتماد على الذات، وأخيراً مساندة القوة العظمى. ولو تفحصنا كل مفهوم من هذه المفاهيم بعد كل هذه الحروب التي خاضتها إسرائيل ضد العرب، لوجدنا أن هناك تآكلاً غير مسبوق في هذه المفاهيم، فمسألة الجغرافيا سقطت باختراع القنبلة البشرية المتحركة، الاستشهادي أو الانتحاري، ثم أجهزت عليها الصواريخ البالستية العراقية أولاً ثم الصواريخ البدائية الفلسطينية وصواريخ حزب الله التقليدية، أما القوة البشرية فليست في صالح إسرائيل، وفيما يتعلق بالكم والكيف فتلك مسألة متعلقة بالإرادة، ويسهل التحكم بها، أما المناورات الهجومية فهذا مفهوم عسكري ليس حكراً على إسرائيل وحدها، وقد جربه العراق في التسعينيات، أما الردع ، فهو يقوم على بث “دعاية” إسرائيلية مكثفة لزراعة الروح الإنهزامية، بإعتبار أن لإسرائيل ما يكفي من قوة لتدمير العرب وإلحاق الهزيمة بهم، وقُل مثل ذلك عن مفهوم التهديدات التقليدية وغير التقليدية، أما قصة الإعتماد فينقضها بالكامل المفهوم الأخير وهو مساندة القوة العظمى.
    يتوقع العديد من المحللين العسكريين أن تغير حرب لبنان الأخيرة الكثير من النظريات والعقائد العسكرية في العالم. كما أنها ستدفع بالقوى الدولية لإعادة النظر في حقيقة موازين القوى وسبل قياسها. فـ “حزب الله” لم يفاجئ إسرائيل في حجم ترسانة صواريخه وتنوعها فحسب، بل فاجأها أيضاً بأسلوبه القتالي وتمكن مقاتليه على طول الجبهات الأمامية من الصمود لأكثر من ثلاثة أسابيع.
    وبحسب تصريحات المسؤولين العسكريين الإسرائيليين وتعليقات الخبراء الإستراتيجيين في الدولة العبرية، يواجه الجيش الإسرائيلي أزمة حقيقية في إستراتيجيته وتكتيكاته العسكرية نتيجة أسباب عدة أهمها:
  • إعتماد القيادة الإسرائيلية المفرط على سلاح الجو، ويعزو بعض الخبراء الإسرائيليين ذلك إلى كون قائد الأركان الإسرائيلي في حينه من سلاح الجو. لكن إعتماد إسرائيل على سلاح الجو لحسم المعركة على الأرض ليس بالأمر الجديد. كما أن إسرائيل أخذت تعتمد بشكل متزايد على سلاح جوها في مواجهة مقاتلي “حزب الله” منذ أواخر التسعينيات، ومرد ذلك هو العقيدة العسكرية الإسرائيلية التي تضع ضمن أولوياتها تقليص الإصابات في صفوف جنودها. كما أن النتائج المبهرة للقوات الجوية لحلف شمال الأطلسي في حرب كوسوفو، حيث حسمت الحرب من الجو وما تلاها من نتائج مذهلة للقوات الجوية الأميركية خلال حرب العراق، زاد من ثقة القيادة الإسرائيلية في إمكان إحراز نصر من الجو.
  • الاعتماد المتزايد على سلاح المدرعات في المعارك البرية مع إعطاء دور ثانوي لسلاح المشاة. ومرد ذلك هو أيضاً العقيدة العسكرية الإسرائيلية التي تعطي أولوية لتقليص عدد الإصابات بين جنودها وتحقيق نصر سريع عبر الحرب الخاطفة التي تعتمد على الحركة السريعة للمدرعات عبر وخلف خطوط الخصم تحت غطاء جوي ومدفعي.
  • افتقار الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية لمعلومات دقيقة عن إمكانات “حزب الله” ومراكز قيادته ونوعية أسلحته وتكتيكاته القتالية ومخازن أسلحته. فأحد أكبر إنجازات الحزب، منذ نشأته، هو منع الاستخبارات الإسرائيلية من اختراق صفوفه.
  • تأثير الإعتماد المتزايد على التكنولوجيا على القدرات القتالية لسلاح المشاة، خاصة عند فشل المدرعات في تحقيق السيطرة الكاملة على أرض المعركة خلال مواجهة خصم عنيد ومحترف. كما أن الجيش الاسرائيلي لم يخض أية حروب برية منذ اجتياح لبنان العام 1982، وغالبية جنوده الذين هم من الاحتياط قد اعتادوا على حياة الترف والأمان.
    أما “حزب الله” فقد قام مقاتلوه بانجازات مهمة تمثلت بحسن قراءته للهجوم الاسرائيلي البري والتحضير له بشكل جيد. فقد أثبت صمود مقاتليه على الجبهات الأمامية أن القيادة قد حسبت الأمور بدقة، إذ أنها توقعت قيام إسرائيل بتدمير الجسور وطرق المواصلات وخطوط الاتصال، فزودت الفصائل المنتشرة على التلال الإستراتيجية والقرى الأمامية بكميات من الذخائر والمؤن تكفيها للصمود فترة طويلة لا يبدو أن أحداً يعلم مداها، كما أن الحزب كان قد حفر أنفاقاً تصل مواقع عدة مع بعضها البعض مما يمكن المقاتلين من تغيير مواقعهم بسرعة أو نقل المؤن والذخائر عند الحاجة. وخبرة السنوات الماضية جعلت مقاتلي الحزب مدركين جيداً لتضاريس المنطقة خاصة تلك التلال الإستراتيجية التي ستحاول إسرائيل السيطرة عليها أولاً.
    كما أن حسن استخدام الصواريخ التكتيكية المضادة للدروع ووضعها في نقاط استراتيجية مكنت المقاتلين من تدمير المدرعات الإسرائيلية وشل حركتها، مما منع سلاح المشاة الإسرائيلي من احتلال الكثير من المواقع المهمة على الأرض. ولم ينجح التكتيك الإسرائيلي القديم بمحاصرة القرى وقصفها بعنف لبضعة أيام، ومن ثم اقتحامها بالمدرعات التي يتبعها المشاة، اذ أن مقاتلي “حزب الله” احتموا في أماكن عدة داخل وخارج القرى وانتظروا تقدم العدو باتجاههم والاشتباك معه. وعليه، فإن مقاتلي الحزب خاضوا المعركة البرية ضمن شروطهم وفي المواقع التي اختاروها مسبقاً الأمر الذي يبدو أنه أربك القوات الإسرائيلية وأعاق تقدمها. وأهم ما يملكه عناصر “حزب الله” هو الإيمان بقضيتهم وعزيمتهم على القتال حتى الشهادة أو النصر في معركة ضد عدو درب فيه الجنود والضباط على مبدأ أن الأولوية هي لسلامتهم.
    إستراتيجية حزب الله العسكرية (الغموض البنّاء)
    تشكل إستراتيجية “الغموض البنّاء” واحدة من التقنيات الفعالة في إدارة الصراعات، سواء الديبلوماسية أو العسكرية. وتعد أبرز التطبيقات الراهنة لها تلك التي تعتمدها إسرائيل في شأن قدراتها النووية منذ عشرات السنين، والتي صاغتها ضمن نظريتها الأمنية القومية، ولا تزال تعتنقها حتى اليوم. ولم تصدر حتى الآن أية توصيات بالتخلي عنها على رغم المراجعات التي جرت للنظرية. وتظهر وقائع المواجهة بين إسرائيل وحزب الله أن الأخير أدار مقاومته ضمن نظرية أمنية عسكرية، حيث لا توجد نصوص أو وثائق مكتوبة أو تصريحات رسمية تتحدث عن تقنيات الحزب في الحرب مع إسرائيل وتفصح عن عناصر نظريته، لكن تحليل مجموعة من المعطيات المنشورة يؤدي إلى تكوين تصور “غير رسمي” عنها.
    ربما هي المرة الأولى التي تخوض فيها قوة شعبية – ليست دولة صراعاً مفتوحاً مع دولة تستخدم أساليب تفكير الدول. وعلى الرغم من أنها مهمة شاقة، نجح حزب الله مع مرور الزمن في مأسسة عمله والمزج بين نمطي الدول والتنظيمات، وأصبحت لديه مجموعة من المفاهيم العسكرية والأمنية التي تشكل عناصر نظرية “قومية” خاصة يدير بموجبها مواجهته مع إسرائيل حصراً، لأنها هي العدو الأول الذي صاغ الحزب له تقنيات المواجهة هذه.
    أتقن حزب الله بمستوى ممتاز استخدام إستراتيجية “الغـموض البناء”، وقد ساهم توافر شروطها في تحقيق نتائج باهرة. أبرز هذه الشروط هو “السياج الأمني الحديدي” حول المعلومات. وفي هذا السياق لا توجد إمكانية عملية لتطبيق هذه التقنية إذا كان هناك تسيّب أو تسرّب معلوماتي أو اختراق أمني، فالتكتّم الصارم هو العنصر الأول في تحقيق الغموض، وإلى جانب الإنضباطية العالية والسرية التي تحيط بها المقاومة حركتها اللوجستية الداخلية، فإن إحباط النشاط الإستخباري الإسرائيلي المعلوماتي هو العمل الوقائي الضروري لتوفير بيئة فاعلة للغموض.
    فقبيل اندحار عام ألفين خارت قوة الاستخبارات الإسرائيلية بعدما سددت لها قوة المقاومة الأمنية ضربات مؤلمة أفقدتها القدرة على التنفيذ فضلاً عن التقصّي والاستعلام. كان ذلك أحد الإنجازات البارزة لحزب الله وساعده كثيراً على تطوير أداءه العسكري.
    الشرط الثاني هو الإدارة الذكية والمنضبطة لإستراتيجية “الغموض البناء”، إذ ليس هناك فوضى في التصريح عن الموضوعات العسكرية للمقاومة. وإذا اقتضى الأمر يتم ذلك عبر بيان مكتوب صادر عن جهة مختصة أو عبر شخص واحد هو الأمين العام لحزب الله. هذه الدائرة الضيقة لإخراج المعلومات تختار عباراتها بعناية فائقة، وتختار التوقيت المناسب لبثّ المعلومات التي تكون عادة محدودة وذات مغزى، وتساهم في زيادة منسوب الغموض وفعاليته في آن، ما يعني أن الغموض ليس قائماً على التكتم فحسب، بل أحياناً يؤدي التصريح المدروس إلى غموض بنّاء أكبر.
    هناك نموذجان في هذا المجال: الأول هو الخطاب الذي ألقاه الأمين العام السيد حسن نصر الله في احتفال الخامس والعشرين من أيار عام 2005 في بنت جبيل، وكشف فيه بعض المعطيات العسكرية المتعلقة بالمقاومة الإسلامية، ليقدم جرعتين من “الغموض البناء” أعطاهما للإسرائيليين: في الأولى عدَّد صواريخ الحزب بأكثر من 12 ألفاً، وفي الثانية مداها على الأقل يشمل مساحة الشمال الفلسطيني بجميع المنشآت الحيوية الإسرائيلية العسكرية والمدنية.
    معنى ذلك أن الحد الأدنى لكمية القوة الصاروخية هو 12 ألف صاروخ، وأن الحد الأدنى لمداها هو شمال فلسطين، لكن هل كان ما تبحث عنه إسرائيل هو الحد الأدنى؟
    الثاني هو خطاب “النصر الإلهي” الذي ألقاه في الثاني والعشرين من أيلول عام 2006، بعيد الهزيمة الإسرائيلية في حرب تموز. قال السيد نصر الله إن المقاومة باتت بعد الحرب تملك أكثر من عشرين ألف صاروخ. أما المدى فلم يتحدث عنه، لأن الحد الأدنى لمدى هذه الصواريخ اكتشفه الإسرائيليون طوال ثلاثة وثلاثين يوماً من الحرب.
    هذان هما الخطابان الحصريان للحزب اللذان يكشف فيهما عن معطيات عسكرية تزيد من جرعة الغموض لدى الإسرائيليين بدل أن تبدده. إضافة إلى ذلك هناك حديث ثالث ومقتّر يتعلق بقدرة عسكرية جوية للمقاومة عندما أطلقت طائرة “مرصاد 1” الاستطلاعية فوق الشمال الفلسطيني وعادت إلى قواعدها سالمة.
    كانت تلك الخطوة رسالة ميدانية بليغة، وبمعزل عن أن الطائرة كانت حينها رداً على الانتهاكات الإسرائيلية للسيادة اللبنانية وأسلوباً جديداً وغير متوقع في الرد عليها، فإنها نقلت التخبّط الإسرائيلي حول قدرة حزب الله إلى مجالات أخرى. كان البحث سابقاً يتعلق بالقوة الصاروخية، فأُضيف إليه سلاح آخر لديه قوة تدميرية أيضاً، ما فتح نقاشاً إسرائيلياً جديداً حول بحث حزب الله عن أسلحة إضافية تزيد قوته العسكرية. فبين الصواريخ والطائرة الاستطلاعية سيعتقد الإسرائيليون لا محالة أن هناك جهداً غير عادي للمقاومة في تطوير قدراتها.
    هذان النموذجان (خطاب بنت جبيل 2000، وخطاب الضاحية الجنوبية لبيروت 2006) يشكلان نصوصاً رسمية لحزب الله حول قدراته العسكرية، ويعدان نموذجاً لتغذية إستراتيجية “الغموض البناء” عبر التصريح الموقت والمدروس.
    الشرط الآخر لنجاح هذه الاستراتيجية هو عدم الإنفعال والوقوع في فخ الإستدراج. وهذه هي الوسيلة الوحيدة التي تبقت لدى الإسرائيليين لتحصيل المعلومات عن إمكانات المقاومة القتالية والتجهيزية بعد فشل شبكاتهم الأمنية. حاولت إسرائيل طوال السنوات الماضية أن تستدرج حزب الله إلى الكشف عن ترسانته، وبثّت لهذه الغاية تقارير استخبارية وتصريحات مكثفة لكبار المسؤولين عن صواريخ الحزب: عددها ونوعيتها ومداها ومصدرها، وأسهبت في الحديث عن خطوط جوية بين طهران ودمشق وبيروت وسيناريوهات لا تعد ولا تحصى، لكنها لم تقدم يوماً صورة أو وثيقة تؤكد صحة ما تسرّبه.
    على سبيل المثال، نقلت الإذاعة العامة الإسرائيلية في تموز 2004، تصريحاً لرئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية آنذاك الجنرال أهارون زئيفي“فركش” قال فيه: “إن حزب الله يمكنه أن يطلق صواريخ على منطقة تل أبيب وأنه يمتلك عشرات الصواريخ التي يبلغ مداها 105 كيلومترات أو 205 كيلو مترات”.
    وأحدث تقرير في هذا الشأن ما ذكرته صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية في شباط الماضي نقلاً عن أجهزة استخبارات غربية، جاء فيه “أن الحكومة الإيرانية (لا حزب الله هذه المرة) تعتزم أن تنصب صواريخ أرض أرض من طراز”فاتح 110″ الذي يحتوي على جهاز توجيه يجعله أكثر دقة ويراوح مداه بين 170كلم و250 كلم.
    وهناك العديد من التصريحات الإسرائيلية الموجهة إلى حزب الله والتي يمكن أن تصيبه بالغرور من خلال المبالغة في تصويره وكأنه أصبح قوة إقليمية لا محلية. وهناك أيضاً تصريحات تهوّن من هذه القوة وتحاول التقليل من أهميتها وتسعى لإصابة الخصم بالإحباط. كلا الأمرين لم ينفعا مع الحزب: لا المبالغة ولا التهوين. على العكس استثمر حزب الله جيداً هذه التسريبات ولم يصدر منه أي تعليق لا نفياً ولا تأكيداً، رافعاً وتيرة القلق الإسرائيلي إلى منسوبها الأعلى، فأوقع حزب الله إسرائيل في الفخ الذي نصبته له.
    وهناك تقارير وتصريحات إسرائيلية كانت تقول إن حزب الله يدرّب الفلسطينيين إبان الانتفاضة الثانية على تصنيع صواريخ وأسلحة هجومية ويتواصل معهم بطرق مختلفة. كذلك فإن نجاح الفلسطينيين في تصنيع صواريخ محلية يبلغ مداها أكثر من خمسة عشر كيلومتراً، ولها قوة تدميرية جيدة على الرغم من أنهم محاصرون وورش الحدادة الخاصة بهم تُستهدف يومياً بالغارات الإسرائيلية في قطاع غزة، سيجعل من البديهي وفق التفكير الإسرائيلي أن يقوم حزب الله الذي يسرح ويمرح على طول الأراضي اللبنانية حسب التعبيرات الإسرائيلية، بتجيير هذه المهمة لنفسه معززاً بذلك من قوته؟
    هكذا نجح حزب الله في صياغة الجهل الإسرائيلي لقدراته ضمن نظرية أتقن تطبيقها بشكل لربما لم تستطع معه إسرائيل أن تطبق النظريات الإستراتيجية التي صاغتها على مدى حروبها. طبعاً، لا يصلح “الغموض البنّاء” في مجال اختراع إمكانات وهمية لأغراض الدعاية والتهويل. بهذا المعنى فإن المقاومة تتكتّم على قدراتها الحقيقية، من أجل أن تكون فعالة أكثر، ولا تدّعي قدرات دعائية. على أن الشرط التطبيقي لهذه الإستراتيجية هو أن يكون هناك “بنك أهداف”، غير معلن طبعاً، تطاله نيران المقاومة وتلحق به الخسائر المادية والمعنوية المستهدفة.
    كانت حرب تموز 2006 مجالاً حيوياً لاستثمار حزب الله غموضه البناء في حرب مفاجآت، شكلت عنصر قوة أساسياً في إدارة المعركة مكّنته من اللعب بأعصاب العدو. وبالتأكيد لم تكن هذه الإستراتيجية وليدة لحظة اضطرارية، بل تبين أنها مفهوم متجذّر في العقل العسكري للمقاومة.
    لا بد أن القيادة العسكرية الإسرائيلية تعيد اليوم تقويم الموقف العسكري على الأرض وتحاول تحديد إستراتيجية وأهداف الحرب التي بات معروفاً أنها ذات أبعاد إقليمية ودولية. كما أنها تدرس إمكان تعبئة المزيد من جنود الاحتياط، إذ أن إسرائيل أرسلت إلى الجبهة عشرة آلاف جندي من أصل نصف مليون يمكن لها أن تحشدهم إذا شاءت. لكن ما بات واضحاً هو أن حربها هذه لا يمكن حسمها من الجو، وأن هجومها البري سيحتم عليها الزج بالمشاة بشكل أكبر، مما يعني خسائر كبيرة في صفوف جنودها. كما أن بروز فعالية الصواريخ الحديثة المضادة للدروع يضع علامات استفهام حول العقيدة العسكرية في إسرائيل والجيوش الغربية التي تعتمد بشكل كبير على القوى الجوية وأسلحة المدرعات.
    وتجدر الإشارة هنا إلى أن إيران وسورية قامتا في العقد الأخير بتجهيز قواتهما البرية بكميات كبيرة من هذه الصواريخ، خاصة تلك المزودة بحشوات مزدوجة قادرة على تدمير معظم الدروع الحديثة. ولا بد أن القيادة السورية، التي يملك جيشها أنواعاً عدة من الصواريخ الروسية المضادة للدروع أهمها صاروخ “كورنت” الموجه باللايزر، تنظر بإهتمام كبير لنتائج المعارك البرية في جنوب لبنان وتتحضر لما قد ينتظرها قريباً في حال فشلت في استعادة الجولان عن طريق المفاوضات السياسية.
    إن إسرائيل يجب أن تعي جيداً الدرس الذي يطرحه انسحابها من الجنوب اللبناني، وعليها أن تدرك أن أمنها وسلامتها يتوقفان على إلتزامها بقرارات الشرعية الدولية وبالذات 242 و338 ومرجعية مدريد ومبدأ الأرض مقابل السلام، التي تعني انسحابها من جميع الأراضي العربية المحتلة في فلسطين ومن الجولان حتى خط الرابع من حزيران، ومن مزارع شبعا في لبنان، وأن تعترف بحق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، وفقاً لقرارات الأمم المتحدة.
    الحرب القادمة
    لم يعد ما يجري اليوم في إسرائيل يقتصر على دراسة أسباب الفشل والاستفادة من عِبَره، فقد تعدت ذلك المؤسسة الأمنية الإسرائيلية منذ فترة ووضعت خطة شاملة تعالج عملية بناء القوة في الجيش الإسرائيلي لا تتجاوب فقط مع “الخطر الإيراني” والمقاومة الفلسطينية، كما كان عليه الوضع في السنوات الطويلة الماضية، وإنما أيضاً وأساساً لإعداد الجيش الإسرائيلي للحرب في الجبهة الشمالية التي تضم سوريا وحزب الله.
    فالدلائل المتعلقة ببناء القوة في الجيش الإسرائيلي وتخصيص الميزانيات الملائمة لذلك، تشير إلى أن المؤسسة الأمنية وفق تلك الخطة أعادت ترتيب أولويات بناء القوة في الجيش بما يضمن تسليحه بالمعدات والذخيرة والقيام بالتدريبات لإعداده لخوض حرب ضد سوريا وحزب الله.
    وتسعى المؤسسة بجهد وقوة لأن تصل في أسرع وقت ممكن إلى وضع يكون الجيش الإسرائيلي فيه جاهزاً ومستعداً لهذه الحرب.
    فالرغبة لدى “الوحش الجريح” في الحرب واستعادة قدرته الردعية ضد سوريا وحزب الله مرتفعة للغاية، وما يمكن أن يثنيه عن الإقدام على الحرب هو الثمن الذي قد يلحق به من الخسائر.
    القسم الثاني: استحقاقات الحرب السادسة!
    بصرف النظر عن النتيجة التي آلت إليها المواجهة التي اشتعلت بين حزب الله وإسرائيل، فالمؤكد أن “الحرب السادسة” تتمخض عن إعادة النظر في كثير من المسلمات التي حكمت ميكانيزمات الصراع العربي الإسرائيلي، حيث ينشغل المفكرون الإستراتيجيون، ومنظرو النظرية الأمنية الإسرائيلية، في تحليل نتائج هذه الحرب، والتحولات التي أحدثتها، وفي ما يلي بعض المحطات التي نعتقد أنها ستكون مدار بحث وتأمل طويلين بعد انتهاء هذه المواجهة:
    أولاً: ستُحدث هذه الحرب تغيراً كبيراً في النظرية الأمنية الإسرائيلية التي اعتمدت طيلة عقود على ثوابت معينة أنتجتها حالة الإمتثال والعجز العربي، عن مدى “قدرة” العرب واستعدادهم على خوض حرب جديدة مع إسرائيل، وهي “فرضية” اعتمدت عليها إسرائيل في بناء إستراتيجيتها الأمنية، باعتبار أن النظام العربي الرسمي أعلن “استسلامه” التام للقدر الإسرائيلي، ولا يمكن أن يفكر أي نظام عربي رسمي بخوض حرب ضد إسرائيل، ليأتي حزب الله ويخوض هذه الحرب، ويحقق فيها انجازات كبيرة تحسب لصالحه.
    ثانياً: لوحظ أن المقاومة انتقلت من مرحلة الدفاع عن النفس وردّات الفعل إلى مرحلة من المبادأة والمبادرة، واختيار التوقيت المناسب لها، حيث بادرت المقاومة اللبنانية ممثلة بحزب الله إلى شن عملية فدائية داخل الأراضي الفلسطينية الخاضعة للسيادة الإسرائيلية، وأسر جنديين إسرائيليين، مع توقعها المؤكد أنها بهذا العمل ستدفع إسرائيل للجنون والتحرك على نحو فوري لتثأر لإذلالها، وهذا ما أكده السيد حسن نصر الله في كلمته التي بثها تلفزيون “المنار”، حيث كشف أن استخبارات حزب الله توصلت إلى معلومات تؤكد أن إسرائيل كانت في صدد شن هجوم شامل على لبنان خلال شهرين في أيلول أو تشرين أول 2006 أو أكثر بقليل، لشطب حزب الله عن الخارطة، ليأتي حزب الله ويفشل هذا المخطط الإسرائيلي، ويبادر إلى الفعل، في حين أن إسرائيل اعتادت أن تختار الزمان والمكان لتحسم معاركها مع العرب، دون أن تواجه بأية مقاومة حقيقية، خاصة في تلك العمليات الكبرى التي تستهدف تدمير منشآت أو تصفية أشخاص معينين، إن المقاومة اللبنانية في مبادأتها إسرائيل ضربت عرض الحائط بثابت من ثوابت النظرية الأمنية الإسرائيلية، فضلاً عن أنها عززت من الروح المعنوية العربية، بغض النظر عن تلك الأصوات التي تقلل من النتائج التي حققها صمود حزب الله وإيقاعه خسائر فادحة بالقوات والمعنويات الإسرائيلية، ووصول صواريخه إلى العمق الإسرائيلي على نحو هز كثيراً من الثوابت في هذه المنطقة!
    ثالثاً: سلاح الجو الإسرائيلي اعتمد نظرية الحرب عبر القصف الجوي مثلما حدث في حرب عام 1967، وهذه الحرب كان لها ثمار معروفة، لكن هذه النظرية لم تكن موفقة في هذه المرة.
    هل يمكن القول بأن هذه الحرب لا تصلح لأي مكان ولأي زمان، بحيث اعتمد رجال المقاومة تكتيكاً ناجحاً جداً وهو القتال المتقارب كأحد أساليب حرب العصابات المطورة، فقد كان رجال المقاومة يقاتلون ولا يختفون عن الساحة إلا لأوقات قصيرة جداً.
    لكن الفارق الموضوعي هو التسليح الجيد لرجال المقاومة وسرعة الحركة والتدريب الممتاز والمعرفة الوثيقة بالأرض، يضاف إلى ذلك التعبئة المعنوية، أي أن الجماعة التي تقاتل مؤمنة بالقتال، فمثلاً مواجهة جندي مجهز بسلاح مضاد للدبابات لدبابة إسرائيلية متطورة وهو قادر على تدميرها لأنه يمتلك الخبرة الكافية لمواجهتها، في هذه الحالة يختفي سلاح الطيران وسلاح المدفعية، ويبقى طرفان أحدهما مدرب جيداً، والثاني قد أُوتي به للقتال في هذه الأرض الغريبة عليه ولا يمتلك العقيدة القتالية.
    لقد سددت هذه الحرب ضربة إلى نظرية الأمن الإسرائيلي التي تصور أن العنف الإسرائيلي لا يمكن النيل منه، ووجهت ضربة إلى الكثير من القواعد والنظريات الإسرائيلية منها نقل القتال إلى أرض الخصم والمواجهة المفاجئة، وأبرز ما حدث في هذه الحرب أن أسطورة الجيش الإسرئيلي الذي لا يُقهر قد اهتزت، بصورة كبيرة، كما أنها قدمت للأنظمة والشعوب العربية نموذجاً جديداً للمقاومة.
    رابعاً: من الملاحظات التي لفتت النظر أيضاً مبادرة وزيرة خارجية الولايات المتحدة ألامريكية إلى التحدث بإسم إسرائيل “مباشرة” حتى أننا لم نعد نعرف من يتحدث، تسفي ليفني وزيرة خارجية إسرائيل أم كوندا ليزا رايس، وهي حالة فريدة، لها أكثر من بعد، فهي تظهر حالة من الضعف الإسرائيلي، ربما تستاء منها إسرائيل نفسها، لجهة أنها تنتقص من “سيادتها” التي تتبجح بها، ولتقول للعالم كله إن إسرائيل ليست أكثر من ولاية أمريكية دون أي ماكياج أو محسنات سياسية كاذبة، وهو ما يعطي مصداقية للخطاب العربي الذي لم يزل يتمسك بكون إسرائيل معسكراً متقدماً للاستعمار الغربي، وليست دولة “شرق أوسطية (!)” ولن تكون بحال من الأحوال جزءاً من المنطقة العربية.
    هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى هناك ما يلفت النظر وهو مسارعة رايس نفسها إلى اعتبار العدوان الإسرائيلي على لبنان بمثابة إطلاق رصاصة البدء لبناء “الشرق الأوسط الجديد” مثيرة بذلك سخرية غير مسبوقة، حيث يذكرنا هذا الموقف بالكتب التي تتخذ عناوين من مثل: كيف تتعلم الطبخ في أربع وعشرين ساعة، أو تعلم الإنجليزية في ست ساعات، وكأن رايس تقول: كيف نبني الشرق الأوسط الجديد في أربع وعشرين ساعة!
    هذا إذا أخذنا تصريحها على محمل السطحية والسذاجة، أما إذا استنبطناه وغُصنا في أعماقه، فهو يؤكد النظرية التي تقول إن هناك مخططاً لإدخال المنطقة كلها في العصر الأمريكي، عبر القضاء على حركات المقاومة و“خصي” الأمة برمتها، ولهذا لا بد من إزالة أية معوقات تقف في طريق هذا المخطط!!
    خامساً وأخيراً: يبدو أننا سنشهد حركة دؤوبة لاستمالة سوريا في المرحلة القادمة، لإخراجها من المحور الذي يتحدثون عنه بكثافة: (محور الشر).
    إن القراءة المتأنية للمواجهة بين إسرائيل وحزب الله توصلنا إلى نتائج بالغة الأهمية على الصعيد الإستراتيجي، لجهة مستقبل الصراع مع المشروع الاستعماري الإسرائيلي ولو من الناحية النظرية، فبعد خمسة حروب رئيسة، حرب العام 1948 التي انتهت بنكبة، وحرب 1956 التي انتهت بتدخل الدول العظمى وفض النزاع، وحرب 1967 التي انتهت بنكسة، وحرب 1973 التي انتهت بنصف انتصار عربي، وحرب 1982 التي انتهت بخروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، وما بين هذه الحرب وتلك كان ثمة معارك، خاضتها شعوب وتنظيمات وأجزاء من الجيوش، ومن ذلك معركة الكرامة البرية، ومعارك حزب الله التي انتهت بجلاء الاحتلال الإسرائيلي من الجنوب اللبناني، وإضافة إلى هذا وذاك، كان ثمة حرب من نوع آخر، حرب شوارع ومواجهات يومية سلمية ومسلحة، أطلق عليها إسم الانتفاضة، هذا اللون من الصراع الذي تنبأ أحد المؤرخين الإسرائيليين بأن يكون هو شكل الحروب المتوقعة بين العرب وإسرائيل، ليأتي حزب الله بعد ذلك ويكسر هذه النظرية ويخوض الحرب السادسة، حرب من نوع جديد؛ حرب بين جيش نظامي ورجال عصابات، وكي لا ننسى شيئاً، كان ثمة نوع من المواجهة التي عبرت عن نفسها بما يشبه الحاصل الآن بين حزب الله وإسرائيل، وهي ضرب العراق لإسرائيل بالصواريخ.
    الاستخلاص الأهم من كل هذه الحروب أن إسرائيل “تجيد” الحرب المحوسبة، القائمة على القتال عن بعد؛ طيران، قصف مدفعي بعيد المدى عبر البر والبحر، أو قتال في أرض خالية من السلاح المؤثر من داخل الدبابات محكمة الإغلاق، أما حين يتعلق الأمر بالبر فهزيمة إسرائيل شبه مؤكدة، هذا إن جرت المواجهة وفق أسس حربية حقيقية من دون كذب وتآمر وانسحابات غير مبررة عسكرياً، ولعل أكثر الأمثلة وضوحاً على ما ندعي: معركة الكرامة 1968، وحرب 1973 ومواجهات حزب الله الأخيرة لاحتلال قرية صغيرة تبعد عن الحدود اللبنانية ما يزيد على الكيلو متر بقليل، إضافة إلى مواجهات إسرائيل مع المقاومة اللبنانية والفلسطينية في العام 1982، ومواجهاتها مع المقاومين الفلسطينيين في سياق الانتفاضات المتعددة، ما يعني أن الجندي الإسرائيلي ليس مؤهلاً للقتال البري، وأنه يعتمد أكثر على الآلية التكنولوجية لا القتالية.
    القسم الثالث: قراءة في تقرير لجنة “فينوغراد”
    زلزال في قلب إسرائيل واعتراف رسمي بالهزيمة.
    استقالة فورية، أنهوا حياتهم المهنية، الجميع مذنب، على أولمرت أن ينصرف، غير مؤهلين للحرب القادمة، السؤال هو فقط متى؟
    تلك كانت أبرز تعليقات الصحف الصهيونية الصادرة عقب نشر تقرير لجنة فينوغراد عن الحرب في لبنان في الأول من مايو الماضي، والذي اعتبره بعض المراقبين بمثابة الزلزال الداخلي في الكيان الصهيوني بما رتبه من نتائج كان أبرزها وأهمها على الإطلاق أنه جاء بمثابة اعتراف رسمي موثق بالهزيمة الإسرائيلية العسكرية والسياسية الكاملة، والإعتراف الجريء بهشاشة الجيش الإسرائيلي الذي يستخدمه البعض كفزاعة لإخافة الشعب العربي لتحقيق أهداف سياسية، والتغطية على العجز العربي الرسمي وتقديم تنازلات لا مبرر لها.
    أما ثاني الاستنتاجات فهو انهيار نظرية الأمن الإسرائيلية، بعد أن استطاعت قوات حزب الله التي هي في الأساس وبحكم تركيبتها العسكرية قوات حرب عصابات لا تمتلك سوى صواريخ الكاتيوشا محدودة المدى والتأثير، تلك القوات التي لا تتعدى بضعة آلاف من العناصر جيدة القدرات استطاعت هدم نظرية الأمن الصهيونية، وأثبتت مدى هشاشة الجيش الإسرائيلي وإمكانية هزيمته بسهولة في أي مواجهة مستقبلية بحسب اعتراف المحللين العسكريين.
    كما كشف التقرير عن البطن الرخو لإسرائيل بعد انهيار الروح المعنوية وحالة الفزع والرعب التي أصابت إسرائيل نتيجة ضربات حزب الله الموجعة للعمق الإسرائيلي بصواريخ الكاتيوشا وأخواتها، وقدرة حزب الله على الصمود بل تقديم صورة مشرفة في المواجهة البرية التي تمت خلال الحرب التي دامت أكثر من شهر، وهو الانهيار الذي طال كافة جوانب الحياة في إسرائيل، وأصاب أجهزتها العسكرية والمدنية في مقتل، وهو ما رصده تقرير فينوغراد بالتفصيل الممل فيما وصفه بانهيار الجبهة الداخلية.
    وجاء التركيز الأخطر والأهم على عجز القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية، ممثلة في رئيس الوزراء إيهود أولمرت ووزير الدفاع آنذاك عمير بيرتس ورئيس الأركان دان حالوتس المستقيلين، عن فهم تعقيدات الوضع من الناحيتين السياسية والعسكرية وعدم قدرتهما على تقدير مدى العجز الذي يعاني منه الجيش الإسرائيلي والإخفاق في التوصل إلى قدرة حزب الله الحقيقية في إذلال إسرائيل، وهو ما يطرح علامات استفهام حقيقية حول جدوى المبادرات السلمية التي تلقى مجاناً من الجانب العربي هنا وهناك، فطالما أن هؤلاء القادة الإسرائيليين لا يستطيعون قيادة دولتهم وفرض تصوراتهم في الداخل الإسرائيلي، فما هي حدود قدرتهم على الدخول في مشاريع تسوية؟
    وعند هذا القدر يجب مناقشة أهم ما جاء في تقرير لجنة فينوغراد الذي غطى الأسبوع الأول فقط من الحرب التي دامت 34 يوماً، حيث حمل التقرير القيادة السياسية والعسكرية مسؤولية الكارثة التي أحاقت بإسرائيل خلال تلك الحرب، وحمّل بيرتس وأولمرت وحالوتس مسؤولية الفشل الإسرائيلي الذريع ضد قوات حزب الله.
    ووفقاً للتقرير المبدئي وتحديد مهمة عمل اللجنة ودورها وحدود هذا الدور جاء في الفقرة الثانية أن: صلب التقرير الجزئي هو فحص مفصل للقرارات على المستويات العليا المتعلقة بشن الحرب بدءاً بقرار الحكومة المصادقة على رد عسكري جاء في ذات المساء المصيري في أعقاب حادث الاختطاف في صباح يوم 12تموز/ يوليو وحتى خطاب رئيس الوزراء في الكنيست والذي عرضت فيه العملية وأهدافها في 17تموز/ يوليو2006، هذه القرارات كانت حرجة وتأسيسية، وعليه فإنها جديرة بفحص متفرد، وجدير بالذكر أن هذه القرارات تمتعت بتأييد واسع سواء في الحكومة أو بين الجمهور وفي الكنيست خلال تلك الفترة.
    ويقول التقرير في فقرته التاسعة: إنه ورغم ذلك فإننا نقضي بأن هذه القرارات وطريقة اتخاذها عانت من إخفاقات غاية في الخطورة، ونحن نلقي بأساس المسؤولية على رئيس الوزراء ووزير الدفاع ورئيس الأركان في حينه لثلاث تهم كانت مساهمة شخصية حاسمة في هذه القرارات وشكل اتخاذها، ومع ذلك فإن المسؤولية عن الإخفاقات التي وجدت في القرارات الخاصة بشن المعركة، وأساساً بشروط خلفيتها يتحملها شركاء كثيرون آخرون.
    ويستطرد التقرير في الفقرة العاشرة منه بالقول إنه يمكن إجمال أساس الإخفاقات في القرارات وفي طريقة اتخاذها على النحو التالي:
    أ – القرار بالرد رداً عسكرياً فورياً وحاداً لم يستند إلى خطة مفصلة .. في أساسها دراسة دقيقة للطبيعة المعقدة للساحة اللبنانية، الأمر الذي من شأنه أن يوضح بأن القدرة على تحقيق انجازات عسكرية ذات تأثير سياسي كانت محدودة، إذ أن الرد العسكري الإسرائيلي سيؤدي إلى نار مكثفة على الجبهة الداخلية، ولم يكن هناك جواب عسكري على هذه النار دون خطوة برية واسعة وطويلة ثمنها عالي والتأييد لها قليل.. هذه المصاعب لم تطرح أمام القيادة السياسية.
    ب – في القرارات الخاصة بشن المعركة العسكرية لم تدرس جملة الاحتمالات الكاملة، وعلى رأسها مسألة ما إذا كان من الصحيح مواصلة سياسة التمركز في الحدود الشمالية، أو إدراج خطوات سياسية مع خطوات عسكرية قبل حد التصعيد أو استعداد عسكري دون خطوات عسكرية فورية، لإبقاء إمكانيات الرد على حدث الاختطاف في يد إسرائيل بالكامل. وبذلك كان هناك ضعف في التفكير الإستراتيجي.
    جـ – تحقق التأييد في الحكومة ضمن أمور أخرى استناداً إلى عرض غامض للأهداف وسبل العمل، مما أتاح للوزراء الذين كانوا ذوي مناهج مختلفة أو متعارضة تأييد الخطوة. فقد صوت الوزراء في صالح قرار لم يعرفوا طبيعته ولم يفهموها، ومع ذلك قرروا الدخول في معركة دون أن يفكروا بكيفية الخروج منها.
    د هناك جزء من الأهداف المعلنة للعملية لم يتم إيضاحه ولم يكن قابلاً للتحقيق، وفي جزء آخر من هذه الأهداف لم يكن هناك إمكانية تحقيق هذه الأهداف بالوسائل التي صودق عليها للعمليات العسكرية.
    هـ – لم يبد الجيش إبداعية في اقتراح البدائل، لم يحذر من أنه لم يكن هناك تطابق بين سيناريوهات التطور وبين سبل العمل المصادق عليها، ولم يطلب تجنيد الاحتياط.
    وحتى بعد اتضاح هذه الحقائق للقيادة السياسية، لم تتطابق العملية العسكرية وأهدافها مع طبيعة الساحة. وبالعكس فإن الأهداف التي أعلن عنها كانت طموحة أكثر مما ينبغي، وقيل إن القتال سيستمر حتى تحقيقها، ولكن سبل العمل التي صودق عليها واستخدمت لم تتطابق وتحقيقاتها.
    ويؤكد التقرير في فقرته الحادية عشرة: أن مسؤولية أساسية عن هذه الإخفاقات الخطيرة ملقاة على رئيس الوزراء، ووزير الدفاع ورئيس الأركان المنصرف. إذ يفترض أنه لو كان كل واحد منهم قد عمل بشكل أفضل، فإن القرارات وطريقة اتخاذها في الفترة المدروسة، وكذا نتائج المعركة ستكون أفضل.
    مسؤولية رئيس الوزراء:
    أ- يتحمل رئيس الوزراء المسؤولية العليا والشاملة عن قرارات حكومته وأعمال الجيش، مسؤوليته عن إخفاقات القرارات بشن الحرب تنبع سواء من أدائه أم من سلوكه هو، ذلك أنه هو الذي بادر وقاد عملياً القرارات التي اتخذت.
    ب – رئيس الوزراء بلور موقفه دون أن تعرض عليه خطة عسكرية مفصلة ودون أن يطالب بأن تعرض، ودون إيلاء اهتمام كافي للظروف المعقدة للساحة اللبنانية والبدائل العسكرية والسياسية التي توفرت لإسرائيل. وقد فعل ذلك دون مشاورات مرتبة، رغم انعدام تجربته في الشؤون الأمنية والسياسية، ودون فحص الشكوك السياسية والمهنية.
    جـ – رئيس الوزراء مسؤول عن عدم تحديد أهداف المعركة بوضوح وحذر، وعن عدم تفحص العلاقة بين أهداف المعركة والسبل التي اتخذت لتحقيقها.
    د – رئيس الوزراء لم يُحدِّث خطته حتى بعد أن تبين أن الفرضيات الأساس للعملية العسكرية الحادة التي اتخذتها إسرائيل ليست عملية وليست متحققة.
    أما وزير الدفاع فهو الوزير المسؤول عن الجيش، وعضو كبير في مجموعة القادة في الشؤون السياسية والأمنية:
    أ – لم يكن لدى وزير الدفاع المعرفة والخبرة في الشؤون السياسية، الأمنية والحكومية. كما لم يكن لديه اطلاع جيد على المبادئ الأكثر أساسية لاستخدام القوة العسكرية كأداة لتحقيق أهداف سياسية.
    ب – رغم ذلك، فقد اتخذ قراراته في الفترة المدروسة دون التشاور مع محافل سياسية ومهنية ذات تجربة، بما في ذلك خارج جهاز الأمن.
    جـ – وزير الدفاع لم يعمل انطلاقاً من رؤية إستراتيجية. فلم يطلب الإطلاع على خطط الجيش ولم يدرسها، لم يتأكد من جاهزيته ولم يفحص التطابق بين سبل العمل التي عرضت وصودق عليها، وبين الأهداف المحددة كان تأثيره على القرارات يتعلق أساساً بأمور موضعية، ولم يطرح ولم يطلب فحص بدائل للتفكير والعمل أمام رئيس الوزراء والجيش.
    د- وزير الدفاع لم يطور فهماً مستقلاً لآثار تعقيد الساحة على رد فعل إسرائيل، أهداف المعركة، والعلاقة بين الخطوات العسكرية والسياسية فيها. عدم خبرته وعدم معرفته منعاه من تحدي الجيش ورئيس الوزراء.
    هـ – بهذا يكون وزير الدفاع قد فشل في مهام منصبه. ولايته وأداؤه في زمن الحرب، أضعفا بالتالي قدرة الحكومة على التصدي لتحدياتها.
    أما رئيس الأركان فهو القائد الأعلى للجيش، والمصدر الأساس للمعلومات عن الجيش، خططه، قدراته وتوصياته أمام القيادة السياسية. دوره في القرارات في الجيش وفي التنسيق مع القيادة السياسية كان مسيطراً:
    أ- رئيس الأركان لم يكن مستعداً للحدث المتوقع. وعندما حدث الاختطاف، عمل بتهور، فلم يضع القيادة السياسية في صورة تعقيد الساحة ولم يعرض عليها المعلومات، التقديرات والخطط التي كانت في الجيش وكانت ستتيح التصدي الأفضل لتحدياتها.
    ب – رئيس الأركان لم يعرض على القيادة السياسية الحالة المتردية للجاهزية والاستعداد لدى الجيش لتنفيذ خطوة برية، عند الحاجة، وحقيقة أنه حسب الخطط العسكرية وتحليل الساحة، فإن الرد من شأنه أن يفترض مثل هذه الخطوة باحتمالية عالية.
    جـ – مسؤوليته تشتد من حيث أنه كان يعرف أن رئيس الوزراء ووزير الدفاع عديما المعرفة والخبرة الكافيتين في المواضيع ذات الصلة من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه خلق لديهما الانطباع بأن الجيش مستعد ولديه خطط العمل بهذا الوضع.
    د – لم يقدم جواباً حقيقياً على الشكوك التي طرحت بشأن الرد المقترح في الأيام الأولى من الحرب، ولم يعرض على القيادة السياسية الخلافات الداخلية في الجيش.
    هـ – في كل هذا فشل رئيس الأركان في أداء مهام منصبه كقائد أعلى للجيش.. وأظهر عدم المهنية، وعدم المسؤولية والتفكر.
    وحول مسؤولية الآخرين يقول التقرير: إضافة إلى ذلك، فإننا نقضي بأن الإخفاقات في الفترة المدروسة هنا، ونتائج الحرب، شارك فيها كثيرون آخرون:
    أ – تعقيد الساحة اللبنانية هو بقدر كبير ليس تحت سيطرة إسرائيل.
    ب – قدرة حزب الله على التواجد على الحدود، وقدرته على املاء توقيت التصعيد.
    جـ – عدم جاهزية واستعداد الجيش، مفهوم استخدامه، ونقاط الخلل في المبنى والثقافة التنظيمية لديه، كانت بمسؤولية قادة الجيش والقيادة السياسية التي كانت مسؤولة عنه قبل تسلم رئيس الوزراء، ووزير الدفاع ورئيس الأركان مهام مناصبهم.
    د – على المستوى السياسي الأمني الإستراتيجي، فإن انعدام الجاهزية نبع أيضاً من مفهوم أمني بالمعنى الواسع، كما أن غياب مفهوم أمني محدث كان من مسؤولية حكومات إسرائيل جميعها. هذا الغياب ألقى بثقله هذه المرة أيضاً على إعطاء جواب فوري لحدث الاختطاف. شجع التركيز على رد عسكري فوري وحاد، بدل الأخذ بالحسبان جملة نقاط الهشاشة.
    هـ – ساهم ضعف أعمال الدراسة للمواضيع السياسية الأمنية لدى القيادة السياسية أيضاً في الإخفاقات. وكان هذا هو الوضع أيضاً لدى رؤساء الوزراء في الماضي، ولدى الحكومات أيضاً لم تصر على تحسين ذلك على مدى سنين. والقيادة الحالية لم تعمل بشكل يعوض هذا النقص.
    وحكومة إسرائيل بكامل هيئتها لم تؤد مهامها، لم تستوضح ولم تطالب بجواب كافي عن الأسئلة والشكوك التي طرحت.
    الخاتمة
    إن قراءة تحليلية متأنية للإستراتيجية الأمنية الإسرائيلية ومتابعة تغيراتها تعتبر مؤشراً لتقييم الأمن القومي الإسرائيلي من منظور قادتها وخبرائها، وهي كفيلة بفهم السياسات الخارجية الإسرائيلية الإقليمية والدولية خلال الفترة التي تلي وضع هذه الإستراتيجية، التي ترسم تقديرات رؤساء المؤسسات الأمنية والسيادية والخبراء في المجالات المختلفة فيما يخص كل التحديات القائمة والمحتملة.
    ومن خلال استعراض هذه الدراسة نلاحظ أن موضوع الأمن حاز على النصيب الأكبر في عقيدة التفكير الإستراتيجي للأمن القومي الإسرائيلي، ومن خلال متابعة مؤتمرات هرتسيليا منذ العام 2000 والذي يحمل كل عام العنوان ذاته (مؤتمر ميزان المناعة والأمن القومي) إحتل موضوع الأمن الأولوية لما تواجهه إسرائيل داخلياً وخارجياً، ففي المؤتمر الرابع تم طرح خطة فك الإرتباط والإنسحاب من بعض المستوطنات، وفي المؤتمر الخامس تم طرح خطة التجمعات، وفي المؤتمر السادس طُرح تقويم للوضع الأمني القومي إلى جانب الاتجاهات الإقتصادية والديموقراطية، وتحول إيران إلى قوة نووية.
    ورصدت هذه الدراسة المناخات التي أسهمت في رسم الإستراتيجية الأمنية لإسرائيل وعملت على تحليل وإبراز مصادر التهديد المحتملة لهذه النظرية، كما قدمت رؤية توضح التغيرات والتحولات التي طرأت على مفهوم الأمن الإسرائيلي في ظل تغيير المعطيات الإستراتيجية والسياسية في المنطقة.
    كذلك سعت إلى قراءة إستراتيجية إسرائيل الأمنية وأثرها على سياستها الحالية والمستقبلية، وتأثيرها في مجمل الصراع القومي العربي عموماً والفلسطيني خصوصاً.
    وقد نخلص من هذه القراءة إلى استنتاجات نوردها على سبيل المثال لا الحصر، منها أن النظرية الأمنية قامت على ركائز ثابتة أهمها:
    أولاً، نظرية الردع التي تبنتها إسرائيل في إطار عقيدتها الأمنية إلى جانب إستراتيجية الحرب الإستباقية.
    ثانياً، مفهوم الحدود الآمنة وهي في إطار هذه النظرية عبارة عن مفهومٍ متغيرٍ قابلٍ للتبديل والتعديل حسب متطلبات الأمن الإسرائيلي.
    ثالثاً، عامل العمق الإستراتيجي الذي يُعدّ غيابه حتى الآن من أكبر التحديات التي تواجه النظرية الأمنية الإسرائيلية نظراً للوضع الجغرافي لدولة إسرائيل.
    ورغم الهالة الكبيرة التي تحيط بالنظرية الأمنية الإسرائيلية، إلا أن هذه النظرية لم تستطع توفير أهدافها وغاياتها بتحقيق الأمن والسلام لإسرائيل، فالأمن والسلام لن يتحققا في ظل هيمنة العقلية الأمنية على تفكير واضعي هذه النظرية، فقد قام الجانب العربي والجانب الفلسطيني إلى جانب بعض الجهود الدولية بتقديم رؤى ومبادرات عديدة لإحلال السلام، فشلت جميعها بسبب عقدة الأمن الإسرائيلية، بل إن إسرائيل لم تستطع استثمار أي جهد لتحقيق السلام ولم تستطع تقديم أي من استحقاقات العملية السلمية.
    إن السلام العادل لا يحتاج إلى نظريات أمنية بقدر ما يحتاج إلى استرداد وردّ الحقوق والقبول بالآخر، وعدم استخدام القوة لفرض سياسة الأمر الواقع.
    فإذا كانت إستراتيجية السلام الفلسطيني قائمة على قاعدة أن أمن إسرائيل مرتبط بالاستقلال والأمن الفلسطيني، وإنهاء معاناة اللاجئين الفلسطينيين حسب قرارات الشرعية الدولية، فإن إستراتيجة إسرائيل ما زالت قائمة على قاعدة السلام مقابل الأمن.

المراجع و المصادر
1. بنيامين نتنياهو، “مكان تحت الشمس”، ترجمة محمد عودة الدويري، دار الجليل للنشر، 1995.
2. شمعون بيرس: “الشرق الأوسط الجديد”.
3.أحمد بهاء الدين، “إسرائيليات”، دار الهلال القاهرة، 1965.
4.حامد ربيع، “نظرية الأمن القومي العربي”، دار الموقف العربي القاهرة، 1980.
5.روبرت ماكنمارا: “جوهر الأمن”.
6.عبد الوهاب المسيري، “الموسوعة اليهودية”، دار الشرق القاهرة، 1999.
7.عمير ربوبروت، كاتب في صحيفة “معاريف”.
8. زئيف شيف، “لا يمكن حل كل شيء بالقوة”، المصدر السياسي، 2000.
9. أرائيل ليفتا،“النظرية العسكرية الإسرائيلية”، دار الحكمة للنشر عمان،1992.
10. عمنوئيل فالدر، “إنهيار نظرية الأمن الإسرائيلية”، ترجمة غازي السعدي دار الجليل، عمان، 1994.
11. صلاح زكي أحمد، “نظرية الأمن الإسرائيلي”، دار ابن زيدون بيروت، 1986.
12. يوسف كلنسمان: “الإنفجار السكاني تهديد أم اسطورة”.
13. أهارون لبيران ،“إنهيار قوة الردع الإسرائيلي”، ترجمة سعيد عياش،2001.
14. صائب العاجز، “نظرية الأمن الإسرائيلي وأثرها على الأمن القومي العربي”، مؤسسة الفيروز عمان، 1989.
15. باتريك سيل، “الانتفاضة الفلسطينية”، مقال مترجم في صحيفة “الأيام” 27/11/2000.
16. وثيقة هرتسيليا.
17. مركز الإعلام والمعلومات، الجدار الفاصل مجلة تقارير جامعة الأزهر، عدد (9) 2003.
18. صحيفة “الأيام” ذ .
19. صحيفة “القدس” ذ .
20. صحيفة “الحياة الجديدة” ذ .
21. نشرة المصدر السياسي نشرة يومية حول أهم ما تصدره الصحف العبرية، يصدرها عطا القيمري القدس.

  • د.محمد المصري

 

 

SAKHRI Mohamed

I hold a bachelor's degree in political science and international relations as well as a Master's degree in international security studies, alongside a passion for web development. During my studies, I gained a strong understanding of key political concepts, theories in international relations, security and strategic studies, as well as the tools and research methods used in these fields.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button