دراسات سياسية

نظرية المجتمع المدني: المجتمع المدني بين تسلط السلطة وحرية الأفراد

تشكل مفاهيم ومفردات المجتمع المدني جزءاً من النظرية السياسية الغربية حول الديمقراطية،فهو أداة يوظفها الأفراد لتقييد السلطة ، ومن هنا كانت ولادته في الغرب مصاحبة لتأسيس الديمقراطية. وإن كان من علماء السياسة في الغرب من لا يرى مبررا للفصل ما بين المجتمع المدني والديمقراطية ، أو القول بوجود نظرية خاصة بالمجتمع المدني ، إلا أن خصوصيته وأهميته في الحالة العربية وفي دول العالم الثالث عموما ، هو ما يدفعنا لتخصيص فصل خاص به ، بل واعتبار الإسهامات الفكرية بشأنه أساسا جيدا لنظرية حول المجتمع المدني. 

مقاربة مفاهيمية للمجتمع المدني 

في تعريف المجتمع المدني
لا يسمح المجال بالرجوع إلى البدايات الأولى لظهور المجتمع المدني واقعاً وتداوله مفهوماً وتشكله كنظرية متكاملة، ولكن يمكن الإشارة إلى أن بدايات تداول مفهوم المصطلح المدني كان في الغرب وتحديداً مع منظري العقد الاجتماعي – توماس هوبس وجون لوك وجان جال روسو ومنتسكيو – وفي بداية تداوله مع توماس هوبس كان يعني الدولة، فالمجتمع المدني كان النقيض لمجتمع ما قبل الدولة أي لحياة شريعة الغاب،
نفس الامر مع لوك حيث لم يكن يميز بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي ، فهما واحد وهو نقيض حالة الطبيعة ” فكل الذين يؤلفون جماعة واحدة ويعيشون في ظل قانون ثابت وقضاء عادل يلوذون بهم وبوسعهما البت في الخصومات التي تنشأ بينهم ومعاقبة المجرم، فإنما يعيشون في مجتمع مدني ،أما الذين لا ملاذ عام لهم على الأرض فهم ما يزالون في الطور الطبيعي ” 
أما مونتسكيو فقد عايش دولة مستقرة نسبيا وهو عندما يتحدث عن التمدن أو المجتمع المدني إنما يقصد حالة التوازن التي تقوم بين القوى التي تشكل الدولة، والقانون هو عصب هذا التوازن، ومن هنا سمى كتابه روح القوانين ، المجتمع المدني هو مجتمع القانون واحترام الملكية الخاصة وهو نقيض الاستبداد.” لقد اتخذ المجتمع المدني عند روسو شكل :1)-حكم القانون ، 2) الفصل بين السلطات ،3)التوازن بين السلطات أو التوازن بين القوى في الدولة ” . بالنسبة لروسو يقول :الرجل الأول الذي سيج قطعة أرض وقال هذه لي ووجد من الناس من هم من البساطة إلى درجة أن يصدقوه ،هو أول من أسس المجتمع المدني ” ، ومن هنا أضاف روسو عنصر المساواة إلى المجتمع المدني 
ولكن مع مرور الوقت ومع التمايز الذي بدأ يظهر ما بين الدولة – كجهاز سياسي- والمجتمع كفعاليات ومصالح بدا مفهوم المجتمع المدني ينحو إلى الدلالة عما يميز فعاليات المجتمع عن السلطة السياسية. وعلى هذا الأساس يعرف برتراند بادي في كتابه sociologie politique المجتمع المدني بأنه (كل المؤسسات التي تتيح للأفراد التمكن من الخيرات والمنافع العامة دون تدخل أو توسط الدولة) .

إن النقطة المهمة في هذا السياق هي أن المجتمع المدني تصاحب مع –أو نتيجة لـ تأسيس الديمقراطية والثورات السياسية والصناعية والعلمية والدينية، وهو رديف لحرية التعبير والتنظيم، وأنه غالباً تأسس من أسف من المجتمع وبالتدريج، وفرض نفسه على الدولة بفعل نضالات متواصلة سلمية غالباً وصدامية في بعض الأحيان.

فالمجتمع المدني بنية وعلاقات ومؤسسات يؤسسها الأفراد بـ “استقلالية” عن الدولة، وهو بهذا المعنى لا ينفصل عن حركة المجتمع الحديث وتطوره، وما يستجد من تطورات على علاقات أطرافه مع بعضها البعض وعلاقته بمجمله بالمجتمع السياسي. كما أنه مفهوم يتأثر بالموجات الفكرية المتسارعة وبتحديد الفكر الديمقراطي لمقولاته، لكل ذلك فإن مفهوم المجتمع المدني لابد وأن يتكيف مع هذه المستجدات، وهكذا فإن المفهوم في السسيولوجيا السياسية اليوم يستعمل بمعان لا تتفق تماماً مع ما جاء به رواده الأوائل، سواء رواد النظرية التعاقدية، أو “هيغل” أو “الماركسيون”، ومع ذلك يمكن أن نستخلص من الخطاب السياسي المعاصر الدلالات التالية للمجتمع المدني:
– المجتمع المدني هو تلك الفعاليات – علاقات ومؤسسات وثقافة – الاجتماعية والسياسية التي تمكن المواطنين من مراقبة تصرفات الدولة والتدخل عندما تعارض هذه التصرفات مصالح وحقوق المواطنين.
المجتمع المدني هو تنظيمات المجتمع المعبرة عن المطالب والمصالح والثقافة السائدة والتي قد تكون في حالة مصالحة مع السلطة السياسية أو في تعارض معها.
المجتمع المدني هو كل المؤسسات والأنشطة المنظمة التي تتيح للأفراد التمكن من الخيرات والمنافع العامة دون تدخل مباشر من الحكومة.

غالبية التعريفات المتداولة حديثاً حول المجتمع المدني تسير في هذا الاتجاه، ونلاحظ على هذه التعريفات أنها تركز على استقلالية – إلى حد ما – المجتمع المدني عن السلطة السياسية، وهكذا أصبح المفهوم في الأدبيات السياسية المعاصرة – وهي أدبيات ليبرالية في غالبيتها بعد انهيار المنظومة الاشتراكية – يؤكد على الاستقلالية التي يتمتع بها الأفراد عن الدولة سواء على مستوى تشكيل الأحزاب أو الانخراط في النقابات أو ممارسة حق التجمع والتظاهر وكل سبل الاحتجاج السلمية وكل ذلك في إطار القانون.

وهذا يعني أنه تم تجاوز الحديث عن العلاقة المباشرة بين المواطن والدولة وتجاوز الهيمنة المطلقة للسياسي على الاجتماعي،” إن الدفاع عن المجتمع المدني كان متزامنا مع تطور الأفكار حول الفردية وحقوق الأفراد في الحرية والملكية” . مع ظهور المجتمع المدني أصبح الحديث يدور عن علاقة غير مباشرة أو علاقة جدلية بين المجتمع والدولة أو السلطة كتجسيد سياسي للدولة ، حيث تتوسط بين الطرفين تنظيمات المجتمع المدني من أحزاب وهيئات وجمعيات ونقابات، دون أن يعني الأمر بطبيعة الحال قطيعة بين الطرفين، فالدولة تبقى بنية فوقية ومهيمنة بدرجة ما، لأنها دون هذا الدور لا تستطيع أن تقوم بوظيفتها السياسية والحقوقية، كما أن مؤسسات المجتمع المدني تبقى مقيدة بشبكة من القوانين والضوابط التي تحددها الدولة، و إلا سيتحول المجتمع المدني إلى دولة داخل الدولة.

 مقاربات عربية لمفهوم المجتمع المدني 
فأن موضوع المجتمع المدني العربي أصبح إشكالية، حيث أضيف إلى عدم التحديد الدقيق للمصطلح تباين المجتمعات العربية من حيث كونها التربة التي سيزرع فيها هذا المصطلح. فهل المجتمع المدني فكر وممارسة كما عرف في الغرب، حيث ولد وترعرع وأخذ دلالاته عبر تاريخ الغرب، هو نفسه المجتمع المدني الذي يتحدث عنه المثقفون العرب ويرومون تكوينه في مجتمعاتهم؟ وهل يتفق المثقفون والسياسيون العرب على تصور واحد للمجتمع المدني؟ وهل يمكن الحديث عن مجتمع مدني عربي بالمطلق أم عن مجتمعات مدنية عربية تختلف باختلاف درجة التحديث السياسي ومدى التقدم في مجال الديمقراطية في كل دولة عربية؟، إذا كان يجوز الحديث عن مجتمع مدني عربي فما هو حال المجتمع المدني الفلسطيني؟ وما هي القواسم المشتركة ما بين إرهاصات تشكل المجتمع المدني العربي قبل الاستقلال وتشكل المجتمع المدني الفلسطيني والفلسطينيون على أبواب إقامة دولتهم؟.

كما سبقت الإشارة فإن تداول مفهوم المجتمع المدني في الغرب جاء لاحقاً لوجوده الفعلي، بمعنى أنه وجدت المؤسسات (المستقلة) عن الدولة من أحزاب ونقابات وتجمعات ثم أطلق على هذه الفعاليات الاجتماعية اسم المجتمع المدني، أما في مجتمعاتنا العربية – والثالثية عموماً – فقد تم التفكير بالمجتمع مدني في سياق المشروع الحداثي الساعي لتأسيس الديمقراطية، فهو وجد كفكرة ومشروع ثم تم البحث عن كيفية خلقه أو البحث عنه إن كان هناك ما يدل على وجوده.

وهكذا نلاحظ أنه في الوقت الذي هدا فيه النقاش الفكري حول مفهوم المجتمع المدني في الغرب، حتى بات التطرق إليه أمراً نادراً، تزاحمت الكتابات والتنظيرات حول المجتمع المدني في دول العالم الثالث بما فيها المجتمعات العربية، حيث أن الحديث عن المجتمع المدني في هذه المجتمعات تصاحب مع التحركات التي تعرفها هذه المجتمعات نحو الديمقراطية والتخلص من إرث النظم التسلطية التيوقراطية والدكتاتورية. بحيث أصبح مفهوم المجتمع المدني اللازمة الضرورية في أي طرح سياسي يعالج مشكلة الديمقراطية في هذه البلدان. ونعتقد أن الأمر لا يخص البلدان العربية فقط بل إن تلازم الديمقراطية والمجتمع المدني هو قانون عالمي إن صح التعبير، فإذا كانت فالديمقراطية تعني المشاركة في القرارات التي تؤثر في حياة الفرد ومصيره، فكيف يمكنها أن تكون دون المجتمع المدني، فالمجتمع المدني هو المقصود بالمشاركة؟.

ومع ذلك فكما تباينت المواقف والتصورات حول مدى وجود ديمقراطية في الدول العربية، ما بين قائل بوجودها وقائل بأن ما يوجد هي ديمقراطية مشوهة وشكلية وقائل بأن هناك إنجازات لا تنكر نحو الديمقراطية، كذلك الأمر مع المجتمع المدني، حيث تلازم القول بوجود المجتمع المدني من عدمه مع القول بوجود ديمقراطية من عدم وجودها، بالإضافة على ذلك فإن مفهوم المجتمع المدني عرف تعويماً وتسطيحاً في مجال استخدامه في العالم العربي، ولا يعود هذا الأمر فقط لكونه مفهوماً مستورداً وبالتالي جديداً على الفضاء الفكري العربي، بل يعود أيضاً لأن المثقفين السياسيين أصبحوا يوظفون مقولة المجتمع العربي انطلاقا من براغماتية سياسية، فمن يتفق مع الحركية السياسية السائدة في بلده ويضفي عليها حكم قيمة إيجابي، يقول بوجود مجتمع مدني ويطلق صفة المجتمع المدني على تشكلات وعلاقات قد تؤسسها الدولة أو تكون تعبيراً عن بنيات تقليدية كالقبيلة والطائفة…، ومن يقف موقف المعارضة من النظام السياسي القائم ومن توجهاته الرامية إلى إجداث تغيرات ذات مظهر ديمقراطي ينفي صفة المجتمع المدني عن التشكلات المدنية التي يؤسسها النظام مباشرة أو يدعمها أو التي تولد من المجتمع ولكنها لا تعراض النظام القائم، بل ينفونها حتى عن مؤسسات مجتمع مدني حقيقي، وهؤلاء الآخرون لا يعترفون بوجود مجتمع مدني إلا في ظل وجود ديمقراطية حقيقية وفي ظل تحولات جذرية تكون بمثابة القطعية مع النظام القائم.

يرى المفكر السوري برهان غليون أن الصعوبة الكبرى التي تواجه الكتابة حول المجتمع المدني العربي تكمن في انعدام التحديدات الدقيقة للمصطلح، وهو يرى أن مقاربة المجتمع المدني في العالم العربي تتطلب تحرير المفهوم من اختلاطات ثلاث:
الأول: وهو الغالب الذي يجعل من المجتمع المدني رصيد قيم الحرية والتحرر وبالتالي يضعه في مواجهة السلطة والدولة وهما بداهة في العالم العربي تتميزان بالتسلط.
الاختلاط الثاني: ينبع من مطابقة مفهوم المجتمع المدني مع مفهوم الشأن الخاص المتعلق بالفرد وحريته وحياته الشخصية مقابل الشأن العام والدولة التي تهتم بالأمور الوطنية.
الاختلاط الثالث: هو الذي يضع مفهوم المجتمع المدني في تقابل مفهوم المجتمع الأهلي، فإذا كان هذا الأخير يشمل البنى التقليدية من دينية وقبلية وجهوية، فإن المجتمع المدني يتطابق مع البنى والتنظيمات الحديثة من حزبية ونقابية وتنظيمات نسائية وطلابية الخ… .

ومن هنا يرى برهان غليون أن المجتمع المدني هو مفهوم مجرد وليس واقعاً عملياً اختبارياً قائماً بذاته، أي ليس شيئاً جاهزاً، فالمجتمع المدني لا يمكن أن يفهم كحقيقة تجريبية بالانفصال عن الدولة والتطورات العامة للمجتمع، وبالتالي لا يخلو أي مجتمع بشري من تنظيم مدني أو مجتمع مدني وإلا كان هذا المجتمع مجتمعاً همجياً. هذه المقاربة التي أتى بها “غليون” تنحو إلى القول بتاريخية المجتمع المدني العربي والإسلامي حتى أنه يذهب إلى القول إنه لا يمكن تصور نشوء الدولة العربية الإسلامية الأولى من دون وجود البنى الاجتماعية المدنية التي سندت الإسلام في بناء سلطته المركزية على أسس عقيدية.

ويقترب تصور برهان غليون من تصور “هيغل” في نقطة أساسية وهي عدم استقلالية المجتمع المدني عن الدولة استقلالاً تاماً، وهي العلاقة التي تقوم على الصراع والتكامل، بحيث لا يستغني أحدهما عن الآخر، “إن السياسة لا تحتاج كي تقوم إلى إلغاء البنى المدنية ما قبل الدولة، ولكنها بما تقدمه من مبادئ أسمى ومؤسسات أكثر فاعلية تتيح توحيد هذه البنى المدنية وجمعها تحت رايتها، وهي لا تتقدم كسياسة، أي كحالة أشمل غلا بقدر ما تنجح في معالجة تناقضات المؤسسات المدنية وتعمل على عقلنتها ووضعها في سياق ومنطق جديد هو المنطق الوطني الشامل، ولذلك لا قيمة للسياسة إلا إذا ارتبطت بهذا المجتمع المدني بمعنيين: أخذا وعطاء، إنها لا تستطيع أن تبقى إلا بقدر ما يستمر المجتمع المدني في خلق العصبيات والقيم والبني اللاسياسة الأولى، الأسرة والفرد والعقيدة والعادة…الخ، ولا يستطيع هذا المجتمع أن يحفظ توازنه وينظم نفسه في مرحلته المتقدمة، إلا بقدر ما تستمر الدولة وتنجح في معالجة التناقضات التي تنجم عن صراعاته الطبيعية” .

في مقابل هذا الرأي الذي يعتبر المجتمع المدني انعكاساً لواقع المجتمع وتفاعلاته، يأتي موقف المفكر المغربي “محمد عابد الجابري” الذي يعبر عن موقف متشائم تجاه المجتمع المدني في الوطن العربي، لأنه يربط وجود المجتمع المدني بالمدينة والتمدن ” هناك واقعة أساسية وبديهية لا يمكن أن تكون موضوع خلاف ، وهي أن المجتمع المدني هو ، أولا وقبل كل شيء ،مجتمع المدن ، وان مؤسساته هي تلك التي ينشئها الناس بينهم في المدينة لتنظيم حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية ” ، وحيث أن البادية والريف هما السمة الغالبة على المجتمعات العربية بالإضافة إلى الجهل والأمية،إذن لا يوجد مجتمع مدني في الوطن العربي .من جهة أخرى يربط الجابري المجتمع المدني بالديمقراطية ليصل إلى نفس النتيجة ، فحيث أن الديمقراطية لم ترسخ في المجتمع العربي، هذا يعني غياب المجتمع المدني. والديمقراطية التي يقصدها ليست الديمقراطية الشكلية التي تعرفها بعض البلدان العربية، بل يقصد بها ذلك النوع من العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، بين الدولة والشعب، ونموذجها هو القائم في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية. إنها العلاقة المبنية على تداول السلطة السياسية على أساس الأغلبية الانتخابية التي يفرزها التعبير الديمقراطي الحر من خلال التنافس الحزبي في إطار احترام حقوق المواطن السياسية منها على وجه الخصوص .

وبالتالي فإن المجتمع المدني الذي يعترف به “الجابري” هو المجتمع الذي يمارس فيه الحكم على أساس أغلبية سياسية حزبية وتحترم فيه حقوق المواطن السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية في حدها الأدنى على الأقل، إنه بعبارة أخرى المجتمع الذي تقوم فيه “دولة المؤسسات” بالمعنى الحديث لـ “المؤسسة” البرلمان، القضاء المستقل، الأحزاب، النقابات والجمعيات…الخ.
فـ “الجابري” يتحفظ على ما تعرفه البلدان العربية من مظاهر الحداثة ومن أشكال الديمقراطية – بالرغم من اعترافه أن رياح الديمقراطية بدأت تهب على العالم العربي- ، لأنه يرى أن بنى الدولة الحديثة قد أقحمت إقحاماً في معظم الأقطار العربية، وما تعرفه هذه البلدان من مؤسسات وأحزاب وبرلمانات ونقابات وجمعيات ما هي إلا أشكال مشوهة لما تعرفه المجتمعات الغربية الديمقراطية. فبينما مؤسسات المجتمع المدني في الغرب نشأت بفعل تطور داخلي وبموازاة مع نشوء وتطور هذه الدولة نفسها، المر الذي نتج عنه قيام مجتمع مدني مستقل عن المجتمع السياسي – الدولة – مجتمع قوامه مؤسسات اقتصادية “شركان، بنوك…” وثقافية” مدارس، معاهد، وسائل إعلام ونشر”، بينما حدث هذا في الغرب الديمقراطي نجد أن بنى الدولة الحديثة في الأقطار العربة قد غرستها الدول الاستعمارية غرساً وبالقوة أحياناً.
في اتجاه مخالف يذهب وحيد عبد المجيد الذي يفصل ما بين الديمقراطية والمجتمع المدني، فإذا كانت الديمقراطية تتصف بالعالمية فالمجتمع المدني له صفة الخصوصية، ويقول في ذلك: (إن فكرة المجتمع المدني في الغرب لا مجال لها لدينا، نحن في مجتمع القيم الدينية فيه قيم جوهرية ولا يمكن بأي حال القفز فوقها أو تحييدها كما هو الحال في المجتمع المدني الغربي، فنحن نتحدث عن المجتمع المدني بشكل تقريبي أو نأخذ بعض جوانبه على عكس الحال في النموذج التعددي وآلياته التي تتسم بأن لها طبيعة إنسانية عامة وقابلة للوجود في أي مجتمع، وبالتالي فعندما نتحدث عن قضية الديمقراطية في المجتمع نميزها عن قضية المجتمع المدني) .

وحيث أن هذه الدولة العربية الحديثة ليست نابعة من المجتمع ولا تعبر عن نضج حقيقي لمكوناته، فإنها تلجأ إلى استعمال وسائل العنف المشروع وغير المشروع وتسخر كل أدواتها لتمتين سيادتها، وهي في سبيل ذلك لا تتورع عن اختراق المجتمع المدني الجنيني، وذلك بخلق أحزابها السياسية ونقاباتها وجمعياتها.

وبالنسبة للمفكر التونسي “الطاهر لبيب” فهو يميز ما بين المجتمع المدني – أو المؤشرات الموضوعية الدالة عليه – من جهة ومفهوم المجتمع المدني أي البناء المفاهيمي الفكري الذي يعبر عن هذا الواقع، فالتاريخ العربي الإسلامي عرف حركات وعلاقات اجتماعية سياسية ودينية داخلة في علاقات ضدية مع السلطة السياسية القائمة، سواء حركة القرامطة أو الخوارج أو حركات التحرر ضد الاستعمار أو ضد الأنظمة الاستبدادية، إلا أن هذه الحركات لم تجعل من الحرية المدنية مسألة مركزية لها، ولم تراكم إنجازات على مستوى الواقع، ربما لأن المجتمع العربي الإسلامي آنذاك لم يكن مهيئاً لتحقيق هذا المطلب الاجتماعي/ السياسي، ذلك أن براديغم الطاعة هو الذي ساد كإيديولوجيا، والاستبداد السياسي هو الذي تراكم. وهو يرى أن الحركات السياسية، النقابية والفكرية والتي هي إرهاصات أو شروط تكون مجتمع مدني، كانت في عهد الاستعمار أكثر تنوعاً ونشاطاً مما أصبحت عليه بعد الاستقلال وهذه ظاهرة عرفها كل البلدان التي استعمرت سابقاً، بما فيها البلدان العربية، إلا أن مطلب التحرر من الاستعمار طغى على غيره من المطالب ولم تهتم هذه الحركات إلا قليلاً بقضايا الديمقراطية والحقوق المدنية للأفراد، حيث كانت جل المطالبات متجهة ضد المستعمر. إن “الطاهر لبيب” لا يفصل بين المجتمع المدني والديمقراطي وبينه وبين الحرية، فالمجتمع العربي لم يعرف الحرية بمعناها السياسي إلا مع الحملة الفرنسية 1798، ولم يعرف الديمقراطية غلا كمطلب لبرالي وخصوصاً بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، أما على مستوى استعمال المفهوم، فإن “الطاهر لبيب” يرى “أن مفهوم المجتمع المدني عندنا بلا تاريخ، وهذا مأتى الحرج العلمي في استعماله، إن الاستعمال “الطارئ” يعبر عن حالة طوارئ في الفكر العربي ولا يحيل في كل الصور إلى ممارسة تم تنظيرها ولا إلى تنظير واقع تمت ممارسته، إنه سابق للظواهر التي يريد الإحالة إليها، لقد طاف متسيساً وراج رواجاً سريعاً بعل توظيفه وقبل أن يتقيد بمعنى أو استعمال”. .

 المجتمع المدني في العالم العربي وتحديات التأسيس
إن تاريخ المجتمع المدني العربي هو جزء من تاريخ نضال الشعوب العربية ضد الاستبداد والقهر، وحيث إن طبيعة الدولة العربية من حيث نظامها السياسي وتشكلاتها الاجتماعية وعلاقاتها الخارجية، يبرز لنا حالة الغربة التي تعيشها الدولة عن المجتمع والعكس صحيح، وافتقادها غالباً للشرعية والمشروعية، بالإضافة إلى حضورها السلطوي القاهر في كل شيء، فإن علاقة الدولة – السلطة السياسية – بالمجتمع كانت غالباً علاقة صراع أو سعي إلى الهيمنة، وهذا الصراع – علاقات الضدية – لم تكن أطرافه، السلطة من جانب وقوى اجتماعية، سياسية ودينية واقتصادية من جانب آخر، ترفع بشكل واضح وخصوصاً الطرف الثاني شعار تأسيس المجتمع المدني، لأن مفهوم المجتمع المدني كما أشرنا مفهوم غربي يعبر عن نوع الثقافة السياسية والنظام السياسي السائدين في الغرب. ومع ذلك فإن المطالب الاجتماعية في سياق التحديث السياسي والنضال الديمقراطي كانت تعمل على تأسيس أو تفعيل مجتمع مدني، وعليه يمكن أن تصنف الحركات والجمعيات والأحزاب الموجودة اليوم في الدول العربية كمؤسسات مجتمع مدني بقدر ما تكون معارضة لاستبداد الدولة وتسلطها، وبقدر ما ترفع من شعارات الحرية والاستقلال.

ومن جهة أخرى فإننا نعتقد أن الحديث عن وجود مجتمع مدني عربي أو عدم وجوده أو التساؤل حول تاريخ نشوئه هي أمور متجاوزة، لأن المجتمع المدني لا يؤسس بقرار في لحظة زمنية معينة ومتفق عليها، فتاريخه هو تاريخ النضال من أجل الحرية المدنية والديمقراطية، وحيث إن الديمقراطية ليست شيئاً يحدث بقرار أو يستورد بل هي متراكمة أنجزت حداثية، سياسية واقتصادية واجتماعية عبر الزمن، إنجازات تحصل بالنضال ومقاومة السلطة أحياناً وبالتفاهم والالتقاء معها في منتصف الطريق إن كان ذلك ممكناً، فكذا الأمر مع المجتمع المدني، إنه مراكمة إنجازات عبر الزمن وعبر النضالات، وحتى النقاش الذي يدور في مجتمع عربي ما حول وجود أو عدم وجود مجتمع مدني هو بحد ذاته مساهمة في تأسيس مجتمع مدني أو إرهاص دال على وجوده.

ولكن مما لا شك فيه أن وجود مجتمع مدني – بمعنى التشكلات التضامنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية: أحزاب، نقابات، جمعيات، نواد، ملتقيات ثقافية، اتحادات طلابية ونسوية – التي يؤسسها الأفراد باعتبارهم ذوات مدافعة عن مصالح، وفعالية هذا المجتمع واستقلاله ولو نسبياً عن الدولة – هو شرط ضروري من أجل الديمقراطية وإقامة دولة القانون، وأن المجتمع المدني والمجتمع المدني المضاد في نفس الوقت، بمعنى أن قوى التحرر والديمقراطية تسعى لتأسيس مجتمع مدني في مواجهة تسلط الدولة أو رفضها الاعتراف بمن يخالفها من فعاليات المجتمع. ولكن الدولة وحيث إنها لا تستطيع مقاومة أو إلغاء هذا المجتمع المدني – نظراً لاستحقاقات خارجية تدفع في اتجاه تبني الديمقراطية والحريات السياسة، وكذا بفعل التحولات الإيجابية الدالة على نضج المجتمع العربي والتي تهدد السكونية السياسية السائدة – فإنها تعمل على تأسيس مجتمعها “المدني” الخاص بها: أحزاب سلطة، جمعيات سلطة، نواد سلطة، بل أن الزعيم رئيساً كان أو ملكاً يوظف شخصيته الكارزماتية وشعبيته لتأسيس “مجتمع مدني” خاص به، والسلطة السياسة تحاول من خلال ذلك أن تسحب البساط من تحت أقدام الأحزاب الشعبية وفعاليات المجتمع المدني الأخرى المعارضة للنظام و ركوب موجة الديمقراطية إن لم تنصب نفسها قائدة التحول الديمقراطي. وإن لم تستطع أو أصبحت التحولات الديمقراطية متجاوزة لها ومهددة لمصالحها، فإنها تحاول الحد من هذه التحولات بدفع “مجتمعها المدني” لمواجهة المجتمع المدني الشعبي الحقيقي، وتصبح هي بمثابة الحكم وتتدخل بحزم باسم حماية المجتمع من الحرب الأهلية أو الفوضى وباسم المصلحة الوطنية،والتي هي في هذه الحالة ما هي إلا مصلحة النخبة الحاكمة!.

ومفيد القول إن مجتمعاتنا – بنياتها الاجتماعية والسياسية والدينية – ليست هي مجتمعات الغرب والشروط التاريخية لمجتمعاتنا ليست هي تلك التي عرفها الغرب، وعليه فلا ينتظر أن تكون نظمنا السياسية صورة طبق الأصل لما هو معروف في الغرب. نعم نريد ديمقراطية، ومجتمع مدني، وازدهار اقتصادي…الخ، ولكن يجب أن نؤسسها نحن بعلانيتنا وبإمكاناتنا الخاصة لا أن نستوردها ونقحمها على مجتمعنا. إن المراقب للحياة السياسية في مجتمعاتنا سيلاحظ تعدد الجمعيات والنوادي ودور الثقافة ومنظمات حقوق الإنسان التي وإن كان بعضها من خلق الدولة فإن العديد منها ملاذ يلجأ إليه مثقفون وسياسيون ومهمشون ومن يشعر بالاغتراب في وطنه، بعيداً عن الأحزاب والتنظيمات الرسمية – حكومية كانت أو معارضة – وهذا ملموس في نشاط الجماعات الإسلامية داخل هذه الجمعيات وكذا الدور الثقافية ومنظمات حقوق الإنسان والمنظمات غير الحكومية التي بدا دورها في السنوات الأخيرة يتزايد، وأحياناً تفوق مؤسسات المجتمع المدني الحقيقية في مواجهتها لخروقات السلطة.

أيضاً يمكن نتساءل لماذا لا نعتبر ما تقوم به بعض الأنظمة العربية التي استقرت على خيار الديمقراطية، من دعم لتأسيس الأحزاب والنقابات والجمعيات هو إسهام منها في خلق “مجتمع مدني” وتفعيلة ما دامت الظروف العامة للمجتمع – انتشار الأمية، الجهل، الفقر، ضعف الوعي السياسي – لا تساعد كثيراً على تسريع عملية تأسيس المجتمع المدني؟ وحتى مع افتراض سوء النية عند الدولة بالزعم أنها تؤسس مجتمعها المدني خوفاً من أن يفرض عليها المجتمع المدني الحقيقي الذي تلوح بوادر تأسيسه، لماذا لا تبتهل القوى الحية في المجتمع هذه البادرة من الدولة وتجيرها بما يخدم الديمقراطية وتفعيل المجتمع المدني الحقيقي؟. ولماذا لا نأخذ بتصور “هيغل” حول المجتمع المدني حيث رأي أنه في بعض اللحظات التاريخية يصبح إشراف الدولة على المجتمع المدني ضرورة لابد منها، ولكن لحين؟
وقد أثبتت التجربة في أكثر من دولة ثالثية أن غياب إشراف الدولة عن مؤسسات المجتمع المدني يؤدي إلى تمزق المجتمع المدني وتصادمه مع بعضه البعض وبالتالي قد يؤدي إلى حرب أهلية وقد ثبت أيضاً أن الديمقراطية لا تقوم إلا حيث تكون الدولة قوية.

إن كل ملم بمؤسسات المجتمع المدني، يعرف أن تأسيسها واستمراريتها وقيامها بواجباتها يحتاج إلى تمويل ومراقبة ومرجعية يقوم عليها، والمجتمع الأهلي العربي في غالبيته لا يتوفر على أموال كافية ولا على قدرات تنظيمية أضف إلى ذلك أن الفئة الاجتماعية العربية المؤهلة لقيادة المجتمع المدني – الطبقة البرجوازية أو المثقفون – هي أميل إلى طلب السلطة مباشرة عن طريق الثورة أو الانقلابات من النضال طويل المدى في إطار المجتمع المدني.
إن نظرة على الواقع الراهن للمجتمع المدني في العالم العربي تكشف لنا حالة أو اكثر من تمظهرات المجتمع المدني:
الأولى: مؤسسات مجتمع مدني هشة وضعيفة لا تأثير لها أو فعالية ويمكن أن تزول بعد فترة قصيرة من ظهورها.
ثانياً: مؤسسات مجتمع مدني تمول وتشجع من جهات أجنبية – كمنظمات حقوق الإنسان – مما يجعلها عرضة للملاحقة من الدولة واتهامها بالخيانة أحياناً، وخصوصاً إذا اقتصر نشاط هذه المنظمات على الدفاع عن حقوق الأقليات – طائفية أو عرقية.
ثالثاً: مؤسسات مجتمع مدني تؤسسها الدولة وأصحاب النفوذ والجاه، وهؤلاء الآخرون هم بشكل أو بآخر أقرب إلى السلطة من قربهم للمجتمع المدني الحقيقي، لأن حرصهم على مصالحهم ونفوذهم وتطلعهم للسلطة، يدفعهم لدفع مؤسسات المجتمع المدني للخضوع لإشراف الدولة ورقابتها أو العمل بما لا يتعارض مع سياستها.
رابعاً: مؤسسات مجتمع مدني حقيقي ولكنها محاصرة وتواجهها تحديات سواء من طرف الدولة أو من طرف بنية المجتمع وثقافته، وهذا المجتمع المدني هو الذي تراهن عليه الجماهير ليكون الأرضية المحتضنة للديمقراطية.

إن مقاربة إشكالية المجتمع المدني في الدول العربية تستدعي تجاوز الدوران حول التساؤل: هل يوجد مجتمع مدني أو لا يوجد؟ فهذا السؤال لا يختزل الإشكالية ولا يعبر عنها وهو غير دقيق علمياً، لأنه يؤسس على فرضية انتقاء التباينات بين المجتمعات ويفترض وجود نموذج مثالي وجاهز للمجتمع المدني ما علينا إلا أن نقارن ما عندنا بهذا النموذج المثالي، كما أنه يفترض إمكانية عدم وجود مجتمع مدني بالمطلق. ونعتقد أن المقاربة العلمية للموضوع يجب أن تهتم بالتساؤل حول شكل وبنية المجتمع المدني؟ وطبيعة علاقته بالدولة؟ ومدى توفر مؤشرات تمأسسه؟ وكيف يمكن تفعيله؟. وفي هذا السياق يمكن التأكيد مجدداً أن إرهاصات تشكل مجتمع مدني تعود إلى بدايات ظهور الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات، إلا أن خصوصية الدولة العربية ومركيز السلطة ومتطلبات مرحلة النضال ضد الاستعمار، جعل هذا المجتمع يدور حول الدولة، يقترب كثيراً منها أحياناً حتى تنمحي شخصيته، وأحياناً يبتعد عنها ويتصادم معها حتى يبدو الأمر وكأن قطيعة بين الطرفين.

ويمكن القول إن علاقة المجتمع المدني في العالم العربي بالدولة تشبه علاقة المراهق بأسرته، فالمراهق وإن شب عن الطوق وأصبح قادراً على تدبير بعض أموره وبلورة شخصية متميزة فإنه يبقى دون مرحلة البلوغ الكاملة التي تؤهله ليؤسس شخصية خاصة به ومستقبلة، وكذا المجتمع المدني العربي، لقد ولد وبدأ ينمو ويترعرع بل ويملك الجرأة أحياناً ليرفع صوته في وجه الدولة إلا أنه يبقى تحت رعايتها، إنه يخضع لمراقبة دائمة من الدولة خوفاً منه وخوفاً عليه في نفس الوقت.

المجتمع المدني الفلسطيني وتحديات الانتقال الديمقراطي

خصوصية المجتمع المدني الفلسطيني
إذا كانت تساؤلات عميقة تنتصب أمام الباحث في المجتمع المدني في دول العالم العربي نظراً لخصوصية الدولة التي هي غالباً مقحمة على المجتمع ومفروضة عليه، ونظراً لخصوصية مجتمعات هذه الدول عن المجتمعات الغربية التي ظهر فيها المجتمع المدني وتم تأصيل مفهومه، فكيف الحال بالنسبة للباحث في المجتمع المدني في فلسطين، التي تعيش خصوصية داخل “الخصوصية” العربية؟.

لاشك هنا أن المقاييس والمؤشرات المتبعة في التعرف على وجود مجتمع مدني في بلد ما، لن تسعفنا كثيراً في الحالة الفلسطينية، لأنه إذا اعتبرنا المجتمع المدني يعني تلمس نقاط تفصل ما هو مدني عن ما هو سياسي، أو ما هو عام – الدولة – عن ما هو خاص – العلاقات والتنظيمات التي يؤسسها الأفراد للتعبير عن مطالبهم والدفاع عنها -، فإنه في الحالة الفلسطينية يتداخل العام مع الخاص والسياسي مع المدني، نظراً لأن الشعب الفلسطيني ومنذ أمد بعيد وحتى اليوم يعيش تحت الاحتلال، وبالتالي لم يعرف دولة وسلطة سياسية وطنية يمكن في مواجهتها بلورة مجتمع مدني، فالسلطة القائمة هي دوماً سلطة احتلال.

وهكذا تداخل ما هو سياسي بما هو مدني في التجربة السياسية الفلسطينية، فالشعب الفلسطيني بكل فئاته ومستوياته انتظم في حركة جماهيرية واحدة، قيادة سياسية، شعب، نقابات، أحزاب، وجمعيات، لمواجهة القوات المحتلة، فالجميع لهم هدف واحد هو مواجهة الاحتلال وليس مواجهة بعضهم بعضاً، وهنا نلاحظ خصوصية المجتمع المدني ووظيفته، فهو مجتمع ولد في خضم مقاومة الاستعمار البريطاني أولاً والصهيوني ثانياً، وولادته لمت تكن في إطار حركة مطلبية اقتصادية أو اجتماعية بل في إطار حركة جماهيرية سياسية نضالية تسعى للاستقلال والحرية وإبراز الهوية الوطنية والحفاظ عليها، وبالتالي فإن المطلب الأساسي لمؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني هو تأسيس المجتمع السياسي الوطني – دولة وسلطة وطنية، بالإضافة إلى ذلك أن نصف الشعب الفلسطيني عاش ويعيش خارج أرض الوطن وتربطه علاقة خاصة وشائكة مع الدول التي يعيش فيهان وهذه خاصية لا نجدها في تجارب الشعوب الأخرى.

إن المؤسسات المتعارف عليها كمكونات للمجتمع المدني – أحزاب، نقابات، جمعيات واتحادات…الخ – كانت حاضرة وبكثافة في المجتمع الفلسطيني إلا أن وظيفتها غير وظيفة مثيلاتها في البلدان الأخرى، فغياب دولة فلسطينية – بفعل الاستعمار البريطاني ثم الصهيوني – غير من وظيفة (المجتمع المدني) الفلسطيني وجعلها تصب في اتجاه إبراز الهوية الوطنية الفلسطينية والحفاظ عليها، وإعادة تأسيس الدولة، فالمجتمع المدني في هذه الحالة هو المؤسس للدولة وللسلطة السياسية، وليس العكس وبالتالي يحق تسميته بالمجتمع المدني/ السياسي، وليس المجتمع المدني المفارق للسياسي.

ومع ذلك فقد مر المجتمع المدني الفلسطيني بعدة مراحل هي المنعطفات التي عرفتها القضية الفلسطينية، وستقتصر هنا على واقع المجتمع المدني الفلسطيني وعلاقته بالتحولات الفكرية والسياسية التي يشهدها المجتمع الفلسطيني في ظل ما يسمى الحكم الذاتي.

بدخول منظمة التحرير الفلسطينية مسلسل التسوية وتوقيعها اتفاقية أوسلو وبداية الحكم الذاتي الفلسطيني في مناطق من الضفة الغربية وقطاع غزة ، عرف المجتمع الفلسطيني، والمجتمع المدني، السياسي خصوصاً تحولا جذرياً، فالعملية سعت إلى نقل المجتمع الفلسطيني من مرحلة الثورة والنضال إلى مرحلة المراهنة على الحلول السلمية وبالتالي إنهاء حالة الحرب مع الكيان الصهيوني، مع ما يترتب على ذلك من تغير في وظيفة المؤسسات المدنية والسياسية التي ظهرت في مرحلة الثورة، ونقل مركز قوة حركية المجتمع الفلسطيني من خارج فلسطين إلى داخلها. إلا أن أهم تحول يخص موضوع بحثنا هو بداية ظهور التمايز ما بين مجتمع مدني ومجتمع سياسي، ذلك أن السلطة الوطنية الفلسطينية التي تدير مناطق الحكم الذاتي أصبحت بمثابة (السلطة السياسية) أو مشروع دولة، وبالتالي لها حساباتها وسياساتها وارتباطاتها الناتجة عن مسلسل التسوية، وهي سياسة وارتباطات لا تتفق بالضرورة مع موقف كل الشعب الفلسطيني ومؤسساته المدنية والسياسية.

وهكذا لاحظنا منذ توقيع اتفاقية أوسلو ظهور “مجتمع مدني” حيوي يمارس جوراً مزدوجاً قوات الاحتلال الصهيوني من جهة أخرى ومعارضة بعض ممارسات السلطة الوطنية الفلسطينية من جهة أخرى ويمكن حصر فعاليات المجتمع المدني في هذه المرحلة كما يلي:

1- مؤسسات المجتمع المدني التابعة للمعارضة السياسية – حماس والجهاد الإسلامي خصوصاً – وهذه المؤسسات متعددة: نقابات، جمعيات، اتحادات، مؤسسات دينية، تعليمية وخيرية، ومما يجب التنبيه له في هذا السياق أن أهمية هذا النوع من المجتمع المدني لا تكمن في قوتها التنظيمية والتأسيسية بل في قدرتها التعبوية والتحريضية، ذلك أن سنوات الاحتلال علمت الجماعات الإسلامية كيف تحافظ على وجودها وتمارس مهامها بشكل سري .
2- مؤسسات المجتمع المدني التي تمارس نشاطها في ظل الاعتراف بشرعية السلطة، وهذه تتفاوت ما بين اتحادات شعبية، وجمعيات ومنظمات لحقوق الإنسان، بالإضافة إلى شخصيات وطنية لها وزن في الساحة الوطنية والجزء الأكبر من هذه المؤسسات هي التي كانت تابعة لمنظمة التحرير وحولت نشاطها إلى نشط مدني/ سياسي.
4- منظمات واتحادات غير حكومية ذات انتماءات وعلاقات متعددة داخلية وخارجية، ويفوق عدد هذه المنظمات في مناطق الحكم الذاتي 1500 منظمة، أهمها منظمات حقوقية، ومنظمات ذات صبغة اجتماعية وأخرى ذات طابع ديني، وقد كانت هذه المنظمات فاعلة في دعم نضال الشعب الفلسطيني قبل بداية مسلسل التسوية، حيث كانت المنظمة والتنظيمات الفلسطينية الأخرى تمارس من خلالها مهاماً كانت عاجزة عن أن تقوم بها بشكل مباشر، إلا نه بعد دخول المنظمة إلى مناطق الحكم الذاتي، التحقت بعض هذه المنظمات بالسلطة وبعضها تحول إلى مؤسسات مدنية تعارض نهج التسوية.
إن المتتبع لعملية إعادة تأسيس المجتمع المدني في فلسطين وتحديداً داخل مناطق الحكم الذاتي، يلاحظ الصعوبات التي يواجهها الفلسطينيون سواء من طرف الكيان الصهيوني ومحاولات خنقه للطموحات الفلسطينية بإعادة بناء الوطن، إن من طرف استحقاقات اتفاقات أوسلو التي تضع خطوطاً حمراء لا يستطيع الفلسطينيون تجاوزها، كما أن السلطة الفلسطينية تحولت إلى شبه سلطة سياسية لها أهداف ومصالح تتصادم في كثير من الأحيان مع فعاليات المجتمع المدني.

ومع ذلك يجب الإشارة إلى أنه قليلاً ما يروج مصطلح المجتمع المدني في الخطاب السياسي الفلسطيني اليوم، نظراً لأن هذا المصطلح كما سبق الذكر يحيل دائماً إلى الديمقراطية كمكون من مكوناتها أو كمؤسس لها، وفي جميع الحالات يتم تداوله في الدول المستقلة وذات السيادة. أما بالنسبة للمجتمع الفلسطيني فبالرغم من وجود مؤسسات سياسية وأحزاب وسلطة إلا أن ذلك لا يرق لدرجة وجود دولة، كما أن الحركة السياسية التي تشهدها مناطق الحكم الذاتي لا يمكن نسبتها إلى الممارسة الديمقراطية الحقيقية ما دامت السلطة السياسية نفسها فاقدة لحرية اتخاذ القرار السيادي وكل ما يصدر عنها من قرارات يخضع لمراقبة إسرائيلية، ويمكن القول في هذا السياق أنه يوجد في فلسطين وعند الفلسطينيين ديمقراطيين دون ديمقراطية .

إلا أن المجتمع الفلسطيني شهد ظاهرة جديدة لم تعرفها بنفس الدرجة والنوع حركات التحرر الأخرى ألا وهي المنظمات غير الحكومية التي أصبحت تقوم بجزء من مهمات المجتمع المدني وتتداخل معه في كثير من الأحيان وتلعب دوراً في تفعيل وتنشيط الحياة السياسية الفلسطينية، الأمر الذي يتطلب منا التوقف قليلاً عند هذه الظاهرة.

المطلب الثاني: المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية
أحياناً يحدث تداخل في المهام ما بين المنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني، فكلاهما يتكون من التنظيمات والعلاقات التي يؤسسها المواطنون للدفاع عن مصالحهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية أو للدفاع عن قيم إنسانية عالمية بعيداً عن السلطة السياسية أو بالأحرى بعيداً عن سيطرتها أو تدخلها المباشر، إلا أن نقطة الاختلاف بينهما تكمن في الامتداد الخارجي أو العلاقات الخارجية. فإذا كان من شروط قيام مجتمع مدني حقيقي أن يقوم الأفراد لا السلطة بتشكيله وأن يكون مستقلاً عنها وغير تابع لها، فمن المنطقي إذن أن تكون مؤسسات المجتمع المدني ذات طابع وطني أي أن لا تؤسس بإيحاء خارجي أو تمول من الخارج حتى لا تصبح أداة في يد مموليها، فللمجتمع المدني وظيفة وطنية خالصة .

أما المنظمات غير الحكومية فيمكن أن نقسمها إلى قسمين: المنظمات غير الحكومية المحلية أو الوطنية وهذه يمكن اعتبارها الاسم الآخر للمجتمع المدني أو هي المجتمع المدني ذاته، وهناك المنظمات غير الحكومية الدولية، وهي وإن كانت تشترك مع منظمات المجتمع المدني في استقلاليتها عن الدولة وفي طبيعة النشاط الذي تقوم به فأنها تختلف معها في أنها امتداد لمنظمات ذات صبغة دولية وأهداف إنسانية عالمية وغالباً ما تتعلق بحقوق الإنسان الأمر الذي يجعلها أكثر إثارة للجدل في دول العالم الثالث حديثة العهد بالديمقراطية، وتعرف المنظمة غير الحكومية الدولية بأنها: منظمات ذات صفة دولية ولها هدف عام يشمل عدد كبير من الدول ولا يتعارض مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أو ميثاق هيئة الأمم المتحدة، وليس لها هدف تجاري أي لا تسعى إلى الربح المادي وإن يكون لها أجهزة علنية ودائمة ومعترف بها من طرف الدولة حيث تمارس نشاطها.

بالرغم مما أشرنا إليه من اختلاف ما بين المنظمات غير الحكومية الدولة والمجتمع المدني إلا أنهما يشتركان في كونهما منظمات يجمعها النضال من أجل الحرية وحقوق الإنسان ومواجهة تعسفات الدول، فوجودهما مرتبط بوجود ديمقراطية أو النضال من أجل الديمقراطية، فالدول غير الديمقراطية عدوة لهذه المنظمات ولا تسمح لها بالوجود وإن اضطرت لذلك فهي تضيق الخناق على عملها .

وعودة إلى الوضع الفلسطيني، مع بداية الحكم الذاتي في 1994 قام وضع ملتبس لا هو وضع دولة مستقلة ولا هو وضع احتلال حيث وجدت سلطة سياسية وطنية: مؤسسات وأجهزة أمنية وسجون الخ. وأصبح الشعب يواجه سلطتين سلطة الاحتلال من جهة والسلطة الوطنية من جهة أخرى، بالتأكيد لا يمكن وضع السلطتين في سلة واحدة، ذلك أن السلطة الوطنية هي امتداد للحركة الوطنية الفلسطينية أو وريثتها وهي مكسب وطني بالرغم من كل الظروف المحيطة بتشكلها وممارساتها، ولكنها تبقى سلطة تمارس التسلط تأمر وتنهي تصدر قوانين وتنفذها تعتقل وتحاكم، تمنح وتمنع، وهي في كل ذلك مقيدة باتفاقات تفرض استحقاقات يشعر الغالبية من الشعب الفلسطيني أنها مهينة تمس كرامته وحريته وما زاد العلاقة توتراً ووضع السلطة إحراجاً، غياب قانون فلسطيني وبالتالي غياب دولة القانون بالمعنى الدقيق للكلمة، فالسلطة الفلسطينية وبداخلها المجلس التشريعي لا تستطيع أن تضع قوانين تعبر عن سيادة وطنية وهو الأمر الذي يدفع السلطة أحياناً إلى تطبيق حزمة من القوانين الملتبسة، كقوانين الانتداب البريطاني أو القوانين المصرية التي كانت تطبق في قطاع غزة أيام الإدارة المصرية أو قوانين أردنية أو القوانين الإسرائيلية أيام الاحتلال، هذا الوضع يجعل مناطق الحكم الذاتي وكأنها تعيش حالة طوارئ.

في ظل هذه الظروف شعر المجتمع الفلسطيني في مناطق الحكم الذاتي أنه في الوقت الذي عليه واجب مساندة السلطة في عملية إعادة بناء الدولة الفلسطينية وواجب مواجهة مخططات العدو الاستيطانية، عليه في نفس الوقت العمل على تأسيس مجتمع مدني يمكن اللجوء إليه للحد من تسلط السلطة وللتعبير عن مطالبات والدفاع عن مصالح لم تلبها السلطة الفلسطينية وخصوصاً في إطار حقوق الإنسان، بالإضافة إلى ذلك أن قطاع من المجتمع يشعر أن مرحلة الثورة لم تنته بعد وأن الواجب الوطني يحتم توجيه كل الجهود لمقاومة الاحتلال الصهيوني بدلاً من الانشغال بقضايا ثانوية كالصراع على سلطة لا تملك من السلطة إلا اسمها.

إذا كانت المنظمات غير الحكومية تأسست في بداية الأمر كنوع من التحايل على العدو الصهيوني الذي كان يمنع تشكل أي أحزاب أو منظمات سياسية، ثم في مرحلة ثانية عندما تحولت م-ت-ف داخل فلسطين إلى سلطة سياسية هيمنت قوى المعارضة الفلسطينية ذات التوجه الديني التي أبعدت أو أبعدت نفسها عن السلطة ومؤسساتها على هذه المنظمات، إلى هنا يبقى الأمر مفهوماً ومقبولاً، إلا أن الوضع تغير وأخذ منحاً مغايراً عندما أخذت أطراف خارجية وخصوصاً المنظمات غير الحكومية الدولية، تمول وتدعم ما يفترض أنها مؤسسات المجتمع المدني، هذه الأخيرة التي أصبحت تستقطب أعداداً متزايدة من النخبة السياسية والمثقفة وتدفع لهم رواتب وحوافز مادية جد مرتفعة، مما أدى إلى تسابق أفراد النخبة على الانخراط في هذه المنظمات تحت شعار الدفاع عن حقوق الإنسان الفلسطيني أو تنشيط مجال البحث العلمي، ومن هنا لاحظنا كثرة عدد المنظمات الحقوقية ومراكز البحوث والدراسات في مناطق الحكم الذاتي حيث يفوق عددها عدد نظيراتها في أي دولة عربية وهو الأمر الذي أدى إلى تنافسها وتسابقها على كشف أي تصرف لأجهزة السلطة يستشف منه أنه يمثل انتهاكاً لحقوق الإنسان.
لا نقصد من كلامنا أعلاه التشكيك بالمنظمات غير الحكومية أو الزعم أن ملف حقوق الإنسان في مناطق الحكم الذاتي ناصع البياض، ولكننا نرى أن هناك قوى خارجية تلعب لعبة خطيرة توظف فيها البعض من السلطة والبعض من المنظمات غير الحكومية، هذه اللعبة الخطرة إن كان من ضمن أهدافها افتعال مواجهة ما بين المجتمع المدني الفلسطيني والسلطة الفلسطينية بحيث ينشغل كل طرف بالآخر وينسى الجميع العدو المشترك الذي ليس فقط المنتهك الرئيس لحقوق الإنسان الفلسطيني بل أيضاً محتل الأرض ومدنس المقدسات. وليس هذا هو الهدف الوحيد بل هناك هدف لا يقل خطورة يتمثل في خلق فجوة كبيرة ما بين النخبة الفلسطينية والشعب الفلسطيني، وإفراغ المجتمع الفلسطيني وحركته الوطنية من الفعاليات النشطة والنابغة إما بإدماجهم بالسلطة ومنحهم مواقع ورواتب متميزة أو باستقطابهم في منظمات غير حكومية حقوقية أو غير حقوقية وفي مراكز بحوث ودراسات تنبت كل يوم وكأن القضية الفلسطينية غامضة لا يعرف فيها الحق من الباطل وبالتالي تحتاج إلى مراكز بحث ودراسة!.

ولكن لعلاقة السلطة بالمعارضة أو بالمجتمع المدني وجه آخر يرتبط بخصوصية القضية الفلسطينية – التي سبق التطرق إليها – حيث أن البعدين القومي والديني للقضية يفرضا إيجاد نوع من التعاون ما بين الفلسطينيين – سلطة ومجتمع مدني – والعالمين العربي والإسلامي، فكيف يمكن أن نتحدث عن البعد القومي والمسؤولية العربية دون تنسيق ما بين التنظيمات الفلسطينية ذات الخطاب القومي وأنظمة عربية ترفع شعارات القومية أو تبدي استعدادها لمساعدة الفلسطينيين من منطلق الحس القومي؟ وكيف يمكن الحديث عن البعد الإسلامي والمسؤولية الإسلامية وخصوصاً في موضوع القدس دون تنسيق مع الدول والمنظمات الإسلامية وقبول دعمها المادي والمعنوي؟ بالإضافة إلى أن تردي الأوضاع الاقتصادية لمناطق الحكم الذاتي وسياسة الأرض المحروقة التي تمارسها إسرائيل تجعل قدرة المجتمع المدني الفلسطيني على النهوض اعتماداً على قدراته الذاتية أمراً صعباً.

لا غرو أن تمارس السلطة الفلسطينية حقوقها السلطوية على المجتمع الفلسطيني لأن لا دولة أو كيان سياسي دون ولا سلطة دون تسلط ، ولكن عليها في نفس الوقت أن تقوم بما يمليه عليها واجبها كوريثة لحركة التحرر الوطني وكمشروع لدولة ديمقراطية عصرية، ومن جهة أخرى على العاملين في مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، وخصوصاً الحقوقية، منها أن يضعوا نصب أعينهم المصلحة الوطنية لا ما تطلبه منهم الجهات الأجنبية الممولة. فهذه الأخيرة لا تهدف بالضرورة خدمة المصلحة الوطنية أو الاهتمام بالوضع الحقوقي في مناطق الحكم الذاتي من منطلق الغيرة على الإنسان الفلسطيني، بل لأهداف أخرى، كما أن على هذه المنظمات أن لا تنس أن الانتهاك الرئيس لحقوق الفلسطينيين لا يأت من السلطة الفلسطينية بل من إسرائيل، الأمر الذي يعيدنا إلى نقطة البدء بالتذكير أن فلسطين لم تستقل بعد، الأمر الذي يتطلب بدوره إيجاد صيغة لتوحيد جهود المجتمع المدني والسلطة لمواجهة العدو المشترك دون تجاهل حقوق الإنسان الفلسطيني داخل مناطق الحكم الذاتي لأنه عندما تنتهك حقوق الإنسان وتصادر حريته داخل وطنه وعلى يد مواطنيه لا يستطيع أن يطالب بحقوقه وحريته في مواجهة الآخرين.

نستخلص مما سبق أن المجتمع العربي بما فيه المجتمع الفلسطيني يشهد تبلور شكل من المجتمع المدني – بدرجات متفاوتة بطبيعة الحال – بما هو شيئ متميز عن السلطة السياسية، وظهوره جاء متصاحباً مع التوجهات الديمقراطية، ونعتقد أنه ليس المهم في هذه المرحلة حجم وفعالية مؤسسات المجتمع المدني وليس المهم إن كانت الدولة تساهم في تكوينه، بل المهم توفر الإرادة في خلق هذا المجتمع ليلعب دور الرقيب والحسيب على أنشطة الدولة بالإضافة إلى دور التثقيف السياسي والاجتماعي للمواطنين. وأنه من الخطأ في هذه المرحلة الانتقالية في الحياة السياسية العربية، وخصوصاً في الدول ذات التوجه الديمقراطي، التشكيك بكل ما يصدر عن الدولة من توجهات ترمي إلى خلق مؤسسات مجتمع مدني، ذلك أنه يجب أن لا يغرب عن البال أن الديمقراطيات العربية هي ديمقراطيات أبوية وموجهة، بمعنى أن التحولات الديمقراطية في هذه الدول تسير تحت إشراف القائد أو الزعيم الملهم رئيساً كان أم ملكاً، والإنجازات الديمقراطية التي تتحقق جزء منها تفرضه القوى المناضلة من أجل الديمقراطية وجزء يأتي كمنحة من الزعيم “الديمقراطي، وينطبق نفس الأمر على تأسيس المجتمع المدني، وهذا يعني تقبل القول بوجود مجتمعيين مدنيين في هذه المرحلة، وترسخ الديمقراطية الحقيقية سيعزز مكانة المجتمع المدني الحقيقي على المجتمع المدني الذي تؤسسه السلطة.

ومن هنا يمكن القول أنه لم تتبلور بعد نظرية سياسية حول المجتمع المدني العربي، بل هناك كتابات لم ترق إلى درجة النظرية.

وبالنسبة للحالة الفلسطينية توجد قواسم مشتركة ما بين الإرهاصات الأولى لتأسيس المجتمع المدني العربي قبل الاستقلال، وسيرورة تشكل المجتمع المدني الفلسطيني، فكلاهما ولد في رحم حركة التحرير الوطنية وكلاهما كان يناضل ضد الاستعمار ويسبق المصلحة الوطنية على المصلحة الفئوية أو الاقتصادية. ولكن ما يفرقهما هو أنه في الحالة الأولى انتقل المجتمع من مرحلة الاستعمار إلى مرحلة الاستقلال مباشرة، أما في الحالة الفلسطينية فما بين الاحتلال والاستقلال جاءت مرحلة الحكم الذاتي المحدود وهي مرحلة ضبابية على كل المستويات، فلا السلطة الفلسطينية سلطة سياسية بمعنى الكلمة ولا المجتمع المدني مجتمع مدني بمعنى الكلمة، وهذا ما يعطي للتجربة الفلسطينية الخصوصية المشار إليها.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى