نظرية العلاقات الدولية

نظرية ما بعد الحداثة: الأسس والمنهجيات – الجزء الأول والثاني

لطالما اتُهمت نظريّة ما بعد الحداثة بانحرفها عن المسار السياسي السليم، وتعاطفها مع الإرهاب. ويمكن أن نعزو ذلك إلى نقاشات رواد هذه المدرسة المثيرة للجدل، إذ قام البروفسور جايمس دير ديريان على سبيل المثال بافتراض أن جورج بوش الابن وأسامة بن لادن، يمتلكان اليقين الأبستمولوجي (المعرفي) والأخلاقي ذاته.

لم يقتصر الجدل حول تعاطف نظرية ما بعد الحداثة مع الإرهاب وحسب، إنما طال طبيعة النظرية وافتراضاتها؛ إذ يعتبرها البعض منهجية مكمّلة لمدرسة فرانكفوت ونظريتها النقدية، ويصفونها بأنها نظرية ما بعد بنيوية (Post-structuralist)، أو نظرية تفكيكية (Deconstruction Theory)؛ لأنها تعمل على تفكيك الوحدات التحليلية بغرض فهمها.

إن الافتراضات التي وصفت نظرية ما بعد الحداثة بأنها مجرد أداة للتحليل، هي افتراضات مجحفة في حق النظرية التي قدّمت الكثير على مستوى العلاقات الدولية والمشروع الكوزمابوليتي (الأممي)، وهذا ما سأحاول أن أشرحه في المقال القادم، أما عن هذا المقال فسوف أكتفي بأن أشرح أهم الأسس والمنهجيات التي طورها رواد نظرية ما بعد الحداثة.

علاقة المعرفة والسلطة في العلاقات الدولية

يرفض أنصار نظرية ما بعد الحداثة فكرة أن تكون المعرفة محصنة ضد التأثر بالقوة والسلطة، ولهذا فإنها تميل إلى فهم المعرفة بوصفها ظاهرة مُسيّسة، وهو افتراض لا يتناقض مع المصفوفة المعرفية التي أشار إليها الفيلسوف الكبير ميشيل فوكوه، والتي اعتبر بموجبها أنّ التناسق بين المعرفة (أنماط التفسير)، وبين السلطة (عمليات القوة) هو أمر حتمي ولا مفر منه، إذ إن السلطة والمعرفة يدعمان بعضهما البعض. لهذا فإن اتّباع الباحثين لمصادر أو ضوابط أبستمولوجية (معرفية) أحادية سوف ينتج نظريات متحيزة وغير موضوعية، وهو الأمر الذي اعتمد عليه ريتشارد آشلي في بناء نموذجه، ليشير إلى أن العلاقات الدولية بشقيها التنظيري والعملي محكومة بمبدأ سيادة الدول (sovereignty).

لذا فإن مدرسة ما بعد الحداثة قد اتخذت على عاتقها مهمة تفكيك البنية السيادية للدول، والعمل على فهمها بهدف فهم وتفسير العلاقات الدوليّة، وإيجاد الحلول لمشكلاتها، ويمكن أن نميز عددًا من الطرق والمنهجيات البحثية التي طوّرها أنصار النظرية ما بعد الحداثية لهذا الغرض:

1- الجينيولوجي (Genealogy) أو علم الأنساب

تعود أصول هذا العلم لفلسفة نيتشه الذي انتقد ظاهرة الأصول أحادية الجانب بشدة، إذ يركز علم الأنساب على دراسة العمليات التي كونت البشرية بموجبها الأصول أو الجذور التي نعرف الأشياء بواسطتها، لهذا فإن علم الجينيولوجي لا يشكك بالتاريخ وحسب، بل ويحاول دائمًا افتراض رواية تاريخية مضادة لما نعرفه، لأنه يعتبر أن البشرية لم تعرف تاريخًا واحدًا؛ بل عدة تواريخ كل منها تم تدوينه بحسب وجهة نظر المدون وفهمه وحتى مصلحته، وبما أن المعرفة تتأثر بالسلطة أو القوة فإن كل ما نعرفه تاريخيًّا هو وجهة نظر واحدة استطاعت أن تهيمن على وجهات النظر الباقية؛ لأنها امتلكت القوة، أو خدمت مصالح من بيده السلطة. يمكن أن نضيف لهذا النقاش أيضًا نسبية المنظور الذي يرى بموجبه المدوّن ما يعرفه، إذ إن كل وجهة نظر صالحة للمكان والزمان الذي وُجدت ضمنه.

لقد استطاع نيتشه تمييز هذه الفكرة بشكل مبكر؛ لذا فقد دعا إلى التشكيك بحقيقة العالم أو كل ما نعتبره حقيقة؛ لأن الحقيقة دائمًا تحمل أكثر من وجهة نظر، أو أكثر من تفسير، وهو الذي أطلق عليه جاك ديريدامصطلح التناص «Textuality»، إذ يمكننا أن نقول إن أي مفهوم في العالم هو عرضة للاستخدام بحسب السرد «Narrative» (فعلى سبيل المثال يمكن أن تكون أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عملًا إجراميًّا، أي إرهاب إسلامي فاشي، أو عملًا انتقاميًّا) ولكل منظوره حول هذا الأمر، بحسب السياق الذي يريد أن يوردها الراوي ضمنه.

هنا يمكننا أن نقول إن الجينيولوجي هو علم يربط بين المعرفة والبنية التاريخية للهويات، والوحدات، والضوابط، والأشياء، والأهداف… إلخ، لهذا فإن استخدام فوكوه لمنهجية الجينيولوجي في محاولة فهم وتحليل علاقات السلطة في الدولة، قد أفضى بشكل أو بآخر إلى دراسة وتصفح علاقة السياسة بالتاريخ، بحيث اعتبر أن القوة السياسية التي بنت نفسها واكتسبت شرعيتها في ظل الدولة القومية لن تنهي الحروب إلا في حالة كان السلام هو مرحلة تحضير لحرب مقبلة، وبناءً عليه فقد دعا فوكوه إلى استخدام الجينيولوجي بغرض الانفصال المنظّم عن الهوية لسببين أساسيين: أولهما له بعد أونطولجي (وجودي)، وهو تجنب استبدال المسببات (causes) بالآثار (effects)، وهو الأمر الذي لا يمكن تحقيقه بدون الانفصال عن الهوية، أما السبب الثاني فله بعد سياسي- أخلاقي؛ لأن تشكيل الهويات تاريخيًّا لم يتم بشكل حيادي أو طبيعي ولهذا فلا يسعنا أن نقبل حياديتها.

أشارت البروفسور ماجا زيهفوس إلى معضلة الأثر والمسبب وانتقدت الحكومات التي قادت الحرب على الإرهاب لإدعائها أن السبب الذي أدى لقيام الحرب هو أحداث الحادي العشر من سبتمبر، في حين لم تتطرق تلك الحكومات إلى أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر كانت أثرًا لمسببات أخرى عديدة.

وهكذا فقد تم ترسيخ تلك الأحداث في عقول العالم مسببًا وليست أثرًا. وهذا ما يطلق عليه اسم «سياسات الذاكرة» إذ إن العالم لن يتذكر الحرب على الإرهاب إلّا بوصفها أثرًا جاء نتيجة لمسبب وحيد، وهو أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتصبح هذه السردة بوضع مهيمن عالميًّا؛ لأنها الأكثر تداولًا في الإعلام. وبناءً عليه فإن زيهفوس تعتبر أن تجاهل الروايات (Narratives) الأكثر تداولًا والتي هيمنت عبر التاريخ هو ضرورة عند القيام بالتحليل.

وهو الأمر الذي يجعلنا نفهم الأسباب التي دفعت ميشيل فوكوه لإعادة صياغة تاريخ العالم الحالي من خلال التشكيك بالمفاهيم التي تبدو للوهلة الأولى طبيعية وحيادية، وتفكيك تلك المفاهيم ليسهل تحليلها.

2- التفكيكية (Deconstruction)

وتعد من الاستراتيجيات النصيّة التي استخدمتها مدرسة ما بعد الحداثة منهجية من منهجياتها، وهي تعتمد بشكل رئيسي على محاولة فهم السياق الذي وصل لنا بوصفه حقيقيًّا؛ إذ إن الحقيقة بحسب ديريدا هي أمر لا يمكن فهمه إلا من خلال فهم التجارب التفسيرية، ومن خلال خلق حالة من التضاد أو التعاكس، فيمكن لنا على سبيل المثال اعتبار حقيقة أن الأرض كانت مسطحة هو واقع بقي حقيقيًّا لآلاف السنين قبل أن يستطيع الإنسان فهم كرويتها من خلال التجارب التفسيرية (غزو الفضاء الخارجي)، لتبقى كروية الأرض في ذهن البشرية مفهومًا معاكسًا لكونها مسطحة.

والأمر سيان بالنسبة للعلاقات الدولية إذ إن واقع الحرب والسلام هو تابع لفهمنا عن تجربة الحرب وتجربة السلم، هنا تشير المدرسة ما بعد الحداثية إلى أن أهمية المفهوم تكمن في السياق الذي يمكن أن نفهمه من خلاله ومن خلال عكسه، لهذا فإننا نحاول أن نفهم الأمور على شكل أزواج من العكوس. فنحن نفهم الحرب بوصفها عكسًا للسلام، ولهذا فإن إدراكنا يفترض بأن الحرب أي حرب هي مفهوم سيئ بالمطلق؛ لأنها معاكسة للسلام.

وهكذا فإن التفكيكية تحاول تفكيك المفاهيم، والنظريات، والشموليّات (Totalities)، والبنى إلى أجزاء متعاكسة بغرض تفسيرها أولًا، وإبراز أوجه قصورها ثانيًا.

3- القراءة المزدوجة

وهي منهجية يدعو ديريدا لاستخدامها بهدف زعزعة استقرار البُنى، إذ إنه دعا لقراءة أي شيء مرتين عند القيام بتحليله، وتهدف القراءة الأولى لتفسير وجهة النظر المهيمنة وتأكيدها والتعليق عليها بغرض فهم درجة تماسكها، فيما تهدف القراءة الثانية إلى مواجهة وجهة النظر المهيمنة، والعمل على ضرب نقاط ضعفها التي ظهرت في القراءة الأولى بهدف تفكيكها، إذ تعمد منهجية القراءة المزدوجة إلى إيجاد نقاط ضعف ذاتية أو داخلية في مفاهيمنا.

لقد قام الأكاديمي ريتشارد آشلي بمبادرة تعد من أوائل الأعمال التفكيكية المهمة في مجال العلاقات الدولية، وبموجبها فقد أجرى قراءة مزدوجة لإشكالية الفوضى الدولية «Anarchy problematique»، والتي تعد مفهومًا أساسيًّا في أدبيات المدرسة الواقعيّة، إذ حاول آشلي في قراءته الأولى ايجاد مميزات وخصائص محددة لإشكالية الفوضى، أما في قراءته الثانية فحاول تفكيك هذه الخصائص والميزات بهدف إيجاد نقطة الضعف في النظرية.

 وهكذا فقد حقق الهدف الرئيسي من هذه القراءة المزدوجة، ألا وهو إيجاد حالة التضاد بين مفهومي السيادة الوطنية والفوضى الدولية، باعتبارهما تمثلان حالتين متعاكستين، تعتمد الأولى على الأوضاع الداخلية المستقرة داخل الدولة، فيما تمثل الثانية العلاقة بين دولتين ذوات سيادة أو أكثر؛ لهذا فهي تصف الحالة خارج حدود الدولة.

ساهمت دراسة آشلي بإبراز سؤالين مهمين للغاية في تحليل إشكالية الفوضى: الأول ذو طبيعة آونطولجيّة يفترض أن حالة الفوضى تعتمد بشكل أساسي على وجود الدول القومية ذات السيادة، إذ إن غياب الدول ذات السيادة يمكن له أن يفتح المجال لعدّة تساؤلات حول احتمال وجود إشكاليّة الفوضى، أما السؤال الثاني فيتعلق باحتمالية وجود إشكاليّة الفوضى في حال تغييب افتراضات توازن القوى، ورفض الفكرة القائلة بأن القوة هي المحدد الرئيسي الذي يحكم السياسات العالمية.

دفع هذان السؤالان أعلام مدرسة ما بعد الحداثة لإجراء تحليل شامل لإشكالية الدولة ذات السيادة، ومن ثم افتراض نموذج يحاكي العالم ما بعد تلك الدولة، والنظام الدولي الذي يمكن أن ينشأ إذا ما تم الاستغناء عنها، وهذا ما سوف أتحدث عنه في الجزء الثاني من هذا المقال.

 

لقد تحدثت في المقال السابق عن مبادئ وأسس نظرية ما بعد الحداثة وقمت بتفصيل أهم المنهجيات التي طورتها، وكان أهمها الجينيولوجي والتفكيكية والقراءة المزدوجة، كما شرحت في المقال السابق أهمية القراءة المزدورجة التي قام من خلالها ريتشار آشلي بتحليل إشكالية الفوضى لتتركه مع تساؤلات جديدة عن العلاقة بين الفوضى والدولة السيادية وهو الأمر الذي شجع رواد المدرسة ما بعد الحداثية لتفكيك الدولة ذات السيادة إلى عدد من المكونات بهدف زعزعة استقرار هذه المكونات.

خلق إشكالية الدولة ذات السيادة

عمدت مدرسة ما بعد الحداثة إلى تحليل الدولة ذات السيادة معتمدةً على المنهجيات التي ذكرتها آنفًا مثل الجينيولوجي والتفكيك والقراءة المزدوجة، نظرًا لأهمية الدولة ذات السيادة كوحدة أساسية في تحليل العلاقات الدولية، ولهذا الغرض فقد قام رواد مدرسة ما بعد الحداثة بتفكيك الدولة لأربع محددات أساسية للتمكن من تحليلها وهي: العنف بوصفه أساسًا لقيام الدولة، والحدود كسمة من سمات الدولة، والهوية التي يتم بموجبها تحديد مفهوم الأمن ورسم السياسة الخارجية للدولة، والكفاءات السياسية التي تقوم بإدارة الدولة.

أولًا- العنف

مع أن العديد من الدول الحديثة قد استبدلت العنف واستخدام القوة بوسائل أكثر حضارية وأكثر مراعاةً للمنطق والأخلاق في إرساء قواعد الحكم ، إلا أن كُلًّا من ديفيد كامببيل ومايكل ديلون افترض أن العلاقة بين العنف والدولة الحديثة هي علاقة عميقة، لأن العنف متأصل في جذور هذه الدولة، حيث أن المجتمعات السيادية تحتاج لممارسة العنف باستمرار لإرساء قواعد الإستقرار، والمفارقة هنا أن الدولة الحديثة تعتبر أن العنف هو السم والعلاج في آن معًا، فلا يمكن للدولة الحديثة أن تستغني عن العنف.

يمكننا أن نفهم هذا الافتراض من خلال النظر إلى سلوك أكثر الدول ديمقراطية في العالم، عند تعرضها لهجوم إرهابي على سبيل المثال، حيث نلاحظ أن الدولة تفرض قانون الطوارئ على الفور وهو الأمر الذي يمكن أن يُفهم كتجريد للمواطنين من حقوقهم المدنية (أو جزء منها) ووضع أسس لشرعنة أي عنف محتمل من قبل أجهزة الدولة.

أما البروفسور جيني إيدكنز فتشير لهذه المفارقة (مفارقة العنف وإحلال النظام) بالتشبيه بين حالة المعتقلين في المخيمات النازية، وحالة اللاجئين في المخيمات التي ينشؤها الناتو بُعيد أي حالة تدخل إنساني، حيث أن الأفراد في الحالتين يتجردون من حقوقهم المدنية أو جزء منها ويصبحون ضحايا للعنف الذي يمارس لأغراض سياسية.

كما يناقش برادلي كلاين في كتابه (الدراسات الاستراتيجية والنظام العالمي) الموضوع من زاوية مختلفة، حيث يشير إلى وجود أسس جينيولوجية للعنف في الدولة الحديثة التي تعمد على فصل مواطنيها (الداخل) عن الدول الأخرى (الخارج) وهكذا فإن استخدام الدولة للعنف يمكن أن يأخذ شكل الاستراتيجية التي تحقق الدولة بموجبها أهدافها.

إن هذا النقاش عن العلاقة بين سلطة الدولة التي تحصل عليها بموجب مبدأ السيادة والمواطن المحكوم بهذا المبدأ هو نقاش مطول، سأحاول أن أختصره من خلال سرد أفكار الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبن والذي يشير في كتابه (الكائن المُستباح: السلطة السيادية والحياة العزلاء) إلى أن العلاقةَ بين الدولة والمواطن، تحمل في طياتها القدرة على وضع ممارس السلطة خارج إطار حكم القانون. وهو ما يؤدي لنشوء حالة استثنائية يعيش بموجبها المواطن ما يسمى بالحياة العزلاء (Bare Life)، أي أن حياة المواطن وموته يصبحان كليًّا رهن سلطة الدولة. ويعتبر أغامبن بشكل مثير للدهشة أن حالة الاستثناء هذه ليست تدبيرًا موقّتًا يُتّخَذ عند وقوع الأزمات، بل يعتبرها قاعدة عامة ترتكز عليها العلاقة بين السلطة والمواطن. وقد اسقطت جوديث بوتلر في مقالها احتجاز لأجل غير مسمى افتراضات أغامبن على السياسات التي انتهجتها الولايات المتحدة في حربها على الإرهاب وخصّت بوتلر معتقل جوانتانامو بالذكر، كمثال على قدرة الولايات المتحدة ايقاف العمل بالقانون بحجة حالة الطوارئ.

إن كل ما سبق يشير إلى وجود جذور متأصلة للعنف في بنية الدولة الحديثة بغض النظر عن درجة ليبراليتها، وديمقراطيتها؛ لأن فكرة الدولة الحديثة تقوم على إقصاء الغير وحماية الداخل من تأثيرات الخارج وهو الأمر الذي يشرع استخدام العنف.

ثانيًا- الحدود

تعتبر الحدود السيادية من أهم المفاهيم في بنية الدولة لأنها تمثل المنطقة الجغرافية التي تستطيع الدولة ضمنها ممارسة سيادتها وهي بذلك تقسم الفضاءات السياسية إلى قسمين الفضاء الداخلي الذي تسعى الدولة للحفاظ على استقراره من خلال ممارستها لحقوقها السيادية، والفضاء الخارجي الفوضوي والتعددي والذي تحاول الدولة حماية فضاءها الداخلي من تأثيراته، لهذا ونظرًا لأهمية الحدود في فصل الفضاءات السيادية، وبالتالي فصل الهويات فقد وجد انصار مدرسة ما بعد الحداثة ضرورة لمحاولة تفسير الحدود وكيف نشأت والأسس الأخلاقية والشرعية التي أدت لرسم خريطة العالم السياسية بالشكل الذي نعرفه.

ثالثًا- الهوية

يبقى موضوع الهوية من أهم المواضيع التي تحكم البيئة الدوليّة، بل وقيام الدولة الحديثة، لأن الدولة الحديثة تاريخيًا احتاجت لهوية محددة تجمع كل من في الداخل حول مشروع يفرقهم عن كل من في الخارج، لهذا فإنه ولإنشاء الدولة الحديثة لا بد من وجود مشروع هوية مشتركة لكل من يتواجد ضمن الحيز الجغرافي الذي تمارس الدولة سلطتها السيادية ضمنه.

وتكمن أهمية الهويات في قوة تأثيرها على الأفراد، حيث يمكن أن تكون سببًا مبررًا للقتل وارتكاب جرائم التطهير العرقي وهو الأمر الذي يدفع بالدول اتجاه الحروب الأهلية والنزاعات المسلحة، وأخص بالذكر الحرب الأهلية اللبنانية والتي دفعت بأمين معلوف لتأليف كتابه الهويات القاتلة، كما يمكن أن نعتبر أن الحروب التي تبعت تفكك جمهورية يوغسلافيا بين كل من الصرب والكروات والبوسنيين كمثال أكثر دمويةً للصراع بين الهويات، وهنا يمكن أن نشير إلى مؤلفات ديفيد كامببيل وخاصةً كتاب (التفكيك القومي: العنف، الهوية، والعدالة في البوسنة)، والذي تحدث فيه عن أهمية الهوية في بناء الدولة وممارسة العنف الذي يصاحبه.

من المهم أن نعرف أن فكرة المجتمع المتجانس كانت واحدة من الأسس التي تحكمت تاريخيًا بعملية بناء الأمم حيث أن الدول الحديثة لطالما احتاجت لإنشاء هوية محددة ومتميزة لنفسها، تتميز بها عن الآخرين. وتحمي بذلك حدودها السيادية ومواطنيها ذوي الهوية المتجانسة من تأثيرات الخارج غير المتجانس.

فلنأخد الصراع الآيديولوجي بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة كمثال بارز، حيث بقي كل طرف يحاول حماية الهوية التي تميزه ويحاول بالمطلق رفض أو شيطنة هوية الطرف الآخر، والنظر إليه على أنه تهديد خارجي، ولكن يبقى السؤال الأهم  حول إذا ما كان تباين الهويات هذا بسبب الاختلاف في الأيديولوجيا أم بسبب الصراع الجيوسياسي؟

في الواقع يعتبر رواد مدرسة ما بعد الحداثة أنّ الصراعات الجيوسياسية هي السبب في تباين الهويات ايديولوجيًا، وهم بهذا يعودون إلى الافتراضات الواقعية، ولكن الحاجة إلى بناء نموذج سيادي ضمن الحدود هي ما يدفع بالسلطة لبناء المشروع القومي الذي يعتبر فيها المواطنون هويتهم متفوقة (superior) على الهويات الأخرى التي يرونها أدنى منزلةً (inferior) وهو الأمر الذي يؤدي بحسب كامببيل إلى خلق نوع جديد من التضاد (هوية متفوقة/ هوية دونية) يرافق ظهور التضاد الذي تنشؤه الحدود (داخل/خارج).

رابعًا- الكفاءات السياسية التي تقوم بإدارة الدولة (StateCraft)

عمدت نظرية ما بعد الحداثة إلى تفكيك كفاءة إدارة الدولة، لتتمكن من خلق إشكالية الدولة القومية فبعد أن رأينا كيفية فهم العنف، والحدود، والهوية، من خلال منهجيات التفكيك وتشكيل المفاهيم المتضادة، يمكن أن نُعرّف كفاءة إدارة الدولة بأنها القدرة على الهيمنة ثقافيًا وسياسيًا، ونعني بالهيمنة عرض وتكرار عرض النموذج الأمثل (exemplary) لتنظيم الحياة السياسية ضمن المجتمع السيادي، ويمكن أن نعتبر هذه الهيمنة قد جاءت نتيجة للكفاءة السياسية في الحكم أو نظرًا للوضع الجيواستراتيجي للمجتمع السيادي.

هنا يتوجب الإشارة إلى أن نجاح تلك الكفاءات السياسية في إدارة شؤون الدولة ليس شرطًا أساسيًا لجعلها مهيمنة، فعلى سبيل المثال يمكن أن نقول أن القيادات في الشرق الأوسط عمومًا قد أثبتت فشلها في إدارة الدول (فشل في معظم المجالات)، وعلى الرغم من ذلك فقد احتفظت بحقوقها السيادية لمدة طويلة، إذا فإن الدول الفاشلة أو أشباه الدول quasi-states يمكنها أن تمارس السيادة أيضاَ باستخدام العنف والحدود والهوية، ويرجع هذا إلى أنّ ممارسة السيادة لا تحتاج إلى شعب مترف أو إلى تطوير مجالات الحوكمة، بل في الواقع  تحتاج ممارسة السيادة إلى فصل الداخل عن الخارج وحماية الداخل من تأثيرات الخارج، مع الابقاء على الهيمنة الحكومية.

إنّ أحداث ما سُمي بالربيع العربي  بمجملها تتمحور حول هذه البنية حيث أن الدول وأنظمة الحكم فيها قد اعتبرت أن تدخلًا خارجيًا كان وراء تلك الأحداث ، لذا فإن تلك التظاهرات تشكل تهديدًا للسيادة، بينما رفضت الشعوب المتظاهرة هذه المزاعم وأرادت تحدي هيمنة تلك الكفاءات الحكومية الفاشلة نسبيًا. ولهذا فإن أنظمة الحكم قد ارتأت أن استخدام العنف هو الطريقة الأمثل لحماية حدودها من التدخل الخارجي بسيادتها المفترضة.

يبقى من المهم أن نعلم أنّ مدرسة ما بعد الحداثة لا تسعى لتفسير بنية النظام الدولي من خلال الدولة وحدها، كما أنها لا تحاول قبول نموذج الدولة ذات السيادة بوصفه مركزيًا، في العلاقات الدولية، بل إنها تحاول إيجاد نموذج ليحل محل الحالة القائمة، ولكنّ ايجاد نموذج مماثل يتطلب تفكيك الدولة السيادية وتحليلها وهذا ما سعى إليه آشلي عندما حلل إشكالية الفوضى بواسطة القراءة المزدوجة.

ما بعد نموذج السيادة.. إعادة التفكير بالعلاقات الدولية

تفترض مدرسة ما بعد الحداثة أن مفهوم السيادة قد طغى على تفكيرنا بالعلاقات الدولية إلى الحد الذي أصبحنا لا نرى غيره، وهذا ما يجعل مهمة التفكير بصياغة جديدة لممارسة السياسة صعبةً للغاية، ولهذا فإن كامببيل يدعوا إلى التفكير بسياسية غير قابلة للتصور (political prosaics) نستطيع بواسطتها أن نرسم نموذجًا يستوعب كل ما يطرأ على العالم من تغيّرات فرضتها العولمة لنتجاوز بذلك حدود الدولة ذات السيادة.

أن هذا النموذج من شأنه أن يتحرر من الإرتباط بالدولة ذات السيادة ليستوعب عددًا أكبر من المنظمات والفاعلين السياسيين غير الحكوميين، ويدعم بذلك ما يمكن أن نطلق عليه اللاأقلمة (deterretorilization)، حيث أن هذا النموذج بنظر بعين أكثر أممية ومن شأنه أن يستوعب التحولات التي تطرأ على النظام الدولي جراء التطورات التكنولوجية، تدفق الهجرات واللاجئين، وكل ما ينتج عن العولمة، لأن عملية اللاأقلمة المفترضة لا تزيل  تأثير الحدود السياسية التي تحدثنا عنها سابقًا وحسب، بل تطال الهوية والسيادة التي تتمتع فيها الدول، لهذا فإنها تجعل عمليات الإدماج بين الشعوب أكثر سهولة.

كما يُمكّننا هذا النموذج بحسب رولاند بلايكر من إنشاء منطقة رمادية بين السياسة المحلية والسياسة الدولية يتم بموجبها حل العديد من الإشكاليات التي تحكم العلاقات الدولية.

هنا يتوجب الإشارة إلى أن مدرسة ما بعد الحداثة تحاول انتقاد ظاهرة الدول السيادية بوصفها لاأخلاقية لإنها تشجع على التعارض الوجودي بين الشعوب ولهذا فإنها سوف تستمر بخلق الحروب والنزاعات، وهذا ما من شأنه أن يعطل الحياة السياسية الحديثة للأفراد ويقف في وجه المشروع الأممي العالمي. لذا فإن كامبيل وكثيرين غيره قد دعوا إلى نموذج جديد يشجع على التعددية الثقافية، ويعبر الحدود السياسية للدول السيادية، بل ويقاوم محاولات تلك الدول التي تهدف لللأقلمة.

كما أن كلًّا من آشلي ووالكر قد دعا إلى نموذج أخلاق كونية تتعدى تلك التي تفرضها الحدود السياسية للمناطق بحيث يطبق في جميع أنحاء العالم وأطلقا عليه اسم الروح الديبلوماسية (diplomatic ethos)، أما بالنسبةلإيمانويل ليفيناس فقد قدم نموذجًا مختلفًا عمل من خلاله على قلب الهيكلية بين الأخلاق والوجود ليعطي الأخلاق الأفضلية لكونها يمكن أن تشكل أرضًا خصبة للوجود، حيث أن اعتبار الأفضلية للوجود لن يؤدي لنفس النتيجة. فبالنسبة لليفيناس فإن الأخلاق يجب أن تبدأ بمراعاة الآخرين قبل النفس وهو بذلك قد عاكس العديد من الفلاسفة الذين اعتبروا أنه من الأفضل البدء بمراعاة النفس ثم تعميم الخير للآخرين.

إذًا وكما رأينا، فإن مدرسة ما بعد الحداثة لم تكن مجرد أداة للتحليل أو منهجية للبحث، بل كانت مدرسة في العلاقات الدولية انتقدت نموذج الدولة ذات السيادة وعملت على تفكيكه بغرض تحليله ومن ثم افتراض نموذج جديد يتم فيه إعادة تعريف السياسة من خلال اللاأقلمة والدعوة إلى منهج أكثر أممية لاستيعاب التطورات التي طرأت على بيئة العلاقات الدولية كما أن للمدرسة نظرة خاصة للأخلاق قدمت نموذجًا جديدًا للعالم.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى