نيكيتا خروتشوف: في سيرة الزعيم السوفييتي.. وعلاقاته مع العالم العربي زمن الحرب الباردة

محمد عبدالرحمن عريف

      هي حلقة تفتح مذكرات الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف، الذي تحوّل من مزارع بسيط وعامل منجم إلى قائد قوة عالمية عظمى وتفرّد بشخصية اعتبرها كثيرون استثنائية، وتسلط الضوء على علاقته مع جمال عبد الناصر، وتتحدث عن أسباب انتهاج موسكو بقيادته سياسات انفتاح مع العالم العربي، وتتطرق إلى دور حقبة الزعيم السوفيتي في تشكيل ملامح عدد من الدول العربية أثناء الحرب الباردة.

      هو رئيس الاتحاد السوفييتي، والسكرتير العام للحزب الشيوعي السوفييتي، في المنصب 1955 – 1964 Fleche-defaut-droite-gris-32.pngجورجي مالينكوفليونيد بريجنيفFleche-defaut-gauche-gris-32.png

نشأته

    ولد نيكيتا خروتشوف في كالينكوفا بمقاطعة كورسك الواقعة على الحدود الفاصلة بين روسيا وأوكرانيا، من عائلة يعمل أفرادها في المناجم. عمل في البداية راعياً ثم عاملاً في مصانع الحديد والصلب، وانتسب إلى الحزب الشيوعي عام 1918 وحارب إلى جانب الحرس الأحمر أثناء الحرب الأهلية، وبعد أن استتب السلام بانتصار الثورة، اشتغل كعامل مناجم وانتسب إلى الجامعة العمالية عام 1922 حيث أصبح أمين سر خلية شيوعية فيها، وبعد أن أنهى دراسته في الجامعة العمالية تفرغ للعمل السياسي في الحزب الشيوعي الأوكراني.

مع ستالين سنة 1936

    في عام 1929 أوُفد إلى موسكو للدراسة في أكاديميتها الصناعية، وبقي فيها حتى عام 1931 حين عاد إلى أوكرانيا وأخذ يتسلق فيها بسرعة أعلى المناصب الحزبية؛ فعمل سكرتيراً لعدة لجان حزبية 1931، ثم انتخب عضواً في اللجنة المركزية 1932، فعضواً في مجلس السوفييت الأعلى 1937، فسكرتيراً أولاً للحزب الشيوعي الأوكراني، وعضواً مرشحاً للمكتب السياسي 1939 وهو منصب رفيع يعتبر شاغله من قادة الاتحاد السوفييتي الفعليين.

     في الحرب العالمية الثانية تولى خروتشوف نقل الصناعات السوفييتية من أوكرانيا نحو الشرق إنقاذاً لها من الاجتياح الألماني. ثم عمل في المجالس الحربية في الجبهتين الغربية والجنوبية الغربية، وشارك في تنظيم حرب الأنصار خلف الخطوط الألمانية، وساهم كمفوض سياسي في الجيش للدفاع عن ستالينجراد.

     في عام 1943 مُنح رتبة فريق، وعندما حرر السوفييت كييف في نوفمبر 1943 عاد إلى العمل كسكرتير أول للحزب الشيوعي الأوكراني. وفي ديسمبر 1949 انتقل خروتشوف إلى موسكو حيث أصبح أحد سكرتيري اللجنة المركزية للحزب، واكتسب سمعة طيبة في مجال السياسة الزراعية. وفي أكتوبر 1952 وفي المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي السوفييتي، انتُخب عضواً في المجلس الرئاسي للجنة المركزية ولأمانة سر اللجان.

توليه الحكم

     بعد وفاة ستالين عام 1953، قرر أعضاء اللجنة المركزية السبعة المجتمعون أن يتولى السلطة ثلاثة منهم هم: مولوتوف ومالينكوف ولافرينتي بريا، إلا أن لافرينتي بريا طمع في الانفراد بالحكم فاعُتقل وأعُدم، واستفاد خروتشوف من تصفية بيريا فأزاح مالينكوف بسهولة وأحل بولغانين مكانه. وفي الوقت نفسه تصدى لحل مشاكل كانت مفتاح شعبيته (كتحسين الأوضاع المادية، الإفراج عن المعتقلين السياسيين، التقارب مع تيتو، تطوير الاقتصاد الزراعي). غير أن ضربته الكبرى أتت في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي الذي أعلن فيه الحرب على الستالينية.

     وكان المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي 1956 أول مؤتمر ينعقد بعد وفاة ستالين، وخضع فيه الخط الجديد للمناقشة قبل أن يُقر ويُطبق بعد ذلك على كافة الأصعدة (الإيديولوجية والاقتصادية والعلاقات بين الدول ذات الأنظمة المختلفة). وأعدت هذا المؤتمر لجنة تحضيرية مؤلفة من خروتشوف (رئيساً) وشبيلوف، كاغانوفيتش، ميكوبان، سوسلوف وفورشيلوف. ولم يكن من المقرر البحث في أعمال ستالين. وفي فبراير 1956 افتتح خروتشوف المؤتمر العشرين وتلا فيه على مدى ثمان ساعات تقريره الذي يقع في مائة صفحة، وبعد أن عرض الوضع الدولي للاتحاد السوفييتي، والحالة الداخلية ونتائج الخطة الخمسية للصناعة ونمو الإنتاج الزراعي، ورفع المستوى الثقافي للشعب وتقدم الديموقراطية وتقوية الشرعية في النظام السوفييتي، انتقل خروتشوف إلى مشاكل الحزب الداخلية مستشهداً بلينين ومندداً ببيريا مشيراً إلى وفاة ستالين، إلا أن أحداً من الخطباء لم يُشر ولو بإشارة عابرة إلى ستالين. وأقر المؤتمر الخطوط الكبرى لتقرير خروتشوف ثم دعُى المندوبون إلى جلسة خاصة مفاجئة، حُدد يوم 24 فبراير 1956 موعداً لها حيث استمعوا إلى تقرير خروتشوف عن عبادة الفرد ونتائجها ومساوئها مع بحث حول القيادة الجماعية وفوائدها، وندد بجرائم ستالين وغروره وبمساوئ بوليسية السري وبأخطائه يوم شن الألمان هجومهم على الاتحاد السوفييتي وديكتاتوريته بعد الحرب العالمية الثانية في الداخل والخارج، وقد أحدث التقرير ضجة في العالم الشيوعي. ومع أن النص الكامل للتقرير ظل سراً، إلا أن ملخصه كان في متناول قادة الحزب الشيوعي وبعض قادة بلدان المعسكر الاشتراكي حتى أصبح السر معلوماً، وانتشرت روح التنديد بستالين والإشادة بخروتشوف في عدة بلدان اشتراكية مسببة العديد من التصفيات والخلافات الحزبية وممهدة الطريق أمام انقسام الحركة الشيوعية بين موسكو وبكين.

     وفي السنوات التي تولى خروتشوف فيها زعامة الحزب والحكومة تفاقم النزاع السوفييتي – الصيني في جوانبه الإقليمية والقومية والإيديولوجية والاقتصادية وإن لم يشهد تفاقماً عسكرياً، وكان خروتشوف صاحب قرار سحب الخبراء والفنيين السوفييت من الصين ووقف المساعدات الاقتصادية والفنية عنها عام 1961.

     أما معركته في مواجهة الولايات المتحدة فيما يعرف بأزمة الصواريخ الكوبية 1962 فإنها اتخذت طابعاً يهدد بنشوب حرب عالمية لأنها أوصلت البلدين إلى حافة الحرب إلا أن خروتشوف تراجع وسحب الصواريخ السوفييتة من كوبا مقابل تعهد الولايات المتحدة بعدم غزو الجزيرة.

رفقة عبد الناصر

     انتهج خروتشوف إزاء بلدان العالم الثالث، وبخاصة الدول العربية، سياسة انفتاح وتفهم وتأييد، فاتخذ موقفاً حاسماً من العدوان الثلاثي على مصر، وقدم المساعدات لبناء السد العالي فضلاً عن مئات المشروعات الصناعية، وكسر احتكار صناعة السلاح في المنطقة العربية (سوريا ومصر)، وعمل على مد الجسور إلى الشيوعية اليوغوسلافية (اتفاقية التقارب بين الحزبين والدولتين في عام 1955).

التنمية الداخلية

      على صعيد التنمية الداخلية أنجز خروتشوف الكثير؛ ومن إنجازاته إصلاح نظام التعليم والخطة السبعية فضلاً عن برنامج طموح لغزو الفضاء الخارجي، وتعاظم القدرة العسكرية للاتحاد السوفيتي وتطوير أنواع جديدة من الأسلحة الاستراتيجية، وتنمية الاقتصاد السوفييتي (رغم النكسات في المجال الزراعي) ودعم قدرات الحزب الشيوعي وتنظيماته.

التنمية الخارجية

     على الصعيد الخارجي شهدت فترة زعامة خروتشوف تطورات هامة منها حل الكومنفورم عام 1956، وإنشاء حلف وارسو عام 1955، وعقد اتفاقية الحظر الجزئي للتجارب النووية 1963.

تنحية خروتشوف

     كانت التطورات التي انتهت بتنحية خروتشوف مفاجئة وسريعة. ففي الأسبوع الأول من أكتوبر 1964، استدعاه المكتب السياسي للحزب إلى موسكو من إجازة كان يقضيها في القرم حيث واجه اتهاماً بأنه لا يحقق فكرة العدالة الاشتراكية ولا يقيم وزناً للمسؤولية الجماعية. وقد أصر أعضاء المكتب السياسي على أن يُصدر نقداً ذاتياً فلم يفعل، وطلب منه سوسلوف أن يستقيل من جميع مناصبه ما عدا رئاسة الوزارة فرفض خروتشوف وناقش وبرهن وهدد على مدى ساعات. وفي 14 أكتوبر 1964 نُحي خروتشوف عن جميع مناصبه، وتُجمع الآراء على أن أبرز الأسباب وراء تنحيته هي:

انفراده بالسلطة خلافاً لمبدأ القيادة الجماعية.

فشل سياسته الزراعية ونجاعة ما قد دمّره من البناء الستاليني.

الإساءة إلى هيبة الإتحاد السوفييتي إبان أزمة الصواريخ الكوبية.

     الإساءة إلى منصبه الحزبي والحكومي بتصرفات مظهرية أفادت منها الدعايات الغربية (مثل خلعه حذاءه وهو جالس في مقعده على رأس الوفد السوفييتي في الدورة العامة للأمم المتحدة عام 1960، والدق به على المنصة).

تفاقم الخلافات وتبادل الاتهامات مع قيادة الحزب الشيوعي الصيني.

    اعتكف خروتشوف بعد إعفائه من مناصبه في داتشا قدمتها إليه الحكومة السوفييتية حتى توفي في 11 سبتمبر 1971، وقد ظهرت في العالم الغربي قبل وفاته «سيرة حياة ذاتية» له بعنوان «خروتشوف يتذكر»، وهي تغطي حياته وتحتوي على تقييم للأحداث والتطورات المعاصرة له التي شارك فيها والتي تابعها وهو متقاعد، ولكن خروتشوف نفسه أنكر هذه المذكرات قبل وفاته في حين يؤكد الناشر أن هذه المذكرات تسجيل أصيل لكلمات خروتشوف بما لا يدع مجالاً للشك.

بمؤامرة.. عُزل زعيم الاتحاد السوفيتي وأصابته الكآبة

     أطلق نيكيتا خروتشوف سياسة اجتثاث الستالينية لقلب صفحة الماضي الستاليني ورد الاعتبار لضحايا ربع قرن من حكم جوزيف ستالين. وعقب وفاة ستالين يوم 5 آذار/مارس 1953، تمكن خروتشوف من بلوغ سدة الحكم تدريجياً، ليدخل بذلك الاتحاد السوفيتي مرحلة جديدة من تاريخه.

وسيلة من الاتحاد السوفيتي.. سكك الحديد تدعم الروس بدونباس

     مع خروتشوف، اتجهت موسكو لطي صفحة ربع قرن من الحكم الستاليني. وحال نجاحه في إحكام قبضته على السلطة، باشر خروتشوف بداية من العام 1956 باعتماد سياسة اجتثاث الستالينية عن طريق تعديد الفظائع التي ارتكبت أثناء فترة حكم ستالين والقطع مع الماضي. وطيلة فترة قيادته للاتحاد السوفيتي، عاصر خروتشوف العديد من الأزمات بالحرب الباردة كانت أبرزها أزمة الصواريخ الكوبية التي كادت أن تتحول لحرب عالمية ثالثة.

ومقارنة بستالين، لم تدم فترة حكم خروتشوف طويلا. فعام 1964، أزيح الأخير بمؤامرة كان بطلها خلفه ليونيد بريجنيف (Leonid Brezhnev).

أجبر على الاستقالة

    إلى ذلك، وبداية من آذار/ مارس 1964، اتجه بريجنيف لمناقشة عزل خروتشوف مع عدد من رفاقه بالحزب الشيوعي السوفيتي. وبدلا من اعتقاله حال عودته من زيارة رسمية للدول الإسكندنافية خلال حزيران/يونيو 1964، فضّل بريجنيف التريث وجمع أكبر عدد من المناصرين لفكرة إنهاء حكم خروتشوف. كذلك، حصل بريجنيف على الوقت الكافي للتخطيط لعملية إزاحة خصمه. فما بين يناير وسبتمبر عام 1964، غاب خروتشوف عن العاصمة موسكو لأكثر من 5 أشهر كانت آخرها أثناء زيارة قام بها لألمانيا الشرقية. وأثناء تواجد القائد السوفيتي بأبخازيا لقضاء عطلته بشهر أكتوبر من نفس العام، جمع المتآمرون، بقيادة كل من بريجنيف وألكسندر شيليبين (Alexander Shelepin) ورئيس المخابرات فلاديمير سيميشاستني (Vladimir Semichastny)، أعضاء اللجنة المركزية بهدف حشد الدعم لعملية عزل خروتشوف. بدوره، استدعى بريجنيف نظيره خروتشوف لموسكو يوم 12 تشرين الأول/أكتوبر 1964، لحضور اجتماع عاجل حول المسائل الزراعية.

    على الرغم من الشكوك التي راودته حول طبيعة هذا الاجتماع، حلّ خروتشوف بالعاصمة ليجد نفسه محاطا برفاقه السابقين الذين وجهوا له وابلا من التهم كانت أبرزها سوء إدارة شؤون البلاد. وأمام هذا الوضع، لم يبد خروتشوف أية مقاومة حيث قبل الأخير بكل ما صدر من زملائه ووافق على الاستقالة وهو يبكي متمنيا التوفيق للحزب والبلاد. لاحقا، أجرت اللجنة المركزية اجتماعا قبلت خلاله بالاستقالة الطوعية لخروتشوف.

اكتئاب ووفاة

     خلافا لما حصل سابقا مع لافرينتي بيريا الذي أعدم سنة 1953 أثناء عملية خلافة ستالين، صوت المتآمرون لصالح الإبقاء على حياة خروتشوف مقابل محو سجله السياسي. تزامنا مع ذلك، وضع القائد السوفيتي السابق تحت الإقامة الجبرية بمنزله ومنح راتبا تقاعديا قدر بنحو 500 روبل شهريا. وعقب إرغامه على الاستقالة، أصيب بالاكتئاب داخل منفاه واضطر لاستخدام العديد من المسكنات والعقارات المضادة للاكتئاب. في الأثناء، وبناء على تصريحات المقربين منه، قضى الزعيم السوفيتي السابق فترات طويلة من يومه في البكاء وهو شارد الذهن. لاحقا، اتجهت السلطات السوفيتية لنقل خروتشوف نحو شقة أصغر وخفضت راتبه التقاعدي لحوالي 400 روبل. فضلًا عن ذلك، لم يحظ الأخير بزيارات كثيرة حيث فرض جهاز المخابرات رقابة صارمة على تحركات كل من حل للقاء خروتشوف الذي باشر بتأليف مذكراته. ويوم 11 أيلول/ سبتمبر 1971، توفي نيكيتا خروتشوف عن عمر ناهز 77 عاما عقب إصابته بنوبة قلبية. وخلافا لكل التوقعات، لم يحظ خروتشوف بجنازة وطنية رسمية. وبدلا من أن يدفن بمقبرة سور الكرملين التي تواجدت بها رفات كبار قادة وجنرالات الاتحاد السوفيتي، دفن خروتشوف بمقبرة نوفوديفتشي (Novodevichy) تحت حراسة أمنية مشددة.

SAKHRI Mohamed
SAKHRI Mohamed

أحمل شهادة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بالإضافة إلى شهادة الماستر في دراسات الأمنية الدولية من جامعة الجزائر و خلال دراستي، اكتسبت فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الرئيسية، ونظريات العلاقات الدولية، ودراسات الأمن والاستراتيجية، بالإضافة إلى الأدوات وأساليب البحث المستخدمة في هذا التخصص.

المقالات: 14653

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *