دراسات سياسية

وظيفة الدولة في التاريخ المعاصر

لا جدال حول وظائف الدولة الأساسية، القانونية منها و السياسية. و الوظائف القانونية للدولة تتمثل في الوظائف التشريعية و التنفيذية و القضائية. أما الوظائف السياسية التي لا خلاف عليها فهي: المتعلقة بالأمن الخارجي أو الدفاع عن سلامة إقليم الدولة بواسطة الجيش، و بالأمن الداخلي للحفاظ على أرواح و أموال الأفراد المتواجدين على إقليمها بواسطة الشرطة، و إقامة العدالة بين الأفراد بواسطة القضاء. هذه الوظائف التقليدية الأساسية الملقاة على عاتق الدولة، كدولة حارسة Etat gendarme، تعد من الأمور التي لا ينازع بشأنها أحد مهما كان المذهب السياسي الذي يعتنقه. أما الوظائف الأخرى، أو الثانوية كما يسميها البعض، المرتبطة بالمجالات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية، فقد اختلف فيها، فهل تدخل ضمن وظائف الدولة؟ أو بالأحرى ما مدى تدخل الدولة في هذه المجالات؟
و تختلف وظيفة الدولة، أو مدى تدخلها، في هذه المجالات باختلاف المذاهب السياسية التي تعتنقها كل دولة. و المذهب السياسي، في الحقيقة، يعكس من الناحية السياسية مجموعة من القيم و الأفكار المترابطة أو مجموعة من الإيديولوجيات التي تقدم تصوراً للوجود، أي هو برنامج سياسي يجسد بشكل متكامل جملة من الإيديولوجيات، و يحدد الأهداف و الوسائل اللازمة لنقلها من البنية الفكرية البحتة إلى البنية القانونية و الحركية في إطار الدولة.
و في هذا الإطار يمكننا أن نلاحظ وجود ثلاثة من المذاهب السياسية التي سادت أو لا تزال تسود في عالمنا، حددت دور أو وظيفة الدولة وفقاً للتصورات المنبثقة عن إيديولوجيات هذه المذاهب و هي : المذهب الفردي أو الحر (أولا)، و المذهب الاشتراكي أو الماركسي (ثانيا)، و المذهب الاجتماعي (ثالثا). و العديد من الأحزاب السياسية التي تتصارع للوصول إلى السلطة في دول عالمنا، تتبنى، بشكل أو بآخر، هذا المذهب السياسي أو ذاك، على الرغم من التغيرات الجوهرية التي طرأت على الأسس الإيديولوجية لهذه المذاهب.

أولا : المذهب الفردي أو الليبرالي
في الحقيقة إنّ دور أو وظيفة الدولة في المذهب الليبرالي طرأ عليه الكثير من التغيير، و ذلك منذ نشأة هذا المذهب و تطوره و تبنيه و تطبيقه في العديد من الدول، في ظل الظروف التاريخية و الاقتصادية و الاجتماعية و الفكرية التي سادت العالم. لذلك سوف نحدد المفهوم العام لدور أو وظائف الدولة كما صيغت من قبل منظري المذهب الليبرالي الأولي أو التقليدي، و من ثم التطورات التي طرأت على هذا المفهوم لدور الدولة.

1- دور الدولة في المذهب الليبرالي التقليدي : الفرد هو محور المذهب الليبرالي Libéralisme و لا قيمة للفرد إلا بذاته، و لذلك يجب أن تترك له حرية التصرف. و لكن هذا لا يعني بأنه لا يوجد أية قيمة للمجتمع، فقيمة المجتمع تتحدد بموجب توافق إرادات الأفراد في شكل قوانين. فالفرد هو أساس قيمة الجماعة و ليس العكس. و بحسب المذهب الليبرالي تعد الدولة أمراً لا بد منه من أجل تأمين حماية الحريات و الحقوق الفردية، و هي ثمرة عقد اجتماعي من أجل ضمان انتظام المجتمع و تطوره . فالدولة هي ضرورة يفرضها العقل من أجل تأمين حماية الحريات و الحقوق الفردية، و بالتالي يجب أن لا تتجاوز الدولة في وظائفها حدود الوظائف الأساسية المشار إليها : الدفاع و الأمن الداخلي و إقامة العدل. و في الحقيقة إنّ هذا المذهب استند في منطلقاته الأساسية لتحديد دور الدولة، على الظروف الموضوعية المرتبطة بنشأته التاريخية. فالحركة الثورية في نهاية القرن 18، وخاصةً في فرنسا، المنطلقة من الأفكار الفلسفية الليبرالية الديمقراطية يمكن تفسيرها بأنها ردة فعل من الفرد ضد مجتمعه، أكثر منها ردة فعل شعب ضد سلطة أو نظام حكم كان يضطهده. فالمجتمعات (الدول) في ذلك الوقت كانت مؤسسة في النظام الإقطاعي القائم على عدم المساواة، و كانت مؤلفة من فئات اجتماعية لا تسمح بوجود الفرد بمعزل عن الجماعة – النبلاء، البائعين، الفلاحين، الحرفيين، الفلاحين …الخ- التي كانت تؤمن حمايته ولكن كانت تقيد الكثير من حريته. انتماء الفرد إلى مجموعة يحدد وضعه ويبين حقوقه و واجباته. أي بمعنى أخر إنّ الفرد لا وجود له بمعزل عن الجماعة. فالفرد محدد وضعه الاجتماعي ضمن الجماعة : فمثلاً أحد النبلاء لا يمكن أن يصبح عاملاً، و حرفي لا يمكن أن ينتج شيئاً غير الذي ينتجه الحرفيون المنتمون لنفس جماعته و لا يمكنه استعمال طرق أخرى، و فلاح لا يمكنه أن يصبح حرفياً. أي أن هذا النظام الاجتماعي القائم على عدم المساواة يحرم الناس من حرياتهم. هذا الشيء كان منطقياً مع النظام السياسي المطبق في ذلك الوقت، و القائم على فكرة الحكم المطلق المستمد من حق إلهي. نتيجة انعدام الحرية كانت فئة المفكرين أكثر الفئات غير المتسامح معها فقد كانت الرقابة عليها شديدة. كذلك الأمر بالنسبة للبرجوازية التي كانت حبيسة في منشآتها الصناعية و التجارية بسبب القيود الإدارية و النظام الضريبي و المالي البالي و غير العادل. لذلك فإن هذه البرجوازية هي التي تجاوبت مع نداء الفلاسفة و المفكرين وأقاموا ثورتهم. لهذا الأمر قلنا : إنّ هذه الثورة البرجوازية كانت أولاً و قبل كل شيء ثورة الفرد من أجل تعزيز مكانته في مواجهة المجتمع (الدولة). انطلاقا من أن الفرد هو الأهم في المجتمع، و من هذه الزاوية بالتحديد، لم يعد ينظر إلى الشعب كمجتمع و لكن كتجمع أفراد مع الأخذ بعين الاعتبار بأن هذا التجمع له حقوق على الأفراد الذين يكونونه ويكفي لتأمين احترام ذلك وجود سلطة بوليس محدودة . من ذلك نرى بأن الثورة البرجوازية واضعة الفكر الديمقراطي الليبرالي موضع التطبيق لم تطلب من المجتمع سوى ترك الحرية للأفراد المكونين له. أي أن مطلبها الأساسي هو الحريات الفردية و الأمر الملازم لهذه الحريات وهو المساواة القانونية. و الحريات التي أعلنت في دساتير الثورة الفرنسية، كذلك الأمر في إعلان حقوق الإنسان في 27 أب 1789، هي الحريات الفردية الهادفة إلى حماية الإنسان ضد السلطة (الدولة) : حرية المرور، و الضمانات ضد التوقيف التعسفي و العقوبات غير المتناسبة مع الأعمال المرتكبة، و قرينة البراءة، و حرية الرأي و الاعتقاد، و حرية التعبير كتابةً و قولاً، و حرية الاجتماع.

إضافة إلى هذه الحريات الفردية أضاف واضعو إعلان حقوق الإنسان أمراً ضرورياً (وذلك حفاظاً على مصالح البرجوازية) و هو حق الملكية الخاصة أو الفردية و حمايتها، حيث المادة /17/ منه تؤكد بأن هذه الملكية مقدسة و لا يمكن المساس بها أو نزعها إلا للمصلحة العامة و مقابل تعويض مسبق و عادل.
و جاءت الحريات الفردية و حق الملكية -هدف الثورة البرجوازية- من أجل تأمين أمرين هما: حرية التجارة و حرية الصناعة، أي حرية التعاقد و إقامة المشاريع. هاتان الحريتان صنفهما في نهاية القرن 19 الفقيه الفرنسي الكبير موريس هوريو Hauriou بين الحريات الأولية، بل حتى أهم من حرية الاعتقاد، و برأيه يمكن أن نقبل في بعض الظروف التضحية بكل الحريات الأخرى باستثناء هذه الحريات .

و في الحقيقة إن الاقتصاديين الأحرار يشددون على هاتين الحريتين مبينين خاصة أهمية التنافس من أجل صالح المجتمع. فالتنافس يؤدي و بدون توقف إلى إزالة المشاريع المنهارة لصالح الأكثر ديناميكية مجبراً المسؤولين (رجال السلطة) للبحث عن العقلانية في عملهم، و خاصةً العمل على الاستيعاب السريع للاكتشافات العلمية و التقنية -بالرغم مما تنتجه من مشاكل- لما لها من دور فعال في صالح المجتمع ككل.

و بحسب بعض الفقهاء (خاصة الفقيه الألماني G.Jellinek في كتاب ظهر له عام 1902) فإن لهذه الحريات الفردية مفهوم سلبي. أي بمعنى أن هذه الحريات تنتج عن غياب تدخل الدولة في تصرفات الأفراد. الدولة لا تتدخل إلا من أجل ضمان أو تأمين ممارسة هذه الحريات، فغياب تدخل الدولة هو أساس هذه الحريات، فإعلان حقوق الإنسان مؤسس على امتناع الدولة في التدخل في أعمال الفرد في بحثه عن سعادته.

و قد شدد على المساواة لأسباب تاريخية تعود إلى أن المجتمع السابق كان قائماً -كما أشرنا سابقاً- على عدم المساواة، و خاصة أن البرجوازية كانت خاضعة لتعسف النبلاء. و لكن أيضاً المناداة بالمساواة كان ضرورياً لأنها أمر مرتبط بالحرية . فعدم المساواة كان قائماً على امتياز أو انعدام الحرية لبعض فئات المجتمع، فالامتياز كان معطى فقط للنبلاء منذ ولادتهم و حتى مماتهم. أي أن الحرية كانت مرتبطة بالفئة الاجتماعية. فالمساواة جاءت لتعيد للفرد قيمته الحقيقية بمعزل عن الجماعة. فحرية الفرد لا ترتبط أبداً بولادته و لكن بكفايته و فضائله. من هنا جاءت فكرة الفردية L’individualisme في الفلسفة الثورية البرجوازية الليبرالية، هذه الفلسفة مؤسسة على أن الإنسان هو حر في وسط المجتمع : هو حر لأن له قيمة باعتباره فرداً، و يجب أن يحقق طموحاته. فالمجتمع ليس من حقه أن يحدد مكانة الفرد و موقعه بين الفئات المكونة للمجتمع، بل هو وحده القادر على تحديد موقعه و مكانته من خلال نشاطه و مهاراته الخاصة به. المجتمع ليس له إلا أن يساعده و لا يقف عائقاً في طريقه. هذه المساواة هي مساواة قانونية ليس أكثر ، فهي ليست مساواة اجتماعية اقتصادية هدفها خاصة إعادة توزيع الثروة. فالدولة يجب ألا تتدخل عن طريق القوانين لصالح فئة على حساب فئة أخرى. فالقانون يجب أن يكون واحداً بالنسبة للجميع.

و بالتالي، يمكننا القول : إنّ التطبيق العملي لمفهوم الحرية و ملازمته المساواة القانونية، كتعبير عن النزعة الفردية، ترتبط في المجال الاقتصادي على ما يسمى في أيامنا بالاقتصاد الحر (الليبرالي) أو اقتصاد السوق.

انطلاقاً من ذلك يمكننا إيجاز أهم المرتكزات الأساسية لهذا المذهب فيما يتعلق بدور الدولة :

  • الفردية، فحسب المذهب الليبرالي، المجتمع و الدولة مسخران لخدمة الفرد. فحقوق الفرد بفكره و عقيدته و ماله و حركته في مواجهة السلطة بشكل خاص هي أساس المذهب الليبرالي، و من هنا فقد جاءت أغلب الدول الأولى التي طبق لديها النظام السياسي المنبثق عن هذا المذهب بإعلان لحقوق الإنسان و المواطن، خاصةً في فرنسا و الولايات المتحدة الأمريكية.
  • الليبرالية السياسية، و هي المفهوم الذي من خلاله يتم التوفيق بين الحرية و السلطة و ذلك من خلال : الديمقراطية التي هي نظام الحكم المنبثق عن المذهب الليبرالي، حيث لا تكون السلطة سوى التعبير عن مجموع إرادات الأفراد. و القوانين التي تصدر بصورة قواعد مجردة تطبق على جميع الأفراد بالتساوي.
  • الرأسمالية كأساس للنظام الاقتصادي الليبرالي، و هو يعطي الفرد حق تملك وسائل الإنتاج بدون حد. و على الدولة عدم التدخل في الحياة الاقتصادية، و ترك هذا النشاط للأفراد في ظل مبدأي حرية التجارة و الصناعة و حرية المنافسة، و لكن في ظل رقابة و تنظيم الدولة لهذه الحريات.

2- تطور مفهوم دور الدولة في المذهب الليبرالي : في الواقع إن أغلب دول الديمقراطيات الغربية، التي تتبنى المذهب الليبرالي، تخلت إلى حد ما عن هذه الفكرة النظرية التي حددها هذا المذهب لدور الدولة و خاصةً في المجالين الاقتصادي و الاجتماعي. فمنذ الأزمة الاقتصادية العالمية عام 1929 أخذت هذه الدول تتدخل في هذين المجالين لتحقيق قدر من العدالة الاجتماعية، و ظاهرات التأميم و التخطيط و الحماية الجمركية مثلاً وجدت في أغلب دول الديمقراطيات الغربية التي تتبنى المذهب الليبرالي.

فالأزمة الاقتصادية التي حدثت عام 1929 تعتبر برأينا نقطة تحول هامة في التاريخ المعاصر، و قد امتد أثرها على الكثير من المجالات و من ضمنها المذاهب السياسية (و خاصةً المذهب الليبرالي) و الأنظمة المطبقة لها. ففي الماضي كان المواطنون في الديمقراطيات الغربية عندما يتجهون إلى الدولة لتحقيق قدر من العدالة الاجتماعية، يتمكن البرلمان من أخذ المبادرة في هذا المجال معتمداً في ذلك على الإمكانات المتاحة أمامه، و قد تمكن من خلالها من تحقيق ذلك بشكل فعال : إعادة توزيع الثروة من خلال الضرائب و الرسوم على الطبقات الميسورة خاصةً و الإعفاءات الممنوحة للطبقات ذات الدخل المحدود…الخ.

بالطبع عند حدوث أزمة 1929 لجأ المواطنون مجدداً نحو الدولة بحثاً عن حلول لها أو للتخفيف من آثارها السيئة على الطبقات الميسورة و الفقيرة معاً. فحتى هذا التاريخ كان المطلب الوحيد من الدولة (السلطات العامة) هو تحقيق نوع من العدالة الاجتماعية من خلال توزيع الدخل القومي الموجود. و لكن مع حدوث الأزمة الاقتصادية و ما أنتجته من آثار خطيرة، لم يعد كافياً إعادة توزيع الدخل القومي الموجود لتحقيق العدالة الاجتماعية، بل يتوجب على الدولة العمل أيضاً على نمو الدخل الإجمالي للناتج المحلي. في هذه المرحلة ظهر المذهب الاقتصادي الكينزي الداعي إلى تدخل الدولة في عملية نمو الإنتاج و مكافحة البطالة، و ذلك من خلال الاستخدام الأمثل للموارد الإنسانية و المادية. و الاستخدام الأمثل لهذه الموارد يتم من خلال السيطرة على حجوم الاستهلاك و الادخار. فلذلك نشأت في هذه الفترة ظاهرة التأميم و خاصةً لقطاعات البنوك (التي تسيطر على القروض و بالتالي على حجم الاستثمارات)، و التأمين (الذي يلعب دوراً أساسياً في عملية الادخار و بالتالي في حجم الاستهلاك) و المشاريع المنتجة للطاقة (نظراً لدورها الحاسم في العملية الاقتصادية). هذه الظاهرة أعطت الدولة أداة هامة من أجل لعب دور أساسي كمنسق للأنشطة الاقتصادية . هذا الدور الجديد للدولة أدخل تغييراً مهما في مفهوم الدولة و وظائفها في المذهب الليبرالي، القائم على الحرية و عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي. فالبرجوازية منشئة هذا المذهب، رغم اعتراضها على قيام الدولة في القرن الماضي بلعب دور المنصف الاجتماعي (العدالة الاجتماعية)، قبلت بهذا الدور الجديد للدولة، كمنسق للعملية الاقتصادية : لأنه من مصلحتها، و من الصالح العام و جود إنتاج قوي مستخدم بشكل جيد، و قد أرادت الدولة الاستفادة من مزايا الوسائل التي وضعتها تحت تصرف المشاريع الاقتصادية (قروض بفوائد متدنية، إعفاءات ضريبية، إعانات …الخ). و لذلك نجد في هذه المرحلة، و خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية، تطوراً هاماً قد حدث في محتوى إعلان حقوق الإنسان في الدول الليبرالية. فأغلب الدساتير التي ظهرت عقب هذه المرحلة أشارت إلى الحقوق الاقتصادية للفرد و خاصة حقه في العمل : فمقدمة الدستور الفرنسي لعام 1946 مثلاً نصت على أنّ “كل مواطن له الحق في الحصول على عمل”، كذلك المادة 25 من نفس الدستور نصت على “إنشاء خطة قومية مهمتها تأمين العمل للمواطنين و الاستعمال العقلاني للموارد المادية”.

و لكن منذ بداية الثمانينات نلاحظ أنّ الليبراليين الجدد Le New Libéral يخوضون معركة شرسة للدفاع عن الاختيارات الفردية، مقترحين حلولاً اقتصادية و إجرائية من شأنها تقليص تأثير الدولة في حياة الجماعة، أو العودة إلى المفهوم القديم الذي حدده المذهب الليبرالي لدور الدولة. هذا الأمر نلاحظه جلياً في عهد مارغريت تاتشر في بريطانيا و رونالد ريغن في الولايات المتحدة الأمريكية، و انتشار ظاهرة الخصخصة La privatisation في أغلب دول العالم . هذا الأمر أدى إلى انتشار العديد من الأحزاب الليبرالية أو ما يسمون بالليبراليين الجدد New Libéral، الذين يعملون على إيجاد نوع من القطيعة مع الثقافة الاجتماعية الديمقراطية، و إعادة النظر في دولة العناية الإلهية (الصحة و بخاصة الخدمات الاجتماعية).

هذا المفهوم الجديد الذي تقدمه الليبرالية الجديدة لدور أو وظائف الدولة، ساعد على انتشاره ما يسمى بالعولمة La Mondialisation . فأنصار العولمة يعملون على إضعاف دور الدولة، و خاصةً القضاء على ما يسمى بدولة العناية الإلهية التي كانت تضمن لمواطنيها بعض الخدمات و التأمينات الاجتماعية و خاصةً الصحية منها . و هذا ما نلاحظه من خلال البرامج و السياسيات التي تفرضها المؤسسات الدولية الداعمة و الراعية للعولمة و على رأسها المنظمة العالمية للتجارة O.M.C.، و صندوق النقد الدولي F.M.I.، و البنك الدولي للإنشاء و التنمية B.I.R.D.. هذه المؤسسات الدولية تفرض على الدول الأعضاء (و تؤثر على بقية الدول) سياسة إعادة هيكلة إداراتها، و خصخصة مشاريعها، و إلغاء سياساتها الحمائية (الجمركية منها، الدعم الذي تقدمه لمشاريعها و الذي يؤثر على مبدأ المنافسة) لضمان حرية انتقال رؤوس الأموال أو الاستثمارات، و البضائع. هذه العولمة المفروضة لا تؤدي فقط إلى تقليص دور الدولة فحسب، و إنما تؤدي فعلياً De facto إلى نوع من إهمال تطبيق مبدأ السيادة، الذي يعتبر كما أشرنا سابقاً أحد أهم خصائص الدولة، بحيث لا يعود للدولة من دور سوى الضبط الذاتي لسلطاتها.

ثانيا : المذهب الاشتراكي
في الحقيقة، إن المذهب الاشتراكي Le Socialisme جاء كرد فعل على المذهب الليبرالي و نتائجه. و لذلك، فإذا كان أنصار المذهب الليبرالي يحصرون نشاط الدولة في نطاق ضيق لا يتعدى وظائفها الأساسية المتمثلة في الأمن الخارجي و الداخلي و العدالة، و يحظرون عليها التدخل في المجالين الاقتصادي و الاجتماعي، فإن أنصار المذهب الاشتراكي يرون بأن على الدولة التدخل في جميع المجالات. و في الحقيقة نجم هذا المفهوم لدور أو وظيفة الدولة لكلا المذهبين عن الأسس الفلسفية التي يقوم عليها كلّ منهما. فمنظرو المذهب الفردي يرون في تدخل الدولة تعدياً و انتهاكاً لحريات و حقوق الأفراد، و بالتالي فإن صيانة حريات و حقوق الأفراد تتأمن بشكل واسع في ظل دولة محدودة الوظائف أو غير متدخلة (كثير من الدولة عندما يلزم و قليل من الدولة ما أمكن). في حين أن منظري المذهب الاشتراكي يرون بأن تدخل الدولة يعتبر أمراً لا بد منه لصيانة حريات و حقوق الأفراد، و بالتالي كلما تدخلت الدولة و ازدادت وظائفها، تأمنت حماية أفضل لهذه الحقوق و الحريات (كثير من الدولة ما أمكن و قليل من الدولة عندما يلزم). و لكن أصحاب المذهب الاشتراكي الذين يقولون بضرورة تدخل الدولة في جميع نشاطات الحياة، اختلفوا حول مدى هذا التدخل، و في هذا الإطار يوجد تياران متمايزان : الجماعية، و الشيوعية. فأنصار الجماعية Le Collectivisme، يرون بوجوب إلغاء الملكية الفردية، و لكن باستثناء بعض الملكيات الخاصة المعدة لإشباع حاجات الأفراد المباشرة. و لذلك فإنه يتوجب على الدولة السيطرة على مصادر الإنتاج الأساسية، باستثناء بعض هذه المصادر التي لا تسمح لمالكيها باستغلال العمال. في حين أن أنصار الشيوعية Le Communisme، يرون أيضاً بوجوب إلغاء الملكية الفردية، و لكن بشكل أكثر تطرفاً مما يراه الجماعيون، فهم لا يسمحون بوجود أية ملكية خاصة. و لذلك يتوجب على الدولة السيطرة على جميع مصادر الإنتاج بدون استثناء، و إدارتها و توزيع ثمارها على جميع الأفراد بصورة عادلة.

باختصار يمكننا القول : إنّ أنصار المذهب الاشتراكي، الجماعيين منهم و الشيوعيين، يرفضون النظام الرأسمالي الناجم عن المذهب الليبرالي الذي يؤدي إلى تركيز الثروة بيدي فئة قليلة، تستغل الفئة الكبيرة من العمال، و إحلال نظام اشتراكي يركز الثروة أو سائل الإنتاج بيد الدولة لتحقيق العدالة الاجتماعية، و إزالة الفوارق بين طبقات المجتمع. و لكن هذا المذهب الاشتراكي الداعي لتدخل الدولة في جميع المجالات، منتقد على أكثر من صعيد : فالقضاء على الملكية الفردية أمر يتعارض و الطبيعة البشرية المجبول عليها الإنسان و منها حب التملك. كذلك فهذا المذهب لم يؤدّ إلى القضاء على الاستغلال من خلال القضاء على الفئة القليلة التي تتركز بيدها الثروة و تستغل العمال، و إنما أحل محلها فقط طبقة أخرى من الطبقة الحاكمة و كبار الموظفين الذين يتولون إدارة وسائل الإنتاج في المجتمع الاشتراكي. يضاف إلى ذلك أنّ تدخل الدولة في مجال الأنشطة الفردية أدى إلى الكثير من الانتهاك لحقوق و حريات الأفراد…الخ.

و لذلك و على الرغم من النجاح الذي حققه هذا المذهب مرحلياً في بعض الدول التي تبنته و على رأسها الاتحاد السوفيتي السابق، فإن المذهب الاشتراكي لاقى تراجعاً كبيراً منذ نهاية الثمانينات من القرن العشرين، بعد الفشل الذي لاقاه على الصعيدين الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي طبعاً، مما أدى إلى انهيار أغلب الدول التي تبنته كلياً، و إلى تخلي الكثير من الأحزاب السياسية في العديد من الدول التي تستند إلى المبادئ الفلسفية للمذهب الاشتراكي عن أغلب هذه المبادئ : ففي دول أوربا الغربية نجد مثلاً في بريطانيا أن حزب العمال تخلى عن مبادئه الرافضة للخصخصة، و كذلك الأمر بالنسبة للحزب الاشتراكي الفرنسي الذي يمكن الاستنتاج من برنامجه الانتخابي في الانتخابات التشريعية الأخيرة (حزيران 1997، و حزيران 2001) أنّه قد تحول إلى حزب اجتماعي كما هو الحال بالنسبة لحزب العمال البريطاني.

ثالثا : المذهب الاجتماعي
يعتبر المذهب الاجتماعي La doctrine sociale، مذهباً وسطاً بين المذهبين الليبرالي و الاشتراكي. فأنصار هذا المذهب الخليط لا يقولون، كما يرى أنصار المذهب الليبرالي، بتقييد دور الدولة ضمن الوظائف الأساسية بجعلها مجرد دولة حارسة، كذلك لا يقولون، كما يرى أنصار المذهب الاشتراكي، بإطلاق العنان للدولة للتدخل في جميع المجالات. فهم يقرون بالسماح للدولة بالتدخل بقدر معين لتحقيق مصلحة الجماعة و تحقيق غاياتها، مع ترك الحرية للأفراد للتمتع بحقوقهم و منها حق الملكية، في حدود القانون. فالدولة بحسب أنصار هذا المذهب لا تقف موقفاً سلبياً تجاه حقوق و حريات الأفراد، و لكن لا تصادر في الوقت نفسه هذه الحقوق و الحريات . و قد ساد هذا المذهب معظم دول العالم، و خاصةً دول أوربا الغربية، ما بين الحربين و إلى يومنا هذا، فالدولة أصبح لها حق التدخل الإيجابي في جميع أوجه النشاط، سواء في المجال الاقتصادي، أم في مجال التعليم و الصحة العامة. حيث ظهر مفهوم الدولة الموجهة Dirigisme، التي توجه بصورة مباشرة أو غير مباشرة جميع أوجه النشاط الاقتصادي و الاجتماعي (إشراف، مراقبة، تخطيط، مساعدات)، أي بوضع الضوابط القانونية لهذا النشاط. و ظهر مفهوم دولة العناية الإلهية L’Etat-providence، التي تعتبر مسؤولة عن تحقيق التقدم الاقتصادي و الاجتماعي، و خاصةً ما يتعلق بمجال الصحة و بقية التأمينات الاجتماعية. و أصبح يعبر عن هذا المذهب اقتصادياً بسياسة التدخل L’intreventionnisme. و في الواقع اكتسح هذا المذهب أغلب دول العالم، و خاصةً دول أوربا الغربية، و على وجه التحديد الدول الاسكندنافية، حيث تلعب الدولة الدور الأساسي في المجال الاجتماعي و خصوصاً في قطاعي الصحة و التعليم، و يعتبر الضمان الاجتماعي La solidarité sociale أحد أهم خصائص هذه الدول. و بهذا الخصوص نعتقد بأن المذهب السياسي الإسلامي ينظر لدور و وظائف الدولة نظرة قريبة أو مماثلة للمذهب الاجتماعي، و ذلك إذا ما أخذنا بعين الاعتبار موقف الإسلام من الفرد و الجماعة اللذين هما الأساس الفلسفي لتحديد دور الدولة في كل المذاهب : فالإسلام يقف على مسافة واحدة في نظرته للفرد و المجتمع. فالفرد، الذي هو طبعاً أسبق من الجماعة في الوجود، مكرم و يتمتع بذاته بقيمة رفيعة أمام الله و الجماعة و السلطة. و هو يتمتع بالحرية الملازمة لمسؤوليته، فالحرية هي الأساس الذي تقوم عليه المسؤولية الفردية في الإسلام. فالفرد إذاً حسب المذهب السياسي الإسلامي هو كيان قائم بذاته له قيمته و حريته و حقوقه. و لكن ليس وحده في الوجود فهناك أيضاً المجتمع الذي له قيمته و حقوقه الخاصة به. و قيمة الفرد و حقوقه و قيمة المجتمع و حقوقه محددة بموجب الشريعة الإسلامية التي لم يضعها لا الفرد و لا المجتمع و إنما الله خالق الفرد و المجتمع .

 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى