دراسات تاريخية

بشير بيار الجميل.. عندما أُغتيل الرئيس اللبناني قبل أن يتسلم المنصب 1982

 ولد الجميل في بيروت، وإنضمّ إلى حزب الكتائب الذي أسسه والده بيار الجميل. تولّى قيادة الجناح العسكري للكتائب مع بداية الحرب الأهلية ضد الحركة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وتلقّى دعمًا سياسيًا وعسكريًا من إسرائيل. شاركت قواته في مذابح السبت الأسود، ومجزرة الكرنتينا، ومجزرة تل الزعتر، حيث قُتل المئات من المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين، كما قاد معركة زحلة وحرب المئة يوم ضد الجيش السوري.

      تمكّن من فرض نفسه قائدًا للمسيحيين بعد تصفية منافسيه ضمن الجبهة اللبنانية من خلال مجزرة إهدن ومجزرة الصفرا حيث قام أعضاء من القوات اللبنانية بقتل طوني فرنجية زعيم جيش تحرير زغرتا بالإضافة إلى أعضاء ميليشيا النمور.

     في 23 أغسطس 1982، أنتخبه مجلس النواب رئيسًا للجمهورية خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان، إلا أنّه أُغتيل في 14 سبتمبر قبل أن يستلم المنصب، عندما إنفجرت قنبلة في معقل الكتائب في الأشرفية. تبيّن لاحقًا أن المسؤول عن العملية هو حبيب الشرتوني، العضو في الحزب السوري القومي الإجتماعي.

     يوصف الجميل بأنه «أكثر شخصية إثارة للجدل في لبنان»، فهو يحظى بشعبية لدى المسيحيين، الذين يرون فيه مقاومًا وشهيدًا، إلا أنّ معارضيه ينتقدونه بسبب جرائم الحرب ويعتبرونه خائنًا للوطن نظرًا لعلاقته بإسرائيل.

النشأة

     ولد بشير الجميل في الأشرفية في مدينة بيروت يوم 10 نوفمبر 1947، وكان أصغر طفل في عائلة تعود أصولها إلى قرية بكفيا في قضاء المتن، وهي عائلة سياسية مسيحية بارزة. والده بيار الجميل قام بدراسة علم العقاقير في أوروبا وأسس، عند عودته إلى لبنان، حزب الكتائب كحركة شبابية في 1936، متأثرًا بالأحزاب الفاشية الإسبانية والإيطالية التي رآها هناك. وصل أعضاء الحزب إلى 40,000 وأصبح وزيرًا في الحكومة. أستهدف مرتين في محاولتي إغتيال، قبل أن يتوفى عام 1982.

     إلتحق الجميل بمدرسة نوتردام الجمهور، لكنّه طرد منها عام 1962 بسبب «تعصّبه لحزب الكتائب»، وإنتقل بعدها إلى مؤسسة لبنان الحديثة في الفنار، التي كان يديرها صديق والده الأب ميشال خليفة. أكمل دراسته الجامعية في جامعة القديس يوسف في بيروت. بعد أن درّس مادة التربية ثلاث سنوات في مؤسسة لبنان الحديث، تخرّج في 1971 بشهادة بكالوريوس في القانون ولاحقًا في العلوم السياسية عام 1973. في 1972، سافر إلى الولايات المتحدة ليستكمل تعليمه في مركز القانون الأمريكي والدولي بالقرب من ولاية دالاس. عاد إلى لبنان في سبتمبر من نفس العام، وإنضم في 1972 إلى نقابة المحامين وفتح مكتبًا في شارع الحمرة في بيروت الغربية.

حزب الكتائب

      إنضم الجميل إلى قطاع الشباب بحزب الكتائب عندما كان بعمر 12 سنة. أمضى وقتًا طويلًا مع الجناح العسكري للحزب بعد أزمة 1958، وحضر إجتماعات قطاع التلاميذ وترأس دائرة الكتائب في جامعة القديس يوسف بين 1965 و1971. في 1968، شارك في ندوة طلابية نظمتها جريدة الأوريان، بعد النزاعات التي حدث في الجامعات اللبنانية بين الطلاب المسلمين واليساريين الذين يدعمون المقاومة الفلسطينية في لبنان من جهة، والقوميين المسيحيين الذين كان الجميل ضمنهم من جهة أخرى.

الدخول في الجناح العسكري

    مع نهاية السيتينيات، خضع بشير الجميل لتدريب شبه عسكري في بكفيا، وعيّن قائد لإحدى الفرق ضمن قوى الكتائب النظامية. تبعًا للصراعات بين الجيش اللبناني ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1968 و1969، قام الجميل مع بداية السبعينيات بتجميع طلاب من الأشرفية، وأشرف على تدريبهم في معسكر الطابرية التدريبي، الموجود قرب بشري في قضاء كسروان. كانت هذه بداية ما أصبحت لاحقًا سرية الطلاب الأولى في ميليشيا القوات اللبنانية. في هذه الفترة، كان الجميل ضابطًا في ميليشيا تحت قيادة وليم حاوي، مؤسس قوى الكتائب النظامية.

بشير الجميل مع والده بيار

     في 1970، أختطف مقاتلين فلسطينيين الجميل، وقيد إلى مخيم تل الزعتر حيث تعرّض للضرب. تم إطلاق سراحه بعد ثمانية ساعات بعد توسّط وزير الداخلية آنذاك كمال جنبلاط عند ياسر عرفات، ويعتقد أن هذه الحادثة سبّبت كراهية عند الجميل تجاه الفلسطينيين. إنضم لاحقًا إلى فرقة ب.ج. التي كونها وليم حاوي. تقرّب من جان نادر، رئيس قطاع الكتائب في الأشرفية آنذاك، وأصبح نائب في الفترة بين 1971 و1975.

     تولّى في الفترة التالية قيادة فرقة ب.ج. بترشيح من أعضائها. كان المجموعة مكونة من 12 عضوًا ذوي تدريب خاص، أمثال فؤاد أبو نادر، فادي أفرام، إيلي حبيقية، وعرفوا بعنفهم في المعارك، لكنّهم لم يخضعوا لسيطرة قيادة الحزب مباشرةً. أراد الجميل أن يترشح لمنصب نائب رئيس الحزب، إلا أن رجاله طلبوا منهم أن يركّز على قيادة القوات اللبنانية.

     قدّم الجميل إستقالته من الحزب في 1976، إعتراضًا على موافقة المجلس السياسي للكتائب على دخول قوات الردع العربية المكوّنة من القوات المسلحة السورية إلى لبنان لإنهاء الحرب الأهلية.

القيادة العسكرية

الصراع مع منظمة التحرير والحركة الوطنية

السبت الأسود

     في 1975، إثر مقتل أربع مقاتلين تابعين للكتائب، أمر الجميل قواته بالإنتشار في الشوارع، وقاموا باختطاف مئات اللبنانيين المسلمين والفلسطينيين وقاموا بقتلهم بناءًا على بطاقات الهويّة التي تدل على الطائفة. يؤكّد كريم بقرادوني أنّ الجميل اعترف أمامه بذلك، إلا أن ميشال سماحة، وهو عضو في الكتائب، ينفي الحادثة ويدّعي أن الجميل كان في دمشق في وقتها.

مجزرة الكرنتينا ومجزرة الدامور

   في 18 يناير 1976، قاد الجميل إجتياح مخيم الكرنتينا قرب مرفأ بيروت، ونتج عنه مقتل حوالي 1000 مقاتل فلسطيني ومدني فيما عرف بمجزرة الكرنينا. بعد يومين فقط، ردت

فصائل فلسطينية بالهجوم على قرية الدامور فيما عرف بمجزرة الدامور.

مجزرة تل الزعتر ومعركة الفنادق

     في نفس العام، حاصرت القوات المسيحية مخيم تل الزعتر لمدة 52 يومًا. أرسل الجميل مجموعة من قواته، ودخلت المخيم من خلال المجارير ثم فجروا مخزن الذخيرة فيه، وأًعتبر ذلك الضربة القاضية التي أدت لسقوط المخيم. بعد إقتحام المخيم، قتل قوات الكتائب أكثر من 3000 مدني فلسطيني في مجزرة تل الزعتر. قاد الجميل أيضًا معركة الفنادق والتي انتهت بطرد الجبهة اللبنانية من بيروت الغربية.

الصراع مع سوريا

     في 1976، أصبح بشير الجميل قائد قوات الكتائب النظامية بعد مقتل وليم حاوي قنصًا في معركة تل الزعتر ضمن الجبهة اللبنانية، وأسس القوات اللبنانية ضمن الجبهة اللبنانية. عارضت الجبهة منظمة التحرير الفلسطينية وتحالفت مع سوريا. في 1977، زوده الموساد بجهاز تلكس لإستقبال وإرسال الرسائل النصية من أجل تسهيل تواصله مع تل أبيب.

حرب المئة يوم

     قاد الجميل قواته في حرب المئة يوم عام 1978، عندما دارت مواجهات عنيفة مع الجيش السوري على مدار 3 أشهر، وانتهت بإتفاق بوساطة عربية انسحب السوريون على إثره من بيروت الشرقية وانتهى التحالف بين الجبهة اللبنانية وسوريا. استخدم السوريون المباني العالية مثل برج رزق في الأشرفية وبرج المر وبقيوا لمدة 90 يومًا. حصل صراع آخر بقرب منطقة السودوكو في الأشرفية. في هذه الفترة، كانت إسرائيل الداعم الأوّل للجبهة اللبنانية.

الجميل مع قوى الكتائب النظامية

معركة زحلة

      في 1981، حصلت إحدى أكبر المعارك من الجانب العسكري والسياسي بين القوات اللبنانية والقوات السورية، في مدينة زحلة بالبقاع، أكبر منطقة مسيحية في شرق لبنان. إستطاعت القوات اللبنانية مواجهة السوريون وقلب النتيجة بمساعدة 92 من المغاوير أرسلوا من بيروت. بدأت المعركة في 2 أبريل 1981 وإنتهت بوقف إطلاق النار وإرسال قوى الأمن الداخلي اللبنانية إلى زحلة، وعودة المغاوير إلى بيروت في 1 يوليو 1981.

التوترات في الجبهة اللبنانية

     رغم نجاحها في مواجهة الفلسطينيين والسوريين، أدى عاملين رئيسيين إلى تفكك الجبهة اللبنانية في نهاية المطاف.

الجميل مع الرئيس السابق كميل شمعون

مجزرة إهدن

     بعد إغتيال العديد من أعضاء الكتائب عبر جيش تحرير زغرتا تحت قيادة طوني فرنجية من تيار المردة، وهو حليف في الجبهة اللبنانية، دعا الجميل إلى اجتماع عاجل لتحديد ما سيفعله بهذا الشأن. في البداية، أُقترحت فكرة إعتقال طوني فرنجية وإجباره على تسليم أعضاء ميليشيا المردة الذين قتلوا الكتائبيين. لكن، بعد نقاشات عديدة، قرر الجميل إرسال بعثة تقوم بإعتقال الأعضاء الذين قتلوا الكتائبيين بنفسها، وتكون العملية يوم الثلاثاء بحيث يكون طوني فرنجية قد أنهى عطلته وغادر إهدن. في 13 يونيو 1978، أرسل الجميل فرقة من قواته بقيادة سمير جعجع وإيلي حبيقة إلى إهدن، وبدأت المعركة على الفور مع وصول الفرقة، وإنتهت بمقتل طوني فرنجية وعائلته، بالإضافة إلى العشرات من مقاتلي ميليشيا المردة، وعرفت بمجزرة إهدن. غضب الجميل من هذه الحادثة، لكنه وقف بجانب رجاله.

مجزرة الصفرا

     واجه الجميل والكتائب منافسةً أيضًا من النمور. حدثت العديد من الاشتباكات بينهما، وتعود أسبابها عمومًا إلى الخلاف حول توزيع ضرائب الحرب والمعدّات العسكرية التي تزودها إسرائيل. ادعت النمور أن الجميل ينتهك حصّتها، واتّهم الأخير ببيع الأسلحة للفلسطينيين. في فبراير 1980، استدعى الموساد، بإيعاز من مناحيم بيغن، كلّا من الجميل وداني شمعون إلى القدس. أمرهما بيغن بالتعاون وهدّد بقطع الدعم الإسرائيلي إذا لم يتوحّدا.

     على الرّغم من ذلك، أراد الجميل أن يكون «المحاور المسيحي الوحيد لإسرائيل»، وتزامن ذلك مع تصاعد التوتر في يونيو 1980. في 7 يوليو، أرسل قوّاته إلى الصفرا، حيث كان شمعون وأعضاء ميليشيا النمور يقضون إجازتهم، وتفاجئوا بالهجوم. قتل 83 منهم في ما عرف بمجزرة الصفرا، بإستثناء شمعون، الذي قام باللجوء إلى بيروت الغربية.

     رتّب على الفور اجتماعًا مع قادة الكتائب والوطنيين الأحرار، بما في ذلك كميل شمعون، اقترح فيه دمج الميليشيتين في القوات اللبنانية يقودها هو بنفسه، ووافق الحاضرون. يصف آلان مينارغ هذه الأحداث بأنها «كانت أعمالًا دمويةً وأصبح بشير بعدها القائد وكان يطمح لأن يكون الشخص الوحيد القادر على استهداف المعسكر المنافس داخل الموارنة». عارض أخيه أمين هذه الخطوة، ورفض أن تشمل عملية الدمج الوحدات الموالية له، إلا أن والدهما بيار تدخّل وأمرها بتسليم الأسلحة الثقيلة إلى القوات اللبنانية. استسلم جزء من الوطنيين الأحرار، إلا أن البعض الآخر قرر مواجهة الجميل. في 10 نوفمبر، انفجرت سيارتان في الأشرفية، تاركةً 10 قتلى و92 جرحى. بعد 10 أيام، أمر نخبة قواته باقتحام معاقلهم في عين الرمانة. بعد يومين من القتال، هُزم الوطنيين الأحرار، وسيطرت القوات اللبنانية على ما تبقّى من المنطقة. اعتبر الجميل أنّ «توحيد البندقية المسيحية» قد اكتملت، وطلب من جنوده ارتداء شارة القوات بدلًا عن شارات ميليشياتهم السابقة.

الغزو الإسرائيلي للبنان

      في 1982، غزت إسرائيل لبنان، وكان وزير الدفاع الإسرائيلي أرئيل شارون قد إجتمع بالجميل قبل الغزو بعدّة أشهر وأخبره بأن قوات الدفاع الإسرائيلية تخطط لغزو لبنان لطرد الفلسطينيين وإيصاله إلى رئاسة الجمهورية. استمرت إسرائيل بتقديم الدعم للقوات اللبنانية عسكريًا وسياسيًا.

    إلتقى الجميل بهاني الحسن ممثلًا عن منظمة التحرير، وأخبره بأن إسرائيل قادمة لـ«مسح منظمة التحرير نهائيًا» ونصحه أن يخرجوا من لبنان بسلام قبل فوات الآوان، إلا أن الحسن غادر بلا رد. حصل الغزو وخرجت منظمة التحرير من لبنان في أغسطس 1982. في 24 يوليو، أعلن الجميل ترشحّه لرئاسة الجمهورية.

رئاسة الجمهورية

الانتخابات الرئاسية اللبنانية، أغسطس 1982

     في 23 أغسطس، أنتخب الجميل رئيسًا للجمهورية، بعد حصوله على 57 صوتًا من أصل 62 نائبًا حضروا الجلسة النيابية. يتمّ التشكيك بنزاهة الانتخابات بسبب إجبار عدد من النواب على حضور الجلسة بالقوة لإكمال النصاب، بالإضافة إلى تواجد قوات إسرائيلية خارج مقرّ المجلس، ما دفع معارضيه إلى وصفه «رئيسًا على الدبابة الإسرائيلية».

    في 25 أغسطس، وصلت قوات حفظ السلام الدوليّة، والتي تكوّنت من أغلبية فرنسية-أمريكيّة-إيطالية للإشراف على مغادرة منظمة التحرير من لبنان. وبالفعل غادر ياسر عرفات بيروت متوجّها إلى أثينا عاصمة اليونان، ورغم طلب الجميل بقاء هذه القوات لفترة إضافية، إلا أن الولايات المتحدة رفضت ذلك وغادرت لبنان في 10 سبتمبر.

      في 1 سبتمبر، 1982، بعد انتخابه كرئيس للجمهورية بأسبوع، إجتمع برئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيجين في نهاريا. قام بيجين بتوبيخ الجميل معتبرًا أنه يحاول التهرّب من توقيع معاهدة صلح مع إسرائيل، وأمره بإدلاء تصريح حول الصداقة بين البلدين، وهدّده بأنه سيحتل جنوب لبنان في حال عدم إتمام الصلح. شكر الجميل جهود إسرائيل في دعم الجبهة اللبنانية واقترح تشكيل لجنة تتألف من إثنين لبنانيين وإسرائيليين لصياغة نصوص السلام وتحديد الأجندة التي سيلتزم بها الطرفان، مؤكدًا رغبته في توقيع المعاهدة وإقامة تحالف معهم.

     في 12 سبتمبر، زار شارون منزل الجميل في بكفيا كمحاولة لتهدئة أجواء التوتّر بعد اجتماع نهاريا، وأكّدا على أهميّة الصداقة التي تجمع الإسرائيليين والمسيحيين في لبنان. تناقشا حول التنسيق بين الجيش اللبناني والإسرائيلي خلال رئاسة الجميل، وأشارا إلى التحضير لتنفيذ عملية مشتركة ضد الفلسطينيين في مخيما صبرا وشاتيلا والمدينة الرياضية، بالإضافة إلى هجوم ثنائي في المستقبل ضد الجيش السوري لدفعه نحو الإنسحاب من لبنان. كما اعتبر الجميل أنّه قد حان آوان الشروع في معاهدة الصلح، لكنّه ربط ذلك بنقطتين، الأولى هي إخراج الجيش السوري، والثاني هي ردّة الفعل العربية، فعلى الرغم من أنّه عبّر عن عدم اهتمامه بالمصالح العربية في لبنان، إلا أنّه أبدى تخوّفه من أزمةٍ اقتصادية ستنتج في حال مقاطعة الدول العربية له على غرار مصر.

الإغتيال

      في 14 سبتمبر 1982، بينما كان بشير الجميل يخطب في زملائه من أعضاء حزب الكتائب في معقلهم بالأشرفية، انفجرت قنبلة في الساعة 4:10 مساءًا وأدت إلى مقتل بشير و26 سياسيًا كتائبيًا. لم يستطع أحد التعرف على الجثة من خلال وجهه إلا أنها عرفت لاحقًا من خلال خاتم الزواج الذي كان يرتديه ورسالة موجهة له كان يحملهما. في الصباح التالي، بعد أن إنتشرت إشاعات حول نجاة الجميل، وأن طائرة مروحية قد قدمت ونقلته إلى المستشفى، أكد رئيس الحكومة شفيق الوزان أن بشير الجميّل قد قتل.

    إتهم بالإغتيال حبيب الشرتوني وهو مسيحي ماروني وعضو في الحزب السوري القومي الاجتماعي وقد اعتُقِل بهذه التهمة. إستطاع الشرتوني تنفيذ العملية الاغتيال لأن أخته كان تعيش في الشقة فوق الغرفة التي كان الجميل فيها. قبل الحادثة بيوم، زار الشرتوني أخته، وزرع القنبلة في شقتها. في اليوم التالي، إتصل بها ودعاها للخروج من المبنى. بعد خروجها منه، قام بتفجير القنبلة عبر جهاز تفجير عن بعد، وتم إعتقاله عندما عاد للإطمئنان على أخته. إعترف الشرتوني لاحقًا بالجريمة، وأعلن أنه «نفذ حكم الشعب اللبناني على الجميل» لأنّ «بشير باع لبنان إلى إسرائيل». يعتبر الشرتوني، مثل الجميل، شخصية مثيرة للجدل، ويعتبره معارضو الجميل «بطلًا قتل قاتلًا» أما مؤيدوه فيرونه «قاتلًا قتل بطلًا». وسجن الشرتوني لمدة 8 سنوات حتى سيطرت القوات السورية على لبنان مع نهاية الحرب الأهلية وقامت بتحريره في 13 أكتوبر 1990.

اغتيال بشير الجميل في بيت الكتائب

    بين التحقيقات التي أجريت في مجلس الأمن في القوات اللبنانية في قضية اغتيال الرئيس بشير الجميل وبين التحقيقات الرسمية والقضائية التي أجريت في القضاء اللبناني بإشراف المحقق العدلي في القضية القاضي سعيد ميرزا بقيت اسرار وألغاز كثيرة لم يتم رفع الستار عنها وهي بعد 39 عاما تبقى محط تساؤلات في القضية التي كان يجب ألّا يبقى فيها أسرار. هذا التحقيق يتناول تلك التحقيقات والمراحل التي مرت فيها عملية الإغتيال من تجنيد حبيب الشرتوني حتى تنفيذ العملية وصولاً إلى ما تضمنته محاضر التحقيق.

    في الثالث عشر من أيلول 1985، وفي الذكرى السنوية الثالثة لاغتيال الرئيس الشيخ بشير الجميل، نشرت جريدة “الجمهورية” تحقيقاً تحت عنوان: “هكذا حصل اغتيال الرئيس بشير الجميل… ملف التحقيق الكامل مع حبيب الشرتوني”. وسألت: “لماذا لم يحاكموه بعد؟”. ونشرت أيضاً محضراً للتحقيق مع نوال الشرتوني، شقيقة حبيب، ومحاضر ومستندات مختلفة.

     إن هذا التحقيق ليس رسمياً ولكنه يتضمن معلومات أخذ المحقق العدلي بالبعض منها، بعد إعادة إستجواب الشرتوني، وأغفل أخرى على قلتها، ولكنه أضاف إليها تفاصيل ومعلومات جديدة ربما كانت أخذت من حبيب الشرتوني لدى التحقيق معه في جهاز أمن “القوات”، وربما أغفل ذكرها. ومن هذه المعلومات مثلاً كيف تم بيع البناء الذي حصلت فيه عملية التفجير من جدّ حبيب الشرتوني الى حزب الكتائب، بالتزامن مع التحضير لتنفيذ عملية التفجير، ووجود شخص آخر تعاون مع نبيل العلم لم يتم التوصل الى تحديد هويته.

   إن المحقق العدلي سعيد ميرزا أصدر قراره الإتهامي في هذه القضية في 29/10/1996، أي بعد 14 عاماً على عملية إغتيال الرئيس الجميل، وبعد عامين على حل حزب “القوات اللبنانية” واعتقال قائدها سمير جعجع، وذلك في ظل عهد الوصاية. والتحقيق لدى جهاز أمن “القوات” كما القرار الإتهامي يحصر التهمة بحبيب الشرتوني وبنبيل العلم، وإن كان تم ذكر أنه لم يتم تحديد الجهات التي كان يتعامل معها نبيل العلم.

   إن الملف أصبح من الماضي، خصوصًا بعدما أنجز المجلس العدلي برئاسة القاضي جان فهد المحاكمة في هذه القضية وأصدر حكماً غيابياً بالإعدام على حبيب الشرتوني ونبيل العلم (بسبب عدم تأكيد حصول وفاته رسمياً) في 20 تشرين الأول 2017.

    على رغم ما ورد في التحقيقين القواتي والقضائي، ثمة خفايا كثيرة لا تزال تكتنف لغز التحضير لتنفيذ عملية الإغتيال، خصوصاً في ما يتعلق بالجهة التي كان ينسق معها نبيل العلم. إن ما تم نشره في جريدة “الجمهورية” هو المستند الوحيد المتوفر ـ رسمياً ـ عن التحقيقات التي حصلت مع الشرتوني داخل “القوات”. ومن هذا المنطلق يتم اعتماد هذا التحقيق مع تحديد ما أضافه عليه القرار الإتهامي وما أغفل عنه.

     بعد 39 عاماً على عملية إغتيال الشيخ بشير الجميل، لا تزال هناك أسرار كثيرة لم يتم الكشف عنها. لقد صارت القضية ملك التاريخ، ولكن السعي الى الحقيقة الكاملة هو الذي يستوجب البحث عن هذه الحقيقة لتكوين الرواية الكاملة. أين هي هذه الحقيقة؟ وأي فصول لا تزال مجهولة؟ وكيف تدرجت العملية من البدايات إلى النهاية؟.

    في 3/12/1982، تمت إحالة قضية إغتيال الرئيس الشيخ بشير الجميل الى المجلس العدلي. وفي 15/12/1982، أصدر وزير العدل قراراً بتعيين القاضي سعيد ميرزا محققاً عدلياً في هذه القضية. وفي 28/12/1982، صدر إدعاء مدعي عام التمييز النائب العام لدى المجلس العدلي. وفي 3/5/1995، صدرت مطالعة مدعي عام التمييز النائب العام لدى المجلس العدلي. وُجهت التهمة الى كل من حبيب طانيوس الشرتوني مواليد 1958 الذي أوقف وجاهياً في 5/5/1983، وفر من السجن في 13/10/1990، ثم أوقف غيابياً. والى نبيل فرج العلم مواليد 1945 الذي أوقف غيابياً في 2/2/1984 وبقي فاراً من وجه العدالة. والى كل من يُظهره التحقيق فاعلاً أو شريكاً أو محرّضا أو متدخلاً. وهو الأمر الذي لم يظهر أبداً في ما بعد في التحقيقات العدلية وفي المحاكمة. وفي 29/10/1996، أصدر المحقق العدلي القاضي سعيد ميرزا قراره الإتهامي.

   في 2/11/1996، إدعى المحامي العام التمييزي القاضي أمين بو نصار على حبيب الشرتوني ونبيل العلم وفقاً لما ورد في قرار الإتهام وطلب محاكمتهما أمام المجلس العدلي. وكشف القرار الإتهامي أن مديرية الأمن العام لم تقم بأي تحقيقات، وأن مديرية المخابرات لم تُكلَف بالتحقيق، وأن فصيلة الأشرفية كشفت على مكان الإنفجار، وأن الرائد شحاده معلوف الخبير في المتفجرات كشف على مكان التفجير بتكليف من قيادة الجيش. وفي 2/3/1982، كشف ميرزا على مكان التفجير وتبيّن أنه تمت إزالته ولم يبق منه سوى غرفة الإتصالات. وفي 30/4/1983، تم تسليم حبيب الشرتوني الى القضاء اللبناني، بعدما بقي موقوفاً منذ 16 أيلول/ سبتمبر 1982 لدى جهاز الأمن في “القوات اللبنانية”. وفي 2/5/1983، جرت أول جلسة تحقيق قضائية مع الشرتوني، وتم الإستمهال لتكليف محام خاص أو من نقابة المحامين الدفاع عنه قبل بدء إستجوابه. وفي 4/5/1983، جرت أول جلسة إستجواب لحبيب الشرتوني أمام المحقق العدلي بعد تعذر وجود محامٍ للدفاع عنه. وفي 9/5/1983، تسلم قاضي التحقيق معلومات عن نبيل العلم من نقابة المحامين المسجَّل فيها مع صورة شمسية له ونسخة عن إخراج قيده الشخصي.

بشير الجميل وكميل شمعون

    في 10/5/1983، جرت جلسة الإستجواب الثانية مع حبيب الشرتوني. وفي 11/5/1983، تسلم المحقق العدلي المواد الجرمية المضبوطة. وفي 1/6/1983، حصلت جلسة الإستجواب الثالثة مع الشرتوني. كذلك في 13/6/1983، تم إيداع ملف إغتيال مايا بشير الجميل جانب مدعي عام التمييز لورود إسم نبيل العلم في هذه القضية، مع العلم أن عملية إغتيال مايا كانت محاولة لاغتيال الشيخ بشير الجميل، وكانت أحيلت على المحكمة العسكرية وأوقف فيها لاحقاً كل من نزيه شعيا وميلاد موسى وجوزف كازازيان. وفي 15/6/1983، جرت جلسة الإستجواب الرابعة مع حبيب الشرتوني، كما تم إستجواب شعيا وموسى وكازازيان وبضعة شهود. تبعه في 24/6/1983، تم إستجواب خالد نزها الذي يذكر حبيب الشرتوني إسمه في خلال التحقيق معه كأحد العاملين مع نبيل العلم في شعبة الأمن في الحزب السوري القومي الاجتماعي، وكان موقوفاً أمام القضاء العسكري في قضية أخرى. وفي 9/8/1983، إستمع المحقق العدلي لحبيب الشرتوني في جلسة تحقيق خامسة.

    نبيل العلم كان محل سكنه في حي الوتوات ـ زقاق البلاط في بيروت ملك النعماني، وكان مكتبه في رأس بيروت ملك عفيف صقر. وفي 1976، سافر الشرتوني الى قبرص ثم الى فرنسا حيث تابع تعليمه حتى العام 1979. وعام 1975، إلتقى الشرتوني هنري هاني من بلدة بينو وطوني أبي نادر من شرتون، وذهب مع هاني الى بيت الطلبة التابع للحزب السوري القومي الاجتماعي في ساحة الدباس، حيث بدأ يظهر إنتماءه الى هذا الحزب قبل أن يحلف اليمين. كان منزل والدي الشرتوني في شارع الزهار قرب برج رزق. وقبل سفره في ربيع عام 1976، وبعد دخول قوات الردع العربية، تردد حبيب الى مركز الحزب القومي قرب أوتيل الجبيلي في عاليه، حيث التقى المنفذ كميل عبد الخالق وتسلم رشاشاً حربياً وقام بالحراسة لمدة ثلاثة أشهر، وكان يلتقي قريبه أسعد الشرتوني وعمه شفيق، وهما عضوان بارزان في الحزب القومي (كما ذكر القرار الإتهامي). في تلك المرحلة كانت قيادة الحزب القومي ضد الجيش السوري الذي كان في حال صدام واشتباك مع أحزاب الحركة الوطنية، وقد شهد الحزب حالات إنقسام بسبب الموقف من سوريا. بالنسبة الى عم الشرتوني، فهو عاد وأكد في أحاديث صحافية منشورة له إنتماءه الى الحزب، وهذا الأمر لم يأتِ على ذكره التحقيق الذي حصل لدى جهاز الأمن.

    في صيف 1977، عاد الشرتوني من فرنسا وقصد منفذية عاليه في الحزب القومي، وطلب الإنتساب رسمياً الى الحزب وقابل ناظر الإذاعة جورج حداد وحضر حلقات إذاعية، وأدى قسم الولاء الى الحزب نهاية صيف 1977. وقد يكون سبب هذا الأمر يتعلق بمحل ولادة الشرتوني في شرتون في قضاء عاليه.

     قبل عودته الى فرنسا، زوّده جورج حداد برسالة مكتوبة بخط يده باللغة الفرنسية موجهة الى جورج برجي مندوب الحزب في فرنسا. مطلع خريف 1977، سافر الشرتوني. وفي تشرين الأول قابل جورج برجي في منزله وأقام الشرتوني في ضاحية نانتير. وشارك الشرتوني في لقاءات حزبية قومية ضمن منفذية الطلبة، وشارك في نشاطات طلابية دعماً للحركة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية. وقبل أن ينهي سنته الدراسية الثالثة، إلتقى الشرتوني نبيل العلم في منزل جورج برجي، وكان العلم وقتها مندوب الحزب القومي الجوال في أوروبا. وهذا يرجح أن يكون اللقاء حصل في عام 1978. ولكن خلافاً لهذا الأمر أورد تحقيق الأمن في ذلك الوقت أن الشرتوني كان التقى العلم ولو بصورة غير شخصية في مركز الحزب في بيروت.

    في عام 1979، قبل انتهاء سنته الدراسية الثالثة، إلتقى الشرتوني العلم الذي زوّده رقمي هاتفه في بيروت للإتصال به بعد عودته الى لبنان. ربما خلال ذلك كان العلم عَلِمَ من الشرتوني أنه يقيم في الأشرفية وأنه كان يحتاج الى تجنيده كمخبر تابع له، خصوصاً أن العلم في ذلك الوقت، خريف 1979، كان يعمل على تنفيذ إغتيال الشيخ بشير الجميل قائد “القوات اللبنانية”، مع الأخذ في الإعتبار أن المحاولة الرئيسية حصلت في 23 شباط 1980 في طلعة العكاوي في الأشرفية، وقد استشهدت فيها إبنته مايا مع عدد من المرافقين. ولا يذكر القرار الإتهامي معلومات تربط بين بدء العلاقة بين الشرتوني والعلم، وبين انتقال عائلة الشرتوني للإقامة في منزل جده نعمان صابر في البناء الذي يملكه، وحيث يوجد في الطابق الأرضي منه قسم كتائب الأشرفية الذي يتردد إليه الشيخ بشير بعد ظهر كل ثلاثاء.

نقل المتفجرات وإخلاء الشقة وتحديد مكان جلوس بشير

     بدأ التخطيط لاغتيال الرئيس بشير الجميل قبل الإجتياح الإسرائيلي وبالتالي هذا القرار لم يكن مرتبطاً بهذا الحدث لأن أكثر من محاولة لاغتياله حصلت قبل 14 أيلول 1982. على رغم ذلك لم يتمّ تغيير نمط النظام الأمني المحيط ببشير وربما كان السبب عدم الخبرة الكافية لدى جهاز أمن القوات الذي كان حديث التنظيم ومتساهلا في عملية الحماية الوقائية. وربما يعود السبب أيضا إلى محاولة بشير التفلت من الحماية اللصيقة وعلى الأقل كان يجب أن يبدل في مواعيده المعروفة سلفًا.

    على مدى أكثر من عامين استمر تعاون الشرتوني مع العلم لتنفيذ عملية الإغتيال التي وضعت موضع التنفيذ مع رسم خرائط المبنى الذي يشغله بيت الكتائب ونقل المتفجرات إلى الأشرفية. نهاية العام الدراسي 1978 ـ 1979، أي خريف 1979، عاد الشرتوني الى لبنان، وبعد شهرين إتصل بالعلم والتقيا في اليوم نفسه في مركز الحزب في فردان، ثم تناولا طعام الغداء في منزل العلم بحضور زوجته سهام رشيد عازار. وتظهر هذه العلاقة الشخصية حرص العلم على أهمية تجنيد الشرتوني من دون أن يكون هناك شخص آخر يربط بينهما لإعطاء هذه العلاقة السرية التامة. وقد علم الشرتوني خلال هذه المرحلة أن العلم صار مسؤولاً عن شعبة الأمن في الحزب القومي بعد أن كان عميداً للداخلية، كما يذكر القرار الإتهامي، وأنه بقي في الأمن حتى اجتياح 1982. ربما يتعلق هذا الأمر بانكشاف دوره في قضية إغتيال الرئيس بشير الجميل وتواريه عن الأنظار، والخلافات الداخلية في الحزب، خصوصاً ما يتعلق وقتها بإعلان رئيسه إنعام رعد عدم علم الحزب بمخطط الإغتيال، وبالتالي إكتشاف أن العلم كان يعمل أمنياً لصالح جهة ثانية غير حزبية.

    لم يطلب العلم من الشرتوني زيارته في مقر الحزب بل في منزله. إستمرت لقاءاتهما حتى شتاء 1981، عندها علم العلم أن حبيب يقيم في الطابق الثاني من البناء الذي يملكه جده لأمه نعمان صابر في الأشرفية ـ شارع ساسين. وفي هذا الإطار، لا ترد معلومات دقيقة عما إذا ما كان جده يقيم في هذه الشقة في الطابق الثاني قبل انتقال عائلة حبيب للإقامة فيها، ولكن من الثابت تقريباً أن العلم بدأ يتداول مع حبيب في موضوع تردد الشيخ بشير الى بيت كتائب الأشرفية إعتباراً من هذه المرحلة. العلم إستفسر من الشرتوني الذي أكد له المعلومات، فطلب العلم التوسع فيها وبعد ذلك بدأ الشرتوني المراقبة. ويعني ذلك أن عمل العلم مع الشرتوني على هذه التغطية بدأ على الأرجح بعد محاولة إغتيال الشيخ بشير في العكاوي في 23 شباط 1980، تلك العملية التي استشهدت فيها ابنته مايا وثلاثة من مرافقيه. وعلى رغم إنكشاف أمر المحاولة وتوقيف المتهمين فيها نزيه شعيا وجوزف كازازيان وميلاد موسى وانكشاف علاقتهم بأجهزة أمن فلسطينية لم يتم أخذ هذا الأمر بالإعتبار لاتخاذ تدابير حماية ووقاية مشددة قبل وبعد انتخاب الشيخ بشير رئيساً للجمهورية. وبعد ذلك بدأ الإنتقال الى مخطط تنفيذ عملية أمنية جديدة ضد الشيخ بشير.

     في أواخر عام 1981، طلب العلم من الشرتوني نقل متفجرات ووضعها في منزل جده على أساس أن يتولى شخص آخر تفجيرها. هذه المعلومات بالتواريخ ترد مفصلة أكثر في القرار الإتهامي، ذلك أنها بقيت عامة وغير دقيقة في معلومات أمن “القوات” المنشورة في جريدة “الجمهورية”. وربما كان العلم يريد إشراك حبيب تدريجياً في عملية إغتيال الشيخ بشير على أساس أن يقتصر دوره في البداية على نقل المتفجرات فقط. وخلال تلك المرحلة كان حبيب إنتقل مع عائلته الى منزل خالته يولاند صابر زوجة جاك صابات في محلة دير الناصرة، وأصبح منزل جده خالياً، وبالتالي لم يوافق حبيب على طلب نقل المتفجرات لوضعها في منزل جده.

    خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 1982، عادت عائلة حبيب الى منزل جده نعمان، وبقي مفتاح منزل خالته معه، بعدما كانت سافرت مع عائلتها الى قبرص. عَلِم العَلَم بالأمر، فعاد الى طرح فكرة نقل المتفجرات ووضعها في شقة جده وطلب من حبيب معلومات مفصلة عن المبنى والمقيمين فيه.

    زوّد حبيب العلم بالمعلومات التالية حول البناء: الطابق الأرضي يشغله حزب الكتائب. الطابق الأول فيه شقتان، شقة غربية يشغلها دياب كريِّم وعائلته، وشقة شرقية تطل على شارع ساسين يشغلها روبير شاهين وعائلته. والطابق الثاني شقة واحدة تشغلها عائلة حبيب مع جده لأمه مالك العقار نعمان صابر. الطابقان الأول والثاني لهما مدخل مستقل من شارع ساسين بخلاف الطابق الأرضي الذي له مدخل خاص.

    طلب العلم من الشرتوني أن يدخل الى بيت الكتائب بعد ظهر يوم ثلثاء عندما يحضر الشيخ بشير الجميل لجمع معلومات حول ما يحصل داخل بيت الكتائب أثناء حضوره. خاف حبيب واكتفى بالمراقبة. بعد ذلك أبلغ العلم الشرتوني أنه كلف شخصاً آخر حدد له مكان جلوس الشيخ بشير الى أقصى اليمين بالنسبة الى الداخل إليه، ويجلس الى طاولة في أقصى القاعة الرئيسية للقسم مع حدود الغرفة الغربية الأخيرة.

حبيب الشرتوني خلال تسليمه للقضاء اللبناني

    من هو هذا الشخص؟ القرار الإتهامي يذكر أنه “شاب لبناني من كفرشيما أو بلدة الحدت عمره حوالى 25 عاماً خلال عام 1982، معتدل الطول أبيض البشرة، بدين كان يشغل منصباً ما في حزب الكتائب اللبنانية أو في صفوف “القوات اللبنانية” في ذلك الوقت”. هذا التحديد لا ذكر له في معلومات أمن القوات. ولا يذكر القرار الإتهامي كيف تم الحصول على هذه المعلومات ومن أين استقاها وما إذا كان مصدرها أحد الشهود أو معلومات أمنية. أما ما تقدمه هذه المسألة، فهو أن العلم كان يعمل على أكثر من مسار لتنفيذ عملية إغتيال الرئيس بشير الجميل من دون أن يخلط بين مصادره. فبحسب التحقيقات المنشورة لا يظهر ما يشير الى أن حبيب كان على إطلاع على هذا الأمر، كما أن الشخص الآخر لم يكن على علم بقناة الإتصال بين العلم والشرتوني. وقد سطر المحقق العدلي مذكرة تحرٍ دائم لمعرفة شركاء العلم الآخرين ومعرفة كامل هوية هذا الشاب اللبناني. وهذا الأمر لا يزال أحد أسرار التحقيق التي لم يتم اكتشافها أو الكشف عنها.

    سأل العلم الشرتوني عن هوية شاغلي الشقة الغربية في الطابق الأول، فأكد له أنها عائلة دياب كريِّم، وطلب منه وضع رسم لطريقة الدخول الى هذه الشقة، وكان ذلك بعد بدء المفاوضات مع أصحاب العقار وشاغليه لإخلاء الشقق ليتملكه حزب الكتائب رسمياً وقبل أن تتم عملية إخلاء هذه الشقة في أول حزيران 1982 قبل بدء الإجتياح الإسرائيلي. القرار الإتهامي يشير الى أن جان ناضر مسؤول الكتائب في الأشرفية بدأ مفاوضات شراء كامل البناء في العام 1979. ولذلك، إن قرار الإغتيال لم يكن مرتبطاً بحصول هذا الإجتياح بل كان مساراً كاملاً بدأ مع صعود نجم الشيخ بشير الجميل قائداً عسكرياً وسياسياً منذ بداية الحرب. وهذا القرار لم يكن مقتصراً على الشيخ بشير وحده، بدليل تعرض الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميل لمحاولات إغتيال عديدة تمت بالطريقة نفسها تقريباً.

     في شباط 1982، توظف حبيب في شركة تمام للإعلانات في الحمرا، وبات يتردد بشكل تلقائي الى منزل العلم. التحقيقات المنشورة تذكر أن هذا الأمر حصل بطريقة عادية. قرأ الشرتوني إعلاناً في صحيفة حول طلب التوظيف، إتصل بالشركة وأجرى مقابلة فقبلوا توظيفه. ولكن في النتيجة تمكن من إستثمار هذه الوظيفة لتغطية إنتقاله المتكرر الى بيروت الغربية، وبالتالي تأمين الغطاء للقاءاته مع نبيل العلم، خصوصاً أن هذا التطور تزامن مع وضع خطة التفجير والإغتيال موضع التنفيذ. فهل يجب الأخذ بأن هذا التوظيف أتى بطريقة عادية وعفوية أم أنه كان مدبراً ليكون غطاء مناسباً لتردد الشرتوني إلى بيروت الغربية؟.

     أوائل آذار 1982، بعد إلمام نبيل العلم بتفاصيل البناء، تم التفاوض مع روبير شاهين حول بدل إخلاء الشقة التي يشغلها في الطابق الأول، فطلب 400 ألف ليرة. إعتبر حزب الكتائب أن هذا المبلغ كبير. بعد ذلك، جرى التفاوض مع عادل كريِّم إبن السيد دياب. بعد مفاوضات إستمرت أسبوعين، تم الإتفاق مع حزب الكتائب على أن يتقاضى مبلغ 130 ألف ليرة والتعهّد بإخلاء الشقة في مدة أقصاها 30 حزيران، وتسلم الشك بهذا المبلغ في 11 آذار 1982. وبالتالي، هل كان النجاح في الإتفاق مع شاغلي الشقة الغربية حيث ستوضع العبوة مجرد مصادفة؟.

لم يبدل طريقة حمايته

     في المحصلة النهائية المتعلقة بموضوع إستملاك العقار، أخلت عائلة كريِّم الشقة في أول حزيران وبقيت عائلة شاهين. وفي إحدى جلسات الإستجواب يذكر حبيب الشرتوني أن جده نعمان صابر ووالدته وخالاته تقاضوا مبلغ مليوني ليرة بدل قيمة العقار، ولكن هذا الأمر ترافق مع السماح لعائلة حبيب بالبقاء في الطابق الثاني ريثما يعودون الى منزلهم، وهذا الأمر أيضاً لم يمنع حبيب من تفجير المبنى قبل أن تخليه عائلته، وهذا ما دفعه الى الإتصال بشقيقته نوال قبل التفجير لإخراجها من المنزل، وكان السبب الرئيسي في اكتشاف ضلوعه في عملية التفجير واعتقاله في 16 أيلول في منزل خالته في الناصرة.

    في نيسان 1982، بعد حصول الإتفاق مع عائلة كريِّم، طلب العلم من الشرتوني خريطة للبناء تظهر فيها مواقع الأعمدة والجسور. وجد حبيب خريطة وسلمها الى العلم الذي قام بدراستها مع أشخاص آخرين لا يذكرهم التحقيق ولم يعلم بهم الشرتوني، كما يظهر من التحقيقات المنشورة، وقد أبلغ العلم الشرتوني بعد ذلك أن أفضل مكان لوضع المتفجرات هو في متوسط الشقة الغربية فوق المكان الذي يجلس فيه الشيخ بشير عند دخوله الى قسم الكتائب وبعد بدء الإجتماع، وقد أعلم حبيب مشغّله نبيل العلم في بداية حزيران بأن عائلة كريِّم قد أخلت الشقة التي باتت فارغة. واللافت أن هذه الشقة وحدها هي التي أُخليت وهي المكان المختار لوضع المتفجرات. واللافت أيضاً أن حبيب كثف لقاءاته مع العلم بعد هذا التاريخ وبدأ ترتيب عملية نقل المتفجرات والصواعق على مراحل بعد بدء الإجتياح الإسرائيلي في 6 حزيران.

    إتفق نبيل وحبيب على نقل المتفجرات وإبقائها أمانة في الأشرفية لاستعمالها لاحقاً. وبدأ حبيب تسلمها على دفعات. الدفعتان الأولى والثانية تسلمهما من منزل العلم وكانتا بين 3 و5 كيلو. ثم تم نقل كميات أكبر تسلمها حبيب من مرآب بناية في شارع المكحول ونقلها الى بيت خالته في الناصرة. بحسب المعلومات المنشورة، كانت عملية النقل تتم بطريقة غير آمنة تماماً في تابلو سيارة والد حبيب أو تحت المقعد الخلفي. ولكن اللافت أن هذه العمليات كانت تحصل بين المنطقتين الشرقية والغربية، وحتى بعد دخول الجيش الإسرائيلي الى بيروت. فهل كان الشرتوني يتمتع بما يمكن أن يشكل له غطاء في حركته؟ هل كان حبيب يخدم في أحد مراكز الكتائب في الأشرفية، بدليل معرفته ببعض الشباب في مركز البرجاوي؟ حتى أنه بعد عملية التفجير كما يقول في إفاداته، إلتقى بعض “رفاقه” الذين طلبوا منه أن يحرس معهم، وأنه قال لهم إن بدلته العسكرية نسيها في سيارة والده. هذا الأمر أيضاً يبقى سراً من الأسرار التي لم يكشف التحقيق عنها.

    بعد وصول الجيش الإسرائيلي الى بيروت، كان حبيب الشرتوني يتنقل بين بلدته شرتون ومنزل خالته ومنزل جده في الأشرفية ومكان عمل والده في بيروت الغربية، وكان يتصل بطريقة شبه يومية بنبيل العلم. وخلال النصف الأول من تموز نقل المتفجرات والصواعق من منزل الناصرة الى منزل ساسين من دون أن يثير الشبهات ووضعها على المتخّت، وما كان بعد ان إتفق مع العلم على وضع العبوة في الشقة الغربية في الطابق الأول لاغتيال الشيخ بشير، كما جاء في إفاداته المنقولة على رغم أن كل ما كان يقوم به مع العلم كان يشير الى هذا الأمر.

التدريب والتفجير والإعتقال

    من هي الجهة الثالثة التي كانت تعمل للتخطيط لعميلة اغتيال الرئيس بشير الجميل ولماذا لم يتم ذكرها في التحقيق العدلي أو التحقيق الأمني؟ مع أن المعطيات أشارت إليها وحددتها من شراء الأجهزة إلى التفجير. وكيف تمكن الشرتوني مثلاً من الهرب من المكان الذي وضع فيه بعدما سلمه جهاز الأمن في القوات اللبنانية إلى الرئيس أمين الجميل؟ ولماذا لم يهرب الشرتوني بعد تنفيذ العملية أو لماذا لم يتفق مع العلم على خطة الهرب؟ وهل كان لديه غطاء يحتمي به ويعتبر أنه لا يمكن أن يكون موضع شك؟

    عندما عرض العلم على الشرتوني حقيبة التفجير، تولى شرح طريقة إستعمالها. حسب بعض إفاداته يقول إن العلم قد تعلم بدوره طريقة إستخدام الحقيبة من طرف ثالث. من هو هذا الطرف الثالث؟ أيضاً التحقيقات لا تكشف هذا السر. ولكن في الوقائع ومن خلال متابعة طريق الحقيبة من اليابان الى لبنان، يظهر أن هناك أربع حقائب تم شراؤها في العام 1979، وأنه تم الإستفسار عن إمكانية تحويلها من غرض تأمين إتصال بالصوت الى غرض تحويل الإشارة الى شرارة كهربائية يمكن أن تفجر الصواعق والعبوات، وبالتالي تأمين كيفية تحويلها من الإستعمال لأغراض مدنية الى أغراض إرهابية تخريبية. لقد تزامن شراء هذه الأجهزة مع إعداد أكثر من عملية لاغتيال الشيخ بشير الجميل كان أهمها في 23 شباط 1980 في طلعة العكاوي حين استُشهدت إبنته مايا، بالإضافة الى عمليات أخرى إكتُشفت أو فشلت. ومن خلال المتابعة مع الإنتربول توفرت معلومات من اليابان عن الجهة التي إشترت الحقائب من الشركة اليابانية وهم محمد أمين جبري (محمد س. جبري) (أو جابري) مع شخص أعطى لنفسه إسم الكولونيل ديب وخبير إتصالات هندي يعمل في المؤسسة التي كان جبري يعمل فيها، وهي شركة صابرين، أو صبارين، كما يرد ذكرها في أمكنة مختلفة من التقارير المكتوبة بالإنكليزية أو المترجمة الى العربية. وهناك تقرير غير واضح من أعده يشير الى أن الفريق الذي اشترى الحقائب كان اشترى أيضاً سيارات جيب لمصلحة إحدى المنظمات الفلسطينية. من هي هذه المنظمة؟ هذا أيضاً سر لم تكشفه المعلومات المنشورة في التحقيقات.

ألان مينارغ في كتابه “أسرار حرب لبنان”

     في كتابه “أسرار حرب لبنان” يذكر ألان مينارغ أن “القوات اللبنانية” بعد توقيف الشرتوني سلمته الى الرئيس أمين الجميل قبل أن يستجوبه أحد، وقد وُضع في الطبقة السفلية لدار مهجورة، “وبعد ذلك ببضع ساعات تمكن من فك قيده الحديدي الذي كان سيئ الإغلاق وفرّ هارباً من كوّة مفتوحة واختفى تحت جنح الظلام. لكنه اعتُقل عند الفجر من قبل رجال الـH.K. (إيلي حبيقة) الذين كانوا على آخر حاجز لـ”القوات اللبنانية” فيما كان يعبر نحو المنطقة التي يسيطر عليها السوريون. وأُعيد الشرتوني فوراً الى مبنى الأمن حيث وُضع أمام كاميرا فيديو وبدأ إستجوابه”. ويتابع مينارغ: “قال برصانة وهدوء إنه عضو في الحزب السوري القومي الإجتماعي (معترفاً)، منذ ثلاث سنوات، في سنة 1979 إتصل بي من الجناح اللبناني في الحاضرة الجامعية اللبنانية بباريس نبيل العلم رئيس جهاز الإستخبارات في الحزب السوري القومي الإجتماعي وطلب مني الإنضمام الى جهازه لأنني مسيحي من الأشرفية”. لم تكن عائلة الشرتوني مجهولة تماماً عند الحزب الموالي لسوريا. فإن شقيق حبيب الشرتوني، جورج، كان يدير من قبل خلية للحزب السوري القومي الإجتماعي في إيطاليا. وكان والدهما يملك مختبراً للتحاليل الطبية في بيروت الغربية في شارع كليمنصو، وفي مكان غير بعيد عن السفارة الفرنسية. “وتم فصلي سريعاً للإلتحاق بهواري”، أكد حبيب”.

    بحسب المعلومات المذكورة في التحقيقات المنشورة، لا ذكر لانتماء أحد من عائلة حبيب الصغيرة الى الحزب القومي. بالإضافة الى ذلك، لم تذكر هذه التحقيقات إسم هواري. من هو هواري؟ وهل ما ذكره ألان مينارغ صحيح؟ هذا أيضاً سر لم يُكشف عنه بصورة رسمية.

الشرتوني أمام الإعلام

    حول هذا الموضوع يتابع ألان مينارغ في كتابه نفسه: “كان هواري أبو الهول الفلسطيني، عضواً في جهاز إستخبارات “فتح”. وكان خصوصاً رئيس خلية أمان (أو أمن) المندوبين، حيث كان يعاونه النقيب سعدي. كان قد أعدّ بنية ودور هذه الخلية طالب حقوق يُدعى فؤاد الشمالي (زوج إبنة زعيم الحزب السوري القومي الإجتماعي أليسار سعاده). كان مبدأ عمل هذه الخلية بسيطاً: تعهّد العمل الإرهابي. فكان على كل حزب، أو إسلامي، أو تقدمي، تبعاً لإمكانيته، أن يقدم لمنظمة أمان المندوبين معلومات ووسائل تقنية، وعتاداً، ورجالاً. وكان ينبغي لهؤلاء الرجال الآتين من آفاق مختلفة أن يتمكنوا من “العمل” في محيطهم الأصلي. وهكذا كان الموارنة يعالجون أهدافاً في المناطق المسيحية، ويقوم السنّة منهم بالعمل ذاته في مناطقهم. وهلمّ جرّا. كانت هذه الطريقة تسمح باختراقات أكثر أمناً، وبـ”تضليل التحقيقات”. وقد أتاح التحقيق حول نشاط هذه المنطقة توقيف إثنين من المسيحيين هما جوزف كازازيان ونزيه شعيا، اللذين كانا وضعا سيارة ملغومة بالقرب من قصر بسترس لأجل إغتيال بشير الجميل في شباط 1980. وحطم الإنفجار سيارة بشير المرسيدس 280 الخضراء اللون التي كان في داخلها إبنته مايا وإثنان من حرسه الشخصي. كان هذان الرجلان في فترة ما ينتميان الى مجموعة الياس الشرتوني الذي كان يرأس فريقاً ينتمي الى جهاز إستخبارات “القوات اللبنانية” التي يرأسها إيلي حبيقة. كانت منظمة أمان المندوبين تعمل لحساب كل من “مزوِّديها”، وكذلك بناء على طلب كل من يدفع بدل أتعابها (غالياً جداً). وكان حبيب الشرتوني قد “أُعطي” في هذا الإطار الى المنظمة من جانب الحزب السوري القومي الإجتماعي، هذا الذي استغرب إتهامه بالتورط مباشرة في إغتيال بشير الجميل. وقد أكد زعيمه إنعام رعد في بلاغ صدر عنه أن واضع المتفجرات ليس عضواً في منظمته”.

     لم يذكر مينارغ مصدر معلوماته، ولكن وإن كانت التحقيقات المنشورة تشير الى جهة ثالثة كان يتعامل معها نبيل العلم، فإنها لا تحدد هويتها ولا هوية الأشخاص. ولكن هذه المعلومات معطوفة على عملية شراء أجهزة التفجير تكاد تحدد هذه الجهة، وإن لم يتوصل التحقيق الذي أُجري مع الشرتوني الى الكشف عنها. فإما الى أنه لم يكن على علم بها أو أنه أنكرها طوال فترة إعتقاله. يُضاف الى ذلك أن التحقيق العدلي يتحدث عن ملف إغتيال مايا بشير الجميل وهو في مكوّناته وأطرافه يشبه ملف إغتيال بشير الجميل لناحية علاقة نبيل العلم بالمتهمين فيها وهم من الحزب السوري القومي الإجتماعي وبالجهة الثالثة نفسها ربما. وكان من الواجب ربما التوسع في التحقيق أكثر، ولو على سبيل المعلومات، وإن كانت هذه المعلومات لا تؤدي في النتيجة حتماً الى إتهام مباشر لهذه الجهة الثالثة.

     عندما لقَّن العلم الشرتوني طريقة عمل جهاز التفجير، يقول حبيب إنه عرض عليه تنفيذ عملية ضد الجيش الإسرائيلي، ولكن العلم أكد على أن العملية ستكون ضد بشير. إقترح الشرتوني تنفيذها على طريق يسلكها، فأكد العلم على وضع العبوة في الشقة الغربية. وفي أواسط آب نقل حبيب جهاز التفجير، أو الإرسال، من منزل العلم وأعطاه رقم هاتفه في منزل جده. كان يشعر بالأمان الى الحد الذي يجعل التواصل بينه وبين العلم سهلاً ولم يخشَ من الإتصال به الى منزل جده فوق بيت الكتائب مباشرة. وقد أعطاه العلم رقم هاتف في قبرص للتواصل معه وآخر جديداً في منزله إستعاره من القيادي في الحزب القومي محمود عبد الخالق.

      ليل 29 آب 1982، نقل حبيب المتفجرات والصواعق الى منزل جده وأبقى حقيبة التفجير في منزل خالته في الناصرة. التحقيق العدلي يذكر أنه أنزل الحقيبتين اللتين وضع فيهما المتفجرات الى الشقة الغربية الساعة الثانية صباحاً، ويروي التفاصيل حول كيفية إنزالهما من على الدرج الى شرفة المطبخ وكيفية فتح الباب ووضعهما في المكان المتفق عليه. تحقيق جهاز الأمن لا يذكر هذا الأمر. يتحدث عن إنزال المتفجرات ليلة 13 أيلول. التحقيق العدلي يتوسع أكثر عندما يذكر كيف أن العلم شجعه على تفجير العبوة يوم الثلثاء 31 آب. مطلع أيلول إتصل العلم بشقيقته في منزله في الوتوات. ربما غادر الى قبرص متوقعاً أن ينفذ الشرتوني العملية في 31 آب. في 30 آب إتصل به وتأكد من وضع العبوة. وكرر الإتصال به في الموعد المحدد، ولكن حبيب لم ينفِّذ. دخل الى بيت الكتائب وتأكد من وجود الشيخ بشير وخرج وزار آل شاهين في الشقة الشرقية وكان خائفاً من أن يتم تفتيش الشقة الغربية واكتشاف العبوة. ولكن هذا الأمر لم يحصل. مساء 31 آب إتصل به العلم الى منزل جده. سأله لماذا لم ينفّذ؟ أجابه بأن الشيخ بشير لم يمكث طويلاً في بيت الكتائب.

    في أيلول 1982، أي عندما كانت المتفجرات موضوعة في الشقة الغربية، إكتملت عملية شراء حزب الكتائب للعقار بمبلغ 2,5 مليون ليرة وتم السماح لعائلة الشرتوني بالبقاء في المنزل حتى إكتمال إصلاح منزلهم الأساسي في شارع الزهار. وعلى رغم ذلك لم تحصل عملية مسح للعقار، وخصوصاً الشقة التي تم إخلاؤها. وهذا سر لم يكشفه التحقيق. سر التزامن بين إنجاز عملية شراء العقار وإعداد العبوة، وسر عدم تفتيش المبنى.

     ليل الخميس 3 أيلول إستعاد حبيب المتفجرات من الشقة الغربية وأعادها الى منزل جده ولم يلاحظه أحد. على رغم أن شقيقته كانت تقيم معه في المنزل، إلا أنه ربما إختار أوقاتاً تكون فيها غائبة. حصل حبيب على إجازة غير مدفوعة من مركز عمله في شركة “تمام”. الثلثاء في 7 أيلول حضر الشيخ بشير الى قسم الكتائب ولكن حبيب لم ينفّذ العملية. إتصل به العلم أكثر من مرة مستفسراً ومشجعاً على لعب دور البطولة. وعده حبيب بالتنفيذ يوم الثلاثاء 14 أيلول.

تشييع الرئيس

     الساعة الواحدة فجر الإثنين 13 أيلول أنزل حبيب العبوة مرة ثانية الى الشقة الغربية ووضعها في المكان المتفق عليه وجهزها للتفجير. قبل ظهر 13 أيلول إتصل به العلم فوعده بالتنفيذ مجدداً. الساعة 11,30 ليل الثلاثاء 14 أيلول إتصل به مجدداً. لم يكن في منزل جده. كان في شرتون. روت شقيقته. سألها عن حبيب فقالت إنه في شرتون. من يتكلم؟ سألت. قال لها العلم إنه يُدعى سليم الخوري. هل كان الإتصال من نبيل العلم أم أن سليم الخوري كان اسماً حقيقياً لأحد مؤسسي منظمة الألوية الثورية اللبنانية التي نفذت عمليات تفجير في فرنسا؟.

     يوم التفجير نزل حبيب من شرتون. في التحقيق معه يروي تفاصيل ذلك اليوم حتى حصول عملية التفجير. من غير المفهوم مثلاً السبب الذي دفعه الى البحث عن صندوق حديدي في أحد المصارف لإيداع مستندات الملكية العائدة لوالده فيه. لا يتحدث حبيب مثلاً عن خطة للهرب. مما قاله إن العلم نصحه بالهرب الى المتن الأعلى، ضهور الشوير أو بولونيا مثلاً. بعد التفجير لا يذكر أنه إتصل بنبيل العلم أو نبيل العلم إتصل به. بدل الهرب من الأشرفية، توجه مع والده الى شرتون. عندما قرر أن يفجر العبوة لم يغامر بقتل شقيقته. إتصل بها الى منزل جده لتغادر. ولكنه لم يتأكد إذا كانت خرجت. خروجها من المنزل لملاقاته إفتراضياً في ساحة ساسين أنقذها من الموت وساهم في كشف علاقة حبيب بعملية التفجير. يذكر حبيب أنه اتصل بعائلة شاهين لدعوتهم الى مغادرة المنزل، ولكن على الأرجح أنه اتصل ليتأكد من دخول الشيخ بشير الى بيت الكتائب. بعدها إتجه الى منزل خالته في الناصرة ليكبس على الزر وينفذ العملية. ولم تتضح أسباب تطرق التحقيق العدلي الى ملف تفجير السفارة الأميركية في عين المريسة في 18 نيسان 1984، والإستماع الى إفادة المتهم في العملية سامي حمود الحجي الضابط الفار من الجيش المصري.

     بعد 39 عاماً على اغتيال بشير الجميل وربما بعد أعوام جديدة أخرى ستبقى هناك علامات استفهام كثيرة حول ما أخفته التحقيقات وحول ما عجزت عن اكتشافه. أحد خبراء الإتصالات الذين تمت الإستعانة بهم لمعرفة من أين تم استحضار جهاز التفجير ولعب دوراً في هذا المجال وبقي اسمه غير متداول يرجح أن أجهزة التفجير الأربعة التي تم شراؤها واستخدم أحدها في اغتيال الشيخ بشير تم استخدامها ربما في اغتيال المفتي حسن خالد والرئيس رينيه معوض. هذا أيضاً من أسرار ما بعد الإغتيال لا يمكن معرفة حقيقته طالما أن لا أوراق في ملفي القضيتين.

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى