الهجرة السرية (غير النظامية) في تونس: الخلاص الفردي في مواجهة الرهانات الدولية

Clandestine (Irregular) Migration in Tunisia: Individual Salvation in the Face of International Challenges

الهجرة السرية التي تحولت إلى هجرة غير نظامية تدفعنا إلى التساؤل حول الكيفية التي يدير بها الفاعلون الاجتماعيون هذه الظاهرة. علينا الإشارة أولًا إلى أن الظاهرة ديناميكية تخترقها عوامل ومعطيات منها ما هو مرتبط بالتحولات الاجتماعية، وما هو مرتبط بعلاقات الدول فيما بينها، أي بما هو جيوسياسي. هي في الآن ذاته مشروع فاعلين يبحثون عن الخلاص الفردي من أزمة شاملة وشبكات تهريب تحاول توفير عرض مغر لهذا الخلاص الفردي ودول تتفاوض من أجل الحد من تداعيات هذه الهجرة، الأمر يهم دول شمال المتوسط وجنوبه أيضًا ولو بمستويات مختلفة.

الورقة الانتخابية داخل الفضاء الأوروبي حاضرة دون منازع في مسألة الهجرة غير النظامية، وهي ورقة من أجل تبديد المخاوف التي جعلتنا نتحدث عن “الهجروفوبيا” التي تمكنت من أوروبا التي يحكمها اليمين خاصة، وهو المتصدر للمشهد السياسي في العديد من الدول وآخرها الانتخابات البرلمانية الإسبانية.

كانت الأشهر الماضية، ولا تزال، أشهرَ الهجرة غير النظامية في تونس. تصريحات على أعلى مستوى تتحدث عن تغيير في المشهد الديمغرافي في البلد، تليها اعتداءات وعمليات ترحيل للأفارقة جنوب الصحراء إلى الحدود الليبية والجزائرية. وقد كلَّف الأمر زيارات إيطالية وأوروبية رسمية إلى تونس بحثًا في الأمر وربما فرضًا لتعليمات مقابل مساعدات مالية واقتصادية.

أولًا: من هجرة سرية إلى هجرة غير نظامية: ما الذي حدث في الأثناء؟

الهجرة السرية الآن هي إحدى علامات النجاح الاجتماعي، يقع الاحتفاء بها عائليًّا بعد أن كانت وصمًا لعطب في المصعد الاجتماعي. تُسمى في الصيغة التداولية التونسية “حَرْقة” أي حرق كل ما بقي والانطلاق نحو عالم مغاير. وهي إلى الآن محتفظة بنفس التسمية بين الشباب ولم تستطع التسميات الأخرى مثل الهجرة غير الشرعية أو غير النظامية أن تنزع عنها مدلولها الرمزي كتجربة مُرَّة.

هذا تحول مثير في الظاهرة عندما تنتقل من مخاطرة إلى عنوان نجاح. تصبح هنا المخاطرة فعلًا يقع تثمينه لأنه مغامرة تكشف عن قدرة الفرد على تجاوز معوقات صعوده الاجتماعي. تقدير الذات بإخراجها من الفشل والبحث عن تميزها ثمنه مغامرة محفوفة بالمخاطر قد تنتهي بالغرق أو بالترحيل ولكن إعادة التجربة مرة أخرى مطروحة بشدة لدى الشباب المتمسك بالمشروع الهجروي.

حين بدأت الظاهرة في البروز مع بدايات تسعينات القرن الماضي كانت كل الأنظار متجهة إلى مسألتين، الأولى: هي فرض تأشيرة “شينغن” أمام الراغبين في الهجرة، أما الثانية فكانت قراءة للدوافع التي تجعل الشاب مغامرًا بحياته من أجل الوصول إلى الضفة الشمالية من المتوسط. والدوافع كانت بالأساس اقتصادية اجتماعية وهي لا تزال كذلك مع انسداد أكبر في الآفاق. ولكن زاوية النظر للمسألة تغيرت في الأثناء فعلاوة على الظروف الدافعة مع انحسار الفرص أمام الشباب وضعف إدماجهم في الدورة الاقتصادية برزت مسألة كيفية بناء هذا الشاب لمشروع الهجرة لديه على غير الصيغ القانونية والنظامية، أي الدخول فيما يسمى بمجتمع المخاطرة.

إن الانتقال من هجرة منظومية إلى هجرة شبكية أصبح جليًّا في العشريات الأخيرة. ولكلتا الهجرتين منطقها الخاص وعلاماتها المميزة وظروف تحقيقها، الدولة ومؤسساتها في مواجهة علاقات الشبكة الأكثر مرونة وسرعة ودقة في الإنجاز. هجرة المنظومة هي هجرة دول يقع التفاوض حولها وتقاس بمنطق الربح والخسارة وبمنطق التفاعلات الجيوسياسية، ولهذا برز مفهوم الهجرة الانتقائية التي تدافع عنها دول الاتحاد الأوروبي، وهي هجرة أدمغة وهجرة عمالة مختصة تستفيد منها اقتصادات هذه الدول وتملأ بها الفراغ الديمغرافي وفراغ المؤسسات من أبسطها إلى أعقدها. وقد فهمت ألمانيا ذلك عندما قررت قبول أكثر من مليون لاجئ سوري من أجل إعادة إدماجهم في المنظومة الاقتصادية والاستفادة من قدراتهم المختلفة، ومن الأكيد أن ألمانيا ستقف عند فوائد قرارها. وتتجه إيطاليا الآن في نفس الاتجاه.

تختلف الهجرات التي تنظمها الشبكات عن ذلك كله، فهي تعطي للفرد إمكانية أكبر لتجاوز كل المعوقات البيروقراطية التي تقترحها الدول وتقدم له عرضًا يناسب فشله الفردي وتمنحه الثقة وتقول له: إن إمكانيات النجاح متوافرة، وما عليه إلا أن يوفر مبلغ العبور وما يكفي من شجاعة لتحمل أعباء الرحلة.

وفي هذا السياق تتراجع الدوافع الماكروسوسيولوجية لتترك مكانها للسرديات الصغرى التي يبنيها الشاب وهو يفكر في مشروعه للهجرة. وتتحول الأسئلة من أسئلة عن الوضع الاقتصادي وعن البطالة والتهميش إلى أسئلة من نوع آخر تتعلق باختبار الذات والقدرة على التحدي والنجاح في انتهاك القوانين والأعراف الرسمية. ولا يُحاسَب الشاب على اختياره الهجرة السرية بل يُحاسب على مدى تمكنه من إدراك ذلك بأخف الأضرار. هنا لا يهم الشاب تجاوزه لقوانين التنقل بقدر ما تهمه القدرة على الإنجاز. ولهذا كله لا نستغرب إعادة الشاب للتجربة مرات ومرات إلى أن ينجح في العبور. ولضمان نجاح التجربة يدمج الشاب عائلته في ذلك تنظيمًا ومساندة مادية ومعنوية وكأنه بذلك يبحث عن مشروعية لتجربته. لقد أصبحت العائلة التونسية جزءًا من هذا التحدي. توثيق التجربة بصور وفيديوهات ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي هو تطبيع مع الظاهرة وإعلان عن انتصار في مواجهة إكراهات قوانين الهجرة المفروضة أوروبيًّا(1).

ثانيًا: الهجرة غير النظامية وفردنة المشكلات الاجتماعية

لا يمكننا فهم ظاهرة الهجرة غير النظامية دون الإشارة إلى التحولات الاجتماعية التي تهم الفرد وعلاقته بالمجتمع وتهاوي مؤسسات التنشئة والمرافقة الاجتماعية والعلاقة بين الفرد وذاته وتمحوره حولها. إن البحث الدائم عن الاعتراف وعن التموقع الإيجابي هو الذي يدفع بالشاب إلى خوض التجربة بمخاطرها ومساوئها.

إن مقولات الفرد والفردانية وفردنة المشكلات الاجتماعية علاوة على مجتمع المخاطر هي من المقولات الصاعدة الآن والتي تساعدنا على قراءة الظواهر المستجدة وأبرزها ظاهرة الهجرة غير النظامية. أصبح الفرد هو البوصلة التي من خلالها نرى المجتمع ونفهمه. لقد كان المجتمع في السابق هو الذي يقودنا إلى معرفة الأفراد، هو الذي يحدد لهم مجال حركتهم ونطاق اختياراتهم. لم يعد هذا متاحًا اليوم بالكيفية التي كانت في الماضي. الفرد هو المسؤول عن مصيره وإمكانيات حركته في اتساع متواصل. حدود الهويات لديه مقترنة بقدرته على اكتشاف الفرص وعلى استثمارها قدر الإمكان ويحاسب نفسه على ذلك.

ما هو متاح الآن هو ما يعترض الفرد من صعوبات تهم مسيرته المهنية: موقعه داخل الفضاء الحضري، وقدرته على التميز وعلى إثبات الذات، وتحقيق نجاحات في مسائل شتى، والتعبير عن هويته وعن تفرده، ومواجهته للاختبارات الممكنة. كل هذه المقولات هي التي تجعل الفرد في مسار متواصل من ابتكار الذات مصدره في ذلك ما يُسمى بالتجربة الفريدة التي يخوضها يوميًّا من أجل أن يكون لمسيرته الشخصية معنى داخل مجتمع الأفراد. ومع هذا كله أصبحت المشكلات الاجتماعية مشكلات منظورًا إليها من وجهة نظر الفرد ومن انهمامه بذاته.

إن الهجرة غير النظامية هي اختزال لكل هذا. هي تعبير عن فشل سياسات تنموية وعن عطب في سرديات الإدماج التي تباهت بها لعقود طويلة مؤسسات التنشئة الاجتماعية، الفرد يبحث عن خلاص ولكن الكلفة باهظة(2).

ثالثًا: الهجرة غير النظامية: تحولات في الظاهرة

الهجرة غير النظامية حالة ديناميكية، ظاهرة متحولة في الشكل وفي المضمون. في بداياتها الأولى كانت مرعبة: نقص في التجربة، وخوف من البحر، وكانت سرية بالكامل. لا تضم التجربة سوى البالغين من الذكور برفض عائلي لا غبار عليه. ولكن بمرور السنوات تأنَّثت الظاهرة وأصبحت القوارب محملة بعدد قليل من الفتيات، من إفريقيا وراء الصحراء ثم تونسيات. ومنذ فترة قصيرة عرفت الظاهرة انضمام القاصرين ثم التحقت العائلات.

تطوِّر شبكات الهجرة غير النظامية من أساليبها وتبتكر طرقًا جديدة للعبور، في السنة الأخيرة برز طريق لم يكن معهودًا هو طريق تطاوين -وهي مدينة في الجنوب التونسي- صربيا ثم فرنسا. طريق جوي وبري في نفس الوقت يقع على مراحل أطول ومكلف أكثر وبأقل مخاطر بحرية. ولكنه في كل الأحوال طريق لا ملح فيه. في دراسات جادة ورد أن ما يقرب من 12 ألف شاب غادروا تطاوين في السنة الحالية ومؤشر ذلك فراغ شاحب في المدينة ومقاهيها، وفريق كرة القدم في المدينة يلعب أمام أقل من 500 متفرج بعد أن كان الملعب مكتظًّا بمرتاديه. استفادت مدينة تطاوين من ثقافتها الهجروية القديمة. آلاف العائلات مستقرة في فرنسا على وجه الخصوص ما شكَّل اتساعًا في الروابط العائلية بحيث يجد الشاب من ينتظره هناك ويدمجه بسرعة في منظومة شغلية عائلية بكثير من الضمانات. إن شبكات الهجرة غير النظامية تقوم هي الأخرى بقراءة كل السياقات التي تعزز قدراتها لإنجاح المشروع الهجروي. فالكل يعلم أن القاصرين لا يقع ترحيلهم إلى بلدانهم، القوانين الأوروبية تمنع ذلك. يجد القاصرون رعاية اجتماعية وتربوية من أجل إعادة التأهيل والإدماج. تنظم العائلة لتستفيد من هذا الإجراء وتضمن حضورًا دائمًا بأقل تكلفة ممكنة. ما يلاحَظ أن مغامرة الهجرة غير النظامية لم تعد كما كانت في السابق مغامرة محفوفة بالمخاطر. هناك تطبيع كبير مع الظاهرة واعتبارها تجربة على الشاب وعلى العائلة خوضها دون شعور كبير بالتردد.

إن كل تغير في الظاهرة من حيث ارتفاع عدد المهاجرين غير النظاميين وتنوع فاعليها هو مؤشر على انسداد الآفاق. هو إدانة واضحة لفشل في المشاريع التنموية التي تبجحت بها الدولة الوطنية لعقود من الزمن. وهو مؤشر على أن الانتقال الديمقراطي في تونس يشكو تعثرًا في فهمه وفي إدارته. ولكن هذا لا يكفي للإحاطة بالظاهرة. هناك دوافع مرتبطة بنرجسية الفوارق الصغرى إذ ليست الظروف الاقتصادية وحدها هي الدافع لخوض مغامرة الهجرة غير النظامية بمخاطرها الممكنة. هي نرجسية يبنيها الشاب يوميًّا تحت وقع مجتمع مشهدي يعرض تفاصيل حياته عبر شبكات التواصل الاجتماعي. يشاهد الشاب أقرانه الذين نجحوا في مشروعهم الهجروي، ويتساءل: لماذا لا أكون مثلهم؟ ما الذي يمنعني من ذلك؟ لماذا لا أتصرف مثلهم؟ أريد أن أعيش حياة مترفة، إذن سأغامر وسأرحل. لم يعد لي مكان في هذا البلد. وقد يشعر الشاب بالإهانة عندما يقارن نفسه بأقرانه ويشعر بالضعف وبعدم القدرة على الإنجاز. المشروع الهجروي إذن هو مركز علاقة الفرد بذاته.

أول تحدٍّ هو بين الشاب ونفسه، أي كيف يتجاوز هذا الشاب مخاوفه، وكيف يسيطر على مناطق عدم اليقين لديه، هو تحدٍّ ذاتي يقوده فعل المقارنة اليومية في تفاصيلها الصغرى ليصل في النهاية إلى قرار أنه قادر على الإنجاز وما عليه إلا ترتيب المسألة. هناك مهاجرون تنقذهم الشبكات العائلية فيجدون ضمانات أولية مناسبة وهناك من ليس لديه سوى قدراته التي يمكن أن تسعفه بإنجاح مشروعه الهجروي. إنها تجربة بمذاق الملح(3).

رابعًا: الهجرة غير النظامية في تونس: بعض الأرقام على الطريق

هناك في تونس مجتمع مدني يشتغل بشكل جدي على الظاهرة ويدمجها ضمن المسائل الحقوقية ويدافع عن المهاجرين سواء كانوا تونسيين أو أفارقة ما وراء الصحراء ويحاول أن يكوِّن وجهة النظر المغايرة لما هو مقترح من الجهات الأوروبية. وتقدم بعض الجهات مثل المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية مؤشرات محينة حول الوضع الهجروي بشكل حرفي. وتفيد المعطيات بأن الموجة الهجروية الأكبر من حيث العدد كانت إبان الأشهر الأولى من الثورة التونسية سنة 2011. إذ تمكن ما يقارب 25000 شاب من الوصول إلى جزيرة “لامبيدوزا” الإيطالية مستغلين عدم قدرة الأمن التونسي على مواجهة هذا التدفق الكبير في ظل ظروف سياسية مضطربة آنذاك(4).

يقدم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بيانات شهرية وسنوية حول الهجرة غير النظامية ويستند في تحصيل المعطيات الكمية على بلاغات وزارة الداخلية التونسية والمفوضية السامية للاجئين والمنظمة الدولية للهجرة ووزارات الداخلية في الدول الأوروبية والوكالة الأوروبية لمراقبة السواحل.

تشير المعطيات الواردة من المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إلى أن عدد المهاجرين غير النظاميين التونسيين قد بلغ 880 مهاجرًا/ة، سنة 2015، و1200، سنة 2016، و2700، في 2017.

وقد تمكن 4849 مهاجرًا/ة من الوصول إلى الأراضي الإيطالية، سنة 2018، و2592 مهاجرًا/ة، سنة 2019، وارتفع العدد، سنة 2020، ليصل إلى 11212 مهاجرًا/ة، و14342، سنة 2021، ليبلغ العدد 18148 مهاجرًا/ة، سنة 2022، ليتراجع إلى 4318 مهاجرًا/ة إلى حدود 30 يونيو/حزيران من سنة 2023.

منذ 2020، سجلنا ارتفاعًا ملحوظًا في عدد المهاجرين التونسيين الذين بلغوا الأراضي الإيطالية أساسًا مقارنة بالسنوات السابقة، وقد يعود ذلك إلى انسداد واضح في الآفاق مع عجز الدولة عن تقديم مشروع مجتمعي يمكِّن من تجاوز الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تفاقمت مع ظهور أزمات جديدة مثل نقص المواد الغذائية وارتفاع كبير في تكلفة العيش ونقص الماء والكهرباء. وهي أزمات لم تكن حاضرة بنفس الدرجة سابقًا. هناك اقتناع لدى التونسيين بأن الأزمة الشاملة متواصلة وهو ما نستشفه من النوايا الهجروية التي أصبحت الثقافة الأولى عند التونسيين بمختلف مستوياتهم الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية. الكل يريد مغادرة البلاد حلمًا أو حقيقة(5).

دخل القصَّر ظاهرة الهجرة غير النظامية بشكل لافت في السنوات الأخيرة. وهو ما يؤشر لتعقد الظاهرة وتشعبها؛ إذ أصبحت العائلات فاعلًا أساسيًّا في المشروع الهجروي؛ وهو ما يكشف عن مزيد تأزم الوضع وانسداد الآفاق في غياب بديل تنموي. وقد سجل المنتدى وصول 595 قاصرًا بمرافقة عائلية وبدونها، سنة 2019، لتصل إلى 1607 قاصرين، سنة 2020، و2492، في سنة 2021، ليبلغ العدد 3399، سنة 2022. و1044 قاصرًا إلى حدود 30 يونيو/حزيران من هذه السنة.

وسجلت الظاهرة أيضًا التحاق النساء؛ إذ بلغ العدد 307، سنة 2020، و523، سنة 2021، و850 امرأة، سنة 2022. لقد أصبح المشروع الهجروي مشروعًا عائليًّا وبشكل واضح.

وبلغ ضحايا قوارب الهجرة غير النظامية والمفقودون من التونسيين 581، سنة 2022، و608 إلى حدود 30 يونيو/حزيران من هذه السنة. ولكن الرقم مرتفع جدًّا عندما يتعلق الأمر بجنسيات أخرى وخاصة منها جنسيات إفريقيا ما وراء الصحراء.

وتفيد نفس المعطيات الواردة في تقارير المنتدى بأن عدد المجتازين الذين تم منع اجتيازهم انطلاقًا من السواحل التونسية من جنسيات تونسية وغير تونسية قد بلغ 38372، سنة 2022. في حين أن عدد الممنوعين من الاجتياز وصل إلى 32792، في سنة 2023 إلى حدود 30 يونيو/حزيران(6).

خامسا: الهجرة غير النظامية والرهانات الدولية المتقاطعة

هناك تحول بارز في التعامل التونسي مع الظاهرة، ولكن إيطاليا ومعها الاتحاد الأوروبي يخوضان مفاوضات من أجل رؤية تجعل الجانب الأوروبي بمنأى عن المضاعفات الكبرى لتدفق المهاجرين التونسيين وغير التونسيين.

قبل تناول الرهانات الجيوسياسية لظاهرة الهجرة غير النظامية برز الموقف التونسي من خلال تصريحات رئيس الجمهورية التونسي الذي اعتبر وجود الأفارقة من جنوب الصحراء على التراب التونسي بشكل غير قانوني مؤامرةً هدفها تغيير التركيبة الديمغرافية للمجتمع التونسي. ودعا إلى التطبيق الصارم للقانون من أجل وضع حد لهذا التدفق غير القانوني. واعتبر العديد من المنظمات المدنية التونسية والدولية أن هذا الخطاب فيه تحريض ضد المهاجرين. وكانت نتيجته أن وقعت مصادمات كبيرة بين تونسيين غاضبين على الوضع ومهاجرين من دول إفريقية جنوب الصحراء. وآخرها ما وقع منذ بداية شهر يوليو/تموز 2023 بين سكان مدينة صفاقس التونسية ومهاجرين غير نظاميين أحداثُ عنف وتعدٍّ على المهاجرين أجبر العديد منهم على مغادرة المدينة والاتجاه نحو الحدود الليبية والجزائرية والمئات منهم عالقون الآن على هذه الحدود في ظروف إنسانية رديئة جدًّا مع ظروف مناخية قاسية.

في الأثناء، تُطرح مسألة الهجرة غير النظامية على طاولة المفاوضات بين تونس والاتحاد الأوروبي وتقود إيطاليا العملية بحكم تضررها المباشر من هذا التدفق وبحكم وجود حكومة يمينية تقودها رئيسة الوزراء “جيورجيا ميلوني” التي وعدت ناخبيها بالقضاء على ظاهرة الهجرة غير النظامية.

وفي الأثناء، وقع إبرام مذكرة تفاهم بين تونس والاتحاد الأوروبي من أجل شراكة اقتصادية، ولكن من أجل مكافحة الهجرة غير النظامية أيضًا. ويُفهم من كل هذه الحركية الأوروبية أن الهدف هو وضع تونس في موقع الحارس للحدود الأوروبية، رغم النفي المتواصل للجانب التونسي، مقابل مساعدات مالية أوروبية لتجاوز الأزمة الاقتصادية الخانقة ومساندة إيطاليا في حصول تونس على قرض من صندوق النقد الدولي طال انتظاره. وساعدت إيطاليا تونس لوجستيًّا بتقديمها 82 سفينة لمراقبة الحدود البحرية ومنع رحلات الهجرة غير النظامية. الأمر البارز في مذكرة التفاهم أنها تجدد مسائل وقع تضمينها في اتفاقيات سابقة. وفيما يتعلق بالهجرة غير النظامية لم يرد في مذكرة التفاهم اتفاق واضح حول الآليات الممكنة لمكافحة الظاهرة وأن الأمر في طور التفاوض. هذه السرعة في إبرام المذكرة مردها من الجانب الأوروبي الرغبة في تسجيل نقاط سياسية للداخل الإيطالي ولهولندا التي تصدع فيها الائتلاف الحكومي جراء عدم التوافق حول قضايا الهجرة. ولم تكن مذكرة التفاهم هذه سوى إعادة التأكيد على أن أوروبا مفتوحة فقط لتدفق السلع ولهجرة الأدمغة، أي هجرة انتقائية، وهو ما يحدث الآن في قبول المهندسين والأطباء مثلًا.

وفي الأثناء، يقع ترحيل المهاجرين غير النظاميين التونسيين من إيطاليا، وقد قبلت تونس هذا الأمر في نطاق التسويات التي وقع إبرامها، وتفيد البيانات الصادرة عن بعض المنظمات الحقوقية الإيطالية أن 2308 تونسيين وقع ترحيلهم قسريًّا خلال النصف الأول من هذه السنة مقابل ترحيل أعداد أقل بكثير من جنسيات أخرى.

إن دخول إيطاليا فاعلًا رئيسيًّا في مسألة الهجرة غير النظامية يقابله غياب واضح لفرنسا التي تربطها بتونس علاقات تاريخية معلومة بالرغم من أنها معنية بالظاهرة. غياب فرنسا -كمستعمر قديم- عن هذه الديناميكية أعطى السلطة في تونس شجاعة أكبر في التعامل مع الجانب الإيطالي رغم حضور الاتحاد الأوروبي. لقد رُفِع الحرج الذي يمكن أن تسببه فرنسا لو كانت حاضرة بقوة في المفاوضات الأخيرة حول الظاهرة. ولكن التساؤل المطروح هو: هل نجحت تونس في التفاوض مع الجانب الإيطالي ومن ورائه الجانب الأوروبي من أجل حماية مصالحها؟ يؤكد الخطاب الرسمي على أن تونس لن تكون حارسًا لحدود غيرها وأنها مسؤولة فقط عن حماية حدودها. وهي في الآخر مسؤولة عن الأعداد الكبيرة للأفارقة ما وراء الصحراء وهو تحد كبير يتطلب النظر في كيفية التعامل معهم. وتشير المعطيات إلى وجود صعوبات في التعامل، أغلبيتهم الآن على الحدود الليبية والحدود الجزائرية وهو ما يدفع بالجانب التونسي إلى إيجاد توافقات مع الدولتين الجارتين؛ وهي مسألة ليست بالسهولة التي نعتقدها. فالكل يريد التخلص من هؤلاء المهاجرين دون رؤية واضحة ويكون ذلك في الأغلب على حساب المستوى الإنساني والحقوقي للمهاجرين.

يبدو أن ظاهرة الهجرة غير النظامية لن تجد حلًّا في ظل تناول براغماتي تقوده بالأساس الاعتبارات الانتخابية في الدول الأوروبية المعنية أكثر من غيرها بالمسألة. مساعدات مالية واقتصادية سخيفة من أجل إقناع دول الجنوب بالمساهمة في الحد من تدفق المهجرين إلى دول الشمال. لا توجد إلى حد الآن رؤية واضحة تعالج بطريقة دامجة المشكلَ من جذوره. ولهذا سيبقى الاهتمام بالظاهرة رهينَ وجود اليمين الأوروبي في السلطة. وأوروبا نفسها غير متناغمة في نظرتها لظاهرة الهجرة غير النظامية والاختلافات بين مكونات الاتحاد الأوروبي بارزة ومن غير المنتظر حلها في المنظور القريب. أوروبا معنية الآن بتداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية ووضعها الاقتصادي غير مريح بالمرة وأولوياتها لا تناسب أولويات دول الجنوب المصدِّرة للمهاجرين. إن معادلة التقليص من تدفق المهاجرين مقابل مساعدات اقتصادية ومالية معادلة صعبة لأنها غير مبنية على شراكة حقيقية طويلة المدى وانزعاج فرنسا على سبيل المثال مما وقع في النيجر منذ أيام هو انزعاج من إمكانية خسران السيطرة على مناجم اليورانيوم أكثر من انزعاجها من عدم قدرة دول مثل النيجر على بناء تنمية حقيقية تساعد على التقليص من تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين إلى أوروبا(7).

النظام العالمي غير المتكافئ والمبني على علاقات رابح-خاسر لا يمكنه أن يصد ظواهر من قبيل الهجرة غير النظامية. ودول الجنوب أيضًا شريكة في المسؤولية في ظل غياب واضح للديمقراطية ولثقافة حقوق الإنسان. هي دول مبينة على مؤشرات فساد عالية؛ ما يجعل التنمية غير عادلة وغير دامجة. هناك الاحتجاجات الشعبية التي بمكن أن تقود إلى تغيير في المنظومة السياسية نحو أكثر ديمقراطية وأكثر عدالة وهناك الهجرة غير النظامية. إلا أن الأغلبية من الشباب الذين كانوا يقودون هذه الاحتجاجات اختارت الخلاص الفردي بديلًا عن الخلاص الجماعي. هل علينا العمل على إرجاع المشكلات الاجتماعية إلى محور المشكلات التي يجب حلها جماعيًّا أو الإبقاء على المشكلات الاجتماعية على أنها إخفاق شخصي ما يعني البقاء ضمن الحلول التي يبتكرها الأفراد؟

نشر المقال بعنوان الهجرة غير النظامية في تونس: الخلاص الفردي في مواجهة الرهانات الدولية في موقع مركز الجزيرة للدراسات يوم 27 اوت 2023.

نبذة عن الكاتب

محمد جويلي

أستاذ علم الاجتماع، جامعة تونس.

مراجع

(1) محمد جويلي، كيف يُنجِحُ شاب هجرتَه السرية؟ موقع المغرب، 11 أغسطس/آب 2020، (تاريخ الدخول: 10 يوليو/تموز 2023)،  https://l8.nu/shEI

(2) محمد جويلي، برج بابل: فـردنة المكلات الاجتماعية، موقع المغرب، 18 أكتوبر/تشرين الأول 2022، (تاريخ الدخول: 9 يوليو/تموز 2023)،  https://l8.nu/tFAp

(3) محمد جويلي، الهجرة غير النظامية: سفرٌ بمذاق الملح، موقع المغرب، 6 سبتمبر/أيلول 2022، (تاريخ الدخول: 11 يوليو/تموز 2023)،  https://l8.nu/tFAt

(4) بين 500 إلى 700 نُقلوا قسرًا.. ترحيل المهاجرين الأفارقة في تونس بين الترحيب والتنديد، الجزيرة نت، 11 يوليو/تموز 2023، (تاريخ الدخول: 13 يوليو/تموز 2023)،   https://l8.nu/tFAF

(5) عدد المهاجرين التونسيين الذين وصلوا إيطاليا تضاعف 5 مرات في 2020، وكالة رويترز، 12 يناير/كانون الثاني 2021، (تاريخ الدخول: 9 يوليو/تموز 2023)،  https://l8.nu/tFBe

(6) بالأرقام: عدد المجتازين الذين تم منع اجتيازهم انطلاقًا من السواحل التونسية، موقع تونسكوب، 5 يونيو/حزيران 2023، (تاريخ الدخول: 13 يوليو/تموز 2023)،  https://l8.nu/tFE3

(7) نجيبة بن حسين: الهجرة غير النظامية بين تونس والاتحاد الأوروبي ومقاربة جديدة، العربي الجديد، 9 يونيو/حزيران 2023، (تاريخ الدخول: 14 يوليو/تموز 2023)،  https://l8.nu/tFFq

SAKHRI Mohamed
SAKHRI Mohamed

أحمل شهادة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بالإضافة إلى شهادة الماستر في دراسات الأمنية الدولية من جامعة الجزائر و خلال دراستي، اكتسبت فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الرئيسية، ونظريات العلاقات الدولية، ودراسات الأمن والاستراتيجية، بالإضافة إلى الأدوات وأساليب البحث المستخدمة في هذا التخصص.

المقالات: 14918

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *