بين العمامة وربطة العنق : النموذج التركي

vote/تقييم
وليد عبد الحي
يشكل التمدد التركي الى الجوار الجغرافي القريب والجوار الجغرافي البعيد أحجية جيواستراتيجية لكثير من الباحثين ، وتزداد الاحجية تعقيدا بزخرفها التاريخي الذي يجمع بين إرث اسلامي مزهو بمرحلة تاريخية عثمانية وبين تلهف نخبوي نحو الاندماج مع اتحاد اوروبي مسيحي يتثاءب كلما تم طرح الموضوع عليه رغم ان 42% من تجارة تركيا معه و61% من الاستثمارات الاجنبية تعود لهذا الاتحاد ، وتتطلسم الاحجية أكثر بحمية خطابية ضد السياسات الإسرائيلية من زاوية وتزايد لا ينقطع في حجم التجارة معها بل وارتفاع ما تسميه الادبيات التجارية بالكثافة التجارية(Trade Intensity ) ، ويستند كل هذا لقدر من عدم الاستقرار السياسي طبقا لنماذج القياس التي سأتوقف عندها قليلا في هذا المقال.
أولا: التمدد القريب والبعيد:
لو نظرنا في التمدد الجيواستراتيجي لتركيا سنجده في شمال قبرص منذ 1974 الى ناغورني كارباخ عام 2020، وبين التمددين هناك عبور عسكري للحدود العراقية منذ فترة صدام حسين وحتى نظام ورثة بول بريمر(Paul Bremer ) لمطاردة وضرب قواعد حزب العمال الكردستاني التركي، ثم التهبت شهية التمدد التركي مع توابل الربيع العربي، وبدأت حياكة خيوط العلاقة مع الاخوان المسلمين تزاداد نسجا، وهو ما ظهر بشكل جلي في الساحة السورية وفتح القواعد للمعارضة السورية وتدريبها وتسليحها بل وشراء نفطها المنهوب من داعش باسعار خيالية حينها عبر قنوات المخابرات التركية، وهو ما مهد للتمدد نحو الجوار البعيد ، فبدأ التدخل في ليبيا وصولا لنقل القوات من سوريا الى هناك، وإرسال قطع حربية بحرية لعرض العضلات قبالة الشواطئ الليبية، ثم تم انشاء قواعد عسكرية في قطر (2015) والصومال(2017)، ثم اتسع الامر نحو اعادة ترسيم الحدود البحرية في المتوسط ” تحت ما يسمية الاتراك دبلوماسية “الوطن الازرق” (Blue Homeland) مما فجر النزاع من جديد مع اليونان، وبدأ التوتر يتزايد مع فرنسا التي تنظر للتمدد التركي في افريقيا نظرة الريبة، فتركيا زادت بعثاتها الدبلوماسية في القارة الافريقية من 12 بعثة عام 2003 الى 42 بعثة عام 2020، وزادت تجارتها مع القارة خلال المدة ذاتها من 5 مليار الى 23 مليار دولار.
وقد ادى هذا التمطط Overstrech))الذي يحاكي نظرية بول كينيدي حول صعود وهبوط القوى العظمى الى توترات مع الحلفاء القدامى بين الحين والآخر ( الولايات المتحدة وبعض دول الاتحاد الاوروبي واسرائيل بخاصة حول الاكراد) ومع الاصدقاء الجدد( روسيا التي باعته بطاريات صواريخ اس اس 400) واحيانا الصين التي وصف اردوغان سياستها عام 2009 تجاه اليغور المسلمين في اقليم سينكيانغ الصيني بسياسة” الإبادة الجنسية” وعاد الآن نحو استرضائها وبات أكثر ميلا للتقارب معها في ظل آمال بمكاسب من مبادرة الحزام والطريق الصينية من ناحية ، واملا من ناحية ثانية في تعويض بعض توتراته مع بعض الدول الاوروبية بسوق صيني وتمويل صيني بدأت بوادره في حزيران الماضي بقرض صيني رمزي( مليار دولار) لكبح التراجع في الاحتياطيات النقدية التركية وتاثير ذلك على العملة التركية، علما ان هذا القرض كان متفقا علية منذ 2012، لكن الصينيين انتظروا اللحظة المناسبة للجم خطابات اردوغان حول الإيغور او بلاد تركستان الشرقية كما يسميها بعض الاتراك منذ ارسال السلطان العثماني عبد العزيز السلاح لهم عام 1873.
اما المرحلة التي نعيشها في ناغورني كرباخ فهي تجديد لصراع نشب مع نهاية الاتحاد السوفييتي، وها هو يتجدد وبشكل صريح ودموي وبتدخل تركي معلن الى جانب اذربيجان.
ذلك يعني ان دبلوماسية صفر مشاكل ( وهي نظرية تبناها اردوغان مع مدرسة داود أوغلو الذي اصبح حاليا من خصوم اردوغان) انتهت الى دبلوماسية مائة مشاكل، وتصاعدت المواجهات مع أكراد تركيا( حزب العمال) واكراد الجوار القريب( بخاصة قوات حماية الشعب في سوريا) وانعكس ذلك على الوضع الداخلي كما سنبين وتزايد التنافس المصري الخليجي من ناحية مع اردوغان من ناحية ثانية وبخاصة ان السيسي هو الذي وضع حدا لطموحات اردوغان بانقلابه على الرئيس الشرعي محمد مرسي، ثم قدرة النظام السياسي السوري على منع أردوغان من صلاته الموعودة ” قريبا” في المسجد الاموي.
اما علاقاته مع اسرائيل والتي يتوارى الكثير من الاسلاميين عند طرحها، فتشير الى ان حجم التجارة بين الطرفين بلغ عام 2019 ما يساوي 5.8 مليار دولار بزيادة تصل الى حوالي 233 مليون دولار عن عام 2018( فقد بلغت صادرات تركيا لاسرائيل 4.1 مليار واستوردت منها 1.7 مليار دولار ) ، وفي عام 2020 تقدر قيمة التجارة خلال الشهور الثمانية الماضية مضافا لها اسقاط( projection ) للشهور الاربعة المتبقية من العام بحوالي 5.95 مليار دولار ، اي بزيادة تصل الى حوالي 150 مليون دولار، وهو ما يعني ان الخلافات السياسية بين الطرفين لم تتعد السجال الخطابي فقط والذي لم يترك اي اثر على تطور العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية، بخاصة ان تركيا تريد توظيف علاقاتها مع اسرائيل لاستثمار الشراكات التقنية للشركات الاوروبية والامريكية والاسرائيلية مقابل جعل تركيا سوقا وسيطة بين اسرائيل والاسواق العربية التي ما تزال مغلقة او شبه مغلقة امام البضائع الاسرائيلية.
اما موضوع الكثافة التجارية ( Trade intensity) فهي تقيس نسبة التجارة بين بلدين الى نسبة تجارتهما الكلية مع العالم ، فعند النظر في هذه المعادلة يتبين تماما ان الكثافة التجارية الاسرائيلية التركية تصنف كثافة عالية بل وتتزايد في اتجاهها الأعظم. فالحقيقة أن تجارة تركيا الخارجية مع إسرائيل قد ازدادت مقارنة بالزيادة في إجمالي التجارة مع العالم وهو ما يعد المؤشر الاكثر اهمية في قياس الكثافة، فخلال الفترة 1995-2015 – ثم 2018، زادت صادرات تركيا إلى إسرائيل بمقدار 10.41 ضعفًا ، وزادت وارداتها من إسرائيل 9.31 ضعفًا ، وزاد حجم التجارة الخارجية للبلدين بنسبة 9.93 ضعفًا. وعندما يتم فحص قيم مؤشر كثافة التجارة بين تركيا وإسرائيل في 1995-2015 ، يتبين أن كلا البلدين قد حققا زيادة في حصة التجارة الثنائية بنسبة أكبر من حصتهما في التجارة العالمية. وفي نفس هذه الفترة بلغ متوسط صادرات تركيا إلى إسرائيل 4.26 ضعف نسبة حصتها في الصادرات العالمية في هذه الفترة ، بينما بلغ متوسط صادرات إسرائيل إلى تركيا 2.16 مرة من نسبة حصتها في الصادرات العالمية.
ثانيا: أوزار التمطط
لا شك ان البراغماتية تمنح صاحبها هامشا أوسع من الحركة، وقدرة أكبر على تبرير سلوكه السياسي من اصحاب المنظور العقائدي، لكن البراغماتية لها أوزارها ، فرغم أن القوة النارية للجيش التركي تأتي في المرتبة 11 عالميا، الأ ان هذه القوة يجب أن تستند الى جدار استقرار داخلي يتنامى أو مستقر لكن لا يتراجع ، وبالعودة لنماذج قياس الاستقرار السياسي المستند على مؤشرات سياسية واقتصادية واجتماعية محلية واقليمية ودولية يتبين ان معدل الاستقرار في تركيا هو ( على مقياس يبدأ من + 2.5(الاكثر استقرار) وينتهي عند _ 2.5( الاكثر اضطرابا) على النحو التالي:
2000/ – 0.88
2010/ – 0.92
2015/ -0.1,49
2020/ – 0.1,33
ولا ظن أن ذلك منفصل عن مؤشرات مثل البطالة( حوالي 15%)، والفساد ( حيث تحتل مرتبة وسطى هي 91 بين 181 دولة، كما ان مؤشر غيني(Gini index) ( عدالة توزيع الثروة) يشير الى انه كان عام 2010 حوالي 38,8 ارتفع الى 41.9 عام 2019…اي ان سوء عدالة التوزيع ارتفع بشكل واضح(كلما كان الرقم اعلى كان ذلك دليلا على سوء توزيع الثروة).
الخلاصة:
اعتقد استنادا للمؤشرات المتوفرة ان الاسلام السياسي في تركيا نجح في بناء دولة تجاري بقدر ما متطلبات الحياة الدولية المعاصرة داخليا، لكني ارى ان هذا النموذج ينطوي على ملابسات في استراتيجيته الخارجية تقود الى احتقانات في الجوار القريب والبعيد له وتكون لها تداعيات على الداخل لا سيما ان التنافس يحتدم على المنطقة بين القوى العملاقة الصاعدة والساعية لمزيد من المكاسب وبين القوى الهابطة للخروج بأكبر قدر من المكاسب المتاحة او اقل قدر من الخسائر قبل الخروج من الحلبة ، وهو ما يترك تركيا امام احتمالين اظنهما الارجح:
أ‌- ان تنكفئ عن مشروع التمطط وتطوي ورم الأنا العثمانية طواعية وتدرك حدود قدرتها.
ب‌- أو ان تتداعى الأمم الآكلة على قصعتها…
ربما…

أضف تعليق