بقلم/التجاني صلاح عبدالله المبارك
ربما يعد الانقلاب الذي وقع مؤخرا في النيجر بقيادة “عبد الرحمن تياني” مؤشرا لتراجع وأفول دور فرنسا في القارة السمراء، باعتبارها لاعبا وفاعلا رئيسا في دول غرب افريقيا، بما ينطوي عليه هذا الدور فيما يشبه الوصاية القسرية على تلك الدول، وبما ينطوي عليه أيضا من اكتساب الاهداف وتحصيل المصالح وفي مقدمتها مادة اليورانيوم المشغل الأساسي لمحطات الطاقة النووية.
صحيفة “لوموند” الفرنسية ذكرت أن السيناريو الحاصل في النيجر، من خلال الانقلاب عسكرياً على “محمد بازوم”، كان يخشى منه منذ شهور حلفاء الرئيس المخلوع، وفي مقدمتهم باريس التي أعادت نشر قلب آلياتها لمحاربة الجماعات الجهادية في النيجر.[1]
ولأن شعار “تسقط فرنسا والإمبريالية، عاشت روسيا” الذي كتبه النيجريون أمام السفارة الفرنسية في العاصمة النيجرية نيامي، كان يعكس توجها دفينا في الانعتاق من الاستبداد والسلطوية، فإن إختيارهم التلقائي ل-روسيا يعني توازن قوى ونظام عالمي جديد، تدفعهم إليه روسيا التي نازلت الولايات المتحدة والغرب مجتمعين في اوكرانيا.
ولا يغيب عن الأذهان أنه من أجل تتمكن فرنسا من توطيد ثقافتها وحضارتها في دول غرب إفريقيا، جعلت من لغتها لغة ثابتة ورسمية في تلك الدول باعتبارها وسيلة من عدة وسائل يمكن بها ليس نشر الثقافة الفرنسية وحضارة فرنسا الضاربة وحدها، لكن باعتبارها قوة ناعمة تستطيع خلالها فرنسا من فرض أي قيود أو توجهات، وبهذا الاعتبار فإن المستعمر كان يوظف في واقع الأمر مفاتيح القوة الناعمة لتحقيق المصالح والأهداف الآنية والبعيدة المدى لديه على السواء.
هناك علاقة وراثية عميقة بين القوة الاستعمارية ومستعمراتها السابقة تتجلى من خلال تراثها الثقافي بإفريقيا الفرنكوفونية، ولذلك تسعى فرنسا جاهدة للحفاظ على هذا التراث حيث يذهب جزء كبير من مساعداتها لتمويل التنمية بإفريقيا إلى التعليم والمنح الدراسية والمعاهد الثقافية.[2]
وفور وقوع الانقلاب ألغى المجلس العسكري بزعامة “تياني” إتفاقيات التعاون العسكري مع فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة، كما فعلت مالي وبوركينا فاسو المجاورتين بعد انقلابات فيهما ولدى فرنسا ما بين ألف و1500 جندي في النيجر تدعمهم طائرات مسيرة وأخرى حربية تساعد في محاربة تمرد جماعات على صلة بتنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية.[3]
ومن اجل وأد الانقلاب وإبطاله وعودة النظام الديمقراطي، تبنت فرنسا مساعي وعزم المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) (ECOWAS) التي أبدت جهوزيتها التامة، وذكرت أن مسؤولي الدفاع فيها وضعوا بالفعل خططا عسكرية لعمل عسكري وشيك إذا لم يتم إسقاط انقلاب النيجر.
بالنسبة ل-فرنسا فإن النيجر تعتبر بعدا جيوسياسيا هاما ودجاجة لا تبيض ذهبا وحسب بل يورانيوم؛ تعتمد عليه بصورة رئيسية في تشغيل مفاعلاتها النووية،وقد عملت على استغلال وتحصيل هذه المادة الهامة بأبخس الأثمان، اضافة للعمالة زهيدة الأجور في البلدان الإفريقية.
وليست إفريقيا هدفًا لاستثمارات فرنسا فحسب، وإنما كذلك سوقًا مهمة لصادراتها، وذلك في ظل طموحات الشركات الفرنسية لمواصلة بيع المنتجات المصنَّعة ذات القيمة المضافة العالية. كما تحظى الموارد الطبيعية لإفريقيا بجدارة الاهتمام الفرنسي؛ حيث تعد إمدادات النفط واليورانيوم من القارة ضرورية للحفاظ على الاستقلال الطاقي لفرنسا. [4]
وبحسب وكالة الأناضول، تمتلك النيجر، التي تنتج نحو 5 بالمئة من الإنتاج العالمي، إجمالي احتياطي يبلغ 311 ألفا و110 أطنان من اليورانيوم. يبلغ معدل حاجة فرنسا لليورانيوم تقريبا نحو 7800 طن بالسنة، لتشغيل 56 مفاعلا في 18 محطة نووية، وهو ما دفعها إلى استيراد اليورانيوم على مدى 50 عامًا من مستعمرتها السابقة النيجر.[5]
وبعد أن وقعت فرنسا والنيجر عام 1961 اتفاقيات في مجال الدفاع ومنحت فرنسا بموجبها الأولوية في إستغلال الموارد المنجمية مثل اليورانيوم الذي يستخدم لتزويد محطات الطاقة النووية، منحت شركة تنقيب فرنسية “اريفا”(تعتبر مجموعة أريفا ثاني أكبر منتج عالمي لليورانيوم بعد كازاخستان) الحق في تشغيل اثنين من أكثر مناجم النيجر إنتاجا، وهما منجم سومير المكشوف ومنجم كوميناك تحت الأرض في مقابل المساعدة في المجالات الأمنية والاستقرار في البلاد، الا أنه مؤخرا انهت السلطات النيجرية الاحتكار الفرنسي لليورانيوم، الذي تعد النيجر هي ثالث بلد منتج في العالم لهذه المادة مع إرتفاع أسعار اليورانيوم عالميا، وقامت بالتعاقد مع الشركات الصينية والأسترالية والكندية والهندية.
ولأن دول منطقة الساحل الإفريقي تكثر فيها الصراعات القبلية والعرقية (توجد عدة قبائل رئيسية تتكون منها النيجر قبل وصول الاستعمار الفرنسي، وهي قبائل الدجيرما وقبائل التوبو والهوسا والطوارق والكانوري) فقد اعتمدت السياسة الخارجية الفرنسية عدة آليات لمواجهة تلك الصراعات التي ربما تعيق مصالحها، كان منها نشر وتموضع القوات الفرنسية في النيجر ومالي وربما التدخل العسكري المباشر في أوقات الضرورة.
مع هذا يعتبر الغرب والولايات المتحدة أن المصالح الاقتصادية في القارة السمراء هي مقدمة على أي اعتبار آخر؛ بالنسبة ل-فرنسا فإن اليورانيوم الذي تعتبر النيجر من اغنى الدول امتلاكا له هو أهم من بسط الديمقراطية والأمن على التراب النيجري، أما الولايات المتحدة فاهتمامها الحقيقي وشاغلها في دول غرب إفريقيا هو محاربة التنظيمات الإسلامية الجهادية.
الكاتب الأكاديمي الأميركي “هوارد دبليو فرينش” نشر مقالا تحليليا بمجلة “فورين بوليسي” حول تأثير الانقلاب الأخير ويرى أن القوى العظمى لم تقدم شيئا لأفريقيا، ولا تسعى لمساعدتها في حل أزماتها الاقتصادية، وأن اهتمام الولايات المتحدة منصب على حث بلدان القارة السمراء على الالتزام بالحكم الديمقراطي من دون تقديم معونة تذكر في هذا الإطار، في حين ينصب اهتمامها الحقيقي على محاربة الجماعات المتطرفة في بلدان الساحل.[6]
مع ذلك ومن أجل السيطرة على ما يسمى بتنظيمات الإسلام السياسي وهي الجماعات الإسلامية الجهادية، وتأمين الانظمة الحاكمة في دول منطقة الساحل، توجهت فرنسا إلى تكوين عدة قواعد عسكريّة في انحاء القارة السمراء، في النيجر وجيبوتي والسنغال والجابون، وساحل العاج وإفريقيا الوسطى وتشاد ومالي،إلا أنه نتيجة للفشل الذي منيت به فرنسا في الملفات الأمنية في معظم دول غرب افريقيا، فقد إنتهي الأمر بطرد القوات الفرنسية في مالي.
يقول الكاتب “أفيغوا إيغيوغو” في مقال على موقع orfonline تدهور التعاون العسكري بين مالي وفرنسا، وطردت القوات الفرنسية بعد 9 سنوات من العمليات. وفي أول العام الجاري، أنهت بوركينا فاسو اتفاقاً عسكرياً لعام 2018 مع فرنسا وطالبت بخروج القوات الفرنسية العاملة في البلاد على الفور. وفي كلتا الحالتين، احتفل المواطنون بالخروج الفرنسي الذليل، وغالباً ما شوهدوا وهم يلوحون بالأعلام الروسية إلى جانب أعلامهم الوطنية.[7]
صحيح أن فرنسا فقدت جزءا كبيرا من نفوذها في دول إفريقيا بسبب من فشلها في تحقيق الأمن والديمقراطية المستدامة، والمساهمة في وجود حوكمة رشيدة لتلك الدول الفقيرة التي تكثر فيها النزاعات، إلا ان هذا الفشل الذي عبرت عنه شعوب تلك الدول بالتنديد بالفرنسيين والترحيب ب-روسيا، باعتبارها لاعبا دوليا قويا يمكنه فرض توازن صلب وقوي، صادف أرضية سهلة للروس للدخول على الخط وملء الفراغ في تلك الدول، وبالفعل وفي فترة وجيزة تمكنت روسيا من توقيع اتفاقيات أمنية وعسكرية من خلال مجموعة فاغنر.
يشار إلى أن روسيا ومنذ العام 2010، باتت المورد الرئيسي للتكنولوجيا العسكرية للدول الإفريقية، بل أصبحت فيما بعد أكبر مورد للأسلحة للقارة الإفريقية برمتها، متجاوزة حتى الولايات المتحدة. وكانت النسبة الأكبر لمبيعات الأسلحة الروسية إلى الجزائر (58.64%)، ثم مصر (25.96%)، فأوغندا (5.17%)، والسودان (2.63 %) وأنغولا (2.11%)، بحسب تقرير “الاتجاهات في عمليات نقل الأسلحة الدولية”.[8]
ورغم أن النيجر وفرنسا قد وقعتا اتفاقيات أمنية وعسكرية تقتضي توجيه الدعم العسكري واللوجستي للنيجر، وحماية النظام الحاكم من أية تحركات عسكريّة معادية، إلا أن ذلك لم يمنعها من التدخل العسكري المباشر والسافر في بعض الأحيان.
بدأ التدخل الفرنسي فى النيجر عام 2014 من خلال عملية عسكرية اطلقت عليها اسم”برخان”، بسبب الهجوم المستمر للحركات الجهادية فى افريقيا وخاصة تنظيم القاعدة و بوكو حرام التى بدأت تهدد المصالح الفرنسية فى النيجر الاقتصادية والاستراتيجية، خاصة بعد هجوم احد الجماعات الجهادية على احدى مناجم اليورانيوم، والذى تعتمد عليه فرنسا فى مصادر طاقتها النووية.[9]
ورغم إستقلال النيجر ورحول المستعمر الفرنسي بأكثر من نصف قرن، إلا انه لا يزال في نفس فرنسا الرغبة الاستعلائية والاستعمارية على الشعوب الافريقية!
ان اوروبا التي سبق لبعض دولها أن تمكنت من استعمار بقية دول العالم، اعتباراً من الكشوف الجغرافية التي انطلقت في بداية القرن الخامس عشر وحتى منتصف القرن العشرين، تعاملت مع شعوب الدول المستعمرة، خاصة تلك التي لم تتبنى المسيحية ديناً، بأنها شعوب بدائية تقع على أوروبا مسؤولية نقلها إلى عالم الحداثة والتحضر. ورغم أن بعض شعوب المستعمرات القديمة حققت من الإنجازات في ميادين عديدة ما يجعلها نداً لأرقى الشعوب الأوروبية، فإن نظرة أوروبا الاستعلائية تجاهها ما تزال متغلغلة في النفوس، وتلك مسألة ما تزال تحتاج إلى معالجة جذرية.[10]
ختاما فإن التنظيمات الإسلامية الجهادية مثل تنظيم القاعدة وجماعة بوكو حرام، التي تتموضع أيضا في النيجر كانت لها أيضا أهداف ومصالح، وقد خلق ذلك الوضع رغبتين متضادتين في الرؤى والأفكار، بين تطلعات التنظيمات الجهادية والتطلعات الكولونيالية الفرنسية، ففي الوقت الذي تحاول فيه فرنسا وهي تعيد توزيع وانتشار جنودها وقواعدها العسكرية في دول غرب إفريقيا، مهتدية بالسياسة الخارجية “فرنسا أولا”، بما ينطوي عليها من الأنانية والنظر إلى المصالح فقط دون ان تكون فاعلا حقيقيا ومشاركا في القضاء على النزاعات والصراعات الإفريقية العرقية، أو المساعدة في إرساء دعائم الديمقراطية والسلام في دول تكثر فيها النزاعات والقلاقل، والفقر والمجاعات والجهل، وانخفاض معدلات التنمية وإنتشار الأوبئة، فإنها من جانب آخر تصطدم برغبات واهداف التنظيمات الجهادية التي تسعى نحو مفهوم إعادة تشكيل المنطقة في دول الساحل وغرب إفريقيا، وهو ما يعد مؤشرا أيضا لتراجع وأفول النفوذ الفرنسي في تلك المنطقة.
المصادر:
[1]_انظر: لوموند: بسقوط بازوم تخسر فرنسا أحد آخر حلفائها في غرب إفريقيا، موقع صحيفة القدس العربي، 27يوليو /تموز 2023،(تاريخ الدخول: 15 اغسطس /آب 2023):
[2]_نبيل زكاوي، مآلات النفوذ الفرنسي في إفريقيا، مركز الجزيرة للدراسات، 25 أكتوبر/تشرين الأول 2022،(تاريخ الدخول: 10 اغسطس /آب 2023):
https://studies.aljazeera.net/ar/article/5482
[3]_انظر: فرنسا تعلن دعمها جهود إيكواس لإحباط الانقلاب في النيجر،موقع dw، 5اغسطس/آب2023،(تاريخ الدخول: 15 اغسطس /آب 2023):
[4]_نبيل زكاوي، مصدر سابق
[5]_بشر شبيب، “عربي21” ترصد خريطة الصراع على “كعكة أفريقيا”.. ماذا يحدث في القارة السمراء؟، موقع عربي21،10اغسطس/آب 2023،(تاريخ الدخول: 10 اغسطس /آب 2023):
[6]_فورين بوليسي: انقلاب النيجر يشكل نقطة تحول في أفريقيا، موقع الجزيرة نت، 9 اغسطس /آب 2023،(تاريخ الدخول: 15 اغسطس /آب 2023):
[7]_أفيغوا إيغيوغو، مستقبل النيجر واستقرار المنطقة بأكملها على المحك، موقع صحيفة الميادين، 7اغسطس /آب 2023،(تاريخ الدخول: 11 اغسطس /آب 2023):
[8]_بشر شبيب، مصدر سابق
[9]_اسراء محمد فوزى فهمى الاكشر، السياسة الخارجية الفرنسية تجاه الصراعات العرقية فى افريقيا، المركز الديمقراطى العربى16يوليو /تموز 2016،(تاريخ الدخول: 15 اغسطس /آب 2023):
[10]_حسن نافعة، مشاهد كاشفة عن تصاعد العنصرية الأوروبية، موقع صحيفة الميادين، 6 يوليو/تموز 2023،(تاريخ الدخول: 10 اغسطس /آب 2023):