أناتول ليفن
ترجمة: جمال العميدي**
تذكر إحدى المقولات القديمة أن مرتفعات البشتون في أفغانستان تقاوم سلطة الدولة بشدّة، وأن أهلها أساتذة مخضرمون في “فن اللاحكم”، على حدّ تعبير جيمس سكوت. ومثل كثير من المقولات الأخرى، يبدو أن لهذه المقولة أساسًا حقيقيًّا في الواقع التاريخي، فقد منحتهم شعوب المنطقة، لا المراقبون الغربيون، اسم “ياغستان” Yaghistan، الذي يعني أرض الخروج على القانون أو التمرّد أو المعارضة. يتوافق هذا الاسم وما يشير إليه أيضًا بشكل وثيق جدًا مع الأنماط الموجودة في المناطق القَبَلية المسلِمة الأخرى، تلك التي حلّلها ابن خلدون في المغرب، أول مرّة بشكل منهجي، في القرن الرابع عشر الميلادي.
إذا أردنا الإشارة إلى فشل الدولة الأفغانية في جعل مجتمعها “مفهومًا”، والعبارة لسكوت أيضًا، فسنلاحظ أن مجمل التاريخ الأفغاني الحديث يفتقر تمامًا إلى أي إحصاء يمكن الوثوق به. أما تعريف ماكس فيبر الكلاسيكي للدولة، بوصفها “مجتمعًا بشريًا يدّعي ’بنجاح‘ احتكار الاستخدام المشروع للقوة المادية، في حدود إقليم ما”، فإنه لا ينطبق على أفغانستان. فحتى حين كانت الدولة الأفغانية في أوج قوّتها، أصرّت الجماعات المحلية، بنجاح كعادتها، على الاحتفاظ ببنادقها، وخوض نزاعات مسلّحة محدودة مع مجموعات قرابِية أخرى، فضلًا عن إعدام عناصرها الذين انتهكوا الأعراف التقليدية للجماعة.
لعل هناك استثناءً واحدًا حدث في نهاية الأربعينيات من القرن العشرين، نتيجة استيراد الدبابات والطائرات الحديثة، حينها أصبح جيش الدولة الأفغانية قويًّا بما يكفي، ليردع انتفاضة قَبَلية عامة. استمر هذا التفوّق ثلاثين عامًا، ثم انهارت الدولة بعده إبّان الثورات المناهضة للشيوعية وتمرّد الجيش في أواخر السبعينيات. ومنذ ذلك الحين، لم تنجح أي دولة أفغانية، بما في ذلك طالبان الأقرب عهدًا، في احتكار القوة المسلّحة المنظّمة على كامل التراب الأفغاني.
لكن تحجب هذه الحقيقة الأساسية فارقًا بسيطًا مهمًّا؛ إذ لم تكن القبائل البشتونية تعادي سلطة الدولة نفسها بشكل قاطع. علينا أن نتذكّر أن القبائل البشتونية أنشأت مملكة أفغانستان، ووافقت غالبية البشتون بطيب خاطر على حكم طالبان في المناطق الريفية خلال التسعينيات. مع ذلك، فإن البشتون كانوا يعادون ثلاثة أنواع من الحكومات: الأولى، تفتقر إلى الشرعية التقليدية أو الدِّينية؛ والثانية، تجبرهم على دفع ضرائب عالية؛ والثالثة، الحكومة التي تستعجل تغيير نمط حياتهم ومجتمعهم وتقاليدهم. إن الدور الشرعي للدولة، من وجهة النظر القَبَلية البشتونية التقليدية، محدود جدًّا على الرغم من أهمّيّته. فبصرف النظر عن قيادة الشعب ضد الغزاة، يتعلّق الأمر بالفصل في الخلافات القَبَلية، والحيلولة دون تطوّرها إلى حالة حرب دائمة. واستنادًا إلى الوجود التقليدي للأسلحة في المجتمع البشتوني، والهوس الثقافي بالشرف والمكانة الاجتماعيّة، لاحظ الصحافي أناند غوبال أن “التركيز على دور الدولة في حلّ نزاعات المجتمع البشتوني ليس كافيًا […] ففي قندهار بعد عام 2001، صارت الخدمات القضائية لطالبان، إحدى المزايا الرئيسة التي تتمتّع بها الحركة، في مقابل الدولة”.
تكمن التراجيديا البشتونية من الناحية العملية، في أن معارضة تدخُّل الدولة تُؤدّي عادة إلى رفض الدولة المتطورة؛ لأنها تحتاج إلى زيادة الضرائب لتغطية تكاليف التنمية، وتجد صعوبة بالغة في بناء نفسها وفق التقاليد، فضلًا عن أنها بحكم تعريفها، يجب أن تباشر تغيير المجتمع.
يتعاطف سكوت – بوصفه فوضويًا – من دون قيد أو شرط مع شعوب التلال في جنوب شرق آسيا، وهم يهربون من الدول المحلية ويقاومونها. لكن تاريخ أفغانستان السوداوي، ربما يشير إلى عكس ذلك؛ إذ إن الشيء الوحيد الأسوأ من وجود الدولة، هو عدم وجودها أصلًا. إن المعضلة التراجيدية تتلخّص بالفعل في مَثَل بشتوني قديم جدًا، يقول: “الضغينة التهمت الجبال، والضرائب التهمت السهول”.
تكمن القيمة الكبرى لمقاربة سكوت، في أنها تذكّرنا بشيء نسِيَته المجتمعات الغربيّة منذ عهود طويلة. إن الغالبية العظمى من الخبراء الغربيين الذين حاولوا تطوير أفغانستان بعد عام 2001، أو تظاهروا بذلك، لم يتمكنوا ببساطة من استيعاب البشاعة الشديدة التي يتميّز بها معظم الدول في التاريخ، ولا سيما في مراحل تكوّنها، وهذا أمر يُشاركون به على الأرجح نظراءهم السوفيات قبل عشرين عامًا. كتب رجل شرطة بريطاني – هندي مشهور، في القرن التاسع عشر، عن تاريخ جنوب آسيا بشكل عام، قائلًا: “يندر وجود أي فكرة عن المعاملة بالمثل والواجبات والحقوق بين الحاكم والمحكوم […] ففي الهند، كان الاختلاف بين جيش الأمير وعصابة السارق، في تقدير عموم الشعب، يكمن في الدرجة ليس غير، فكلاهما كان يقود تجارة الإمبراطورية Padshahi Kam”.
بعبارة أخرى، إذا كان البشتون قد ثاروا في كثير من الأحيان ضد الدولة الأفغانية، سواء بدعم خارجي أم من السكان الأصليين، فغالبًا ما كانت لديهم أسبابهم الوجيهة.
مع ذلك، هناك علاقة متبادلة بين بشاعة الدولة والمقاومة القَبَلية. إن إقناع القبائل بدفع الضرائب، يتطلّب قدرًا كبيرًا من البشاعة، أو التهديد بها في أقل تقدير. ما الدولة من دون ضرائب؟ إنها إما ظِلّ واهن وإما تابع لدولة أجنبية ومعوناتها. تعرّضت أفغانستان لغزو هذَين المصيرَين مرارًا وتكرارًا خلال القرنَين الماضيَين.
إن مفتاح فشَل الغرب في بناء نظام جديد في أفغانستان بعد عام 2001، يكمن في عجزه عن فهم العزلة التاريخية عن الدولة، سواء بالنسبة إلى الأفغان بشكل عام، أم البشتون بشكل خاص. فضلًا عن ذلك، يرفض الغرب الاعتراف بأن طالبان ربما كانت أفضل ما بقي من خيارات بناء الدولة، بالنسبة إلى القرويين البشتون في أقل تقدير، إذا أخذنا في الحسبان تاريخ الدولة الأفغانيّة البائس، وانهيارها نتيجة ذلك. طالبان ليست خيارًا جيدًا في أي حال من الأحوال، لكنها أفضل الخيارات المُتاحة.
* هذا النص ترجمة لـ:
Anatol Lieven, “An Afghan Tragedy: The Pashtuns, the Taliban and the State,” Survival, vol. 63, no. 3 (May 2021), pp. 7-36.
** باحث ومترجم وصحافي عراقي. حاز شهادة الماجستير في اللسانيات (1998) عن رسالته: “مفهوم العلامة عند الجاحظ”. عمل في التسعينيات محرّرًا في مجلتي الثقافة الأجنبية والطليعة الأدبيّة العراقيتين، ونشر عددًا من المقالات والبحوث في الصحف والمجلات العراقيّة والعربيّة. في عام 2003، عمل محرّرًا في صحيفة المدى وبي بي سي وقناةالحرة، ثم انتُدِب خبيرًا في قسم الإعلام والاتصالات في منظمة اليونسكو بين عامي 2005 و2006. وفي عام 2007، انتقل إلى الكويت ليعمل محرّرًا للشؤون العراقيّة في صحيفة أوان الكويتية. عاد إلى العراق في عام 2011، وعمل مديرًا لتحرير صحيفة العالم، ثم مديرًا لتحرير صحيفة الصباح ومسؤولًا عن مراقبة الجودة في قناة العراقيّة. هاجر إلى الولايات المتحدة في عام 2013، وعمل هناك مدرّسًا للغة العربيّة والعلوم الإسلاميّة. يعكف حاليًّا على إكمال كتابه أرشيفات صدّام: مقال في الذاكرة، وقد نشر منه فصلين في صحيفة درج اللبنانية.