دراسات سياسيةدراسات شرق أوسطية

قوى الضغط وجماعات المصالح وعلاقتها بالنشاط الحزبي في اسرائيل

إسرائيل، من وجهة النظر الدستورية، دولة بورجوازية[1]، تتسم، كمثيلاتها من الدول البورجوازية، بتوزيع السلطات، ووجود حريات شكلية؛ لذلك، فإن نظام الحكم فيها، يتسم بتركز السلطة التنفيذية في أيدي ممثلي البورجوازيين. كما أن عقيدتها الصهيونية، يتميز جوهرها ومضمونها بالرجعية والتعصب القومي؛ لذلك، فهناك سيطرة كاملة على كلّ مجالات الحياة في إسرائيل، وخاصة الجهاز الحكومي، والأحزاب السياسية، والمؤسسات الاجتماعية.

وأصبح الانضمام إلى النقابات والمنظمات حقاً من الحقوق السياسية في إسرائيل. بيد أن جماعات الضغط والمصالح، تختلف عن الأحزاب السياسية، في أنها تفتقر إلى الاستقرار، وتفتقد مناهج ثابتة، تعبِّر عن فلسفتها ومصالحها؛ فضلاً عن أنّ الأحزاب تتصارع وتتنافس في الانتخابات، وصولاً إلى السلطة، أمّا قوى الضغط، فتستهدف، أساساً، التأثير في السلطات ومتخذي القرار، بينما تتوخى جماعات المصالح الربح، في المقام الأول.

وتعمل جماعات الضغط والمصالح، في إسرائيل، في ظروف مُحكمة، ومعقدة، ناجمة عن المركزية الشديدة في النظام السياسي، وسيطرة الأحزاب على الحياة السياسية؛ إضافة إلى إسهام تلك الجماعات وقادتها في تكوين الحياة الحزبية، التي يسعون إلى الضغط عليها والتأثير فيها.

اتخذت الحركة الصهيونية من الدّين ركيزة رئيسية، لتحقيق تجانس اليهود القومي. وانبرت لاستغلال قيمه ورموزه، بعد إفراغها من محتواها الديني، لخدمة مصالحها وأطماعها. ولذلك، نشأت الدولة الصهيونية مستندة إلى الشرعية، التي يوفرها الدين اليهودي؛ ومن ثَم، انعكس دور الأحزاب الدينية على السياسة الإسرائيلية، من خلال اطراد دورها في تكوين الائتلافات الحكومية، وتخصيص أطروحاتها السياسية الداخلية للعلاقة بين الدين والدولة.

[1] البرجوازية Bourgeoisie: ظهرت هذه الكلمة لأول مرة في فرنسا خلال القرن الثالث عشر وتطورت مع تطور الحكم الملكي، وتعني طبقة اجتماعية تمثل طبقة وسطى بين الجماهير المعدمة وطبقة الأشراف، ينعم أفرادها بوضع ينطوي على الرفاهية، وهي تضم التجار وأصحاب المصانع والعاملين في المهن الحرة والموظفين الحكوميين الذين يتميزون بثقافاتهم وخبراتهم الخاصة بأسلوب مشترك في حياتهم الاجتماعية، وهي تتعارض مع الطبقة العمالية والطبقة الفلاحية.

قوى الضغط وجماعات المصالح وإنعاش الصهيونية الدينية

تتعدد قوى الضغط وجماعات المصالح في إسرائيل. وتسعى الفئتان، بالوسائل كافة، إلى حماية مصالحهما وتنميتها، من خلال العمل المستمر، والتأثير المباشر في مراكز صنع القرار السياسي؛ بيد أن سعي أولاهما، يتعدى ذلك إلى الحرص على حماية مصالح إسرائيل، الداخلية والخارجية، وإحداث الجديد منها. وأهم ما يتمثلان فيه: النقابات العمالية، المسماه “الهستدروت”؛ والمؤسسة العسكرية؛ والمستعمرات أو “الكيبوتز”؛ والمؤسسة الدينية؛ والرأي العام الداخلي.

  1. النقابات العمالية

تُعدّ كلّ من النقابة العامة للعمال العبريين، “الهستدروت”؛ ونقابة العمال القومية، “هستدروت هاعفوديم هالؤميت”، اثنتَين من أهم نقابات إسرائيل العمالية.

أ. النقابة العامة للعمال العبريين (الهستدروت)

اتضح دور العمال في الحركة الصهيونية، منذ بداية الهجرة اليهودية إلى فلسطين، عام 1920 وما بعدها؛ وذلك من خلال تأسيس النقابة العامة للعمال في إسرائيل. وحُدد هدف النقابة بالعناية بالنشاط: الاقتصادي والتعاوني والعمالي والنقابي، داخل إسرائيل. وناهز عدد أعضائها، في بداية تكوينها، 4433 عضواً. ويطاول نشاط الهستدروت الأعمال الاقتصادية، وإدارة نظام شامل للضمان الاجتماعي، والمجالات: الثقافية والتعليمية، وتوطين المهاجرين اليهود الجدد.

هناك تعاون دائم بين الهستدروت ومعظم الأحزاب العمالية الإسرائيلية، ومنها: حزب “الماباي”، وحزب “المابام”، وحزب “الصهيونيين العموميين”، والحزب التقدمي، والحزب الشيوعي، وحركة العامل المتدين؛ فهي لتنظيم سياسي، إذاً، أقرب منها لنقابة عمالية؛ إذ إنها وسيلة رئيسية من وسائل الصهيونية، التي تعتمد عليها لتنفيذ أيديولوجيتها: الاستيطانية والسكانية والعنصرية والاجتماعية والديموجرافية والاقتصادية.

تتصدر الهستدروت قوى الضغط في النظام السياسي الإسرائيلي، لدورها المؤثر والفعال في النشاط: الاجتماعي والاقتصادي، وانتماء أكثر من 90% من عمال إسرائيل إليها، وسعيها في توفير العمل لأكثر من 50% منهم، أولئك الذين، يحصلون على أجورهم من مؤسسات تابعة لها.

وهي أكبر مستثمر رأسمالي، في إسرائيل؛ تعدى نشاطها الدولة العبرية إلى الخارج، حتى بات أشبه بنشاط وزارة الخارجية الإسرائيلية؛ ما دفع العديد من المنظمات الدولية المتخصصة إلى استشارتها والإفادة من خبرتها العمالية، في ما يخص الدول النامية.

وأكسبت الهستدروت قوتها الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة، قدرة سياسية مؤثرة، كادت تجعلها السلطة الثانية في إسرائيل، وأحد مكونات نظامها السياسي؛ إذ إنها تسيطر على معظم مظاهر النشاط الاقتصادي: أكثر من 75% من الإنتاج الزراعي، ونحو 25% من الإنتاج الصناعي، وكذلك 40% من أعمال البناء والتشييد؛ إضافة إلى سيطرتها الكاملة على المواصلات العامة.

ويدير الهستدروت هيكل إداري منظم تنظيماً دقيقاً، يتمثل في:

(1) سلطة مركزية عامة، تدير شؤون المنظمة داخل الدولة. وتنتشر فروعها في كلّ المدن والقرى، وتُدار بالأسلوب نفسه.

(2) مؤتمر قومي عام هو السلطة التشريعية في الهستدروت؛ ينعقد كلّ أربع سنوات.

(3) مجلس عام، يجتمع مرتَين في العام.

(4) لجنة تنفيذية، تنعقد مرة كلّ أسبوعين. وتضم مائة عضو، على المستوى القومي. وهي السلطة التنفيذية الأساسية في الهستدروت، ما يجعلها مركز القوة والسلطة الفعلية فيها.

(5) عضوية الهستدروت متاحة للعاملين، من سن الثامنة عشرة، للرجال والنساء؛ إلا إنها تنقسم أربع فئات مختلفة، هي:

(أ) أعضاء التعاونيات في الكيبوتزات والموشافيم[1] (المستعمرات والمستوطنات).

(ب) أعضاء يحصلون على دخولهم من الأجور والمرتبات.

(ج) الحِرفيون والمهنيون، الذين يعملون لحسابهم الخاص.

(د ) الزوجات المتفرغات للشؤون المنزلية والعائلية فقط.

تنتشر فروع الهستدروت أنّى وجدت جاليات يهودية كبيرة، لا سيما في نيويورك، حيث أهم تلك الفروع وأكبرها؛ وتديره اللجنة الوطنية لعمال إسرائيل، المكلفة بجمع التبرعات، والنشاط: السري والسياسي، من خلال علاقاتها بمعظم نقابات العمال في الولايات المتحدة الأمريكية. كما تمكنت الهستدروت من إنشاء علاقات بالأحزاب الاشتراكية في العديد من الدول: الآسيوية والأفريقية، وخاصة في بورما والملايو والهند واليابان وقبرص والفيليبين وجنوب أفريقيا. وأنشأت المعهد الأفرو ـ آسيوي للدراسات العمالية والتعاونية، لتزويد تلك الدول بالخبرات. كما أن لها علاقات وصِلات بالاتحاد الدولي للنقابات الحرة، والمنظمة الدولية للعمل، والتحالف التعاوني الدولي.

ب. نقابة العمال القومية (هستدروت هاعفوديم هالؤميت)

هي تنظيم مستقل، نشأ في مدينة القدس، عام 1934، مرتبطاً بالحركة الصهيونية. وللنقابة أنشطة متعددة، تشمل الخدمة الاجتماعية، والضمان الاجتماعي، والعناية بالنشء، وإدارة الأشخاص وتدريبهم والعناية بهم، رياضياً أو ثقافياً، وإدارة بعض المستعمرات: الزراعية والسكانية. ويطاول نشاطها اليهود في خارج إسرائيل، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، حيث يتركز في جمْع التبرعات والمساعدات. بيد أن دورها السياسي محدود، قياساً بدور الهستدروت الكبير في النظام السياسي الإسرائيلي؛ ولكن نقابة العمال القومية، اعتاضت بذلك دوراً نقابياً، يستند إلى الأيديولوجية الصهيونية.

هكذا، تسهم تنظيمات العمال ونقاباتهم في تكوين الحركة العمالية في إسرائيل؛ إلا أن إسهاماتها متفاوتة، فالحركات العمالية التابعة للأحزاب السياسية، ومنها حركة العمال الوطنيين، التابعة لحزب الليكود، تضم نحو 10% من إجمالي عمال إسرائيل؛ بينما تقتصر حركة العمال المتدينين على 7% فقط؛ أما الهستدروت، فينضوي إليها أكثر من 85% من القوة العاملة في إسرائيل، أيْ ما يناهز مليوناً و600 ألف عامل. ومن ثَم، فإن الهستدروت، تجمع بين دورَين: الأول، اتحاد عام للعمال؛ والثاني، أنها أكبر صاحب عمل. وقد ساعدتها سيطرتها على معظم النشاط: الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، في داخل إسرائيل، وصِِلاتها بالخارج، على أن تكون قوة مؤثرة في صنع القرار السياسي الإسرائيلي.

  1. المؤسسة العسكرية الإسرائيلية

أ. اعتمدت إسرائيل، في نشأتها، على القوة العسكرية؛ إذ كان قادة المجتمع اليهودي، في فلسطين، من رؤساء العصابات الصهيونية، وتولوا هم أنفسهم، فيما بعد، القيادة السياسية في الدولة اليهودية، عند إعلان نشوئها. واستمر الجيش الإسرائيلي، بعد ذلك، مصدراً أساسياً للقيادات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مكوناً بذلك المؤسسة العسكرية. وسرعان ما هيمنت تلك المؤسسة هيمنة شبه كاملة على المؤسسات السياسية، وأمست القوة المؤثرة في صنع القرار السياسي. ساعدها على ذلك العوامل الأمنية، الناجمة عن ظهور الدولة في منطقة إقليمية، تخالفها في العقيدة، وتعاديها في الأهداف.

ب. ليست المؤسسة العسكرية تنظيماً قائماً، وإنما هي ممارسات العسكريين، أثناء الخدمة الفعلية، أو بعد تحوُّلهم إلى احتياطيين وشغلهم مناصب سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية؛ ومن ثَم، فهي تمارس دورها الفعال ممارسة مباشرة، أو من خلال قنوات السلطة المدنية، التي تولاها عسكريون احتياطيون. وتتمادى المؤسسة العسكرية، لتشمل المجتمع الإسرائيلي كلّه، حيث ينضوي الشباب، من الجنسَين، حينما يبلغون الثامنة عشرة، إلى كتائب الشباب (الجدناع)، وينضم من يبلغ الخامسة والخمسين إلى الدفاع المدني؛ ناهيك بالخدمة العاملة، والتجنيد الإجباري، وقوات الاحتياطي، وحرس المستعمرات. إذاً، معظم الإسرائيليين، ينتسبون، بوجه من الوجوه، إلى المؤسسة العسكرية.

وتنحصر قيادات المؤسسة العسكرية في هيئة الأركان العامة، والضباط العاملين في جيش الدفاع الإسرائيلي، وجهاز الاستخبارات العسكرية (آمان)، وجهاز الموساد؛ وكبار الضباط الاحتياطيين، الذين يشغلون مراكز ومواقع قيادية في الدولة؛ إضافة إلى معاهد الدراسات الإستراتيجية ومراكزها، التابعة لرئاسة الأركان العامة. وتتمثل العلاقة بين المؤسسة العسكرية والنظام السياسي، في تبعية جيش الدفاع الإسرائيلي لسيطرة الحكومة المباشرة، التي تحدد مهامّه وعديده. ويُحظر عليه التدخل في السياسة العليا للدولة؛ كما أنه يبتعد تماماً عن سياسات الأحزاب؛ إلا أنه، على الرغم من ذلك، فإن للجيش دوراً فعّالاً، في المجتمع الإسرائيلي، بل يصعب اتخاذ قرار سياسي، من دون أن يكون لرئاسة الأركان رأي فيه.

ج. إن طبيعة نظام الخدمة العسكرية في جيش الدفاع الإسرائيلي، وتولي قادتِه المتقاعدين، بعد تأهيلهم، المراكز المدنية العليا، أسهما في أن تكون المؤسسة العسكرية قوة ضغط مؤثرة في النظام السياسي، لا يساور قادتَها أيّ اضطراب أو استيلاء على السلطة. وقد ساعد ذلك على استقرار المؤسسات الشرعية للنظام السياسي، وتقبُّل المجتمع الإسرائيلي أن المؤسسة العسكرية هي قوة ضغط داخل الدولة.

لم يحُلْ دور المؤسسة العسكرية وفاعليتها في استقرار النظام السياسي الداخلي، دون تنامي الخلافات بين السلطتَين: السياسية والعسكرية. ويتجسد ذلك في نفشي التيار الديني بجيش الدفاع الإسرائيلي، حتى بات بهدد القيادات العسكرية نفسها؛ إذ يؤْثر الجنود والضباط المتدينون تعليمات قادتِهم الروحانيين وفتاواهم على الأوامر العسكرية. وعلى القاب الآخر من القوس، يرفض الضباط والجنود، غير المنتمين إلى التيارات المتدينة، كثيراً من مهامّ مواجهة انتفاضة الأقصى[2].

د. طالما اعتمد النظام السياسي في إسرائيل على المؤسسة العسكرية، ومنحها الحرية المطلقة في تحديد الخيارات: الإستراتيجية والسياسية. ولكن هذه الثقة، اهتزت بشدة، ففقد جيش الدفاع الإسرائيلي تنزُّهه عن الخلافات، السياسية أو الأيديولوجية. بيد أن المؤسسة العسكرية، ما برحت تتسم بما يمكّنها من التأثير في الحياة السياسية. وتتمثل سماتها في:

(1) دورها في نشوء الدولة، بقوة السلاح؛ ما جعلها المؤسسة الأهم في إسرائيل. فقد اضطلعت العصابات والمنظمات اليهودية المسلحة باجتلاب اليهود إلى فلسطين، وتوطينهم بها، بعد اقتلاع سكانها الأصليين وتشريدهم؛ فأسهمت الإسهام الرئيسي في الإعداد لمولد الدولة.

(2) تخصيصها بقسط وافر من ميزانية الدولة، حتى أمست نسبة الإنفاق العسكري الإسرائيلي، من أعلى النسب في العالم؛ ولذلك، يُعدّ أكبر معدل إنفاق عسكري للفرد في العالم، في إسرائيل.

(3) اشتمال جيش الدفاع الإسرائيلي، بصفة دائمة، على ما يقرب من 15% من إجمالي تعداد السكان في الدولة؛ كما أن أكثر من 25% من إجمالي القوة العاملة، تعمل في مجال الصناعة العسكرية، ما يجعلها أكبر الصناعات في إسرائيل، ويجعل هذه الأخيرة من الدول المصدرة للسلاح إلى أكثر من 40 دولة.

(4) تزويد جيش الدفاع الإسرائيلي كلّ مجالات الدولة، وخاصة مجلس الوزراء، والأحزاب والكتل السياسية بتوجهاتها كافة، والمعاهد العلمية ومراكز الأبحاث بأركانها القيادية.

(5) سيطرة جيش الدفاع على العديد من منظمات الشباب، ولا سيما منظمة الجدناع، التي تتولى تجنيد كلّ الشباب، الذين تتراوح أعمارهم بين 14 و18 سنة؛ على الرغم من أنها منظمة طوعية، تخضع لوزارة الدفاع؛ فيرتضعون المفاهيم الصهيونية، ويتشربون الروح العسكرية. وكذلك منظمة الناحال، التي تجمع بين العمل العسكري والعمل الزراعي.

(6) صهر مختلف الجماعات: العرقية واللغوية، التي يتكون منها المجتمع الإسرائيلي، في بوتقة جيش الدفاع؛ من خلال مناهج توعية، ترسخ في أبنائه القِيم والمفاهيم الصهيونية، وتوحِّدهم في مواجهة خطر خارجي دائم.

(7) تكوُّن جيش الدفاع، أساساً، من الأحزاب السياسية، التي كان لكلّ منها، قُبيل نشأة إسرائيل، عصاباته المسلحة؛ وإثر إعلان الدولة، توحدت هذه العصابات، مكوّنة جيش الدفاع.

  1. المستعمرات (الكيبوتز)

يُعدّ النشاط الزراعي، داخل إسرائيل، من خلال المستعمرات والمستوطنات، مجالاً مهماً وحيوياً لنشاط جماعات المصالح، الخفي والظاهر، المتمثل في ضغوطها، من خلال الأحزاب والكنيست الإسرائيلي. وتستمد المستعمرات أهميتها من دورها الحيوي في تحقيق فكرة العودة إلى أرض إسرائيل؛ وبناء المجتمع الإسرائيلي، الذي لم يكن سوى شراذم منتشرة، ومتفرقة، في أنحاء العالم؛ ونشر القوى البشرية وإعادة توزيعها، حتى يمكن المهاجر اليهودي، أن يندمج في مجتمعه الجديد.

كانت المستعمرات والمستوطنات، منذ الهجرات الأولى، هي الخط الأول بالإنذار والدفاع الأول عن الدولة، والمكون الأساسي للحركة العمالية الإسرائيلية؛ إضافة إلى كونها مراكز نشر الأيديولوجية الصهيونية، وتنشئة الأجيال الجديدة، ومنها الصابرا، التي تولت القيادة، في الجيل الثاني. وتفوق المستعمرات المستوطنات أهمية؛ لارتباطها، منذ نشأة إسرائيل، بحزب العمل، الذي ظل مسيطراً على الحياة: السياسية والاقتصادية والاجتماعية، عام 1977. أما المستوطنات، فلم تكن سوى مزارع تعاونية، تقوم، أساساً، على الملكية الفردية، وتعتمد على الأحزاب المعارضة. وكلتاهما اعتراها الضعف، وانخفضت مكانتها، في أعقاب إنشاء وزارة الزراعة؛ فأمسى دورهما السياسي محدوداً على الساحة السياسية، بل ربما كان هذا الدور غير ظاهر، حالياً، على الرغم مما تحظيان به، من التأييد والدعم، من قادة وزعماء إسرائيليين كُثُر.

  1. المؤسسة الدينية

ازداد تأثير المؤسسة الدينية في إسرائيل، اجتماعياً وسياسياً، حتى أصبحت من أكبر قوى الضغط الفاعلة في المجالات كافة. وهي تسعى إلى تحكيم الشريعة اليهودية في كلّ وجوه الحياة، فعمدت إلى السيطرة على الأحزاب الدينية. وأصبحت الوزن الفيصل في ميزان كثير من الائتلافات الحكومية الإسرائيلية، وعامل ترجيح للحزب الحاكم. وتشمل المؤسسة الدينية كلاًّ من وزارة الشؤون الدينية، والحاخامية الرئيسية، والحاخامية العسكرية، والمجالس الدينية المحلية، ومؤسسات التعليم الديني، والكيبوتز الديني.

أ. وزارة الشؤون الدينية

نشأت هذه الوزارة بعد نشوء دولة إسرائيل مباشرة. وهي مسؤولة عن الجانب الإداري للحاخامية الرئيسية والمحاكم الحاخامية، والمجالس واللجان الدينية؛ إضافة إلى سلطتها الجزئية على المدارس الدينية. ومنصب وزير الشؤون الدينية من المناصب ذات الأهمية، السياسية والقانونية، ويشغله، غالباً، أحد زعماء الأحزاب الدينية.

ب. الحاخامية الرئيسية

(1) هي المؤسسة الحاخامية العليا في فلسطين، خلال فترة الانتداب البريطاني، ثم في إسرائيل. ولم ينتظم مجلس الحاخامية الكبرى، إلا عام 1980، حينما صدر قانون تكوينه من 16 حاخاماً، منهم عشرة، نصفهم من السفارديم[3]، والنصف الآخر من الإشكيناز[4]؛ ينتخبهم 150 ناخباً، منهم 80 حاخاماً و70 شخصية عامة، من الوزراء وأعضاء الكنيست ورؤساء المدن ومندوبي المجالس الدينية. أمّا الباقون، فهُم الحاخامان الأكبران؛ وأربعة حاخامات، للمدن الكبرى: تل أبيب والقدس وحيفا وبئر سبع.

(2) يتبع الحاخامية الرئيسية كثير من الحاخاميات المحلية، وتسع محاكم حاخامية، في القدس وتل أبيب وحيفا وبتاح تكفا ورحوفوت وطبريا وصفد وبئر السبع وأشدود. يُديرها 90 قاضياً، يُطلق عليهم الديانيم. إضافة إلى محكمة حاخامية عليا، للاستئناف، في مدينة القدس؛ يرأسها الحاخام الأكبر.

(3) يعتري الحاخامية صراع دائم، داخلياً وخارجياً؛ فعلى المستوى الداخلي، ظهرت بوادر اختلاف الحاخاميَن الأكبرَين في كثير من المواقف. أمّا خارجياً، فإنها تواجه الانتقادات من المتدينين اللاصهيونيين، أو من يُطلق عليهم الحريديم[5]؛ ومن العلمانيين، والقضاء المدني. ولا تعترف الحاخامية بالتيارات الدينية اليهودية الأخرى، بل تتشدد في معاداتها.

ج. الحاخامية العسكرية

هي المسؤولة عن النشاط الديني في جيش الدفاع الإسرائيلي؛ إذ يتوزع مئات من الحاخامات العسكريين، بين قطاعاته المختلفة، حيث يؤدون الخدمات الدينية للجنود، ويرقبون فيهم الشرعية الدينية. ويرأس الحاخامية العسكرية الحاخام الأكبر للجيش، الذي يُعيَّن من خلال التنسيق بين وزارة الدفاع والحاخامية الرئيسية.

د. المجالس الدينية المحلية

تنتشر في أنحاء إسرائيل كافة، حيث يناهز عددها الآن 250 مجلساً، مهمتها الأساسية الاضطلاع بالخدمات الدينية للمواطنين. ويُعَيِّن كلٌّ من وزير الشؤون الدينية، والسلطات المحلية، 45% من أعضائها؛ و10% الباقية، تعيِّنها الحاخامية المحلية.

هـ. مؤسسات التعليم الديني

يتلقى أكثر من ثلث الطلاب اليهود، في إسرائيل، تعليماً دينياً، ذا محورين: أحدهما رسمي، في المدارس والجامعات؛ وينشط في نشر الأيديولوجية الصهيونية الدينية. والمحور الثاني هو التعليم الحريدي اللاصهيوني، الذي يتمتع باستقلالية شبه تامة، في مدارس التعليم المستقل، ومدارس ناطوري كارتا[6]، ومدارس تلمود هتوراه[7]، ومدارس اليشيفا[8].

و. الكيبوتز الديني

بدأ نشاطه، عام 1935، من خلال حركة هابوعيل هامزراحي. وشرع، منذ عام 1937، ينشر القرى الزراعية الجماعية، التي بلغ عددها، حتى مطلع التسعينيات من القرن الماضي، سبع عشرة مستعمرة دينية. وكان الجيل القديم من الكيبوتز الديني ذا توجهات معتدلة، تعارض عمليات الاستيطان؛ إلا أن جيله الجديد، يميل إلى اليمين الصهيوني.

وشهدت السنوات الأخيرة ازدياد النفوذ السياسي للصهيونية الدينية، واليمين الديني المتطرف، قد يؤدي إلى انقلاب اجتماعي داخل إسرائيل. كما توضح بداية سيطرة الدوائر الدينية المتعصبة وتهديدها لأسلوب الحياة الاجتماعية اتجاهاً صهيونياً دينياً قوياً، يسعى إلى المزج بين القومية الصهيونية اليهودية وثقافة الحياة الغربية. ويستهدف المتدينون، المتمسكون بالأيديولوجية الصهيونية، أن تصبح إسرائيل، في المستقبل، مجتمعاً، تسيطر عليه فكرة القومية الدينية الواحدة.

  1. الرأي العام الداخلي

يمثل الرأي العام في إسرائيل ركناً من الأركان الرئيسية لنظامها السياسي. ويرجع ذلك إلى الحريات الفردية، التي كفلها نظام الحكم، وسماحه بحرية الاجتماعات وتكوين الجماعات وممارسة نشاطها. وبصفة عامة، فإن الشخصية الإسرائيلية، التي تتصف بالقلق والشك، والإحساس بعدم الثقة وبالاضطهاد، مع ازدياد الشعور بالتميز والتفوق العنصري ـ تؤثر في الرأي العام في إسرائيل؛ ومن ثَم، فإن التعددية، التي يتسم بها المجتمع الإسرائيلي، سواء على الأصعدة: العرقية والدينية والثقافية والطائفية والحزبية، تنعكس على الرأي العام واتجاهاته؛ إضافة إلى تداعيات الأحداث المحيطة، والمتعلقة بالصراع العربي ـ الإسرائيلي، والتي يكون تأثيرها فورياً ومباشراً في الرأي العام، لارتباطها بعاملَي الأمن والوجود.

إذا كانت السمات العامة للشخصية الإسرائيلية، تُعدّ عاملاً رئيسياً في تكوين اتجاهات الرأي العام، إلا أن الصراعات: الطائفية والحزبية، بين الإسرائيليين أنفسهم، سواء كانوا يهود شرقيين أو يهود غربيين أو متدينين وعلمانيين ـ تفرز نتائج، تنعكس انعكاساً مباشراً أو غير مباشر، على تلك الاتجاهات. كذلك، تؤثر الأزمات الداخلية، سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية، على الصعيدَين: الحزبي والحكومي، في موقف الرأي العام.

نظراً إلى أهمية الرأي العام لدى متخذي القرار السياسي في إسرائيل، فقد اختصوه بمراكز لاستطلاعه وقياسه بأسلوب علمي، وخاصة قُبَيْل الانتخابات؛ وتزودهم بالمعلومات اللازمة، والضرورية، ولا سيما في القضايا القومية. كذلك، تتولى وسائل الإعلام العديد من القياسات الدورية للرأي العام.

يكفل القانون الإسرائيلي الحريات العامة، التي تسهم في تكوين الرأي العام وبنائه. فحرية الرأي مكفولة للأشخاص، وكذلك حرية الصحافة؛ إلا أن حرية عقد الاجتماعات، تتعرض لكثير من القيود، إذ خُوِّلت السلطات الإدارية الموافقة على تنظيمها أو منعها لدواعٍ أمنية، بل هي ممنوعة بالقرب من الكنيست. وتتحكم في الرأي العام الأحزاب السياسية، التي تتميز، أساساً، بالمركزية والسيطرة على أعضائها وتوجيههم، ومن خلالها تُكوَّن المعارضة القوية، التي تتمتع بقدر كبير من حرية توجيه النقد السياسي إلى الحكومة. كما تسيطر الأحزاب السياسية على وسائل النشر والصحافة؛ أمّا الإذاعة والتليفزيون، فهُما هيئة حكومية.

هكذا يتضح تباين اتجاهات الرأي العام الإسرائيلي، وتأثرها بالمواقف: الأيديولوجية والسياسية، للأحزاب والقوى السياسية، ولا سيما الحزبَين الأكبرَين: العمل والليكود. بيد أن حرية ممارسة الرأي العام في إسرائيل، هي حرية للصفوة؛ إذ الأحزاب السياسية، تسيطر على وسائل النشر، وتفرض على أعضائها توجهاتهم؛ والمحكمة العليا، ترقب رقابة شديدة قرارات الحكومة الخاصة بالصحافة.

ثانياً: تطوُّر الحركة الحزبية

  1. نشأتها وتكاثُر انشقاقاتها (1897-1935)

بدأ نشوء الأحزاب الصهيونية، بعد تكوين مؤسسات الحركة الصهيونية، عام 1897، حينما تزايد نشاط جماعات المصالح، الاقتصادية منها والفكرية. فقد أنشأ الصهيونيون المتدينون، عام 1903، حزب “هامزراحي”. وفي الوقت نفسه، أُسس حزب “عمال صهيون” في أوروبا؛ وحزب “العامل الفتيّ” في فلسطين؛ وقد تنافس الحزبان في استمالة المهاجرين. نشط صهيونيو الشتات، عام 1907، في إنشاء أحزابهم، العمالية والدينية، في أوروبا؛ كان أولها حزب “الصهيونيون العموميون”. كما شهد العقد الثاني من القرن العشرين نشوء أربعة تنظيمات حزبية؛ منها حزب “أغودات إسرائيل”، الذي تأسس في أوروبا، عام 1912، وهو حزب ديني، أصولي، غير صهيوني. وأنشأ السفارديم، عام 1918، تنظيمهم الحزبي الخاص، في الأراضي الفلسطينية.

وسرعان ما ظهرت الانشقاقات الحزبية، حينما خرج التيار الماركسي المتطرف، في “عمال صهيون”، وأسس حزب “عمال صهيون اليساري”. وفي الوقت نفسه، ظهر حزب شيوعي يهودي آخر. ومن ثَم، فإن الأحزاب، التي ظهرت في تلك الفترة، قد توزعتها ثلاثة تيارات اجتماعية: أولها طبقي، وثانيها ديني، وثالثها طائفي.

وأغرت موجة الهجرة اليهودية الثالثة، وخاصة بعد نجاح الثورة البلشفية، عام 1917، زعماء أحزاب العمال، بالسعي إلى فرض سيطرتهم على الحركة الصهيونية، في الأراضي الفلسطينية، حيث وافق العمال غير الحزبيين، عام 1919، على مشاركتهم حزب “عمال صهيون” في تأسيس حزب “أحدوت هاعفودات”. وفي عام 1920، أعلن حزبا “أحدوت هاعفودات” و”العامل الفتىّ”، إنشاء الاتحاد العام لنقابات العمال، المعروف بالهستدروت. وقد أسهمت المساعدات المالية الصهيونية الوافرة في تنمية الموارد الاقتصادية لحركة العمال وتحوُّلها إلى قوة سياسية فعالة.

ما لبث “أحدوت هاعفودات”، أن عزز سيطرته على مؤسسات الهستدروت، وأغفل، عام 1930، حزب “العامل الفتيّ”، بل قضى على استقلاليته، إذ اتحد الحزبان، ليتولد من اندماجهما حزب “الماباي” أو حزب “عمال أرض إسرائيل”. وخلال هذه الفترة، ظهر بعض التيارات، التي سعت إلى الحدّ من تعاظم حركة العمال، حيث نشأت “حركة الشباب” (بيتار)، وحزب “الصهيونيون التصحيحيون”.

عمدت الأحزاب” العمالية والدينية، خلال هذه المرحلة، إلى التحالف؛ لتعزيز حزب “الصهيونيون التصحيحيون”، الذي يحدق خطره بالمعسكر العمالي. ومع بداية الثلاثينيات من القرن العشرين، مال حزب “الماباي” إلى الوسطية، فتحوَّل من حزب طبقي إلى حزب لكلّ طبقات الشعب. وكان لتراجع التصحيحيين وانعزالهم عن الهستدروت، ثلاثة أبعاد، إذ أنشأوا، عام 1932، اتحاد العمال الوطني؛ وانسحبوا، عام 1935، من الحركة الصهيونية، ليؤسسوا الهستدروت الصهيوني الجديد. كما أنهم لم يقبلوا بسيطرة القوة العسكرية، المتمثلة في “الهاجانا”، فأنشأوا منظمة “إرغون تسفاي لؤمي”، أيْ “المنظمة العسكرية القومية في أرض إسرائيل”؛ إلا أن انفصالهم لم يزدهم، سياسياً، إلا عزلة.

  1. السيطرة الحزبية وانحسارها (1935-1981)

انتهج حزب “الماباي”، إثر سيطرته على الساحة السياسية، منذ عام 1935، إستراتيجية، تلغي شرعية حزب “حيروت”، الذي ينتمي إليه التصحيحيون، وتعرقّل محاولات تحالفه مع أيّ قوى سياسية حزبية أخرى. إلا أنه منذ بداية الستينيات، دَبّ فيه الضعف والوهن، فسَرَت في صفوفه الخلافات، بل انشق عنه ديفد بن جوريون، عام 1965، وأسَّس حزب “رافي” أو “قائمة عمال إسرائيل”.

وتزايد انحسار سيطرته، وخاصة أثناء الأزمة، التي انتهت إلى حرب 1967، حينما واجهت الحكومة الإسرائيلية صعوبة بالغة؛ لم تتمكن من تذليلها إلاّ بعد تردد شديد في ضم حركة “جحل” وحزب “رافي” إليها، وتحوُّلها إلى حكومة وحدة وطنية؛ عهدت بوزارة الدفاع إلى موشي ديان، وهو أحد زعماء “رافي”؛ وانضم إليها “مناحم بيجن”، من حزب “حيروت”، وكان لكلّ ذلك أثره في سيطرة “الماباي”، التي زادها ضعفاً انتصار إسرائيل في حرب 1967.

وسرعان ما اندمجت، عام 1968، أحزاب “الماباي” و”أحدوت هاعفودات و”رافي”، مكوَنة حزب “العمل”. وقبل انتخابات الكنيست السابع، عام 1969، كوّن حزب “العمل” كتلة انتخابية، سُميت “المعراخ”؛ ما كان له أكبر الأثر في سيطرة أولهما. إلا أن حرب 1973، بانعكاساتها الحادة على المجتمع الإسرائيلي، زعزعت سيطرة الحزب الواحد؛ فلم تحقق “المعراخ” تفوقاً حاسماً على “الليكود”، الذي بدأ يهدد سيطرتها، معلناً بذلك انتهاء التفوق الأيديولوجي، الذي كانت تنفرد به.

وما لبثت السلطة أن اتسمت، منذ عام 1974، بعدم الاستقرار؛ إذ بدأت حكومة “المعراخ” تخضع لتيارات من خارج الكنيست، وخاصة من جانب حركة “غوش إيمونيم”، التي نجحت في بلورة كثير من الاتجاهات المعارضة. وتحولت “المعراخ”، عام 1977، إلى المعارضة، بعد فشلها في الانتخابات. وصَعُب على حزب “الليكود”، الذي ألّف الحكومة، الاضطلاع بدوره الجديد، على قمة السلطة؛ لشعور زعمائه بحاجتهم إلى الشرعية. وبدأت بذلك مرحلة الإعداد لانتخابات 1981، التي نقلت النظام الحزبي في إسرائيل إلى عهد جديد، يسيطر عليه كتلتان.

  1. النظام ثنائي الكتل الحزبية (1981-2001)

أسفرت انتخابات عام 1981 عن تقلص الفارق، في عدد مقاعد الكنيست، بين حزبَي “الليكود” و”العمل”. وحصل ثانيهما على 34 مقعداً، في انتخابات الكنيست الرابع عشر، عام 1996، والتي نال فيها تجمُّع أحزاب “الليكود” و”جيشر” و”تسوميت” 32 مقعداً؛ إلا أن قانون الانتخاب المباشر لرئيس الوزراء، حمل زعيم “الليكود” إلى رئاسة الائتلاف الحكومي. وأسهم التحول في النظام الحزبي الإسرائيلي، في تعزيز اعتماده على وجود حزبَين كبيرَين قوتاهما تتساويان. في انتخابات الكنيست الخامس عشر، عام 1999، حصل تجمّع “إسرائيل واحدة”، الذي ضم أحزاب “العمل” و”جيشر” و”ميماد”، على 26 مقعداً، مقابل 19 مقعداً، لحزب “الليكود”، وحاز حزب “شاس” الديني 17 مقعداً، في ظاهرة غير مسبوقة، تبشر ببدء مرحلة جديدة للقوى والتيارات الدينية في إسرائيل.

لم يؤد التحول إلى البناء ثنائي الكتل إلى انخفاض عدد الأحزاب، التي تحوز الحدّ الأدنى من أصوات الناخبين، للتمثيل في الكنيست؛ لذلك، فإن التغييرات في طبيعة النظام الحزبي، أصبحت غير مرتبطة بعددها فيه؛ كما أدى ذلك التحول إلى استخدام مفهوم اليمين واليسار. وانعكس النظام ثنائي الكتل على تزايد ظاهرة التجانس بين ناخبي كلّ كتلة، فبعد أن كان الحزب المهيمن “الماباي”، يستمد قوته من طبقات المجتمع المختلفة كافة؛ وحزبا “جحل” و”الليكود”، يفتقدان تجانس ناخبيهما، أصبح حزب “العمل” يستأثر بتأييد ذوي الأصول: الأوروبية والأمريكية؛ بينما حظي “الليكود” بتأييد الطوائف الشرقية. وقد نمّت هذه الظاهرة بانقسام طبقي في إسرائيل؛ لذلك، تتسم المرحلة الحالية بعجز أيّ من هذَين الحزبَين عن تأليف الحكومة، سواء كان منفرداً أو بمحالفته عدداً محدوداً من الأحزاب. ومن ثَم، لجأ كِلاَ الحزبَين إلى تكوين ائتلافات، ضمت عدداً كبيراً من الأحزاب الصغيرة، التي توخت ابتزازهما، وتحقيق مصالحها الذاتية، حتى كانت انتخابات 2001، التي تُعد الأولى في نوعها، وربما الأخيرة؛ واستهدفت اختيار رئيس الوزراء، من دون أن يرافقها انتخابات برلمانية.

[1] الموشافيم هي جمع موشاف، وهي تعني المستعمرة الجماعية التي تقوم على أساس عائلي.

[2] قام 62 مجنداً إسرائيلياً بإعلان رفضهم المشاركة في مواجهة الانتفاضة، مفضلين محاكمتهم عسكرياً.

[3] سيفارد، تعني حرفياً أسباني، والمصطلح يُطلق على اليهود الذين نشأوا في بلاد الشرق وشمال أفريقيا، وهم الذين طُردوا من أسبانيا عام 1492 واستقروا حول حوض البحر المتوسط.

[4] إشكيناز: تعني حرفياً ألماني، والمُصطلح يُطلق على اليهود الذين نشأوا في البلاد الأوروبية، وخاصة ألمانيا وفرنسا وبولندا.

[5] الحريديم: تعني “اليهودي الأرثوذكسي” أو “اليهودي المتزمت دينياً”. والكلمة تشير إلى اليهود المتدينين من شرق أوروبا الذين يرتدون أزياء يهود شرق أوروبا (المعطف الطويل الأسود والقبعة السوداء)، ويرسلون ذقونهم إلى صدورهم وتتدلى على آذانهم خصلات من الشعر المقصوع. وهم لا يتحدثون العبرية (باعتبارها لغة مقدسة)، ويفضلون التحدث باليديشية. وتتميز عائلات الحريديم بزيادة عددها لأنهم لا يحددون النسل، مقارنة بالعلمانيين الذين يحجمون عن الزواج والإنجاب.

[6] ناطوري كارتا: تعبير يعني حراس المدينة، وهي جماعة أرثوذكسية متطرفة في القدس، وهي على رأس محاربي الصهيونية. وينضم أطفال هذه الطائفة الدينية المعادية للصهيونية إلى مدارسها الخاصة في سن الثلاث سنوات.

[7] تلمود هتوراه: من الفعل لاماد بمعنى يوري، وهو عمل كبير كتب بين القرن الأول والخامس بعد الميلاد، وهو يجمع التقاليد الشفوية التي تلقاها موسى على جبل سيناء، وكذلك تعاليم الأساتذة، أما توراة فهي تعني حرفياً التعاليم، وهي تضم الأسفار الخمسة المنسوبة لموسى، أي التعاليم الأساسية لليهودية، وبصفة عامة هي مؤسسات خاصة بالتعليم الابتدائي للذكور فقط، وهي غير معترف بها من قِبل الحكومة.

[8] يشيفا: تعني حرفياً مكان الجلوس، وهي الأكاديميات التلمودية ومركز الدراسة الدينية والمركز الأساسي للحياة الأرثوذكسية، وفيها تتكون التيارات والتوجهات، وهي مؤسسات تعليمية متخصصة للبنين فقط تركز على دراسة التلمود والتوراة.

النشاط الحزبي وانعكاساته على النظام السياسي ( 1949 – 1976)

أولاً: المرحلة الأولى (1949 – 1955)

  1. الائتلافات الحكومية خلال الكنيست الأول (1949 – 1951)

تشهد الساحة السياسية في إسرائيل، عقب كل دورة انتخابية، ظهور حكومة ائتلافية، تضم أحد الأحزاب السياسية الكبرى، وعدداً آخر من الأحزاب السياسية الصغيرة. وتكشف هذه العملية عن مدى التوافق بين القوة البرلمانية للأحزاب وقوّتها السياسية الفعلية. واللافت أن تأليف الحكومات الإسرائيلية، كان يعتمد على مشاركة حزب ديني أو أكثر؛ إذ أدى موقع الدين في الدولة والمجتمع، إلى المشاركة الحتمية للأحزاب الدينية في الائتلافات الحكومية الإسرائيلية كافة، منذ نشأتها وحتى الآن.

أ. الائتلاف الحكومي الأول (8 مارس 1949)

شهد 14 فبراير 1949 أول اجتماع للهيئة التأسيسية. وكُلّف زعيم الحزب الأكبر في الكنيست، “ديفيد بن جوريون”؛ بتأليف الحكومة؛ فسعى إلى ائتلاف حكومي واسع، قدر الإمكان، مهد له باستشارة القوى السياسية كافة الممثلة في الكنيست، عدا الشيوعيين وحزب “حيروت”. وانتهت المشاورات إلى الائتلاف الحكومي الأول، في 8 مارس 1949، بين حزب “الماباي” و”الجبهة الدينية الموحدة” و”الصهيونيين التقدميين”؛ تدعمه التجمعات العربية والشرقية (انظر جدول نتائج انتخابات الهيئة التأسيسية، 25 يناير 1949 (الكنيست الأول) والائتلاف الحكومي الأول، 8 مارس 1949).

بدأت الأحزاب الدينية المشاركة الفعلية في الحياة السياسية من خلال انتخابات الهيئة التأسيسية، في إطار الائتلاف الحكومي الأول؛ مستهدفة الحصول على أعلى نسبة ممكنة. وعارض العديد من الأحزاب والحركات الدينية هذه المشاركة، منها حركة “أغودات إسرائيل” وحركة “بوعالي “أغودات إسرائيل”؛ إلا أن حزبا “هامزراحي” و”هابوعيل هامزراحي”، قررا المشاركة في الائتلاف الحكومي، ليحققا، في ظل الدولة العلمانية، أهدافهما المتمثلة في المطالبة باحترام التقاليد والقِيم الدينية اليهودية، وتعديل قانون “من هو اليهودي؟”، وضمان تدفق الدعم المالي للمؤسسات والمدارس الدينية. أمّا الأحزاب الحريدية، الطامحة إلى دولة توراتية، تحكمها الشريعة اليهودية، فلم تكن غايتها من المشاركة في ذلك الائتلاف إلا الحفاظ على قِيم المجتمع الحريدي ومصالحه، مع ضمان استمرار تدفق الدعم المالي لمؤسسات الحريديم ومدارسهم.

أوْلى حزبا “هامزراحي”، من خلال الائتلاف الحكومي، اهتمامهما ومشاركتهما السياسية داخل الكنيست، للمسائل المتعلقة بشؤون الأمن والخارجية والاقتصاد؛ فضلاً عن الأمور الدينية؛ إذ سَعَيَا إلى صبغ الحياة العامة بصبغة دينية. أمّا “الحريديم”، فقصروا اهتمامهم على الشؤون الدينية. وحرص بن جوريون على تحقيق التعايش والتعاون مع الأحزاب الدينية، ضماناً لاستقرار الحكم، وحصر الصراع بين الدين والدولة في إطار محدود.

ب. الائتلاف الحكومي الثاني (1 نوفمبر 1950)

انهارت الحكومة الائتلافية الأولى، في أكتوبر 1950، إثر معارضة الجبهة الدينية الموحدة، اقتراح رئيس الوزراء إنشاء وزارة للتجارة والصناعة، واختيار وزير لها من خارج الكنيست. وعُهد إلى بنحاس روزين تأليف حكومة جديدة؛ ولكنه أخفق، فَوُكِلَت إلى “بن جوريون”، في نوفمبر 1950، والذي أمكنه تأليفها، وحقق لها ثقة الكنيست. واحتفظت الجبهة الدينية فيها بالمقاعد الوزارية، التي كانت تشغلها في الائتلاف الأول؛ إلا أنها رضيت بالتعديل، الذي كان قد اقترحه “بن جوريون”.

  1. الائتلافات الحكومية خلال الكنيست الثاني (1951-1955)

أ. الائتلاف الحكومي الثالث (8 أكتوبر 1951)

اعترى الائتلاف الحكومي الثاني، في فبراير 1951، أزمة وزارية حادّة، نجمت عن الخلاف في التربية الدينية لأطفال اليهود اليمينيين. فقد سعى “بن جوريون” إلى تنفيذ نظام تعليمي موحد، إلا أن الجبهة الدينية، طالبت أن يكون التعليم الديني تحت إشراف حزبَي “هامزراحي” و”أغودات” وسيطرتهما. وما لبثت الحكومة أن فقدت ثقة الكنيست، إثر امتناع الجبهة الدينية عن تأييدها؛ فاستقال رئيس الوزراء.

خاض انتخابات الكنيست الثاني، في 30 يوليه 1951، 17 تحالفاً، 15 منها حققت الحدّ الأدنى من الأصوات، التي بلغت نسبتها 57.1%. أسفرت نتائج الانتخابات عن فقْد حزب “الماباي” مقعداً واحداً؛ وحيازة الصهيونيين العموميين 13 مقعداً؛ وخسارة الأحزاب الدينية، التي خاضت الانتخابات بتحالفات منفردة، مقعداً واحداً، لتحالف “بوعالي أغودات إسرائيل”. وفُوّض إلى “بن جوريون” تأليف الحكومة، فتمكّن من ذلك، بعد مشاورات مضنية، تمخضت بضم حزب “الماباي” والأحزاب الدينية الأربعة؛ إضافة إلى دعم التحالفات العربية، التابعة لحزب “الماباي”، والتحالفات الشرقية. وعززت الأحزاب الدينية نفوذها في هذا الائتلاف الحكومي، إذ احتلت أربعة مقاعد وزارية (انظر جدول نتائج انتخابات الكنيست الثاني، 30 يوليه 1951 والائتلاف الحكومي الثالث، 8 أكتوبر 1951).

وإثر اقتراح، رئيس الوزراء، وضع نظام تعليمي علماني موحد، وملزم للجميع؛ وإصدار تعليمات بتجنيد الفتيات وطلاب المدارس الدينية؛ غادر الائتلاف الحكومي حزبا “أغودات إسرائيل” و”بوعالي “أغودات إسرائيل”، فاستقالت، في 19 ديسمبر 1952، حكومة بن جوريون الثالثة.

ب. الائتلاف الحكومي الرابع (22 ديسمبر 1952)[1]

مع خروج حزب “أغودات إسرائيل” وحزب بوعالي “أغودات إسرائيل” من الائتلاف ألّف بن جوريون الحكومة الائتلافية الرابعة، من تحالف حزب “الماباي” وحزبَي “هامزراحي” و”الصهيونيين العموميين والصهيونيين التقدميين”. وقد حسمت هذه الحكومة مشاكل التعليم، إذ جعلته نظاماً ثنائياً، يتضمن تعليماً علمانياً وآخر دينياً.

اعترت الحكومة الائتلافية الرابعة أول أزمة وزارية، في مايو 1953، حينما عارض “الصهيونيون العموميون” رغبة حزب “الماباي” في إلزام المدارس العلمانية في مناطق نفوذه، برفع العلم الأحمر، إلى جانب علم إسرائيل. وأيّده حزب “هامزراحي” وحزب “هابوعيل هامزراحي” لينشأ، منذئذٍ، تحالف تاريخي بين الأحزاب الثلاثة.

ج. الائتلاف الحكومي الخامس (26 يناير 1954)

كان الائتلاف الحكومي الخامس، في 26 يناير 1954، على غرار سابقه، عدا رئاسته، التي تولاها موشي شاريت. وقد عصف به، اتهام حزب “حيروت” عضواً في حزب “الماباي”، كان ممثلاً للوكالة اليهودية في المجر، أثناء الحرب العالمية الثانية، بمعاونة النازيين على إبادة اليهود؛ طالباً من الكنيست الاقتراع على الثقة بالحكومة. وهدد شاريت بالاستقالة، إذا لم يمنحها أيّ شريك ائتلافي ثقته، وحينما امتنع “الصهيونيون العموميون” عن تأييدها، نفذ شاريت تهديده، واستقال في 29 يونيه 1955.

د. التشكيل الحكومي السادس (29 يونيه 1955)

ألّف شاريت الحكومة السادسة، من حزب “الماباي” وحزب “هامزراحي” وحزب “هابوعيل هامزراحي”، إضافة إلى “الصهيونيين التقدميين” والتحالفات الأخرى، التابعة لحزب “الماباي”. إلا أن هذه الحكومة كان لها سمات خاصة، إذ اقترب موعد انتخابات الكنيست الثالث؛ لذلك، احتفظ فيها حزبا “هامزراحي” بحقائبهما الوزارية الأربع؛ كما أن شاريت حرص على العلاقة والائتلاف بين حزب “الماباي” والأحزاب الدينية، التي شاركته في الحكومة.

  1. تقييم المشاركة الحزبية في الائتلافات الحكومية، خلال المرحلة الأولى (1949-1955)

على الرغم من أن حزب “الماباي”، كان أكبر الأحزاب السياسية، والمهيمن على الساحة السياسية، خلال الفترة من 25 يناير 1949 حتى يوليه 1955، إلا أنه لم يحقق الأغلبية المطلقة، ولم يتمكن من تأليف الحكومة بمفرده؛ وإنما استحوذ على رئاسة الحكومة.

تحددت مطالب الأحزاب الدينية، المشاركة في الائتلافات الحكومية، بتعديل قانون “من هو اليهودي؟”، بما يقصر التحول إلى اليهودية على اليهود الأرثوذكس فقط؛ وبضرورة الحفاظ على القِيم والتقاليد الدينية اليهودية، ودعم التعليم الديني.

أثبتت الائتلافات الحكومية خلال الكِنِِيستَين: الأول والثاني، أن الأحزاب الدينية على استعداد للتخلي عن ثوابتها الأيديولوجية الصارمة، من أجل الحصول على المعونات المالية من الحكومة. وما مشاركة حزبَي ” “أغودات إسرائيل” و”بوعالي “أغودات إسرائيل” في الحكومة المؤقتة، والائتلافَين الحكوميَين: الثاني والثالث؛ على الرغم من معارضة الحزبَين للصهيونية وللدولة ـ إلا رغبة في استعادة ما انقطع من الدعم الخارجي، المالي والبشري.

اتسم زعماء حزب الماباي، في تأليفهم للحكومات، بالاعتماد، أساساً، على عدم اتخاذ مواقف واضحة ومحددة؛ وذلك للحدّ مما ينزلون عنه لشركائهم، ضد الأحزاب الدينية في الائتلاف. ولذلك، كانوا يصدرون مراسيم إدارية، يمكن التراجع عنها، عند الضرورة؛ إذ رأوا أن الائتلاف مع تلك الأحزاب، هو أقلّ ثمناً من الائتلاف مع الأحزاب الأخرى، التي لها مواقف ورُؤَى محددة، في المجالات: الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والخارجية. كما كانت مشاركة الأحزاب الدينية في الائتلافات الحكومية، خلال هذه المرحلة، شرطاً لازماً لاستمرار الحكومات؛ وخروجها منها، يعني انهيار الائتلاف الحكومي.

ثانياً: المرحلة الثانية (1955-1976)

  1. الائتلافات الحكومية خلال الكنيست الثالث (1955-1959)

جرت انتخابات الدورة الثالثة للكنيست في 26 يوليه 1955. وخاضها 18 تحالفاً انتخابياً، تجاوز 12 تحالفاً منها الحدّ الأدنى من الأصوات، وكانت نسبة التصويت 82.8%. وأسفرت عن تضاؤل قوة “الماباي” و”الصهونيين العموميين”. وعلى الرغم من ذلك، فقد عُهِد إلى بن جوريون، زعيم حزب “الماباي” بتأليف الحكومة السابعة (انظر جدول نتائج انتخابات الكنيست الثالث، 26 يوليه 1955؛ والائتلاف الحكومي السابع، 3 نوفمبر 1955).

أ. الائتلاف الحكومي السابع (3 نوفمبر 1955)

بعد مشاورات، استمرت قرابة ثلاثة أشهر، تمكن بن جوريون من تأليف حكومة، ضمت حزب “الماباي” وحزب “هامزراحي” وحزب “هابوعيل هامزراحي” وحزب “أحدوت هاعفودات” المنشق عن “الماباي”، وحزب “المابام” وحزب “الصهيونيين التقدميين”، والكتل العربية التابعة لحزب الماباي. وحصلت الحكومة على ثقة الكنيست، في 3 نوفمبر 1955.

أكد برنامج الحكومة الجديدة عزمها على دعم القدرة الدفاعية، وتطوير المنظمات العسكرية، وتدريب القوات الإسرائيلية، سواء الفعلية أو الاحتياطية؛ وكذلك قوات القرى المتمركزة بالقرب من الحدود. وتعهدت بالحفاظ على الائتلاف، بالتعاون بين حزب “الماباي” والأحزاب الدينية.

ما كاد يمضي شهر على الائتلاف السابع، حتى وقع أكبر اصطدام مسلح، على الحدود مع سورية، في منطقة بحيرة طبرية؛ وفي أكتوبر 1956، كان العدوان الثلاثي على مصر. وخلال هذه المرحلة، حصلت الأحزاب الدينية، بقانون من الكنيست، على ما تعهد به زعيم حزب “الماباي”، وهو جعْل مادة الوعي اليهودي مادة دراسية إلزامية في المدارس. وأكدت مناقشات الكنيست، في شأن تراجع القوات الإسرائيلية عن سيناء، أن موقف القوة السياسية، أصبح أكثر وضوحاً، وخاصة فيما يتعلق بالخطط العسكرية تجاه الدول العربية؛ وكذلك انضمام إسرائيل، في مايو 1957، إلى مشروع أيزنهاور. وانتابت الحكومة السابعة عدة أزمات، كان أشدها في عام 1957، حينما اعترض حزبا “المابام” و”أحدوت هاعفودات” على توثّق العلاقة الإسرائيلية ـ الألمانية، وخاصة في مجال شراء الأسلحة؛ وتسرب مناقشات الحكومة خلال اجتماعاتها؛ ما حمل بن جوريون، على الاستقالة، في 31 ديسمبر 1957.

ب. الائتلاف الحكومي الثامن (7 يناير 1958)

طابق الائتلاف الثامن سابقه مطابقة تامة. وواجه عدة أزمات، أثارها حزب “أحدوت هاعفودات” وحزب “المابام”؛ ولكنه حظي بدعم حزبَي “هامزراحي”، اللذَين يمثلان الجبهة الدينية الموحدة. بيد أنه ما لبث أن فَقَدَ تلك الحظوة، في أزمة 1958، التي أثارتها مطالبة وزير الداخلية، وهو من أعضاء حزب “أحدوت هاعفودات”، بتسهيل الإجراءات الإدارية لتسجيل اليهود، بغض النظر عن أهليتهم حسب الشريعة اليهودية؛ بل إن الحزبَين تخلّيا عن الحكومة. إلا أنهما استمرا في تأييدها، حيث دعما اتفاق بن جوريون وألمانيا على صفقة سلاح؛ فأُقرَّت، في يونيه 1959، بأغلبية 57 صوتاً، ومعارضه 45 صوتاً، وامتناع 6 أعضاء من التصويت. غير أن الخلافات الحزبية، التي عصفت بالحكومة، انتهت، في 5 يوليه 1959، إلى استقالتها.

  1. الائتلاف الحكومي التاسع، خلال الكنيست الرابع (1959-1961)

عانى الائتلاف الحكومي الثامن، منذ نهاية 1958، وخلال عام 1959، التظاهرات والاحتجاجات الجماهيرية، والمصادمات بين المهاجرين ورجال الأمن، في حيفا وبئر السبع. وعمد رئيسه إلى الاستقالة، سعياً إلى فراغ حكومي، يتيح له حرية التصرف، من دون رقابة، في انتخابات، لجأ فيها حزب “الماباي” إلى التخويف والرشوة، واستغلال الانقسام بين أحزاب المعارضة.

جرت انتخابات الكنيست الرابع، في 3 نوفمبر 1959. وخاضها 24 تحالفاً حزبياً، تجاوز 12 تحالفاً منها الحدّ الأدنى من الأصوات، وكانت نسبة التصويت 81.6%. وأسفرت عن قوة حزب “الماباي” البرلمانية، وازدياد مقاعده سبعة مقاعد في الكنيست. وفي الوقت نفسه، حافظ حزب “المابام” على قوّته؛ وفَقَدَ الصهيونيون العموميون خمسة مقاعد، و”أحدوت هاعفودات” ثلاثة مقاعد. أمّا الأحزاب الدينية، فكادت تحتفظ بقوّتها، لولا حصول حزب “المفدال” على مقعد إضافي (انظر جدول نتائج انتخابات الكنيست الرابع، 3 نوفمبر 1959؛ والائتلاف الحكومي التاسع، 17 ديسمبر 1959).

تمكّن “بن جوريون” من تأليف الحكومة التاسعة، التي جمعت أحزاب: “الماباي” و”المفدال” و”المابام” و”أحدوت هاعفودات” والكتل العربية التابعة لحزب “الماباي”. ورفض حزبا “الصهيونيون العموميون” و”الصهيونيون التقدميون” الاشتراك في حكومة، تضم الأحزاب اليسارية. وحظيت الحكومة، في 17 ديسمبر 1959، بثقة الكنيسيت؛ حيث تمكن حزب “الماباي” من تعزيز قوّته. ولكن سرعان ما دبت فيها الصراعات، وتزايدت تظاهرات اليهود الشرقيين ومعارضة الهستدروت؛ وانقسم حزب “الماباي” بين أغلبية تطالب بضرورة محالفة “الصهيونيين العموميين”، بدلاً من الأحزاب اليسارية، وبين أقلية، يتزعمها بن جوريون، تؤيد محالفة مع الأحزاب اليسارية.

ولم يفلِح رئيس الحكومة في محاولات الجمع بين الطرفَين المختلَف فيهما. واشتد الصراع بين شيوخ الحزب وجماعتهم، و”بن جوريون” وأعوانه، الذين يشرفون على قوات جيش الدفاع، والاستخبارات، والأمن، وجزء كبير من الجهاز الحكومي، والصحافة والإذاعة، ويسيطرون عليها جميعاً. وأمسى الصراع سياسياً حادّاً؛ حتى إن “بن جوريون” لم يتردد، عام 1960، في ضم حزب اليهود الأرثوذكس إلى الائتلاف الحكومي، سعياً إلى ضمانات إضافية من الدول الغربية؛ بل جَهِد، منذ منتصف عام 1960، في فرض تسلّطه، والحدّ من قدرة جماعة الشيوخ، إذ عزل واحداً من أنشط رجالها، لافون[2]، من منصب السكرتارية العامة للهستدروت، بقرار من “الماباي”؛ فاندلعت الاحتجاجات، التي انتهت، في 27 مارس 1961، إلى قرار من الكنيست، للمرة الأولى، حل نفسه.

  1. الائتلافات الحكومية خلال الكنيست الخامس (1961-1965)

حاول بن جوريون ومعاونوه إرجاء الانتخابات البرلمانية، ريثما يعيد حزب “الماباي” تماسكه، بعد أن ضعضعته قضية لافون؛ فاعتمدوا وسائل الضغط: السياسي والاقتصادي، إغراءً للناخبين. وجرت انتخابات الكنيست الخامس، في 15 أغسطس 1961، قبل عامَين من موعدها. وكانت نسبة المشاركة فيها 81.6%، وخاضها 14 تحالفاً انتخابياً، حقق 11 تحالفاً منها الحدّ الأدنى من الأصوات. ونجم عنها خسارة حزب “الماباي” خمسة مقاعد برلمانية؛ واحتفاظ أحزاب: “المابام” و”حيروت” و”المفدال” وحزبَي “أغودات”، بقوّتها؛ وتعزيز الصهيونيين، عموميين وتقدميين، قوّتهم، بعد اندماجهم، وتكوينهم الحزب الليبرالي، وازدياد عدد مقاعدهم ثلاثة مقاعد (انظر جدول نتائج انتخابات الكنيست الخامس، 15 أغسطس 1961؛ والائتلاف الحكومي العاشر، 2 نوفمبر 1961).

أ. الائتلاف الحكومي العاشر (2 نوفمبر 1961)

بعد أن رفض ليفي أشكول تأليف الحكومة، ألّفها “بن جوريون”، في 2 نوفمبر 1961، وحصل على ثقة الكنيست، نتيجة تحالف أحزاب: “الماباي” و”المفدال” و”أحدوت هاعفودات” و”بوعالي “أغودات إسرائيل”، والكتل العربية المرتبطة بحزب “الماباي”. وتميز الائتلاف الحكومي بقبول حزب “أحدوت هاعفودات” منصبَين وزاريَّين، فأصبح تابعاً لحزب “الماباي”، متخلياً عن وعوده للطبقة العاملة الإسرائيلية.

مع تزايد حدة الصراعات داخل حزب “الماباي”، ازداد نفوذ اليمين المعارض للائتلاف الحكومي؛ إذ تكونت كتلة يمينية موحدة، ضمت حزب “حيروت” وأغلبية الحزب الليبرالي، تحت اسم كتلة “جحال”. وحرص زعماء حزب “الماباي”، في مؤتمره، الذي عُقد في أكتوبر 1963، على تجميع الصفوف ومواجهة الاضطرابات العمالية؛ بل نشطوا لإشراك حزب “المابام” في الحكومة الائتلافية، ليكون ستاراً يسارياً لتغطية سياستهم الرجعية.

ب. الائتلاف الحكومي الحادي عشر (26 يونيه 1963)

استقالت حكومة “بن جوريون” في 16 يونيه 1963، بعد تفاقم موجة الغضب الداخلي، على تعاونها مع الحكومة الألمانية. وكُلف ليفي أشكول بتأليف الحكومة الحادية عشرة، وكانت على شاكلة سابقتها؛ إذ اعتمدت على الائتلاف بين “الماباي” و”المفدال” و”أحدوت هاعفودات” و”بوعالي “أغودات إسرائيل” والكتل العربية التابعة لحزب “الماباي”. وحازت الحكومة، في 26 يونيه 1963، ثقة الكنيست.

ج. الائتلاف الحكومي الثاني عشر (22 ديسمبر 1964)

انتهج أشكول أسلوباً أكثر مرونة، لتحقيق سياسة الحزب؛ إلا أن الأوضاع لم تستقر، بل ازدادت حدة التظاهرات في القدس، مطالبة بتحرير البلاد من الاضطهاد الديني، وتحسين ظروف العمل. واضطر إلى الاستقالة، إثر احتدام الصراع بين مؤيديه ومؤيدي بن جوريون، واشتداد ضغط الأحزاب المعارضة، وخاصة الحزب الليبرالي. بيد أن اللجنة المركزية لحزب “الماباي”، اختارته، مرة أخرى، ليؤلف الحكومة، فألّفها من الائتلاف نفسه، الذي كوَّن حكومته السابقة. وحاز، في 22 ديسمبر 1964، ثقة الكنيست.

خلال هذه المرحلة، تعزز نفوذ الأحزاب الدينية في الائتلاف؛ إذ إن ضغوط اليمين على “الماباي”، أجبرته على التشبث بمحالفة حزب “المفدال”، لأنه لو تخلى عنها، لانهارت الحكومة. واستمر هذا الائتلاف، على كثرة المشاكل، التي واجهته، والناجمة عن العلاقات بالغرب، والتوتر المستمر مع العرب ودول الجوار، وقوانين الطوارئ، والقوانين الاقتصادية التي تخدم رؤوس الأموال الأجنبية في إسرائيل.

  1. الائتلافات الحكومية خلال الكنيست السادس (1965-1969)

جرت انتخابات الكنيست السادس في الأول من نوفمبر 1965. وكانت نسبة المشاركة فيها 83%. وخاضها 16 تحالفاً حزبياً، تجاوز 13 تحالفاً منها الحدّ الأدنى من الأصوات. وفقد تحالف “الماباي” و”أحدوت هاعفودات” خمسة مقاعد. وجاءت كتلة “جحال” في المرتبة الثانية، وخسر حزب “المفدال” مقعداً واحداً. وبدأت تزداد قوة حزب “رافي”، إثر نجاحه في استمالة أصوات المهاجرين اليهود الجدد، وكذلك العمال وبعض الضباط القادة (انظر جدول نتائج انتخابات الكنيست السادس، 1 نوفمبر 1965؛ والائتلاف الحكومي الثالث عشر، 12 يناير 1966).

أ. الائتلاف الحكومي الثالث عشر (12 يناير 1966)

عاقت أشكول عن تكوين الائتلاف الحكومي، مطالبة الحزب الليبرالي بحُرية أكثر لرؤوس الأموال الأجنبية؛ ومساومة حزب “المفدال” وابتزازه بمطالبته بخضوع اليهود المتدينين لمحاكم الحاخامات فقط. وتمكن أشكول، في 12 يناير 1966، من تأليف الحكومة، من حزب “الماباي” وحزب “المفدال” وحزب “المابام” والحزب الليبرالي المستقل و”بوعالي “أغودات إسرائيل”، والكتل العربية التابعة لحزب “الماباي”. وحصل حزب “المفدال” على العديد من المكاسب؛ إذ زادت الحكومة الاعتمادات المالية المخصصة لهيئاته ومدارسه؛ وفي المقابل، أخرت فتح جميع المؤسسات التجارية والصناعية، أيام السبت.

وحولت إسرائيل هذه الحكومة إلى حكومة وحدة وطنية، قبل إعلانها الحرب على الدول العربية، في 5 يونيه 1967؛ إذ ضمت إليها كلاًّ من كتلة “جحال” وتحالف “رافي”، لتبلغ مقاعد الائتلاف الحكومي 111 مقعداً؛ محققة بذلك نسبة تصويت وصلت طاولت 91.3%. واستمر انضمام الكتل العربية التابعة لحزب “الماباي” إلى حكومة الحرب، تلك، ونالت، في 5 يونيه 1967، ثقة الكنيست.

ب. الائتلاف الحكومي الرابع عشر (17 مارس 1969)

بعد وفاة “ليفي أشكول”، في 26 فبراير 1969، كُلفت جولدا مائير بتأليف الحكومة، فألفتها وفق أُسُس الحكومة السابقة وقواعدها. وتكفلت بتنفيذ ما كانت قد وعدت به الائتلافات الحكومية، التي كُوِّنت خلال الكنيست السادس. ونالت هذه الحكومة، في 17 مارس 1969، ثقة الكنيست.

  1. الائتلاف الحكومي الخامس عشر، خلال الكنيست السابع (1969-1973)

جرت انتخابات الكنيست السابع، في 28 أكتوبر 1969. وبلغت نسبة المشاركة فيها 81.7%. وخاضها 19 تحالفاً انتخابياً، حقق 13 تحالفاً منها الحدّ الأدنى من الأصوات، أي 68.4%. اندمجت تحالفات “الماباي” و”أحدوت هاعفودات” و”المابام”، في ما عُرف باسم “المعراخ”، أيْ التجمع. كذلك ظهر تحالف “رافي” أو التحالف الرسمي، الذي تكوَّن، بعد انشقاق بن جوريون عن “الماباي”.

كُلفت “جولدا مائير” بتأليف الحكومة الخامسة عشرة. واشترط “المفدال” لاشتراكه فيها، أن تُمنع برامج التليفزيون، أيام السبت؛ وأن يعيَّن أحد أعضائه نائباً لوزير التعليم. وقُبِل شرطاه، فوُلد، في  15 ديسمبر 1969، ائتلاف حكومي من “المعراخ” و”جحال” و”المفدال” والحزب الليبرالي المستقل. ولم يشترك فيه حزب “بوعالي “أغودات إسرائيل”، الذي فضّل الانضمام إلى المعارضة (انظر جدول نتائج انتخابات الكنيست السابع، 28 أكتوبر 1969؛ والائتلاف الحكومي الخامس عشر ، 15 ديسمبر 1969).

وفي أغسطس 1970، استقالت كتلة “جحال” بسبب قبول الحكومة مبادرة روجرز الأمريكية؛ فاستبدِل بوزرائها آخرون من “المعراخ”. وهدد حزب “المفدال” بالاستقالة، إذا لم تُلبَّ طلباته، ولا سيما مسألة “من هو اليهودي؟”، التي أُثيرت غير مرة، وكادت تطيح الحكومة، لا بل إن أحد أعضائه، صوّت في مصلحة اقتراح، يقصُر عملية التحول إلى اليهودية على الحاخامات الأرثوذكس فقط؛ ما حمل رئيسة الحكومة، على طرده. وفي الوقت نفسه، هددت بالاستقالة، إذا طرح نواب حزب الأحرار على الكنيست مشروع قانون، يسمح بالزواج المدني. وبصفة عامة، حقق حزب “المفدال” مكاسب سياسية كبيرة، خلال فترة حكم مائير؛ بل كان زعيمه من المقربين إليها؛ لا، بل من صانعي القرار السياسي، المعروفين باسم “مطبخ مائير”.

  1. الائتلافات الحكومية خلال الكنيست الثامن (1973 – 1977)

جرت انتخابات الكنيست الثامن، في 31 ديسمبر 1973. وبلغت نسبة المشاركة فيها 78.6%. وخاضها 21 تحالفاً انتخابياً، حققت 10 تحالفات منها الحدّ الأدنى من الأصوات. وتأثرت نتائجها بحرب أكتوبر 1973 مباشرة، ففقد حزب “المعراخ”، خمسة مقاعد في الكنيست؛ وازداد تكتل اليمين، “الليكود”، سبعة مقاعد. أمّا الأحزاب الدينية، فقد خسرت ثلاثة مقاعد؛ وفَقَدَ “المفدال” مقعدَين. ويُعزى ضعف الأحزاب الدينية إلى أن مؤيديها، وخاصة في مستوطنات الضفة الغربية، وكذلك في الجيش، منحوا أصواتهم تكتل اليمين الجديد، “الليكود” (انظر جدول نتائج انتخابات الكنيست الثامن، 31 ديسمبر 1973؛ والائتلاف الحكومي السادس عشر، 10 مارس 1974).

لئن مُنيت الأحزاب الدينية بخسارة عددية، فإن قدْرتها على المساومة والابتزاز قد تعاظمت؛ وذلك لتراجع قوة “المعراخ” البرلمانية، وازدياد قوة “الليكود” في الكنيست. ومن ثَم، فقد اشترط “المفدال” تعديل قانون العودة، وإجراء انتخابات عامة في حالة الوصول إلى اتفاق مع الدول العربية، وضم “الليكود” إلى الحكومة. ولكن هذه الشروط، لم يوافق عليها، لا حلفاء “المعراخ” في الخارج، ولا جولدا مائير، التي هددت بقصْر الائتلاف على “الأحرار المستقلين” و”راتس”؛ واستبعاد “المفدال”؛ ما اضطر هذا الأخير إلى التراجع عن شروطه، عدا ثانيها، المتمثل في ضرورة إجراء انتخابات، في حالة الوصول إلى اتفاق مع الدول العربية، يقضي بالتخلي أراضٍ في الضفة الغربية.

أ. الائتلاف الحكومي السادس عشر (10 مارس 1974)

ألّفت “جولدا مائير” الحكومة الائتلافية من تحالف “المفدال” و”الأحرار” و”المعراخ”، والكتل العربية التابعة للأخير. ويؤكد ذلك أن الأحزاب الدينية، هي أحرص على التدفقات المالية والمساعدات لمؤسساتها ومدارسها، منها على ثوابتها الأيديولوجية. وحازت الحكومة، في 10 مارس 1974، ثقة الكنيست.

ولكنها سرعان ما استقالت، في 11 أبريل 1974، بعد نشر تقرير لجنة “أجرانات”، في شأن هزيمة الجيش الإسرائيلي في حرب أكتوبر، الذي اتهم الحكومة بالتقصير.

ب. الائتلاف الحكومي السابع عشر (3 يونيه 1974)

كُلف “إسحاق رابين” بتأليف الحكومة الجديدة. وأجبره “المفدال” بشروطه السابقة نفسها، على تكوين ائتلاف محدود من “المعراخ” و”راتس” و”الأحرار المستقلين” والكتل العربية التابعة لحزب “المعراخ”. وحصلت الحكومة، في 3 يونيه 1974، على ثقة الكنيست.

انهار ائتلاف الحكومة في ديسمبر 1976، إثر اقتراح الجبهة التوراتية الموحدة، المكونة من حزبَي “أغودات إسرائيل”، حجب الثقة عن الحكومة، لانتهاكها حرمة يوم السبت، بإصرارها فيه على استقبال ثلاث طائرات أمريكية الصنع، في أحد المطارات، وعودة مستقبليها في سياراتهم إلى منازلهم. وصوّت جميع أعضاء “المفدال” في الكنيست في مصلحة هذا الاقتراح، فبادر رابين، بموجب حقه في طردْ الوزراء، الذين لا يلتزمون بالمسؤولية الجماعية للحكومة، إلى طرْد وزراء “المفدال” فيها؛ واستقال في 22 ديسمبر 1976، ودعا إلى انتخابات مبكرة.

كانت الحكومة الائتلافية السابعة عشرة خاتمة للمشاركة التاريخية، بين حزبَي “الماباي” و”المفدال”، وفاتحة مرحلة جديدة ودور جديد للأحزاب: الدينية والعلمانية، في الحياة السياسية الإسرائيلية.

  1. تقييم المشاركة الحزبية في الائتلافات، خلال المرحلة الثانية (1955 – 1976)

حال اختلاف توجهات الأحزاب وتعارُضها، دون حصول أيٍّ من الأحزاب السياسية على الأغلبية المطلقة، التي تمكنه من تأليف حكومة بمفرده. كما لم تؤلَّف حكومة من دون مشاركة الحزبين الأكبَرَين: “الماباي” و”المعراخ”. كذلك لم يسلم حزب “الماباي” من الخلافات الداخلية، التي انتهت إلى سقوط بعض الحكومات الائتلافية؛ بل إلى انشقاق الحزب نفسه، وظهور بعض الكتل المستقلة.

كان حزب “المفدال” شريكاً رئيسياً  لحزب “الماباي” في الائتلافات الحكومية، وحليفه الأمين، في الأزمات؛ ولا سيما منذ الحكومة الائتلافية الرابعة. أمّا مشاركة حزب “بوعالي أغودات إسرائيل”، فكانت محدودة.

طالما رهنت الأحزاب الدينية اشتراكها في الائتلافات الحكومية؛ بتعديل قانون “من هو اليهودي؟”، ومراعاة القيم والتقاليد اليهودية، وضمان تدفق الدعم المالي. ولئن كانت مستعدة للتخلي عن ثوابتها الأيديولوجية، مقابل بقائها في الائتلافات الحكومية، وحصولها على الدعم المالي؛ فإنها تشبثت، ولا سيما حزب “المفدال”، بتعديل قانون “من هو اليهودي؟”، ولم تتخل عنه أبداً.

لم يتخذ قادة “الماباي” ثم “المعراخ” مواقف محددة، وواضحة، في برامجهم الائتلافية؛ استرضاء للأحزاب: اليسارية واليمينية والدينية. ومن ثَم، فقد ضمتها جميعاً كلّ الحكومات الائتلافية، في إطار سياسة: “فرق تسد”، التي انتهجها قادة “الماباي” ليحُوْلوا دون أيّ تآلف بين الأحزاب: الدينية واليمينية. كما أن عدم وضوح برامج الائتلاف، كان يحُدّ مما يُقدم للشركاء في الحكومة.

[1] ذُكر في الموقع الرسمي للكنيست الإسرائيلي www.knesset.gov.il ، أن الحكومة الرابعة قد شُكلت في 24 ديسمبر 1952.

[2] كان لافون وزيراً للدفاع في إسرائيل عام 1954، وخلال هذه الفترة اتهم بفشل عملية تخريبية في القاهرة، وأثيرت هذه القضية مرة أخرى عام 1961، حيث أدت إلى استقالة الحكومة وحل الكنيست نفسه لأول مرة

 

النشاط الحزبي وانعكاسه على النظام السياسي (1977 – 2001 )

أولا : المرحلة الأولي (1977 – 1995)

  1. الائتلاف الحكومي الثامن عشر، خلال الكنيست التاسع (1977 – 1981)

جرت انتخابات الكنيست التاسع في 17 مايو 1977. وبلغت نسبة المشاركة فيها 79.2%. وخاضها 26 تحالفاً انتخابياً، تجاوز 13 تحالفاً منها الحدّ الأدنى من الأصوات. وهي الانتخابات الأولى، التي يحقق فيها حزب يميني، “الليكود”، المركز الأول، والذي ازدادت مقاعده في الكنيست 4 مقاعد. بيد أن ذلك ليس دليلاً على تزايد قوته، بقدر ما هو دليل على ضعف “المعراخ”، الذي خسر 19 مقعداً.

ويُعزى انخفاض قوة “المعراخ” إلى فقدانه قيادته التاريخية، المتمثلة في موشي شاريت وديفيد بن جوريون وليفي أشكول؛ وتولِّى أمره جماعة جديدة، مثل: إسحاق رابين وشيمون بيريز وإيجال آلون، والتي يعوزها التكاتف والترابط، وينقصها الوزن التاريخي؛ إضافة إلى تورط العديد من قادة الحزب في قضايا فساد؛ فضلاً عن اتهام لجنة “أجرانات” حزب “المعراخ” بالتقصير السياسي والعسكري والأمني، في حرب أكتوبر 1973؛ ناهيك عن فشله في القضاء على الفجوات: الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، بين اليهود الشرقيين والغربيين، وبين الفقراء والأغنياء؛ ما أثار عليه نقمة اليهود الشرقيين والفقراء، ودفعهم إلى التصويت في مصلحة حزب “الليكود”.

ظهر حزب “الليكود” أكثر تماسكاً، بقيادة قوية، تمثلت في زعيمَي حزب “حيروت”، مناحم بيجن، وحزب “الأحرار”؛ فبدا كأنه مدافع عن الفقراء، ومنقذ لليهود الشرقيين، والمتمسك بالأراضي الإسرائيلية التاريخية. وأعلن بيجن ضرورة ترابط الدولة والدين، ورأى أن الدين هو أساس الشخصية القومية؛ كما أعلن أن يهودا والسامرة (الضفة الغربية المحتلة) ستظل تحت السيادة الإسرائيلية.

وعززت الأحزاب الدينية قوّتها البرلمانية، وخاصة حزب “المفدال”، الذي سعى إلى تجديد قيادته ومرشحيه للكنيست، من خلال استبعاد الزعامات القديمة، وترشيح القيادات التاريخية وجيل الشباب. أمّا الأحزاب الحريدية، فقد شهدت انشقاقاً للجبهة التوراتية الموحدة، وانقسمت إلى حزب “أغودات إسرائيل” وحزب “بوعالي أغودات إسرائيل”.

كُلف بيجن تأليف الحكومة، فعمد إلى الاتفاق مع الأحزاب الدينية، واستبعد “المعراخ”؛ فتكونت من “الليكود” و”المفدال” وحزب “أغودات إسرائيل” وتحالف موشى ديان. ونالت، في 20 يونيه 1977، ثقة الكنيست.

أغرى بيجن الأحزاب الدينية بوعودٍ كثيرة، حتى يستوثق من انضمامها إلى الائتلاف؛ فازداد نفوذها خلال هذه المرحلة، وتزايدت مكاسبها ودعمها المالي للمؤسسات والهيئات الدينية؛ فضلاً عن محاباة تلك الأحزاب، بإصدار قانون، يقيِّد عمليات تشريح الجثث، ويمعن في إعفاء فتيات الأرثوذكس من التجنيد.

عيّن بيجن أربعة وزراء من كتلة “داش” في الحكومة الجديدة؛ بعد أن وَفَّق بين مطالبتها بتعديل نظام الانتخابات، لتصبح في دوائر فردية، وبين رفض حزب “المفدال” لذلك التعديل. فقد أعطى الأحزاب الدينية الحق في الاعتراض على أيّ تشريع، يعدل النظام الانتخابي، من دون أن يؤدي ذلك إلى إسقاط الحكومة. كما أعفى أعضاء كتلة “داش” من المسؤولية الجماعية للحكومة، عند التصويت على أيّ تشريع خاص بالنظام الانتخابي أو بالشؤون الدينية، وكذلك مستقبل الضفة الغربية.

عصف بهذه الحكومة كثير من الأزمات، ولا سيما تلك الناجمة عن موقف حزب “المفدال” حيال التسوية السلمية مع العرب، وخاصة بعد زيارة الرئيس المصري، محمد أنور السادات، إلى القدس؛ إذ أصر الحزب على التمسك بأرض الميعاد بكاملها، وزيادة الاستيطان في هضبة الجولان والضفة الغربية وقطاع غزة. ومع تزايد حدة التظاهرات، احتجاجاً على فشل السياسة الاقتصادية، و استمرار مفاوضات الحكم الذاتي، اشتدت حدة الأزمات، وتناقص التأييد البرلماني للحكومة؛ ولم تّحُل التعديلات الحكومية، دون اضطرار بيجن إلى تقديم مشروع حل الكنيست، وتقديم موعد الانتخابات.

  1. الائتلافات الحكومية خلال الكنيست العاشر (1981 – 1984)

جرت انتخابات الكنيست العاشر، في 30 يونيه 1981 قبْل خمسة أشهر من موعدها. وبلغت نسبة المشاركة فيها 78.5%. وأسهمت الانشقاقات الحزبية في تكاثر الكتل الانتخابية، التي بلغت 39 كتلة، إلا أنه لم يحقق منها سوى 10 كتل الحدّ الأدنى من الأصوات، أيْ 25.64%. وكادت تتساوى فيها المقاعد، التي فاز بها حزبا “المعراخ” و”الليكود”؛ ما تأذَّن بمرحلة الثنائية الحزبية.

أمّا الأحزاب الدينية، فقد ضعفت قوّتها، وانخفض عدد مقاعدها في الكنيست؛ ولا سيما منها حزب “المفدال”، الذي أثار فيه السلام مع العرب الصراعات الداخلية؛ فضلاً عن انشقاق اليهود الشرقيين. بيد أن قدرته على مساومة حزب “الليكود” لم تتأثر كثيراً؛ بل عززها تقارُب قوَّتَي، هذا الأخير و”المعراخ”.

أ. الائتلاف الحكومي التاسع عشر (5 أغسطس 1981)

ضمت حكومة “مناحم بيجن”، إلى جانب “الليكود” جميع الأحزاب الدينية، التي قَبِل شروطها، فالتزم بتمرير تعديل قانون العودة في الكنيست، واحترام شعائر يوم السبت في مؤسسات الدولة كافة، والسعي إلى إعفاء مزيد من الفتيات المتدينات من الخدمة العسكرية، وإسناد وزارتي الأديان والداخلية إلى حزب “المفدال”، ووزارة الشؤون الاجتماعية إلى حزب “تامي”. وحصلت هذه الحكومة، في 5 أغسطس 1981، على ثقة الكنيست. ولكن تزايد حدة الأزمات، التي واجهتها، حملت بيجن على الاستقالة.

ب. الائتلاف الحكومي العشرون (10 أكتوبر 1983)

تولى “إسحاق شامير” زعامة “الليكود”. وكُلف بتأليف الحكومة الجديدة، فألّفها من “الليكود” و”المفدال” و”تحيا” و”أغودات إسرائيل”، بعد أن رفض “المعراخ” الاشتراك في حكومة وحدة وطنية. تكفَّل شامير لحزب “أغودات إسرائيل” بتقييد إنتاج لحم الخنزير، وإغلاق حمام سباحة مختلط، في مدينة القدس، بالقرب من حي الأرثوذكس.

نَغَّص على شامير حكومته شركاء “الليكود” فيها؛ إذ سببوا أزمات، كان أشدها خطراً تلك التي أثارها حزب “تامي” برفضه الاستقطاعات المالية، التي طاولت وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وتهديده بالتصويت ضد الحكومة في اقتراع، على حجب الثقة، إذا لم تستجب الحكومة له مطالبته بوضع حدّ أدنى للأجور، وزيادة ضريبة الدخل، وإعفاء ذوي الدخول المنخفضة منها. ومع تزايد حدة الأزمات الاقتصادية، وتفاقم الخلافات الحكومية، واستقالة العديد من الوزراء، فقدت الحكومة قدْرتها على الاستمرار؛ فحلّ الكنيست نفسه، وقُدِّم موعد الانتخابات.

  1. الائتلافات الحكومية خلال الكنيست الحادي عشر (1984 – 1988)

جرت الانتخابات قبْل خمسة عشر شهراً من موعدها. وكانت نسبة المشاركة فيها 78.7%. وانخفض عدد الكتل التي خاضتها إلى 26 كتلة، منها 6 كتل تشارك فيها، للمرة الأولى. ولم يحقق الحدّ الأدنى من الأصوات سوى 15 كتلة، أيْ 57.69%. وقد خاضها حزب “المعراخ” وهو أكثر تماسكاً. أما “الليكود”، فكان يعاني انشقاق المعتدلين، بزعامة موشى ديان؛ وسيطرة المتطرفين عليه، بزعامة أرييل شارون؛ فضلاً عن تداعيات غزو لبنان وأثرها الشديد في حملته الانتخابية. وفقدت الأحزاب الدينية كثيراً من مؤيديها، فخسر “المفدال” مقعدَين في الكنيست، وفَقَدَ حزب “تامي” أكثر من ثلث قوّته .

أ. الائتلاف الحكومي الحادي والعشرون (13 سبتمبر 1984)

أكدت انتخابات الكنيست الحادي عشر استمرار الثنائية الحزبية؛ إذ تزعمه حزبان كبيران متساويا القوة فيه. وعجز كلٌّ منهما عن تأليف الحكومة؛ إذ رفض “المعراخ” تأليف حكومة يسارية، يشترك فيها الشيوعيون والعرب؛ ولم يتمكن “الليكود” من تكوين ائتلاف حكومي مع القوى: اليمينية والدينية. ولذلك، اضطرا إلى الاشتراك معاً في حكومة وحدة وطنية، تنصّفا فترة رئاستها، فتولاها شيمون بيريز في العامين الأولَين، وشامير في الفترة التالية.

أسهمت عوامل شتّى في نجاح حكومة وحدة وطنية وتنصّف فترة رئاستها، من أبرزها تردِّي الأوضاع الاقتصادية، وتفاقم انقسام المجتمع بين المتدينين والعلمانيين. وسرعان ما أدركت الأحزاب الدينية أنها لن تتمكن من ممارسة دورها في الحفاظ على القِيم والتقاليد الدينية، ولن تحصل على المخصصات والدعم المالي من الحكومة، ما لم تنضم إلى حكومة الاتحاد الوطني.

ب. الائتلاف الحكومي الثاني والعشرون (20 أكتوبر 1986)

واجه بيريز، خلال رئاسته حكومة الوحدة الوطنية، كثيراًَ من الأزمات، وخاصة العلاقة بمصر، ومشكلة طابا، والاستيطان في داخل المدن العربية. وخلال رئاسة شامير الحكومة، في أكتوبر 1986، طرأت عليها تعديلات محدودة، لم تشفع لها عند الأحزاب الدينية، التي استمرت في إثارة مسألة “من هو اليهودي؟”؛ على الرغم من غَدَق تدفق الاعتمادات المالية الحكومية لمؤسساتها ومدارسها، التي تمثّل  هدفاً رئيسياً من أهدافها.

  1. الائتلافات الحكومية خلال الكنيست الثاني عشر (1988-1992)

دفع الإسرائيليين استعار الانتفاضة الفلسطينية، في الأراضي المحتلة، إلى مزيد من التطرف، خلال انتخابات الكنيست الثاني عشر، في الأول من نوفمبر 1988. وهو ما انتهزه “الليكود”، إذ جعل قمع الانتفاضة، عسكرياً، أُسَّ برنامجه الانتخابي؛ ورفض فكرة المؤتمر الدولي ومفاوضة الدول العربية على غرار مفاوضات كامب ديفيد؛ بل رفض مفاوضة منظمة التحرير الفلسطينية؛ لا، بل أمعن في بناء المزيد من المستوطنات اليهودية. وحرص على أن يكون من بين مرشحيه وجوه شابة متطرفة، ومنهم “بنيامين نتنياهو، الذي كان يشغل منصب مندوب إسرائيل لدى الأمم المتحدة. أمّا برنامج حزب “العمل”، فقد ارتكز على لاءات ثلاث: لا للدولة الفلسطينية، لا للتفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية، لا للعودة إلى حدود عام 1967 ووجود جيش أجنبي غرب نهر الأردن. وأسقط من مرشحيه مَنْ وصفوا بالحمائم، ومنهم “أبا إيبان”؛ واستمال العديد من الجنرالات، وأبقى على التحالف بينه وبين حزب “ياحاد”.

شهدت المرحلة السابقة على هذه الانتخابات العديد من الانشقاقات الحزبية، حيث ظهر حزبان يمينيان، هما: “تسوميت” و”موليدت”، وحزب ديني حريدي منشق عن “أغودات إسرائيل”، هو حزب “ديغل هتوراه”؛ وكذلك حزب عربي جديد، هو الحزب الديموقراطي العربي؛ وانشقت كتلة تضم قبائل إسرائيل؛ كما انشقت كتلة “ميماد” عن “المفدال”؛ بينما انضم “تامي” إلى “الليكود”، وعادت كتلة “متساد” إلى “المفدال”.

أُجريت الانتخابات في الأول من نوفمبر 1988. وكانت نسبة المشاركة فيها 79.7%. وأكدت نتائجها تعاظم دور الأحزاب الدينية، مرة أخرى؛ إذ حصلت على ما يقرب من 16% من الأصوات، وأصبح لها 18 مقعداً في الكنيست؛ فأضحت مؤثرة في ميزان القوى لحزبَي “العمل” و”الليكود”، اللذَين ابتزتهما بعدم التزامها بمواقف واضحة وثابتة، مستهدفة الحصول على أكبر قدر من المكاسب، بالتحالف مع أيٍّ منهما.

أ. الائتلاف الحكومي الثالث والعشرون (22 ديسمبر 1988)

كُلف شامير بتأليف الحكومة، فحقق ائتلافاً من أحزاب “المابام” و”راتس” و”شينوي” و”ديغل هتوراه”؛ حاز 51 مقعداً داخل الكنيست؛ إضافة إلى دعم “حداش” والكتلة التقدمية والحزب الديموقراطي العربي. أمّا “الليكود”، فتمكن من تحقيق ائتلاف مكون من أحزاب “موليدت” و”تسوميت” و”تحيا” و”المفدال”؛ وبذلك ضمن 52 مقعداً في الكنيست. وبعد مساومات عديدة، أمكن حزب العمل ضم حزبَي “أغودات إسرائيل” اللذَين يحتلان خمسة مقاعد؛ وذلك لقاء التخلي عن فكرة المؤتمر الدولي للسلام. ومع هذه التطورات، بدأ تنافس حزب “العمل” وحزب “الليكود” في ضم حزب “شاس”، الذي لم تُعْرِه عروض أولهما، و فضل الانضمام إلى الثاني؛ وبذلك لم تؤثر كلّ التنازلات، التي قدمت إلى الأحزاب الدينية.

لم يتمكن شامير، خلال المهلة القانونية، من تشكيل الحكومة. وتزايد ابتزاز الأحزاب الدينية، التي طالبت بمشاركة أوسع في عملية صنع القرار السياسي؛ وإصدار عدة قوانين دينية، ومنها تحديد “من هو اليهودي؟”؛ وإلغاء تجنيد الفتيات؛ وإغلاق الملاهي والنوادي الليلية؛ وتعزيز التعليم التوراتي؛ وزيادة المخصصات والدعم المالي للمؤسسات الدينية.

بعد منح شامير مهلة قانونية ثانية، انتهت مشاوراته إلى تأليف حكومة وحدة وطنية، من تآلف “الليكود” و”العمل”، وخاصة بعد أن مارست الأحزاب الدينية كلّ أشكال المساومة والابتزاز، وعدم ثبات موقفها؛ فضلاً عن تزايد حدة الضغوط الخارجية، وخاصة من جانب يهود الولايات المتحدة الأمريكي، التي رغبت في حكومة وحدة وطنية، تحقق الاستقرار السياسي الداخلي، وتواجه  الانتفاضة الفلسطينية. أثارت سياسة الأحزاب الدينية المجتمع الإسرائيلي؛ ما أدى إلى خروج العديد من التظاهرات المطالبة بإصلاح النظام الانتخابي؛ للحدّ من نفوذ تلك الأحزاب وتدخُّلها في الشؤون السياسية، واتباعها أساليب الضغوط والابتزاز.

بدأت حكومة الوحدة الوطنية تنهار، وخاصة بعد استقالة وزراء العمل، بسبب الخلاف في خطة بيكر للسلام. وانتهى الأمر إلى حجب الثقة عن حكومة شامير؛ فتحولت إلى حكومة انتقالية مؤقتة، يؤيدها 55 عضواً في الكنيست، هم أعضاء أحزاب “الليكود” و”المفدال” و”تحيا” و”موليدت” و”ديغل هتوراه” و”تسوميت”، والحزب الليبرالي؛ إضافة إلى عضو منشق على “شاس”.

ب. الائتلاف الحكومي الرابع والعشرون (11 يونيه 1990)

كُلف بيريز بتشكيل ائتلاف حكومي جديد. ومن ثَم، بدأت الأحزاب الدينية ممارسة دورها في المساومة والابتزاز، فشهدت الفترة من 15 مارس 1990 وحتى  إعلان بيريز فشله في تكوين الائتلاف الحكومي، في 4 أبريل 1990، كلّ أشكال الابتزاز وأساليب المساومة. وعلى الرغم من موافقة بيريز على معظم ما طالبت به الأحزاب الدينية، إلا أنه لم يتمكن من تأليف الحكومة.

بدأ شامير بتأليف الحكومة، فور تكليفه بذلك. ودخل في مشاورات مكثفة مع الأحزاب: اليمينية والدينية؛ وقدم خلالها الدعم المالي، الذي طالبت به الأحزاب الدينية؛ وبذلك تمكن من تكوين ائتلاف محدود، يضم سبعة أحزاب وكتل يمينية ودينية، بعد مشاورات استمرت نحو 40 يوماً. وضم الائتلاف الحكومي كلاً من حزب “الليكود” و”شاس” و”المفدال” و”ديغل هتوراه” و”تحيا” و”موليدت” و”تسوميت”؛ وحصل على تأييد 62 صوتاً في الكنيست، أيْ 50.8%.

  1. الائتلافات الحكومية خلال الكنيست الثالث عشر (1992-1995)

جرت انتخابات الكنيست الثالث عشر، في 23 يونيه 1992، بعد أن عملت الولايات المتحدة الأمريكية على حضور حكومة شامير مؤتمر مدريد للسلام. وعلى الرغم من أن “الليكود” قد حافظ على بقائه في الحكم، خلال الفترة من 1977 إلى 1992، من خلال استمرار تأييد الأحزاب الدينية والطوائف الشرقية؛ إضافة إلى موقفه المعلن من عدم التخلي عن الأراضي المحتلة عام 1967؛ إلا أن شعبيته بدأت تتأثر، بسبب انتخاب إسحاق رابين رئيساً لحزب “العمل”، والذي كان يحظى بقبول من بعض ناخبي “الليكود”؛ وكذلك تورط الأخير في فضائح فساد، وخاصة في وزارة الإسكان.

كان وصول رابين إلى رئاسة حزب “العمل” من عوامل تزايد التأييد لهذا الحزب؛ إذ أجرى تغييرات جوهرية في كتلة مرشحي الحزب، تضمنت مرشحين جدداً؛ وأعدَّ برنامجه الانتخابي إعداداً واضحاً، فحذف منه كلّ العبارات المثيرة للجدل، التي كان ظاهرها المرونة، وباطنها التشدد والتطرف. بينما دخلت الأحزاب الدينية هذه الانتخابات، بعد أن توحدت الأحزاب الحريدية، تحت كتلة “يهودت هتورا”، ومن ثَم، خاضتها ثلاثة أحزاب دينية، هي: “المفدال” و”شاس” و”يهودت هتورا”.

كانت نسبة المشاركة في الانتخابات 76.7%. وخاضها 25 كتلة، حقق منها 10 كتل الحد الأدنى من الأصوات. ومثلت نتائجها نقطة تحوُّل في السياسة الداخلية لإسرائيل؛ إذ عاد حزب “العمل” إلى مركز الصدارة الحزبية، بعد أن سيطر عليها حزب “الليكود” مدة 15 عاماً متتالية؛ بل فاق نده باثني عشر 12 مقعداً. ويرجع ذلك إلى خسارة حزب “الليكود” 8 مقاعد؛ واتجاه معظم الأصوات، التي فقدها، إلى حزب “شاس”؛ وتراجع موقف الأحزاب الدينية.

أ. الائتلاف الحكومي الخامس والعشرون (13 يوليه 1992)

تمكن رابين من تكوين حكومة ائتلافية، من أحزاب “العمل” و”ميرتس” و”شاس”، وبدعم من “حداش” والحزب الديموقراطي العربي. وعلى الرغم منه لم يعتمد على الأحزاب الدينية كلّها في الائتلاف، إلا أن قدرتها على المساومة لم تتأثر، وخاصة أنه كان في حاجة إلى دعم هذه الأحزاب، لإرضاء المتدينين داخل إسرائيل، والحدّ من نفوذ الأحزاب اليسارية المؤتلفة معه.

كانت الأحزاب الدينية، قبل الانتخابات، مؤيدة لحزب “الليكود”؛ إلا أنها بعد إعلان النتائج، وفوز حزب “العمل”، لم تستبعد أن تحالفه؛ للحفاظ على مصالحها ومكاسبها، وخاصة الحريدية منها، والتي تعتمد مدارسها على المخصصات المالية الحكومية. ولذلك، استمرت عمليات المساومة والابتزاز الحزبي، فحصل حزب “شاس” على مكاسب، فاقت ما حصل عليه من “الليكود”. وعلى الرغم من تزايد حدة الخلافات بين الائتلاف الحكومي، وسعي الأحزاب الدينية للحصول على المكاسب، تمكن رابين من المحافظة على ائتلاف الحكومة، حتى اغتياله، في 4 نوفمبر 1995.

ب. الائتلاف الحكومي السادس والعشرون (22 نوفمبر 1995)

كُلف “شيمون بيريز” بتأليف حكومة انتقالية، اشترك فيها حزب “العمل” و”ميرتس” وحركة “يعود” اليمينة، المنشقة عن “تسوميت”. ونالت ثقة الكنيست في 22 نوفمبر 1995.

  1. تقييم المشاركة الحزبية في الائتلافات الحكومية، خلال المرحلة الثالثة (1977 – 1995)

تُعَدّ هذه المرحلة بداية لصعود اليمين إلى الحكم، وخاصة مع الكنيست السابع. فقد سعى “الليكود” إلى محالفة الأحزاب الدينية، التي أنست إلى قدرته على تحقيق مطالبها الدينية. واستمرت هذه التحالفات، وخاصة بين “الليكود” و”المفدال”، حتى انتخابات عام 1992 وما بعدها.

وضح أسلوب المساومات والابتزاز، الذي اتبعته الأحزاب الدينية مع كلٍّ من “الليكود” و”العمل”؛ فبدأت تتزايد الاحتجاجات داخل المجتمع الإسرائيلي، مطالبة بتغيير نظام الانتخابات؛ للحدّ من ابتزازها السياسي.

حرصت الأحزاب الدينية على الانضمام إلى حكومات الوحدة الوطنية؛ إذ رأت فيها تراجعاً لقدراتها على المساومة، وتلاشياً لدورها. إلا أنه كان هناك إصرار من الحزبَين الكبيرَين على ضرورة تمثيل الأحزاب الدينية؛ لإرضاء المتدينين، وإضفاء الشرعية على قِيم الدولة ومؤسساتها، ومواجهة الأحزاب العلمانية الصغيرة.

ثانياً: المرحلة الرابعة (1996 – 2001)

  1. الائتلاف الحكومي السابع والعشرون، خلال الكنيست الرابع عشر (18 يونيه 1996)

تمثل انتخابات الكنيست الرابع عشر، التي جرت في 29 مايو 1996، تحولاً جديداً في النظام السياسي لإسرائيل؛ فقد انتخب خلالها رئيس الوزراء انتخاباً مباشراً؛ ولذلك، كثفت الأحزاب السياسية حملاتها الانتخابية. كما أدى اغتيال رابين إلى توحيد صفوف الحزب حول بيريز؛ إضافة إلى عودة باراك إليه مرة أخرى. وحدد بيريز برنامجه الانتخابي، من خلال إبراز إنجازاته في عملية السلام، وعلاقاته بدول المغرب ودول الخليج العربي. كما أكد أن الأحزاب الدينية، ستكون شريكة في الائتلاف الحكومي؛ وأنه مصمم على بناء مستوطنات جديدة. ومن خلال هذه التصريحات، إضافة إلى عملية عناقيد الغضب، في جنوبي لبنان، تراجع تأييد عرب إسرائيل له، على الرغم من زيارته المدن والقرى العربية، واعداً سكانها بتنفيذ مطالبهم. كما أن بيريز حصل على دعم الولايات المتحدة الأمريكية وتأييدها؛ ما انعكس على تماسك الحزب الداخلي. وركزت حملة  “العمل” الانتخابية في السلام والأمن والمساواة والرفاهية.

أمّا حزب “الليكود”، فقد التف أعضاؤه حول زعيمه، نتانياهو، الذي ركز دعايته في الهواجس الأمنية، وبدأ يوجه الاتهامات لحزب “العمل” وبيريز، بالتفريط في أرض إسرائيل وأمنها. وحرص على احتواء الناخبين المتدينين، من خلال وعوده لهم، والتي عززت تشددهم إزاء المشكلة الفلسطينية، فرأوا أن حزب “العمل” قدم التنازلات الكثيرة للعرب؛ ولذلك أيدوا نتانياهو. ولم يخرج عن هذا التوجه سوى حزب “أغودات إسرائيل”، الذي أعلن تأييده حزب “العمل” بصفة عامة، وبيريز بصفة خاصة.

كانت نسبة المشاركة في الانتخابات 76.7%. وشارك فيها 25 كتلة، وحقق 11 منها الحدّ الأدنى من الأصوات؛ ولم يتجاوز الفارق بين نتانياهو وبيريز 0.9%. إلا أن نتائج الانتخابات، أسفرت عن تراجع كلا الحزبَين الكبيرَين: “العمل” و”الليكود”؛ وتعاظم قوة الأحزاب الدينية، وتفاقم العامل العرقي، وبروز اليمين القومي المتشدد. كما تمكن حزب المهاجرين السوفيت، “إسرائيل بعاليا”، من الحصول على 7 مقاعد، في أول انتخابات يخوضها. كذلك، تصاعدت قوة الأحزاب والكتل العربية والشيوعية بعدد 4 مقاعد.

بعد أن حقق نتانياهو فوزه المحدود في الانتخابات، شرع يبعد قادة حزبه عن مشاورات تشكيل الحكومة؛ كما أضعف نفوذ الأحزاب الصغيرة، وحَدّ من ابتزازها، فشهدت المشاورات صراعات وخلافات بين زعماء “الليكود” وقادته. وسعت الأحزاب الدينية إلى تحقيق مصالحها، التي لم تتغير أبداً، خلال الانتخابات السابقة؛ وعارضت، على صعيد السياسة الخارجية، نشوء دولة فلسطينية، وأيْ سيادة خارجية على غرب نهر الأردن، فضلاً عن معارضتها بشدة عودة اللاجئين، والتراجع عن الجولان، إضافة إلى مطالبتها بإلغاء قرار تجميد المستوطنات؛ وهي السياسة نفسها، التي كان يعلنها حزب “الليكود”.

تمكن نتانياهو من تكوين حكومته، بعد مشاورته الأحزاب الدينية، وحزبَي “إسرائيل بعاليا” و”الطريق الثالث”، اللذَين استجاب لهما بعض مطالبهما، وتجاهل بعضها الآخر. وقدم نتانياهو حكومته إلى الكنيست، في 18 يونيه 1996، وحاز ثقته. وسرعان ما انتابت الحكومة الخلافات في الأزمات: الداخلية والخارجية، وتعددت التهديدات بالتخلي عنها، وخاصة أنها ضمت وزراء ومسؤولين متهمين بالفساد والرشوة؛ إضافة إلى انفراد رئيسها باتخاذ القرارات.

اشتدت الخلافات حدة، بين رئيس الحكومة ووزير خارجيته، ديفد ليفي، واستقال ثلاثة وزراء من الحكومة قبل مرور عام عليها؛ إلا أن أشد الأزمات خطراً تمثلت في استجواب الشرطة، في 18 فبراير 1997، لنتانياهو، المتهم بالاحتيال وإساءة الثقة. تعالت بعدها الأصوات المطالبة باستقالته، كما طالبت المعارضة بمحاكمته، غير أن النيابة العامة رفضت اتهامه؛ لافتقاد الأدلة. عند اشتداد الخلافات بين رئيس الوزراء وأعضاء الائتلاف، بدأت تزداد المطالبة إما بإجراء انتخابات مبكرة أو تأليف حكومة وحدة وطنية؛ ولكن نتانياهو اكتفى بتعديل وزاري، قدمه، في 9 يوليه 1997، إلى الكنيست.

وما لبث نتانياهو، أن واجه مشكلة تعيين القضاة المتدينين “الحريديم”، والتي دفعت حزب “المفدال” إلى التهديد بالاستقالة. وما إن انتهت هذه الأزمة، حتى تصاعدت أزمة الاستيطان في منطقة رأس العمود، في القدس الشرقية، والتي اعترض عليها رئيس الحكومة. وفي 10 أغسطس 1997، تصاعدت حدة الخلاف بين الأحزاب الدينية ونتانياهو. واستمرت هذه التوترات حتى 4 يناير 1999، وصوت الكنيست الإسرائيلي، بأغلبية 85 صوتاً، مقابل 27 صوتاً، وامتناع صوت واحد، على إسقاط الحكومة؛ وحل نفسه، وأُجريت انتخابات جديدة، في مايو 1999، بدلاً من أكتوبر 2000.

  1. الائتلافات الحكومية خلال الكنيست الخامس عشر (17 مايو 1999)

جاءت انتخابات الكنيست الخامس عشر، لتكشف عن أبعاد جديدة لتطور النظام السياسي. فقد أكدت فشل تجربة المزج بين سمات النظامَين: البرلماني والرئاسي، والتي تقرر التراجع عنها، بدءاً من انتخابات الكنيست السادس عشر. كما كشفت عن العديد من جوانب التفاعل في المجتمع الإسرائيلي، الذي أصبح يخضع لحالة من التفتت والانقسام: العرقي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي. كذلك أكدت تلك الانتخابات تراجع الأحزاب الكبيرة، وانتهاء مرحلة الثنائية الحزبية؛ إذ لم تقتصر الساحة الحزبية على “الليكود” و”العمل”، وإنما برزت أحزاب قديمة، فرضت نفسها على الساحة السياسية الإسرائيلية.

مثلت عملية التسوية السلمية المحور الأساسي لحالة الانقسام في المجتمع الإسرائيلي؛ فهناك اتجاه يؤيد فكرة أرض إسرائيل، وآخر يؤيد فكرة الحل الوسط الإقليمي، أو الأرض مقابل السلام؛ واتجاه بين هذَين الفريقَين، يُطلق عليه “الأصوات العائمة”، التي تقدر بنحو 12%. بيد أن عملية التسوية، لم تمثل قمة اهتمامات الأحزاب؛ بل طغت عليها القضايا الداخلية: الاقتصادية والاجتماعية؛ وإذا كانت الحكومة السابقة، قد سقطت بسبب عملية التسوية، فإن المعركة الانتخابية، دارت حول قضايا: اقتصادية واجتماعية.

أكدت هذه الانتخابات ظاهرة انشقاق أحزاب صغيرة أو أعضاء مؤثرين، من أحزاب كبيرة. كذلك ظهرت أحزاب جديدة، مع انتعاش ظاهرة الائتلافات بين العديد من الحركات والأحزاب؛ إلا أن التغيرات المؤثرة، كانت من نصيب اليمين الإسرائيلي، إذ تفكك الائتلاف، الذي خاض الانتخابات السابقة، والذي كان يضم “الليكود” و”جيشر” و”تسوميت”. أمّا حزب “العمل”، الذي كان يعاني أزمة قيادة، باغتيال رابين، فقد بدا متماسكاً، بزعامة إيهود باراك؛ بل تمكن من استمالة حزب “جيشر”، بزعامة ديفد ليفي، الذي كان مؤتلفاً مع “الليكود”، في الانتخابات السابقة.

جرت انتخابات الكنيست الخامس عشر في ظل بيئة إقليمية، يسودها التوتر، الناجم عن تراجع فكرة شرق أوسط جديد؛ كما تقلصت مظاهر التطبيع، وتوترت غير مرة علاقات مصر والأردن بإسرائيل.

أحبط نتانياهو الجهود الأمريكية، الرامية إلى إقناعه بتنفيذ استحقاقات المرحلة الثانية من اتفاق أوسلو، بل أمعن في مراوغاته وتهربه من تنفيذ اتفاق “واي ريفر”؛ ولذلك، سعت الإدارة الأمريكية إلى إبعاده عن السلطة. كما شهدت العلاقات الإسرائيلية بدول الاتحاد الأوروبي العديد من الأزمات.

نفذت هذه الانتخابات، وللمرة الثانية، وفق قانون الانتخاب المباشر لرئيس الوزراء؛ فاستحوذ الصراع على هذا المنصب كلّ الاهتمام في المعركة الانتخابية، وتراجع الاهتمام بالانتخابات البرلمانية. وترشح لمنصب رئيس الوزراء ستة أشخاص. وكانت نسبة المشاركة في انتخاب رئيس الوزراء 70.2%؛ أمّا انتخابات الكنيست، فكانت بنسبة 76.7%. وحاز إيهود باراك، مرشح كتلة “إسرائيل واحدة”، 56.08% من الأصوات؛ بينما حصل نتانياهو، مرشح تكتل “الليكود”، على 43.92%؛ ويعد ذلك فارقاً كبيراً، بالنسبة الانتخابات السابقة.

في انتخابات الكنيست، كان حزب “العمل” هو الخاسر الأكبر؛ إذ انخفض عدد مقاعد الائتلاف، الذي يجمعه مع “جيشر” و”ميحا”، إلى 26 مقعداً، كان نصيب حزب “العمل” منها 23 مقعداً، أيْ أنه فقد 11 مقعداً؛ بينما لم يفقد حزب “الليكود” سوى 13 مقعداً. وارتفعت حصة الأحزاب الدينية الثلاثة الكبرى، إذ حصلت على أربعة مقاعد إضافية. إلا أن حزب “شاس”، الذي يمثل اليهود المغاربة المتدينين، قد حقق تحولاً كبيراً، بمفرده، فقد ازداد عدد مقاعده سبعة مقاعد.

أ. الائتلاف الحكومي الثامن والعشرون (17 مايو 1999)

كُلف باراك بتأليف الحكومة، في 17 مايو، فعمد إلى مفاوضات مكثفة، وطويلة، مع الأحزاب الإسرائيلية كافة، على الرغم من أن نتائج الانتخابات، قد خولته تأليفها من معسكرَي اليسار والوسط، وفضل استغراق فترة الخمسة والأربعين يوماً، لتأليف حكومة إجماع وطني. ولذلك، شرع في مفاوضات طويلة، واجهته خلالها شروط بعض الأحزاب، التي تراوحت بين تعديلات الخطوط العامة، التي وضعها لحكومته، تجاه عملية التسوية، وأخرى تجاه القضايا الداخلية. وعلى الرغم من ذلك، فقد استمر في مفاوضة جميع الأحزاب، عدا تلك العربية.

كشفت المفاوضات، بين باراك وممثلي كتلة “إسرائيل واحدة”، من جهة، و الأحزاب المختلفة، من جهة ثانية، أن الرئيس المكلَّف قد جعل من الخطوط العامة لحكومته تجاه عملية التسوية السلمية، ثوابت، لا يمكن المساس بها ولا التفاوض فيها؛ إلا أنه أدخل بعض التعديلات عليها، مقابل إبداء مرونة واضحة تجاه ضغوط حكومته في صدد القضايا الداخلية. كما وضح أن تعمد الإطالة في أمد مفاوضته الأحزاب والكتل، ما هو إلا ضغط عليها، وإيحاء بإمكانية الاتفاق مع سواها.

حرص باراك على إزالة مصدر شكاوى اليهود الروس، الناجمة عن السياسات التمييزية، التي كانت تتبعها وزارة الداخلية، التي تولاها حزب “شاس”، في ظل الحكومة السابقة. ولذلك، لم يعهد بمنصب وزير الداخلية إلى أيّ حزب ديني، وإنما أسنده إلى حزب “إسرائيل بعاليا”، فأرضى حزبَي “ميرتس” و”شينوي”. وسعى إلى استرضاء الأحزاب الدينية ببعض التعديلات للخطوط العامة لحكومته، تجاه الأوضاع الداخلية؛ تمثلت في موازنات المعاهد الدينية، وفرض الخدمة العسكرية على طلابها.

أقر باراك تعديلات خطوط حكومته العامة، تجاوباً مع مطالب حزب “المفدال” وحزب “يهودت هتورا”؛ تمهيداً لإبرام اتفاق مع “شاس”، فتخلى عن تمسكه بفرض الخدمة العسكرية على طلاب المعاهد الدينية، واختص الراغبين فيها منهم بلجنة خاصة، أيْ أن عملية تجنيدهم ستكون اختيارية.

أثار أسلوب باراك في التعامل مع رموز حزب “العمل” وقراراته في شأن توزيع الحقائب الوزارية، استياءً شديداً في صفوف الحزب؛ إذ أقصي معتدلين عن الوزارات الرئيسية، ولم يسند مناصب وزارية إلى رموزه الأساسية. وقدم باراك حكومته، في 6 يوليه 1999، إلى الكنيست، وحصل على ثقته؛ إلا أنه طلب منه، في 5 أغسطس، زيادة وزرائها إلى 23 وزيراً؛ ومن ثَم، تمكن باراك من توزيع حقائب وزارية، سبق أن وعد بها، أثناء مفاوضته الأحزاب المشاركة في الائتلاف.

كشفت هذه الانتخابات، وبوضوح، عن حقيقة الانقسام داخل المجتمع الإسرائيلي حول الموقف من عملية التسوية السلمية مع العرب؛ بل حول الفكرة نفسها. وكشفت، كذلك، عن إجماع على مكونات السلام، من وجهة النظر الإسرائيلية، التي تتمثل في ثوابت الموقف الصهيوني. كما أنها كشفت عن أزمة، تواجه الأحزاب الرئيسية، لا سيما حزبَي “العمل” و”الليكود”، اللذَين تراجعا كثيراً، وتمثلت في تأكُّل كثير من ملامح الأحزاب وبرامجها الانتخابية.

ب. الائتلاف الحكومي التاسع والعشرون (7 مارس 2001)

نجح باراك في تأليف حكومة، تضم ممثلين عن القوى كافة: السياسية والاجتماعية، ومن علمانيين، ورجال دين، و”إشكيناز”، و”سفارديم”، ومهاجرين روس؛ إضافة إلى معسكر السلام؛ ما وفر التفاف الشعب الإسرائيلي حولها. ولكنها فقدت أغلبيتها، بعد عشرين شهراً، فاضطر باراك إلى الاستقالة.

أُجريت الانتخابات الإسرائيلية، بأسلوب، يُعَدّ الأول في نوعه، في تاريخ إسرائيل؛ وقد يكون الأخير؛ إذ استهدفت اختيار رئيس للحكومة، من دون أن ترافقها انتخابات برلمانية. فقد كان أمام باراك إما الاقتراع على حل الكنيست وإجراء انتخابات مبكرة أو الاستقالة، ليُنتخب رئيس الوزراء فقط، في ظل قانون الانتخابات. اختار باراك الحل الثاني، حتى يواجه احتمالات ترشيح “الليكود” نتانياهو لهذه الانتخابات، والذي كانت استطلاعات الرأي، قبل الانتخابات، تؤكد تفوقه بفارق كبير، على باراك.

خسر باراك بفارق 25% من الأصوات، في مصلحة شارون، الذي كان يُعَدّ غير ذي شعبية. وفقد نحو 46% من عدد الأصوات، التي كان قد حصل عليها، عام 1999، والبالغة مليوناً و790 ألف صوْت، فحصل، عام 2001، على 967760 صوتاً. وقد دفعه ذلك إلى الاستقالة من رئاسة حزب “العمل”، واعتزال الحياة السياسية، وخاصة بعد أن أصبح واضحاً، أن معظم الناخبين قد أيدوا شارون، ليس رغبة فيه، ولكن بهدف إسقاط باراك.

لم يكن فوز شارون في الانتخابات مفاجأة، بل كان تأكيداً لواقع الحياة السياسية في إسرائيل، حيث بدأ ينهار الائتلاف، الذي شكله باراك؛ الأمر الذي انعكس على قدرته التنافسية، وفقد الكثير من قاعدة ناخبيه، ومنهم عرب إسرائيل، الذين استجابوا لدعوة المقاطعة؛ وقدِّرت نسبة من أدلوا بأصواتهم بنحو 13%.

كان لاندلاع انتفاضة الأقصى دور كبير في تغيير توازن القوى، في الشارع السياسي الإسرائيلي، حيث بدأت تتضح معالم المد اليميني، بينما فشل اليسار الصهيوني في مواجهة هيمنة التوجهات اليمينية على المجتمع الإسرائيلي؛ على الرغم من وجوده في السلطة. إلا أن اليمين، على خسارته الجزئية، كان قادراً على حشد قواه الحزبية، وتنظيم قواعده الانتخابية، في مقابل التعنت، الذي لحق بالقاعدة: الاجتماعية والسياسية، لحزب “العمل”. فالسياسات، التي انتهجها باراك، أدت إلى تفتيت قواعد تأييده، وانهيار تحالفه السياسي. فقد أدى الاختلاف في حدود التسوية المقترحة مع الفلسطينيين، إلى خسارته تأييد حزبَي إسرائيل “بعاليا” و”جيشر”؛ ما أثر، سلباً، في قدرة ائتلاف “إسرائيل واحدة”؛ وبذلك، تفتت قاعدة باراك الانتخابية.

في 7 مارس 2001، أعلن شارون حكومته، التي ضمت 26 وزيراً و13 نائب وزير؛ وشملت 6 أحزاب، خصصت 9 حقائب وزارية لحزب “الليكود”، و8 حقائب لحزب “العمل”، و5 حقائب لحزب “شاس”، وحقيبة واحدة لكلٍّ من حزبَي “إسرائيل بعاليا” و”شعب واحد”، وحقيبتان لحزب “الاتحاد القومي”. وحصل هذا الائتلاف على دعم 76 صوتاً في الكنيست. وسيظل هذا الوضع قائما، ما دام قادراً على فرض سيطرته، وتحقيق التوازن بين مجلس الوزراء المصغر وقادة الجيش؛ وهما الجهتان اللتان يعتمد عليهما في تنفيذ سياسته في مواجهة الانتفاضة الفلسطينية.

 

النشاط الحزبي وانعكاسه على النشاط السياسي (2002 – 2006)

أولاً: الائتلاف الحكومي الثلاثون خلال الكنيست السادس عشر (2003 – 2006)

لم يكن قرار رئيس الوزراء الإسرائيلي “أرييل شارون”، في نوفمبر 2002، بحل الكنيست والدعوة لانتخابات عامة مبكرة، صدي للأزمة المتفاقمة في المجتمع الإسرائيلي على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، بقدر ما كان محصلة لأزمة أشد عمقاً في الأحزاب الإسرائيلية، وخاصة تلك التي تنتمي لمعسكر اليسار. وكانت استطلاعات الرأي العام في إسرائيل تظهر حقيقة أن معظم الرأي العام غير متحمس للذهاب لانتخابات جديدة، إلى جانب رضائه عن الأداء العام لحكومة “أرييل شارون”، الأمر الذي جعل الصحف الإسرائيلية توجه اتهاماً صريحاً لحزب العمل بأنه لن يسعى لانتخابات جديدة، إلا من أجل مصالح ضيقة تتعلق برغبة المتنافسين داخله. وقد استغل “أرييل شارون” الفرصة جيداً، وبدلاً من تشكيل حكومة يمينية ضيقة، كان بوسعه أن يستكمل بها الفترة الباقية حتى حلول موعد الانتخابات في نوفمبر عام 2003، قرر الدعوة إلى انتخابات مبكرة، محملاً حزب العمل، خاصة، واليسار، عامة، مسؤولية انهيار الحكومة.

تقرر إجراء الانتخابات في 28 يناير 2003، بنظام “الورقة الواحدة”، وإلغاء نظام الورقتين الذي طُبق في انتخابات الأعوام 1996، 1999، 2001، بحيث يجري التصويت على قوائم حزبية يحصل بمقتضاها الحزب، الذي يحظى بأكبر عدد من المقاعد في الكنيست، على الحق في تشكيل الحكومة. وكانت التساؤلات حول مزايا وعيوب كل من النظامين وتأثيرهما على الأحزاب وعلى الكنيست، قد ارتفعت خلال العام 2002. فقد أظهر نظام الورقتين أن فصل التصويت على منصب رئاسة الوزراء عن التصويت على قوائم الكنيست قد أدى إلى عكس المتوقع منه، حيث ازدادت قوة الأحزاب الصغيرة، بدلاً من أن تتدني كما كان متوقعاً، وبدلاً من تحرير من يحصل على الأغلبية كرئيس للوزراء للحد من نفوذ الأحزاب الصغيرة، ازدادت القيود التي كبلته. وتمثل ذلك في ارتفاع نسب تمثيل حزب “شاس” منذ عام 1996، الذي حصل على الأصوات التي كان يحصل عليها اليمين الإسرائيلي من القطاع الديني، والذي أعطي ثقته لرئيس وزراء يميني في انتخابات 1996 و2001، فيما صوت في الورقة الثانية للحزب الذي يعده بميزات أعلى اجتماعياً. وكان “شاس” أكبر المستفيدين من هذا التعديل.

  1. انتخابات الكنيست السادس عشر (28 يناير 2003)

جرت، في 28 يناير 2003، انتخابات الكنيست الإسرائيلي السادس عشر، وأسفرت عن مضاعفة تكتل الليكود، بقيادة “أرييل شارون”، لقاعدته البرلمانية، ومن ثم تشكيل الحكومة الجديدة؛ بينما شهدت الانتخابات تراجعاً غير مسبوق لحزب “العمل” إلى ما دون العشرين مقعداً. وقد أثارت نتائج هذه الانتخابات العديد من التساؤلات حول التحولات، التي جرت في توجهات الرأي العام الإسرائيلي وقادته إلى التصويت بكثافة لليمين، وما أفرزته التحولات التي شهدتها البيئتان الإقليمية والدولية من عوامل مساعدة لنجاح اليمين الإسرائيلي، وأخيراً حول تداعيات استمرار اليمين الإسرائيلي في السلطة على عملية التسوية السياسية للصراع العربي ـ الإسرائيلي، وعلى المسار الفلسطيني تحديداً.

أ. البيئة المحلية للانتخابات

أدى إعلان حزب “العمل” الخروج من حكومة “شارون”، إلى شيوع حالة من الاضطراب في الساحة السياسية الإسرائيلية. وبدت تحركات مجمل أطراف الساحة السياسية محكومة باعتبارات وحسابات شخصية، أكثر من كونها خلافات حول رؤى محددة، بشأن الأوضاع الاقتصادية أو سبل التعامل مع القضية الفلسطينية والتطورات الجارية على مسرح الشرق الأوسط.

بعد خروج حزب “العمل” من حكومة “شارون”، تقلصت المقاعد البرلمانية للحكومة إلى خمس وخمسين مقعداً من بين مائة وعشرين، هي إجمالي عدد مقاعد الكنيست. وكان أمام “شارون” خياران، الأول أن يواصل العمل بعد ترميم حكومته بأعضاء من أحزاب اليمين الإسرائيلي من خارج الائتلاف، والثاني المبادرة بالاستقالة وتقديم موعد الانتخابات القادمة لتجرى في غضون 90 يوماً، بدلاً من موعدها المحدد مسبقاً، وهو شهر أكتوبر 2003. وكان شارون يفضل الخيار الأول، الذي يجعله يستمر في موقعه كرئيس للوزراء لمدة عام قادم، حيث أدرك أن تقديم موعد الانتخابات، إضافة إلى أنه سيحرمه من رئاسة الحكومة لمدة عام، فإنه يهدده أيضاً بفقدان زعامة الليكود، بعد أن قرر زعيم الحزب السابق “بنيامين نتنياهو” العودة إلى الساحة السياسية مجدداً ومنافسته على زعامة الحزب، ومن ثم على الموقع الأول في قائمة الحزب الانتخابية للانتخابات القادمة التي ستكون برلمانية فقط، بعد إلغاء قانون الانتخابات المباشر لرئيس الوزراء.

عمل شارون جاهداً على ترميم حكومته عبر ضم حزب “إسرائيل بيتنا” بزعامة “أفيجدور ليبرمان”، وهو أحد حزبي اليهود الروس. وكان له في الكنيست سبعة مقاعد، ومن شأن انضمامه إلى حكومة شارون أن يرفع حصتها إلى اثنين وستين مقعداً؛ ولأن “شارون” يدرك العلاقة بين ليبرمان ونتنياهو، ورغبة في وضع الأخير تحت رئاسته، فقد عرض منصب وزير الخارجية عليه، إضافة إلى إسناد منصب وزير الدفاع إلى رئيس الأركان السابق “شاؤول موفاز”، الذي تقاعد من منصبه العسكري في الأول من يوليه 2002، ومن ثم فقد أمضي فترة الشهور الثلاثة التي ينص عليها القانون، قبل دخول الحياة السياسية.

وفي الوقت الذي قبل فيه موفاز على الفور منصب وزير الدفاع، طلب نتنياهو مهلة للتفكير، عاد بعدها ليعلن موافقته على تولي المنصب بشرط تعهد شارون علناً بإجراء انتخابات مبكرة، والالتزام بطرد الرئيس عرفات خارج الأراضي الفلسطينية، ورفض “خريطة الطريق الأمريكية”. وفي الوقت نفسه لم يكن متوقعاً أن يوافق ليبرمان على دخول الحكومة دون اتفاق مع نتنياهو؛ فالأول كان مدير مكتب الثاني عندما كان يشغل منصب رئيس الوزراء، كما أنه المسؤول عن تشكيل هذا الحزب، فقد أوعز لليبرمان بالانشقاق على حزب اليهود الروس الأول (إسرائيل بعاليا)، وتشكيل حزب جديد، ومن ثم فلم يكن متصوراً أن يشارك ليبرمان في حكومة شارون، خلافاً لرغبة نتنياهو.

ولذلك رفض ليبرمان تحديد موقفه من الانضمام إلى الحكومة، إلى أن أعلن نتنياهو رفضه قبول منصب وزير الخارجية، وعندها رفض ليبرمان الانضمام إلى حكومة شارون. وبدأ واضحاً أن نتنياهو فضل إفشال جهود شارون حتى يستغل تفوقه عليه، وفق تحليله لما جري في اجتماع اللجنة المركزية للحزب، والتي صوتت وفق ما أراد بشأن فكرة الدولية الفلسطينية المستقلة، ومن ثم ينتزع منه زعامة الحزب في الانتخابات الداخلية التي تقرر أن تُجرى على المنصب، ومن ثم العودة إلى رئاسة الحكومة من جديد على أساس أن اليمين يحظى ـ بصفة عامة ـ بنصيب أوفر من تأييد الرأي العام الإسرائيلي، وحسب استطلاعات الرأي.

لم يجد شارون مفراً، في ظل هذه التطورات من تقديم استقالته، وخوض انتخابات جديدة: أولاً على رئاسة حزب الليكود، وثانياً الانتخابات البرلمانية. وأسفرت الانتخابات الداخلية في الحزب، والتي جرت في التاسع والعشرين من نوفمبر 2002، عن فوز شارون بالمنصب وتوحد الحزب خلفه.

في المقابل بدأ حزب العمل الإسرائيلي فاقداً للتماسك الداخلي، وأنه يعيش أزمة حادة ممتدة. وأدى ذلك إلى سقوط “بن أليعازر” في الانتخابات أمام الجنرال “عمرام متسناع” رئيس بلدية حيفا، الذي فاز بزعامة الحزب في الانتخابات، التي جرت في التاسع عشر من نوفمبر 2002. وبسبب وضعه في مرتبة متأخرة في قائمة الحزب الانتخابية، أعلن “يوسي بيلين” خروجه عن حزب “العمل”، وانضم مع “ياعيل ديان”، التي لم تدخل قائمة الحزب الانتخابية، إلى كتلة ميرتس، واحتلا معاً الموقعين الحادي عشر والثاني عشر في قائمة الكتلة الانتخابية.

ومن جانبها قررت ثلاثة أحزاب يمينية الائتلاف معاً، وخوض الانتخابات بقائمة واحدة: وهي: أحزاب “إسرائيل بيتنا”، و”الاتحاد الوطني”، الذي يضم حركتي “موليديت” و”تكوما”.

ب. البيئة الإقليمية للانتخابات

جرت انتخابات الكنيست السادس عشر في إسرائيل في ظل بيئة إقليمية اتسمت بدرجة عالية من التوتر؛ فمن ناحية أدى استمرار العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني إلى توتر شديد في العلاقات المصرية ـ الإسرائيلية، كما أدى رفض إسرائيل المبادرة التي أطلقتها القمة العربية في بيروت، في مارس 2002، إلى زيادة حدة التوتر بين إسرائيل والدول العربية عامة. ومع ازدياد كثافة العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، وعلى أثر تصاعد الضغوط الشعبية على الحكومة المصرية، اتخذت مصر قراراها بتجميد جميع العلاقات مع إسرائيل، عدا الدبلوماسية التي تخدم القضية الفلسطينية. وقد طال ذلك جميع أوجه التعاون بين مصر وإسرائيل، بما فيها مجال الزراعة.

وكان واضحاً أن تصاعد العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني أوجد حالة من الضغط من قبل الرأي العام العربي، طالبت بضرورة قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل. وعاد الحديث عن إسرائيل بوصفها العدو الأول للعالم العربي.

وعلى الرغم من زيادة حدة التوتر بين مصر وإسرائيل، فإن جهوداً دبلوماسية لم تبذل لضبط التوتر المتصاعد. ويعود ذلك إلى عدم إتاحة حكومة شارون، التي ضمت إلى جانب زعيم حزب العمل “بنيامين بن أليعازر” و”شيمون بيريز”، الفرصة لأي طرف كي يقوم بجهود دبلوماسية. كما أن تجربة مصر المتراكمة في التعامل مع الحكومات الإسرائيلية بعد توقيع معاهد السلام، تقول إن القنوات الدبلوماسية بين البلدين، عادة، تنشط في ظل حكومات حزب “العمل”، وأن مجيء حكومات “الليكود” في إسرائيل، عادة، يصاحبها توتر عام في العلاقات، وتراجع في الاتصالات الدبلوماسية.

من جانب أخر، جرت الانتخابات في ظل حالة من الاستعداد لشن الحرب على العراق، وهي حالة وظفها شارون جيداً لمصلحة إعادة انتخابه. وعلى الرغم من حالة التوتر التي اتسمت بها علاقات إسرائيل وتفاعلاتها مع المحيط الإقليمي، فإن شارون تمكن من توظيف بعض التطورات، التي شهدتها المنطقة، للرأي العام الإسرائيلي بوصفها تعكس نجاحاً لسياساته.

ج. البيئة الدولية للانتخابات

تعني البيئة الدولية للانتخابات الإسرائيلية، العامل الأمريكي على وجه التحديد، وبعدها يأتي الموقف الدولي بصفة عامة، سواء تمثل في علاقات إسرائيل الدولية، أو العلاقة بالأمم المتحدة والمنظمات الدولية.

كان واضحاً أن شارون ركز في علاقاته الدولية على كسب ود وتأييد الولايات المتحدة الأمريكية فقط، ولذلك اتسم تعامله مع باقي القوى الدولية بقدر كبير من التعالي؛ فشارون تعامل مع ممثلي الاتحاد الأوروبي بدرجة كبيرة من الاستعلاء، وتجاهل المنظمة الدولية وتعامل معها باستخفاف شديد، ورفض تنفيذ قرار مجلس الأمن الخاص بتشكيل لجنة تقصي حقائق حول ما جرى في جنين. وعلى الرغم من الاستجابة لمعظم الشروط التي وضعها للجنة، عاد ورفض استقبال اللجنة.

كما كان شارون حاداً في الهجوم على اللجنة الرباعية، التي تضم إلى جانب واشنطن كلاً من روسيا الاتحادية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، ووصفها بأنها لا شيء.

د. نتائج الانتخابات

جرت انتخابات الكنيست السادس عشر، في 29 يناير 2003، وكانت برلمانية فقط، بعد إلغاء قانون الانتخابات المباشر لرئيس الوزراء.

وتستطيع رصد الحقائق التالية :

(1) بلغ عدد الأحزاب والقوائم التي خاضت الانتخابات سبعاً وعشرين قائمة، تمكنت ثلاث عشرة قائمة من تجاوز نسبة الحسم، وهي 1.5% من مجموع الأصوات الصحيحة، لدخول البرلمان.

(2) بلغ عدد سكان إسرائيل 6.029.529 نسمة (إحصاء يوليه 2002)، وبلغ عدد من لهم حق التصويت في هذه الانتخابات 4.7 مليون ناخب، شارك منهم 3.200.773، بنسبة 68%.

(3) بلغت نسبة الحسم اللازمة لدخول الحزب إلى الكنيست (1.5% من الأصوات الصحيحة) 47.225 صوتاً، وبلغ العدد المطلوب للحصول على مقعد واحد 25.137 صوتاً.

(4) بلغ عدد العرب الذي شاركوا في الانتخابات 230.669، وتوزعت أصواتهم على “حداش” (93 ألف صوت)، و”التجمع الوطني” (71 ألف صوت)، و”القائمة العربية الموحدة” (65 ألف صوت).

(5) يعد الليكود الكاسب الأول في هذه الانتخابات. فقد نجح في مضاعفة عدد مقاعده التي وصلت إلى (28) مقعداً مقابل (18) مقعداً في الانتخابات السابقة. كما نجح، بعد اندماج حزب “إسرائيل بعاليا” معه، في زيادة عدد مقاعده إلى (40) مقعداً. ويُعد حزب “شينوي” ثاني الأحزاب الكاسبة، حيث رفع حصته من ستة مقاعد إلى (15) مقعداً، أي أنه حصل على تسعة مقاعد إضافية، واحتل المكانة الرابعة على حساب ألد أعدائه حزب “شاس”، الذي يمثل المتدينين من يهود الشرق والمغاربة منهم تحديداً.

(6) يعد حزب “العمل” الخاسر الأول في هذه الانتخابات. فقد تراجعت مقاعده من (26) مقعداً في الانتخابات السابقة إلى (19) مقعداً، وكانت المرة الأولى في تاريخ الحزب الذي تتراجع فيه مقاعده إلى ما دون العشرين مقعداً. ويرفض معظم المحللين ربط هزيمة حزب “العمل” بشخص زعيمه “عمرام متسناع”، ويرجعون الهزيمة إلى تدهور أداء سابقيه من زعماء الحزب، وتحديدا باراك وبن أليعازر، وأن مستناع لم يكن بإمكانه إنقاذ حزب العمل من هزيمة مدوية؛ لأنه “حمل على ظهره حزباً تخلى عن مبادئه من أجل كراسي السلطة”.

(7) يمكن القول إن هذه الانتخابات شهدت بداية الذبول الحقيقي لأحزاب اليهود الروس؛ فبعد أن حقق حزبا اليهود الروس (11) مقعداً في الانتخابات السابقة (1999)، تراجعا في هذه الانتخابات، حيث حدث ائتلاف بين حزب “إسرائيل بيتنا” ضمن الاتحاد القومي، واندمج “إسرائيل بعاليا”، بعد تراجع مقاعده من سبعة إلى مقعدين فقط، في تكتل “الليكود”.

(8) واصلت حصة الأحزاب الصهيونية من الأصوات العربية تراجعها، حيث بلغت في هذه الانتخابات حوالي 27%، بعد أن كانت 30% في الانتخابات السابقة، وبلغت 92% عام 1953. وأما عن هذه الانتخابات فقد حصل حزب “العمل” على 6%، و”شعب واحد” على 5%، و”ميرتس” على 4%، و”شاس” (الديني اليهودي) على أكثر من 2%، وأخيرا “الليكود” على 1%.

(9) حصلت الأحزاب الصهيونية على نحو 75% من أصوات الدروز، وعلى نحو 50% من أصوات البدو الذين شاركو في الانتخابات الأخيرة.

(10) أبرز الأحزاب التي لم تتمكن من تجاوز نسبة الحسم فهي: “حيروت”، وحزب “الوسط”، و”حركة تسوميت” التي يتزعمها الجنرال “رافائيل ايتان” رئيس الأركان الأسبق، والتي تُعد من أبرز قوى التطرف اليميني في إسرائيل.

(11) بلغ عد النواب الذي دخلوا الكنيست لأول مرة، أي النواب الجدد، واحداً وأربعين نائباً، من بينهم ثمانية عشر من تكتل “الليكود” وتسعة نواب من حركة “شينوي”.

(12) لم ينجح أي نائب عربي على قوائم الأحزاب الصهيونية، وكان هناك نائبان درزيان على قائمة “الليكود”. كما لم ينجح أي يهودي على قائمة الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة (حداش)، التي يمثل الحزب الشيوعي محورها الرئيسي.

(13) بلغ عدد النساء في الكنيست ثماني عشرة امرأة، من بينهن واحدة عن الحزب القومي الديني (المفدال)، في سابقة جديدة على هذه الأحزاب، التي لا تري للمرأة أي دور في الحياة العامة.

(14) تراجع حزب “شاس” الديني، الذي يمثل المتدينين من يهود الشرق وتحديداً المغاربة، بمقدار ستة مقاعد؛ فحصل على (11) مقعداً، مقابل (17) مقعداً في الكنيست السابق، بينما تقدم حزب المتدينين من يهود الغرب (المفدال) بمقدار مقعد واحد فقط، فحصل على ستة مقاعد مقابل خمسة في الكنيست السابق.

(15) كانت الأحزاب العربية ضمن القوى الخاسرة في الانتخابات، حيث فقدت القائمة العربية الموحدة ثلاثة مقاعد، وحصلت على مقعدين مقابل خمسة مقاعد في انتخابات 1999، بينما توزعت مقاعد العرب البرلمانية عام 1999، عن الأحزاب غير الصهيونية على “القائمة العربية الموحدة” (خمسة مقاعد)، ومقعدين لكل من “التجمع الديمقراطي الوطني”، وحركة “حداش”، والأخيرة فازت بثلاثة مقاعد بينها مقعد يهودي، هذا إضافة إلى أربعة أعضاء آخرين من الأحزاب الصهيونية، اثنان عن “العمل”، والثالث عن “الليكود”، والرابع عن كتلة “ميريتس”. وبذلك وصل إجمالي الأعضاء العرب في الكنيست السابق إلى (13) عضواً. وشهدت هذه الانتخابات تراجع عدد النواب العرب إجمالاً، حيث لم يفز أي عربي على قوائم الأحزاب الصهيونية، وكان هناك درزي واحد على قائمة “الليكود”، شغل الموقع الثاني والعشرين على قائمة الحزب الانتخابية. وبلغ إجمالي النواب العرب من الأحزاب غير الصهيونية تسعة نواب.

(16) بعد الانتخابات انضم حزب “إسرائيل بعاليا” إلى “الليكود”، وله مقعدان بالكنيست، ومن ثم ارتفعت مقاعد “الليكود” إلى أربعين مقعداً.

(17) في الاجتماع الأول للكنيست، انتُخب نائب “الليكود”، وزير الاتصالات في حكومة شارون الأولى “رئوفين ريفلين”، رئيساً للكنيست، خلفاً للعمالي “أبراهام بورج”، وحصل على أغلبية كبيرة (104 أصوات) من 120 صوتاً، إذ تغيب تسعة نواب عن الجلسة الافتتاحية وامتنع سبعة آخرون عن التصويت. وبذلك يكون “الليكود” قد سيطر على المناصب الثلاثة الرئيسية في الدولة، وهي: رئيس الدولة، ورئيس الحكومة، ورئيس البرلمان.

هـ. تشكيل الحكومة الإسرائيلية الثلاثون (28 فبراير 2003)

أدى وزراء الحكومة الإسرائيلية الجديدة يمين الولاء أمام هيئة الكنيست، بعد أن تقدم رئيس الحكومة “أرييل شارون”، مساء الخميس 28 فبراير 2003، بعدد 23 وزيراً إلى الكنيست، للمصادقة عليها.

وقد افتتح الجلسة رئيس الكنيست الجديد، عضو الكنيست “رئوفين ريفلين”، الذي انتُخب لهذا المنصب بأغلبية ساحقة. ثم ألقى رئيس الحكومة “أرييل شارون”، خطابة، الذي عرض فيه الخطوط الأساسية لحكومته الجديدة، وقد قاطعه أعضاء من كتلة العمل والكتل الدينية عدة مرات.

وقال شارون في الخطاب: “إن المهمة الأولى للحكومة ستكون مواجهة الوضع الاقتصادي، كما إن الحكومة تنوي التوجه نحو عملية سياسية مسؤولة ترتكز إلى الموافقة على حل النزاع بالطرق السلمية، وعلى التصميم وعدم التنازل عن الأمن”.

وأضاف شارون: “إن مسألة إقامة دولة فلسطينية ضمن شروط مقيدة، هي موضع خلاف بين جهات مختلفة في الائتلاف، وإن هذا الموضوع سيخضع للمناقشة وسيحسم في الحكومة.

وبدا من الواضح أن أهم الوزراء هم “سيلفان شالوم” وزير الخارجية. وقد تولى “بنيامين نتنياهو” حقيبة المالية. كما وافق “أيهود أولمرت” على عرض رئيس الحكومة بتعيينه وزيراً للتجارة والصناعة، ويشمل اتفاق استلامه حقيبة التجارة والصناعة، ضم دائرة أراضي إسرائيل، وسلطة البث الإسرائيلية، ومديرية التخطيط إلى الوزارة. كما تم الاتفاق على تعيينه قائماً بأعمال رئيس الحكومة دون تعيين آخرين في هذا المنصب. وعُين أولمرت كذلك عضواً في المجلس السياسي الأمني المصغر، إضافة إلى مشاركته في طاقم المفاوضات السياسية، كما قرر شارون تعيين “تسيبي ليفني” وزيرة للاستيعاب، بينما عين “داني نافيه” وزيراً للصحة.

  1. سياسة الحكومة تجاه عملية التسوية السياسية

ما أن شكل شارون حكومته الثانية، في أعقاب انتخابات الكنيست السادس عشر، التي جرت في 29 يناير 2003، حتى بدا واضحاً بروز اتجاه يركز على أن شارون قد تغير، وأنه أصبح رجل دولة مسؤولاً، وأن الناخب الإسرائيلي اختاره للمرة الثانية على التوالي كرئيس للوزراء، بدءاً بانتخابات فبراير 2001، ثم الانتخابات البرلمانية في يناير 2003، وذلك بحصول تكتل “الليكود” على المرتبة الأولى، وبفارق كبير عن حزب “العمل”. وجرى التأكيد على أن حكومة يمينية بقيادة شارون ستكون حكومة واقعية، ولن تتصرف بتهور في مواجهة التطورات التي تمر بها المنطقة.

ومن هنا لم يكن مستغرباً أن يبدأ شارون ولايته الثانية بمواصلة العدوان على الشعب الفلسطيني، ومتابعة السياسات، التي كان قد بدأها في ولايته الأولى، سواء عبر مواصلة عمليات القتل والاغتيال للكوادر والقيادات الفلسطينية، أو حصار الرئيس “عرفات”، والتوسع في عمليات الاجتياح والتدمير.

وفي الوقت نفسه الذي واصل فيه شارون تصعيد الاعتداءات العسكرية في الأراضي الفلسطينية، حرص على تقديم نفسه بوصفه رئيس الحكومة القادر على صنع سلام حقيقي مع الفلسطينيين. واشترط لذلك أن تتوافر الظروف التي تساعد على التوصل إلى السلام الحقيقي. وفي هذا السياق قدم شارون رؤيته بالقول: “في نهاية المطاف ستنشأ دولة فلسطينية، وأنا لا أعتقد أن علينا أن نسيطر على شعب أخر، ولا اعتقد أن لدينا القوة للقيام بذلك، وإذا وصلنا إلى سلام حقيقي يمتد لأجيال فسنضطر لتقديم تنازلات مؤلمة، ليس مقابل وعود ولكن مقابل سلام”. وبعد ذلك حدد شارون شروطه للوصول إلى سلام حقيقي، وتمثلت في أربعة شروط:

أ. بروز قيادة فلسطينية جديدة.

ب. إجراء إصلاحات شاملة في هياكل السلطة الوطنية الفلسطينية، وإعادة دمج الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة وفصل مسؤوليتها عن رئيس السلطة الوطنية.

ج. تعهد القيادة الفلسطينية الجديدة بشن حرب بلا هوادة، على المنظمات الإرهابية.

د. تفكيك المنظمات الفلسطينية المسلحة ونزع السلاح، من أعضاء هذه المنظمات.

وفي هذا السياق، طرحت الولايات المتحدة الأمريكية، باسم اللجنة الرباعية، التي تضمها مع الاتحاد الأوروبي وروسيا الاتحادية والأمم المتحدة، في 30 أبريل 2003، خطة التسوية المعروفة باسم “خريطة الطريق”.

تتكون خطة خريطة الطريق بالأساس من ثلاث مراحل، الأولى، وكان يفترض أن تنتهي بنهاية مايو 2003، وتضع التزامات هائلة على كاهل السلطة الوطنية الفلسطينية، ولا تطالب إسرائيل سوى بتسهيل الظروف المعيشية للفلسطينيين، وتجميد كافة الأنشطة الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية، وقد جاء في الخطة “لا تتخذ الحكومة الإسرائيلية أية إجراءات تقوض الثقة، بما في ذلك الترحيل والهجمات ضد المدنيين، ومصادرة أو هدم منازل وأملاك فلسطينيين كإجراء عقابي”. أما الاعتبار الثاني، الذي دعت الخطة إسرائيل إلى الالتزام به، فهو وقف كافة الأنشطة الاستيطانية.

وفي المقابل وضع رئيس الوزراء الإسرائيلي أربعة عشر تعديلاً على هذه الخطة حتى يمكنه قبولها. وأعلن شارون بوضوح أنه لا يمكن التوصل إلى تسوية سياسية مع الفلسطينيين، ما لم يعلنوا صراحة الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، ويتخلوا رسمياً عن حق العودة. وطالب شارون صراحة بأن تتوقف كل أعمال المقاومة، لأنه حسب قوله “لن يتفاوض تحت النيران”، ومن ثم فهو يريد تهدئة تامة، وهو ما حققته حكومة “أبو مازن” بالفعل عندما نجحت في التوصل إلى هدنة مع فصائل المقاومة تلتزم فيها الأخيرة بوقف كافة أعمال المقاومة لمدة ستة شهور، بهدف إتاحة الفرصة أمام المفاوضات.

وبعد فترة التهدئة، والتي كانت تعني في حقيقة الأمر وقف كافة أشكال المقاومة المسلحة، طرح رئيس الوزراء الإسرائيلي مطلبه الثاني، وهو أن تعلن الحكومة الفلسطينية تخليها عن المطالبة بحق العودة إلى إسرائيل، وشطب هذا الحق بشكل نهائي حفاظاً على ما يعتقده بـ “يهودية” الدولة العبرية، وحماية لها من ممارسة اللاجئين الفلسطينيين لهذا الحق، والذي يمكنه أن يقضي على الأغلبية اليهودية، ومن ثم يهدد الطابع اليهودي للدولة.

طالب شارون فترة هدوء تام. وبعد التطورات التي شهدتها المنطقة ـ احتلال العراق ـ تحول الموقف إلى ما يتجاوز المطالبة بوقف المقاومة، حيث بدأ شارون يطالب صراحة بتجريمها، من ناحية، واستغلال الجدل حول الموضوع من أجل الدفع في اتجاه اقتتال فلسطيني داخلي على خلفية ممارسة الحكومة الفلسطينية لعملية نزع السلاح من المنظمات الفلسطينية المقاومة. بعد ذلك أضاف شارون مطلب تنازل الشعب الفلسطيني عن مبدأ حق العودة إلى إسرائيل، وأكد أنه ما لم يعلن الجانب الفلسطيني ذلك صراحة، فلن تستأنف المفاوضات، ولن تكون هناك دولة فلسطينية مستقلة.

  1. قمة العقبة وقضية يهودية الدولة

في ختام قمة العقبة، التي جمعت الرئيس الأمريكي برئيسي الوزراء الفلسطيني والإسرائيلي، إضافة إلى العاهل الأردني، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي “أرييل شارون” موافقته المبدئية على قيام دولة فلسطينية. كما أعلن الشروع في تفكيك المستوطنات العشوائية، التي أقامها مستوطنون من تلقاء أنفسهم دون الحصول على موافقات من الحكومة بذلك.

وقد أثار هذا الموقف من قِبل شارون تساؤلات عديدة في العالم العربي، بل في إسرائيل ذاتها، وتتلخص معظمها في التساؤل حول مدى التغيير الذي طرأ على موقف شارون ورؤيته؛ وهل تحول شارون فجأة من متهم بارتكاب جرائم حرب قديمة وحديثة من منتصف الخمسينيات (كالعدوان الثلاثي على مصر) إلى أوائل القرن الحادي والعشرين (فظائع جنين ونابلس)، إلى رجل سلام يقر بقيام دولة فلسطينية مستقلة كحل نهائي للصراع؟! أي يقر بما لم يقر به قادة من اليسار الإسرائيلي!

والحقيقة أن هذه التساؤلات بدأت منذ أن توجه شارون إلى أعضاء حكومته طالباً منهم التصويت بالموافقة على خطة “خريطة الطريق”، التي ستنتهي بقيام دولة فلسطينية مستقلة في العام 2005. وفي طلبه من أعضاء حكومته الموافقة على الخطة، قال شارون إن موافقتهم سوف تجنب الحكومة الصدام مع واشنطن. وقد انتهي النقاش في مجلس الوزراء الإسرائيلي، في 25 مايو 2003، بموافقة (12) وزيراً على الخطة، مقابل رفض سبعة وزراء، بينهم ثلاثة من الليكود، وامتناع أربعة وزراء عن التصويت. وجاء على لسان شارون في هذه الجلسة أيضاً: “لا بد من تقسيم هذه البقعة من الأرض بين إسرائيل والفلسطينيين”، مؤكداً على استحالة الإبقاء على ثلاثة ملايين ونصف مليون فلسطيني تحت الاحتلال.

فعلى الرغم من تراجع التأييد لسياسية شارون، وعلى الرغم من عدم تحقيق هذه السياسة لإنجازات كبرى على الأصعدة كافة، فإن شارون ظل الخيار الأول للرأي العام الإسرائيلي. وفي الوقت نفسه أدرك شارون بوضوح أنه حقق غاية ما يمكنه تحقيقه عبر سياسة القتل والاجتياح وإعادة الاحتلال، ولم يعد ممكناً تحقيق المزيد، أو أن أي محاولة للتوسع في عمليات القتل والإرهاب ستولد مردوداً معاكساً، على صعيد العمليات النوعية للمقاومة الفلسطينية.

وبعد أن تمكن شارون من عبور أزمة الموقف من “خريطة الطريق”، بموافقة حكومته عليها وعقد لقاء العقبة، عمل على تجاوز خطة التسوية عملياً عبر التأكيد على عدم وجود شريك فلسطيني للسلام، وتصعيد العدوان العسكري على الشعب الفلسطيني، واستغلال ردود الفعل الفلسطينية، من أجل زيادة مخاوف الرأي العام الإسرائيلي من النوايا الفلسطينية. وقد انعكس ذلك في تراجع تأييد الرأي العام الإسرائيلي لخطة “خريطة الطريق”. فقد تراجعت نسبة تأييد “خريطة الطريق” من 64% في ابريل 2003، إلى 59 % في مايو، ثم إلى 56 % في يونيه، وأخيراً إلى 54% في أغسطس 2003.

  1. الجدار الفاصل وفك الارتباط مع قطاع غزة

في أعقاب نجاح الحكومة الإسرائيلية في نشر رؤيتها التي تقول بعدم وجود شريك فلسطيني للسلام، اتجهت هذه الحكومة لتحقيق رؤيتها تجاه تسوية القضية الفلسطينية، عبر بناء جدار فاصل في عمق الأراضي الفلسطينية، تتمكن من خلاله من ضم ما تريد من أراض فلسطينية، وتمزيق ما تبقي منها إلى الشرق من هذا الجدار، لتشكل قطعاً متناثرة تؤلف معاً ما يمكن أن يطلق عليه “دولة فلسطينية متقطعة الأوصال وغير متجانسة وفاقدة الترابط الجغرافي بين أجزائها”. وفي السياق نفسه جاءت فكرة فك الارتباط مع قطاع غزة من جانب واحد.

وفي ظل نجاح شارون في استعادة ثقة الشارع الإسرائيلي، بعد الضربات الناجحة التي وجهها لقادة حماس مثل الشيخ “أحمد ياسين”، ود “عبد العزيز الرنتيسي”، وفي ظل توقعات البنك الدولي بأن يتجاوز الاقتصاد الإسرائيلي أزمته خلال عام 2004، مصحوباً بمعدل نمو لن يقل عن 3.5%، إضافة إلى نجاح شارون في الحصول على تعهدات أمريكية غير مسبوقة بدعم إسرائيل في مطالبها الخاصة بإسقاط حق العودة للفلسطينيين، وضم الكتل الاستيطانية إلى حدودها؛ وفي ظل تلك التطورات أصبح قادراً على الصمود في المعركتين اللتين تواجهانه، وهما معركة تمرير خطة الفصل الأحادي الجانب في الحكومة والكنيست، ومعركة النجاة من تقديمه للمحاكمة بتهمه الضلوع في الفساد.

ثانياً: أزمة الائتلاف الحكومي الأولى (2003 – 2005)

مع اضطرار رئيس الوزراء “أرييل شارون” إلى الدخول في مواجهات مع الأحزاب المشاركة في ائتلافه، وذلك بعد أقل من عام من تشكيل الائتلاف، الذي ظهر في شهر مارس 2003، وتكون من أحزاب: “الليكود”، و”شينوي”، و”الاتحاد القومي (“إسرائيل بيتنا”، و”موليدت”، و”تكوما”)”، و”الحزب القومي الديني (المفدال)”، أصبح الائتلاف يمثل صدى لأزمة الحياة الحزبية الإسرائيلية، عامة، ومسرحاً لنزاعات الأحزاب المؤتلفة، خاصة. وكان واضحاً بجلاء أن شارون، الذي كان يخسر داخل حزبه “الليكود”، وفي جبهة اليمين المتطرف والمستوطنين، كان قادراً على تعويض خسائره داخل الكنيست وفي أوساط الرأي العام. وهي مفارقة تدعو للتأمل، وتشير بجلاء إلى أن هيمنة المتطرفين على قيادة الأحزاب، مثل “الليكود” و”المفدال” و”الاتحاد القومي”، لم تعن مباشرة سيطرتهم على المؤسسة التمثيلية (الكنيست). كما أن مواقفهم المتشددة لم تقلل من شعبية شارون في الشارع، ومن ثم فإن الأحزاب التي خرجت من الائتلاف (المفدال والاتحاد القومي، وشينوي) منيت في الواقع بخسارتين، خسارة مواقعها في الحكومة، إضافة إلى نشوب النزاعات والانشقاقات داخلها.

بدأت أولى المعارك داخل الائتلاف بين شارون ووزراء “الاتحاد القومي” و”المفدال”. وفي سبيله لضمان أغلبية لتمرير خطة الفصل أحادي الجانب داخل مجلس الوزراء، عمد شارون إلى إقالة وزيرين من “الاتحاد القومي” كانا يقودان حركة التمرد في الائتلاف، وينويان حشد التأييد لخطهما المتشدد. وكانت الإقالة في 5 يونيه 2004، قبل يومين فقط من اجتماع الحكومة للتصويت على الخطة. وعلى الرغم من ذلك لم تؤد عملية إخراج “افيجدور ليبرمان” و”بيني ألون” من الحكومة إلى أزمة لشارون، سواء في الائتلاف، الذي عُدِّل بإدخال ثلاثة وزراء جدد من “الليكود” بدلاً من وزراء “الاتحاد القومي”، بما سمح في الواقع بزيادة قوته داخل الحكومة، إضافة إلى أن انسحاب “الاتحاد القومي”، الممثل في الكنيست بسبعة نواب من الحكومة، لم يؤثر في الثقة الممنوحة له ولحكومته في الكنيست؛ إذ ظل الائتلاف مدعوما بـ 61 نائباً (40 “لليكود”، و6 “للمفدال”، و15 “لشينوي”)، وهو ما جعل الوزير الليكودي ـ  وزير المواصلات ـ “مائير شطريت” يصرح في 12 يوليه 2004، بأنه لا توجد حاجه للبحث في خيار حكومة وحدة وطنية بشكل عاجل.

على الجانب الثاني، وعلى الرغم من انسحاب أو استقالة “أفي أيتام”، زعيم حزب “المفدال”، من وزارة الإسكان والبناء ومعه نائبه “يتسحاق ليفي”، بالتزامن مع استقالة وزراء “الاتحاد القومي”؛ إلا أن الأزمة ضربت “المفدال” بالدرجة الأولى ولم تؤثر عملياً في شارون وائتلافه. فقد حدث انشقاق في الحزب على هذه الخلفية وأصر الوزير “زفلون أورليف” (وزير العمل والرفاه) على البقاء في الحكومة وعدم الانصياع لأيتام. كما اتخذ الحزب نفسه قراراً بالاستمرار في تأييد حكومة شارون في الكنيست. ولم يعلن “المفدال انسحابه” وحجب ثقته عن الحكومة إلا في 7 نوفمبر 2004، على خلفية تمرير قانون التعويضات للمستوطنين، الذين سيتم اخلاؤهم من تجمعات في غزة وفق خطة الفصل أحادى الجانب. وفي التوقيت نفسه تقريباً، أعلنت الأحزاب المكونة للاتحاد القومي فك الارتباط القائم بينها، وخوض انتخابات الكنيست المقبلة منفردة، مبررة ذلك برغبة كل حزب (“إسرائيل بيتنا”، “تكوما”، “موليدت”) في بذل محاولة للحصول على أكبر عدد من المقاعد، مع وعد بالعودة إلى التجمع داخل الاتحاد القومي مرة ثانية بعد الانتخابات؛ ولكن الواضح أن الخلافات بين الأحزاب الصغيرة الثلاثة يدور في المقام الأول حول الموقف من شارون وحكومته، وخطة الفصل أحادى الجانب.

واتساقاً مع هذه النتيجة، فقد أسفرت المعارك الحزبية عن المزيد من التفكك والضعف للأحزاب اليمينية المتطرفة؛ فيما أعطت مؤشراً قوياً على شعبية شارون في الشارع الإسرائيلي، وقدرته، أيضاً، على لجم معارضيه في “الليكود” وداخل الكنيست.

أما المعركة الثانية، والتي كانت قصيرة، فكانت مع حزب “شينوي”، والذي تمكن شارون من زرع الانشقاقات داخله؛ فعلى حين كان ممثلوه في الكنيست (15 نائباً) يعلنون عن موافقتهم على المشاركة في حكومة يشارك فيها حزب المتدينين الاشكناز (يهودت هتوراه) ـ بالمخالفة لخط الحزب المعلن والثابت برفض الدخول في أي ائتلاف يشارك فيه متدينون ـ كان 43% من أعضاء الحزب فقط يؤيدون مثل هذه الخطوة؛ فيما عدت الأغلبية أن الحزب بإعلان استعداده للجلوس في حكومة واحدة مع “يهودت هتوراه”، إنما يخون الثقة التي وضعها فيه الناخبون العلمانيون. وفي مؤشر على تردد الحزب بين القبول بيهودت هتوراه في الحكومة، ورفض ذلك خوفاً من خسارة تأييد العلمانيين للحزب، صوتت الغالبية من كتلته البرلمانية في الكنيست، في 8 نوفمبر 2004، (في جلسه لجنة المالية) ضد تخصيص 350 مليون شيكل لصالح التعليم الديني، ما حدا بشارون إلى البحث جدياً في خيار حكومة مع حزب العمل و”يهودت هتوراه”، مع إخراج “شينوي” من الائتلاف.

واستمراراً للمواجهة بين “شينوي” وشارون، صوت نواب “شينوي” في مطلع شهر ديسمبر 2004، ضد مشروع الميزانية، مما دفع شارون إلى إقالة وزراء الحزب. وكما كان الوضع في حالة أحزاب “المفدال” و”الاتحاد القومي”، لم يستفد “شينوي” من هذه الخطوة، لا على مستوى تحسين شعبيته في الشارع ولا على مستوي التأثير في استقرار شارون في الحكم، ومن ثم كان من المنطقي أن ينجح شارون في إعادة تكوين الائتلاف بمشاركة “الليكود” و”العمل” و”يهودت هتوراه”، متمتعاُ بتأييد 64 نائباُ في الكنيست نظرياً. وقد صادق الكنيست على الحكومة الجديدة في 10 يناير 2005 بأغلبية 58 صوتاً ضد 56 صوتاً.

وهكذا تبرز أهمية تشكيل هذه الحكومة على النحو الذي جاءت عليه؛ فلأول مرة تتشكل حكومة إسرائيلية بأقل من 61 نائباً، وللمرة الأولى، أيضاً، في تاريخ إسرائيل تتشكل حكومة يمينية تحظى على ثقة البرلمان بأصوات يسارية، خاصة حركة “ياحد” التي يتزعمها “يوسي بيلين”، التي تُعد وريثة حركة “ميريتس” اليسارية، في الوقت الذي امتنع فيه نائبان من “القائمة العربية الموحدة” عن التصويت. وتعد تركيبة الحكومة فريدة إلى حد كبير، حيث ضمت حزب “العمل” ذي التوجهات العلمانية، وكتلة “يهودت هتوراه” الأصولية، والتي اشترطت بدورها فترة تجريبية لمدة 90 يوماً، تريد من خلالها اختبار نواياً شارون وهل سيطبق بنود الاتفاق معها، وبشكل خاص تحويل الميزانيات الضخمة من خزينة الدولة للمؤسسات الدينية والتعليمية التابعة لحزبي “ديغل هتوراه” و”أغودات يسرائيل”، اللذين يشكلان الكتلة، وعدم إخضاعه لجهاز التعليم الحكومي؟ في حين جاء انضمام حزب “العمل” لهذه الحكومة كمحاولة لمداواة أزماته الداخلية عبر تأييده خطة شارون، وتوظيف علاقاته الخارجية لتحسين العلاقات الدولية لحكومة شارون، وامتصاص أي ضغوط دولية.

ثالثاً: تحديات ما بعد الانسحاب الأحادي

أتم الجيش الإسرائيلي عملية إخلاء المستوطنات المقررة في قطاع غزة وشمال الضفة الغربية، خلال الفترة الممتدة من 17 أغسطس وحتى 8 سبتمبر، من دون خسائر ووفق ترتيبات أمنية، لا سيما مع مصر بخصوص ممر صلاح الدين، حيث أتفق على نشر 750 جندياً من قوات حرس الحدود. كما حرصت إسرائيل على إبقاء قطاع غزة منطقة خارجة عن المجال السيادي للدولة، وإن تبنت فيه ملامح الاحتلال إلى حد ما؛ لكن مع وضع قوات على أهبة الاستعداد خارج المنطقة، وفي مواقع قريبة يمكن أن تدخل عندما يتطلب الأمر، فضلاً عن بقاء القطاع تحت السيطرة العسكرية الإستراتيجية الإسرائيلية، براً وبحراً وجواً.

وبعد الانتهاء من الانسحاب والفوز في الانتخابات الداخلية لليكود، وظّف شارون الحدث في خطابه في الأمم المتحدة، في 17 سبتمبر 2005، لتكريس صورة مصطنعة عن إسرائيل كصانعة سلام، لكن في حدود الرؤية الإسرائيلية نفسها المعروفة من قبل، حيث شدد في الخطاب على أن القدس الموحدة ستظل عاصمة أبدية لإسرائيل واستعداد حكومته لتقديم ما وصفه بتنازلات مؤلمة للسلام مع الفلسطينيين، ومعترفاً لهم بالحق في الحرية والعيش في وطن قومي ودولة ذات سيادة، وتطوير اقتصادهم وبناء مجتمع ينشد السلام ويستند إلى القانون والنظام، ولكن شريطة مكافحة الإرهاب والقضاء على بنيته التحتية. وتضمن الخطاب، أيضاً، إشارة واضحة منه لنيته الانسلاخ من حزب “الليكود” ومن معسكر اليمين بمجمله، وتشكيل حزب وسط جديد يخوض به الانتخابات المقبلة.

رابعاً: أزمة الائتلاف الحكومي الثانية (2005 – 2006)

تفاعلت قضية الموازنة العامة، التي لم تكن مقبولة من حزب “العمل”، في صيغتها التي قدمتها وزارة المالية حين كان نتنياهو وزيراً ـ وهو الموقف الذي شكل أساس انسحاب “العمل” من الحكومة ـ لتشكل أزمة ائتلافية جعلت شارون يقرر التوجه إلى انتخابات عامة مبكرة، قبل موعدها المقرر في نوفمبر 2006. وفي سياق المناورات السياسية أبدى “العمل”، في السابع من أكتوبر، استعداده للبقاء ضمن الائتلاف الحكومي حتى موعد الانتخابات، شريطة فتح مفاوضات مع الفلسطينيين على أساس “خريطة الطريق”، وحل المسائل المتعلقة بنقاط العبور بين قطاع غزة والعالم الخارجي، ورصد موازنة لمحاربة الفقر في إسرائيل، ومواصلة تنمية الجليل والنقب شمال إسرائيل وجنوبها؛ لكن التطورات المتسارعة والأزمات التي واجهها شارون مع مجموعة المتمردين في “الليكود”، لم توفر فرصة لمناقشة جدية لعرض حزب “العمل”. فقط تعطلت مجموعة التعيينات التي تقدم بها شارون إلى الكنيست، ومن بينها تثبيت “أيهود أولمرت” وزيراً للمالية خلفاً لنتنياهو، الأمر الذي أدى به إلى التعجيل بقراره الانشقاق عن الليكود وتشكيل حزب جديد بقيادته. ففي التصويت الذي جري في الكنيست على مجموعة التعيينات التي تقدم بها شارون، حصل على 54 صوتاً (حوالي نصفهم من خارج الليكود)، فيما صوت المتمردون إلى جانب المعارضة وحصلوا على أكثرية 60 صوتاً من أصل 120 نائباً، وهو ما عدّه شارون امتداداً لمحاولات إسقاطه بواسطة أعضاء حزبه، الذين توعدهم بالانتقام وتحمل تبعات قاسية.

وعلى الفور دعا شارون الحكومة إلى جلسة طارئة في الكنيست، وقرر إجراء تعديل جزئي بحيث يصبح أولمرت وزيراً للمالية، مع الاحتفاظ بمناصبه وزيراً للتجارة والصناعة، ومسؤولاً عن شؤون دائرة إدارة أراضي إسرائيل، وعن سلطة البث. وتقرر منح الوزير بلا وزارة “متان فلنائي” منصب وزير العلوم. وتم ذلك بتأييد 71 نائباً.

وفي مطلع نوفمبر، تخطى شارون محاولة لسحب الثقة من حكومته في أولى جلسات الكنيست، في فاتحة جلسات دورته الشتوية. فقد وافق الكنيست على خطاب سياسات الحكومة، الذي كشف فيه عن خطط حكومته لمواصلة الاستيطان في الأراضي المحتلة بالضفة الغربية، وهضبة الجولان، والنقب، والقدس، والجليل، ووادي الأردن. وأن أي تقدم في عملية السلام مرتبط بنزع أسلحة فصائل المقاومة الفلسطينية؛ مؤكداً، في الوقت نفسه، عزمه على مواصلة الاستيطان. وكرر رئيس الحكومة مطالبه من السلطة الفلسطينية للوفاء بالتزاماتها، ووعد بمواصلة بناء الجدار العازل في الضفة. كما شن هجوماً لاذعاً على إيران وسورية، واتهم الدولتين برعاية ما أسماه الإرهاب، ودعم الفصائل الفلسطينية. ورأى شارون أن هذه الأطراف تنتظر فقط الفرصة لضرب إسرائيل؛ لكن الموافقة كانت بأغلبية ضئيلة، بتأييد 51 نائباً مقابل 48 نائباً.

خامساً: تأسيس “كاديما”

جاء التطور الأكثر أهمية في 21 نوفمبر، بتخلي شارون عن حزبه “الليكود”، وطلبه من رئيس الدولة “موشيه كاتساف”، حل البرلمان، تمهيداً لإجراء انتخابات مبكرة، في 28 مارس 2006. ونظراً لاستمرار تمتع شارون بشعبيه عالية بين الجمهور الإسرائيلي، لعدم وجود بديل أخر يمكنه أن يقود البلاد، قرر تشكيل حزب جديد تحت تسميه مؤقتة هي “المسؤولية الوطنية”، ثم تحول لاحقاً إلى حزب “كاديما” (أي إلى الأمام). وضم تشكيلة واسعة من التيارات السياسية، بهدف أن يكون الحزب الجديد بديلاً لكل الأحزاب الكبيرة في الدولة العبرية، وهي خطوة شكلت تهديداً جدياً لحزب “الليكود”، والذي شارك شارون نفسه في تأسيسه عام 1973. وتتلخص أهم الأسباب التي دفعت شارون إلى مثل هذه الخطوة الجريئة في الآتي: رغبته في تفادي التمرد والمكائد السياسية، التي قادها المتمردون عليه في “الليكود”، وعدم الرغبة في تولي رئاسة حكومة أقلية تفرض عليه تنازلات عديدة، وتكون عرضة دائماً للسقوط في الكنيست، وكذلك غياب التعاون مع نواب حزبه في البرلمان لتمرير السياسات التي يؤمن بأنها تخدم المصلحة العليا لإسرائيل، وبالذات على صعيد مشروعه في التسوية مع الفلسطينيين.

أما لحزب “كاديما” الجديد، فقد أكد شارون أنه يتعهد بالعمل من أجل التوصل إلى اتفاقية سلام مع الفلسطينيين، ومعالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، التي يعاني منها المجتمع الإسرائيلي، خاصة البطالة والفقر. كما أن هذا الحزب سيبقي ملتزماً بما جاء في “خريطة الطريق” في صورتها المعدلة، التي تلتزم بـ 14 تحفظاً سبق تقديمها إلى اللجنة الرباعية الدولية، مع الإصرار على أن تُطبق بصورة مرحلية، وليست في صورة صفقة واحدة، ومستبعداً إجراء المزيد من الانسحابات الأحادية الجانب من الضفة الغربية. وتضمن برنامج “كاديما”، أيضاً، مبدأ إعلان دولة فلسطينية في حدود مؤقتة، إذا قبل الفلسطينيون ذلك، كتطبيق لخطة الحل المرحلي طويل الأمد، وهو الحل الذي يهدف عملياً إلى منح الدولة العبرية الفرصة لاستكمال فرض الحقائق الاستيطانية في الضفة الغربية والقدس المحتلة، بما في ذلك المزيد من تهويد القدس، دون أن يكون هناك أي اعتراضات دولية.

وفي الحقيقة فقد راهن شارون على أن انسحابه من “الليكود” وتأسيس حزب جديد، سيحدث تأثيرات وتغييرات في الخريطة الحزبية الإسرائيلية، بما ينعكس إيجاباً على وضع حزبه الجديد؛ فحزب “كاديما” بالطريقة التي نشأ بها، وبالأعضاء البارزين الذين انضموا إليه، أعاد فرز الأحزاب الإسرائيلية، بحيث أصبح “كاديما” الممثل الفعلي للوسط، بينما حزبا العمل على يساره والليكود على يمينه. وبالفعل أظهرت كافة استطلاعات الرأي أن الحزب الجديد، الذي أعلن عنه شارون، سيحقق فوزاً ساحقاً على “الليكود” في الانتخابات.

سادساً: صعود أولمرت

في مفاجأة غير متوقعة، دخل شارون في غيبوبة مرضية طويلة، منذ الرابع من يناير، وامتدت حتى الانتخابات وما بعدها، خضع خلالها لعدة عمليات جراحية. وقد امتدت فترة الغيبوبة لأكثر من مائة يوم، وبذلك انتهت ولايته قانوناً، نظراً لعجزه المستمر، ومنذ 16 أبريل 2006، أصبح خلفه بالوكالة “أيهود أولمرت”، القائم بأعمال رئيس الوزراء بشكل رسمي.

وقد تولى “أيهود أولمرت”، نائب رئيس الوزراء، منصب رئاسة الوزراء بالوكالة. كما تولى منصب رئيس حزب “كاديما”، وأصبح المرشح الأوفر حظاً للفوز في الانتخابات وتشكيل الحكومة، وهو أمر ما كان يطمح إليه أيهود أولمرت وربما لم يفكر فيه، حيث اكتفي دائما بان يكون الرجل الثاني.

 

النشاط الحزبي وانعكاسه على النشاط السياسي (2006 – 2010)

أولاً: الائتلاف الحكومي الحادي والثلاثون خلال الكنيست السابع عشر (2006-2010)

جرت الانتخابات السابعة عشرة للكنيست، في 28 مارس 2006. واكتسبت هذه الانتخابات أهمية استثنائية؛ فقد أتت على خلفية مشهد إسرائيلي داخلي شديد التعقيد، حيث ترك شارون حزب “الليكود”، بعد تزايد المعارضة له داخل الحزب، بسبب خطته للانفصال الأحادي الجانب عن الفلسطينيين. كما أتت أيضاً في ظل ظرف استثنائي على الجانب الفلسطيني، حيث نجحت حماس في الفوز بالأغلبية في الانتخابات الفلسطينية، بما أعاد تشكيل الخريطة السياسية الفلسطينية بصورة غير متوقعة. ومع أن هذه الانتخابات تعد هي الأقل مشاركة في نسبة تصويت الإسرائيليين، إلا أنها أسهمت في رسم خريطة حزبية جديدة في إسرائيل.

  1. البرامج الانتخابية للأحزاب

خاضت 30 قائمة المعركة الانتخابية السابعة عشرة للكنيست. وقد تتشكل بعض القوائم من عدة أحزاب، وأخرى من حزب واحد، وبعضها قوائم قديمة وأخرى جديدة. ومع أن البرامج الانتخابية لهذه القوائم ليست ملزمة بشكل قاطع، فقد حدث أن تخلت بعض هذه الأحزاب عن برامجها واتبعت سياسة مغايره لها، كما فعل شارون بانسحابه من قطاع غزة وقبوله خطة “خريطة الطريق”. وبصفة عامة، اتفقت الأحزاب الرئيسية في برامجها على رفض التفاوض مع السلطة الفلسطينية بقيادة حماس، ورفض عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى إسرائيل، وبقاء القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل، وكذلك عدم الانسحاب من جميع الأراضي العربية المحتلة منذ يونيه 1967، والاستمرار في بناء الجدار العنصري، مع الاحتفاظ بجميع الكتل الاستيطانية الكبرى.

  1. نتائج الانتخابات

أ. صعود “كاديما”

شكلت انتخابات الكنيست السابعة عشرة نقطة تحول في هيكل الخريطة السياسية الإسرائيلية، التي ظلت منذ نشأة الدولة رهن الحزبين التقليديين، “العمل” و”الليكود”، اللذين كانا في انتخابات العام 1992 يسيطران على ما بين 75 إلى 85 مقعداً، وأكثر من أصل 120 مقعداً. وقبل التعرض لنتائج هذه الانتخابات، تجدر الإشارة إلى عدد من الحقائق المتعلقة بها:

(1) هذه الانتخابات هي أول انتخابات منذ تأسيس إسرائيل لا يكون فيها أي من “العمل” أو “الليكود”، هو المرشح الأوفر حظاً للفوز بالانتخابات. فقد كان فوز “كاديما” بالانتخابات أمراً محسوماً اجتمعت عليه استطلاعات الرأي العام كافة، التي أجريت منذ الدعوة إلى الانتخابات المبكرة، وحتى قبيل إجرائها مباشرة.

(2) قد شهدت هذه الانتخابات رفع نسبة الحسم إلى 2%، والتي كانت 1% فقط حتى انتخابات الكنيست الثالثة عشرة، ثم ارتفعت إلى 1.5% في الدورتين الماضيتين.

(3) تعد هذه الانتخابات تاسع انتخابات مبكرة تشهدها إسرائيل؛ فمن المعروف أن الانتخابات للكنيست تجرى مرة واحد كل أربع سنوات؛ لكن يمكن للكنيست أن يتخذ قراراً بإجرائها قبل موعدها. وفي ظروف معينة يمكن لدورة الكنيست أن تستمر أكثر من أربع سنوات. وقد تم إجراء الانتخابات في مواعيد مبكرة في كل من انتخابات الكنيست الثانية، والخامسة، والعاشرة، والحادية عشرة، والثالثة عشرة، والرابعة عشرة، والخامسة عشر، والسادسة عشرة. وتجدر الإشارة إلى أنه كان من المفترض، طبقاً للقانون، أن يتم إجراء الانتخابات في شهر يناير 2006، إلا أن الخلافات بين الأحزاب الكبيرة قادت إلى تأجيل موعد الانتخابات إلى يوم الثلاثاء 28 مارس 2006. وعلى الرغم من أنه كان من المتوقع أن يحدث التغيير في الخريطة الحزبية الإسرائيلية، بسبب غياب شارون، وانتخاب حماس على الجانب الفلسطيني، تزايداً في نسبة المشاركة في الانتخابات العامة الإسرائيلية، فإن ما حدث بالفعل جاء مخالفاً لكل التوقعات، وبما يطرح الكثير من التساؤلات حول اهتمام الشارع الإسرائيلي بالسياسة؛ لا سيما أنه بات مؤكداً تقلص منحنى المشاركة السياسية للإسرائيليين في السنوات الأخيرة، حيث تلاحظ، من استعراض نسب التصويت في الانتخابات الإسرائيلية أن هذه النسبة في تراجع مستمر من انتخابات إلى أخرى. فقد سجلت التراجع الأكبر في انتخابات 2003، التي وصلت إلى 69%، ثم في الانتخابات التالية حيث وصلت إلى 63% تقريباً.

(4) إن هذه الانتخابات كانت، بشكل أو بأخر، بمثابة تصويت على الخطة التي طرحها شارون، وتبناها رئيس الوزراء “أيهود أولمرت”، للانفصال أحادي الجانب، والتي تقضي بتفكيك المستوطنات المعزولة في الضفة الغربية، والتي كانت تحوز تفضيل أغلبية الرأي العام الإسرائيلي، طبقاً لاستطلاعات الرأي العام. وهكذا فرضت نتائج الانتخابات الإسرائيلية للعام 2006 تغييرات في الخريطة السياسية والحزبية، لم تشهد إسرائيل مثيلاً لها، وذلك للأسباب التالية :

(أ) حالة الارتباك الشديدة التي تسود المجتمع الإسرائيلي. وهي الحالة التي عكست نفسها في التقارب الكبير بين عدد المقاعد، التي حصل عليها كل حزب؛ فالفروق بين كافة الأحزاب تراوحت ما بين مقعدين وعشرة مقاعد، حيث توزعت المقاعد بين 12 قائمة استطاعت تجاوز نسبة الحسم.

(ب) إعادة فرز أو رسم الخريطة الحزبية الإسرائيلية. فظهر حزب “كاديما”، واختفي تماماً حزب “شينوي”، وأصبح “الليكود” على بداية طريق الانهيار، وتغير حزب “العمل” ليركز بالأساس على القضايا الاجتماعية.

(ج) تزايد دور اليهود الشرقيين، وهو ما يشير إليه بروز قيادات شرقية مؤثرة في الأحزاب الرئيسية، كـ”عمير بيرتس” زعيم “العمل الشرقي”، و”شاؤول موفاز” الإيراني الأصل ووزير الدفاع، و”سلفان شالوم، وزير الخارجية.

(د) تناقص قوة أو شعبية الحزبين الكبيرين في الساحة الإسرائيلية، وهما “العمل” و”الليكود”، حيث تقلص “الليكود” إلى 12 مقعداً على نحو ما كانت عليه قوته في بداية الخمسينيات. أما حزب العمل، فقد وصل به الأمر إلى أن يرى زعيمه “عمير بيرتس” أن نجاحه في المحافظة على عدد مقاعد الحزب نفسها في الكنيست السابقة، يُعد انتصاراً يسجل له.

ب. “شينوي” و”جيل”.. المفاجأة الكبرى

شهدت الساحة الحزبية الإسرائيلية تكوين حزب جديد لخوض الانتخابات الإسرائيلية، يحمل اسم “جيل” ويتحدث باسم المتقاعدين. ويتمحور برنامجه الانتخابي حول موضوع اجتماعي واحد وهو: العناية بقضايا المسنين وتوفير حياه كريمة لهم، من خلال محاربة البيروقراطية في تقديم الرعاية لهؤلاء المسنين. وتزعّم هذه الحركة “رافي ايتان” 80 عاما، الذي كان يعمل في جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشين بيت).

وبالنظر إلى نتائج الانتخابات، يلاحظ أن حزب “جيل” حقق المفاجأة الأكبر والأهم في تلك الانتخابات. فقد تمكن الحزب من الحصول على سبعة مقاعد، بما يمثل أكثر من نصف المقاعد التي حصل عليها “الليكود” ذو التاريخ الطويل، وبما يفوق عدد مقاعد أحزاب أخرى، مثل “يهودت هتوراه” (6 مقاعد)، و”ميرتس” (5 مقاعد).

أما المفاجأة الأخرى، فهي الخسارة الفادحة التي مني “شينوي”، الذي كان ممثلاً للوسط بين الأحزاب الإسرائيلية، والذي يركز برنامجه السياسي على قبول “خريطة الطريق”، من دون تحفظ؛ لكن أجندته الأساسية تتعلق بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية مثل: فصل الدين عن الدولة، ومحاربة الأحزاب الدينية، ومحاربة الإكراه الديني، وسن قانون يتيح الزواج المدني. وكان “شينوي” قد استطاع الحصول في الانتخابات السابقة على 15 مقعداً، احتل بها المركز الثالث في قائمة الأحزاب الإسرائيلية؛ بينما لم يستطع تجاوز نسبة الحسم والحصول على أي مقعد في هذه الانتخابات.

ثانياً: تشكيل الحكومة الحادية والثلاثون (4 مايو 2006)

جاء تكليف الرئيس الإسرائيلي “موشيه كاتساف”، في السادس من ابريل 2006، لـ “أيهود أولمرت” رئيس حزب “كاديما”، بتشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة رقم 31 في تاريخ الدولة، متوافقاً مع نتائج الانتخابات، بناء على مطالبة 78 نائباً، من أصل 120 عضواً في الكنيست، بإسناد مهمة تشكيل الحكومة إلى “أولمرت”.

يُذكر أن نتائج الانتخابات أعطت “كاديما” الموقع الأول بتسع وعشرين مقعداً، يليه حزب العمل بتسعة عشرة مقعداً، ثم كلاً من “الليكود” و”شاس” في المركزين الثالث والرابع باثني عشر مقعداً لكل منهما، ثم حزب “إسرائيل بيتنا” بأحد عشر مقعداً، وهو ما يعني أن هذه الأحزاب الخمسة قد حصدت 83 مقعداً من إجمالي 120 مقعداً تشكل الكنيست. أما باقي المقاعد، فتوزعت على سبعة أحزاب أخرى. في حين لم تحصل 18 قائمة شاركت في الانتخابات، على أي مقعد.

وكان أولمرت قد عبّر في أعقاب الإعلان عن نتائج الانتخابات، عن رغبته في ضم حزب “إسرائيل بيتنا” بزعامة “أفيجدور لبيرمان” إلى الائتلاف الحكومي، بدلاً من حزب “شاس”. فقد نقلت صحيفة هاأرتس في نهاية مارس 2006 عن أولمرت قوله “إنه على الرغم من معارضه ليبرمان للانسحاب من الأراضي المحتلة، إلا أنه ليبرمان يبدو شريكاً ملائماً وموثوقاً فيه، وأسهل في التعامل من حزب شاس”. ومع ذلك فإن أولمرت عاد وضم “شاس” إلى الائتلاف الحكومي، حتى قبل أن ينهي مفاوضاته، أو يغلق الباب مع “إسرائيل بيتنا”.

بدأ أولمرت مفاوضات تشكيل الحكومة، حتى قبيل تكليفه رسمياً من الرئيس الإسرائيلي بذلك، لا سيما مع الشريك الأساسي في الحكومة، وهو حزب “العمل”. فقد كشفت الإذاعة الإسرائيلية في الثالث من ابريل عن لقاء عُقد سراً بين “أولمرت” و”عمير بيرتس”، بحثا خلاله المسائل المتعلقة بانضمام حزب العمل إلى حكومة أولمرت.

سمح الاتفاق مع حزب “العمل” لأولمرت أن يشكل الحكومة، التي ضمت ـ إلى جانب “كاديما” و”العمل” ـ كلاً من “شاس” وحزب “المتقاعدين”، بعد أن تمكن من التوصل إلى اتفاق مع الحزبين. وبذلك أصبحت الحكومة تتمتع بتأييد 67 نائباً من مجموع 120. وترك أولمرت الباب مفتوحاً أمام انضمام حزبين آخرين، هما حزب اليهود الاشكناز (الغربيين) المتدينين “يهودت هتوراه” (6 مقاعد)، وحزب “ميرتس” اليساري (5 مقاعد). ومن ثم نالت الحكومة ثقة الكنيست الذي صادق عليها في جلسة خاصة في الرابع من مايو.

ضمت الحكومة الجديدة خمس وعشرون وزارة، أي بزيادة سبع وزارات عن العدد القانوني للوزارات في الحكومة الإسرائيلية، الذي يقدر بثماني عشرة وزارة. وقد احتفظ “كاديما” باثنتي عشرة وزارة، أهمها الخارجية والمالية. واحتفظ “العمل” بسبع وزارات، أهمها الدفاع. وشغلت “شاس” أربع وزارات؛ بينما احتفظ “المتقاعدون” بوزارتين. وتجدر الإشارة إلى أن أولمرت أبلغ الوزراء من حزبه أن ضم حزبي “يهدوت هتوراه” و”ميرتس” سوف يلزمه بإحداث بعض التغييرات، في توزيع الحقائب الوزارية.

ويطرح تشكيل الحكومة السابق عدداً من الملاحظات، على النحو التالي:

  1. للمرة الأولى يحدث تشكيل وزاري في إسرائيل لا يحظى فيها الجنرالات بالمناصب الكبرى أو الوزارات الأساسية؛ فالمناصب الكبرى في الحكومة يتولاها أشخاص ذوي خلفيه عسكرية، ولكنهم ليسوا أبناء المؤسسة العسكرية؛ فرئيس الوزراء ووزيره الخارجية ووزير الدفاع هم مدنيون بالأساس.
  2. لا تحظى الحكومة المشكلة بأغلبية مطمئنة، حيث يتمتع الائتلاف بـ 67 مقعداً فقط من مقاعد الكنيست.
  3. يثير تشكيل الحكومة الإسرائيلية على هذا النحو المخاوف من إمكانية إصابتها بالشلل، وعدم قدرتها على الحركة في اتجاه معين؛ إذ يتنازع الحكومة تياران أساسيان متناقضان إلى حد بعيد، هما:

(أ) التيار الأول: الذي يقوده أولمرت يتبنى بالأساس الانفصال أحادي الجانب، وترسيم الحدود الفلسطينية بشكل منفرد.

(ب) التيار الثاني: الذي يقوده حزب العمل ويؤيده بعض الوزراء من حزب “كاديما” مثل “شيمون بيريز”، و”حاييم رامون”، يريد خوض مفاوضات مباشرة مع الرئيس الفلسطيني “محمود عباس”، بهدف التوصل إلى اتفاق سلام دائم، ويريد أن تكون كل الخطوات الإسرائيلية منسقة مع الفلسطينيين.

ثالثاً: حرب لبنان وتآكل قدرة الردع الإسرائيلي

تركت حرب الثلاثة والثلاثين يوماً بين إسرائيل وحزب الله أثاراً إستراتيجية بالغة الأهمية، ليس فقط على مستوى الصراع بين هذين الطرفين؛ ولكن، أيضاً، على مستوي الصراع العربي ـ الإسرائيلي بوجه عام، وهي آثار تصب بالسلب في غير صالح إسرائيل، سواء لأنها فشلت، على الرغم من قدراتها العسكرية المتفوقة والمتطورة، في تحقيق الأهداف التي حددتها لنفسها في الحرب، أو لأنها اضطرت للبحث عن مكسب سياسي يعوض القصور في الأداء العسكري.

والفكرة الرئيسية هنا أنه على الرغم من الدمار الهائل الذي ألحقته إسرائيل بلبنان، أثناء عملياتها العدوانية، فمن المؤكد أن حكومة إسرائيل فشلت في تحقيق معظم أهدافها الرئيسية في الحرب ضد حزب الله، سواء المتعلقة بالقضاء على قوة حزب الله العسكرية ونزع سلاحه، أو إطلاق سراح الأسيرين الإسرائيليين لدى حزب الله، أو المتعلقة بتغيير قواعد المعادلة السياسية في لبنان. يضاف إلى ذلك، أن العدوان خلق أوجهاً أخرى للفشل، تمثلت في عجز إسرائيل عن ِإيقاف الهجمات الصاروخية لحزب الله ضد إسرائيل، وفشل الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر في إلحاق الهزيمة بتنظيم صغير مؤلف من حوالي 1500 مقاتل، حسب تقديرات الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية بنفسها.

  1. نخبة سياسية مأزومة

منذ انتهاء الحرب بين إسرائيل وحزب الله، في أغسطس 2006، لم يتوقف الجدل في إسرائيل حول الأزمة المركبة، التي تمر بها الدولة. فقد كشفت هذه الحرب عن عيوب جوهرية في جوانب مختلفة للمجتمع الإسرائيلي، ومؤسسات الدولة ونخبتها السياسية والعسكرية. كما كشفت عن مشاكل اقتصادية عديدة برزت مع تراجع أداء الاقتصاد، بفعل خوض حرب لمدة ثلاثة وثلاثين يوماً.

وقد حظيت النخبة السياسية الإسرائيلية بقدر كبير من النقد على أثر نتائج الحرب، وعلى أثر ما تم الكشف عنه من فساد وعجز ورغبه محمومة في التشبث بمقاعد السلطة، دون النظر إلى الاعتبارات السياسية أو الإيديولوجية أو مصالح الدولة.

وفي هذا السياق طُرح موضوع تغيير النظام السياسي الإسرائيلي من البرلماني إلى الرئاسي. وعلى الرغم من تعدد الأصوات التي طالبت بذلك، إلا أن زعيم حزب “إسرائيل بيتنا” “أفيجدور ليبرمان” هو الذي طرح هذا المطلب بالتفصيل، ووضعه كشرط مسبق لدخول حكومة أولمرت.

أدى انضمام حزب “إسرائيل بيتنا” بقيادة “أفيجدور ليبرمان” إلى الحكومة الإسرائيلية، في 24 أكتوبر 2006، إلى طرح تساؤلات عديدة في إسرائيل حول طبيعة النظام السياسي، الذي دفع برئيس الوزراء إلى التشبث بالمنصب على حساب المصالح العامة وأيديولوجية حزبه، وأن يضم إلى الائتلاف كل ما يمكنه أن يطيل أمد الحكومة، وفترة البقاء على الكرسي، بأكثر مما يحقق التوافق الفكري ويساعد على تنفيذ حزمة السياسات الداخلية والخارجية، التي جاءت في البرامج الانتخابية للأحزاب الرئيسية، التي شكلت معا الحكومة . فالحكومة الإسرائيلية (حكومة أولمرت) قبل ضم ليبرمان، كانت تحظى بـ 67 نائباً في الكنيست، ومن ثم تتمتع بما يزيد على الأغلبية المطلوبة (61 مقعداً من 120)، وبها قدر كبير من التناسق بين مكوناتها الحزبية فيما يخص الموقف من كل أو بعض خطط التسوية المطروحة؛ فكافة الأحزاب المؤتلفة (“كاديما” 29 مقعداً، و”العملً 19 مقعداً، و”شاسً 12 مقعداً، و”المتقاعدون” 7 مقاعد) يمكن أن تلتقي حول برنامج حد أدنى يجعلها تتعاطى إيجابياً مع خطط ومشروعات التسوية السياسية المطروحة، والتي يمكن أن تطرح لاحقا. وفي الوقت نفسه، فإن حزب “إسرائيل بيتنا” هو حزب يميني متطرف، يعد من أحزاب أقصى يمين الخارطة السياسية الإسرائيلية، ويحمل أفكارا عنصرية ومشروعات توسعية. باختصار، أنها أزمة نخب وقيادات تفتقد للرؤية، وتقدم الشخصي على الموضوعي، والخاص على العام؛ فكانت المحصلة حالة من التخبط والتردد، حيث يجري القفز فوق الأسباب الحقيقية واختزالها في طبيعة النظام السياسي، من أجل الحفاظ على مصالح النخبة، دون أن تعمل على تطوير النظام السياسي على النحو الذي يتوافق مع طبيعة المجتمع ومؤسسات الدولة؛ فالنظام الرئاسي لن يحل مشاكل إسرائيل، بقدر ما يطيل أمد بقاء النخبة السياسية في مقاعدها. ولذلك كان منطقياً أن ينسحب ليبرمان وحزبه من الحكومة الائتلافية، في 17 يناير 2008، على خلفية رفض ليبرمان بدء المفاوضات مع الفلسطينيين، حول قضايا الوضع الدائم.

  1. “انابوليس” التهرب من قضايا الوضع النهائي

منذ إعلان الرئيس الأمريكي “جورج بوش” عن نيته عقد مؤتمر في خريف 2007، للتباحث حول سبل تسوية القضية الفلسطينية، وتطبيق رؤيته للحل ممثلة في قيام دولة فلسطينية مستقلة إلى جوار إسرائيل، لم يتوقف الجدل في إسرائيل حول الفكرة. وطال الجدل مختلف جوانب الدعوة، حيث ركز في البداية على أن الرئيس الأمريكي لا يرمي من وراء هذه القمة سوى إلى دعم موقف إدارته المأزومة في المنطقة، سواء في العراق، أو متطلبات التصعيد، وربما المواجهة مع إيران. وبعد ذلك تعددت جوانب التساؤل حول المؤتمر. فقد كان هناك تقدير رأى أن الإدارة الأمريكية كانت ترغب في استثمار، وأيضا تكريس، الانقسام الفلسطيني، بعد سيطرة حركة حماس على القطاع، في منتصف يونيه 2006، بحيث يكون مجرد قبول الرئيس عباس بالذهاب إلى المؤتمر تكريساً للانقسام ما بين الضفة وغزة، وبين فتح وعدد من فصائل منظمة التحرير وفصائل أخرى مناوئة على رأسها حركتا حماس والجهاد.

ومن جانبها عملت الحكومة الإسرائيلية على خفض السقف المتوقع من المؤتمر. فتجنبت الحديث عن المؤتمر وعمدت إلى التأكيد على أنه فقط لقاء أو اجتماع؛ ومن ثم، فقد رفضت بشكل واضح التوصل إلى وثيقة مبادئ للمؤتمر، كما رفضت على نحو قاطع تحديد جدول زمني للمفاوضات التي ستنطلق من اللقاء.

وفي المقابل، تمسكت الأطراف العربية المختلفة بضرورة التوصل إلى وثيقة مبادئ تسير على هديها المفاوضات. وطالبت بوضع جدول زمني من البداية. وهنا تدخلت الإدارة الأمريكية للتوفيق بين الموقفين، عبر الزيارات المتكررة لوزيرة الخارجية الأمريكية “كوندوليزا رايس” للمنطقة. وأكد رئيس الوزراء الإسرائيلي “أيهود أولمرت”، في زيارته لشرم الشيخ في20 نوفمبر 2007، على أهمية الإطار العام للمبادئ التي ستجرى على أساسها المفاوضات؛ مشيراً إلى تقديره لبنود المبادرة العربية، دون أن يوافق عليها، ومؤكداً على تفاؤله بالتوصل إلى تسوية سياسية خلال عام 2008، أي قبل أن يغادر الرئيس الأمريكي البيت الأبيض.

وفي الوقت الذي كانت الإدارة الأمريكية تركز فيه على تخصيص اللقاء للمسار الفلسطيني وحده، فإن الحكومة الإسرائيلية أشارت غير مرة إلى أنها تفضل السير في مفاوضات على المسار السوري، وأن هناك إمكانية بالفعل لتحقيق انجاز ملموس على هذا المسار. وقد روجت الحكومة الإسرائيلية لهذه الفكرة طوال الشهور الأولى من عام 2007.

وفي أعقاب انتهاء أعمال “أنابوليس”، بدأ رئيس الوزراء الإسرائيلي في إطلاق تصريحات تتضمن لاءات قديمة مثل: “لا لإعادة تقسيم القدس”، و”لا لعودة اللاجئين”، و”لا للعودة إلى حدود ما قبل الخامس من يونيه 1967″، مشدداً على استحالة التوصل إلى تسوية سياسية في غضون العام 2008. وقد انعكس ذلك في زيادة شعبية أولمرت، التي كانت قد وصلت إلى أدنى معدل لها لدي أي رئيس للوزراء؛ فمنذ انتهاء الحرب مع مقاتلي حزب الله، تدنت شعبية أولمرت إلى ما دون الـ 5%. وقد قفزت شعبيته بعد الغارة على سورية، في أواخر أكتوبر 2007، إلى 35%، ثم إلى 41% بعد إعلان إصابته بمرض السرطان. وكانت تلك زيادة عاطفية طارئة سرعان ما تراجعت. أما بعد العودة من “أنابوليس”، فقد زادت شعبية أولمرت لتصل إلى 14%.

  1. ظاهرة عدم الاستقرار السياسي

بدأ عام 2008 بانسحاب حزب “إسرائيل بيتنا” برئاسة “أفيجدور ليبرمان”، من الائتلاف الحكومي. وهو الانسحاب الذي دخل حيز التنفيذ في 18 يناير، ليقلص مقاعد الائتلاف من 78 إلى 67 مقعداً؛ فالانسحاب، في حد ذاته، لم يمثل مشكلة للائتلاف، مثلما لم تكن هناك حاجة لدخوله إلى الائتلاف؛ فقرار ضم الحزب اليميني المتطرف إلى الحكومة كان بهدف الحد من تداعيات تقرير “لجنة فينوجراد” على حكومة أولمرت. ومع استمرار رئيس الوزراء في أداء مهامه، ورفضه التنحي والحفاظ على اتصالات شكلية مع الفلسطينيين، على خلفية تفاهمات “أنابوليس”، وكذلك إظهار استطلاعات الرأي العام الإسرائيلي تقدم اليمين بقيادة تكتل “الليكود”، على حساب معسكري الوسط واليسار، بدا حزب “شاس” ـ الممثل للمتدينين من يهود الشرق ـ في التهديد بالخروج من الحكومة، الأمر الذي كان يعني عملياً سقوطها؛ فخروج “شاس” من الائتلاف الحكومي كان يعني النزول بمقاعد الائتلاف من 67 مقعداً إلى 55 مقعداً، حيث هدد “أيلي أيشاي”، زعيم حزب “شاس”، بالانسحاب من الائتلاف الحكومي في حال التوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين، قائلاً: “لن نكون جزءاً من حكومة ستقلص أرض دولة الشعب اليهودي وتملؤها باللاجئين”.

وعندما تحركت أحزاب اليمين لطرح مشروع قانون بحل الكنيست، بادر رئيس الوزراء “أيهود أولمرت” بالاتفاق مع زعيم حزب “العمل”، وزير الدفاع باراك، في 25 يونيه، بعدم تأييد الأخير لاقتراح المعارضة اليمينية لحل البرلمان، مقابل إجراء تصويت داخل حزب “كاديما” لاختيار رئيس جديد للحزب، بحلول 25 سبتمبر. ومع تواصل التحقيقات مع أولمرت، وإقراره بالتورط في قضايا فساد، تزايدت الضغوط داخل “كاديما”، من أجل دفع أولمرت إلى إجراء انتخابات على رئاسة الحزب. وهنا تزايدت حدة الصراع داخل صفوف حزب “كاديما” على خلافة أولمرت. وبادر “أفي ديختر”، وزير الأمن الداخلي وأحد المتنافسين على زعامة الحزب، بدعوة أولمرت إلى التنحي عن منصبه حال انتخاب قيادة جديدة للحزب.

ومع استمرار التحقيقات مع أولمرت، طالب زعيم حزب “العمل”، وزير الدفاع الإسرائيلي “أيهود باراك”، في مؤتمر صحفي عقده في مقر الكنيست في 28 مايو، رئيس الحكومة بالاستقالة.

أسفرت الانتخابات عن فوز “تسيبي ليفني” برئاسة “كاديما” بحصولها على 43.1% من الأصوات؛ بينما حصل الوزير موفاز على 42%، من الأصوات. وفي أعقاب إعلان نتائج الانتخابات أعلن وزير المواصلات “شاؤول موفاز” اعتزاله الحياة السياسية.

  1. فشل ليفني والذهاب إلى انتخابات برلمانية مبكرة

بعد أن جري تكليفها من الرئيس الإسرائيلي “شيمون بيريز” بتشكيل الحكومة، توصلت رئيس حزب “كاديما” “تسيبي ليفني” إلى مسودة اتفاق ائتلافي مع حزب “العمل”، لتشكيل الحكومة الجديدة. وقد استجابت ليفني لعدد من طلبات باراك، وبموجب الاتفاق التزمت ليفني بتعيين باراك نائباً أول لرئيس الوزراء، في حالة تشكيل حكومتها، وجعله شريكاً كاملاً في المفاوضات مع سورية. وقد فشلت ليفني في استكمال الائتلاف في الأسابيع الأربعة المحددة لتشكيل الوزارة، وحصلت على فترة إضافية مدتها أسبوعان، اعتباراً من 20 أكتوبر 2008. وقد رفض حزب “شاس” الانضمام إلى الحكومة بسبب عدم تلبية مطلبين من مطالبه الرئيسية. وأوضح الحزب (الذي كان يشغل 12 مقعداً في الكنيست) في بيانه أنه أصر خلال المفاوضات مع ليفني على نقطتين مركزيتين، هما: دعم الشرائح الفقيرة، وضمان عدم طرح قضية القدس للتفاوض مع الفلسطينيين.

انتهي الأمر بقرار ليفني التوجه إلى انتخابات مبكرة، بعد فشلها في التوصل إلى اتفاق مع الأحزاب، أملاً في تشكيل حكومة ائتلافية يتجاوز عدد مؤيديها في الكنيست الستين عضواً. وأكدت ليفني أنها اتخذت قرارها بسبب رفضها الرضوخ لابتزاز الأحزاب، التي فاوضتها.

رابعاً: العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة

شنت الطائرات الحربية الإسرائيلية صباح السبت 27 ديسمبر 2008، غارات جوية مكثفة على أكثر من موقع في قطاع غزة. وبدأت باستهداف حفل أقامته حركة حماس لتخريج مجموعة من الضباط، ثم توالت الغارات والاعتداءات على مختلف أنحاء القطاع. والسؤال هنا: لماذا شنت إسرائيل عدوانها؟ وما الأهداف الإسرائيلية من وراء هذا العدوان؟ وهل تحققت هذه الأهداف مع توقف العدوان؟. وبصفة عامة، يمكن القول إن الاتجاه العام الذي ساد لدى إسرائيل هو أن هناك حدوداً للانجاز من طريق القوة العسكرية؛ فإسرائيل ليس بإمكانها القضاء على حركة حماس أو تدميرها؛ ومن ثم فإن الهدف أدنى من القضاء على الحركة، ويتمثل بالأساس في:

  1. تقليص القدرات العسكرية لحركة حماس، وغيرها من الفصائل الفلسطينية.
  2. ضمان وقف إطلاق الصواريخ والقذائف، على مدن الجنوب الإسرائيلية.
  3. إبرام هدنة طويلة، أو تفاهمات تهدئه لمدة طويلة.
  4. إبرام اتفاق لتحرير الجندي الإسرائيلي المحتجز لدي فصائل فلسطينية في قطاع غزة، مقابل الإفراج عن عدد من الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين.
  5. استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يضع قيوداً شديدة على حرية حركة الفصائل الفلسطينية في القطاع، على غرار القرار الرقم 1701، الخاص بالجنوب اللبناني.

وعلى الرغم من تحديد أهداف العدوان في أهداف محددة واضحة وقابلة للقياس، إلا أن هناك من يرى أن هذه الأهداف لم تتحقق؛ أي أن العدوان فشل في انجاز المهمة. فعلى الرغم من تدمير نسبة كبيرة من قدرات حركة حماس، وعدم تعرض القوات الإسرائيلية لخسائر بشرية، على غرار ما تعرضت له في الحرب ضد مقاتلي حزب الله في صيف 2006، إلا أن الفصائل الفلسطينية في القطاع، وفي مقدمتها حركة حماس، لم تُسلم بل إنها عادت بعد وقف العدوان مباشرة إلى قصف مدن جنوب إسرائيل بالصواريخ. كما أنها لم تبرم هدنة طويلة، ولم توقع اتفاقاً لتبادل الأسري، وهو ما أكده زعيم تكتل “الليكود” “بنيامين نتنياهو”، الذي قال “إن المهمة في غزة لم تستكمل بعد، وسوف تستكملها حكومته الجديدة”.

نخلص من كل ذلك إلى تأكيد أن إسرائيل لم تحقق أيا من الأهداف، التي وضعتها للحرب على قطاع غزة؛ فلا إسرائيل قضت على قدرات حركة حماس، ولا هي أجبرتها على الاستسلام. كما أنها فشلت في وقف إطلاق الصواريخ من القطاع، ولم تتوصل إلى تهدئة أو هدنة، ولم تستعد الجندي “جلعاد شاليط”، ولم تنجح من استصدار قرار دولي يفرض واقعاً جديداً في المنطقة، على غرار القرار الرقم 1701 بشأن الجنوب اللبناني، ولا الجيش الإسرائيلي تمكن من استعادة هيبته وقوة الردع المفقود منذ الحرب على لبنان في صيف 2006؛ بل إن الهيبة تراجعت أكثر، وبات الكثير من قادة المؤسسة العسكرية عُرضة للملاحقة بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم بحق الإنسانية. كما سقطت الحكومة التي شنت الحرب، ولم تحصل الأحزاب المكونة لها على الأغلبية اللازمة للاستمرار في الحكم؛ بل إن الحرب فتحت طريق المصالحة الوطنية الفلسطينية على النحو الذي تبدى في حوارات القاهرة، التي جرت في 25 و26 فبراير 2009.

خامساً: الطريق إلى الانتخابات

كان مقرراً أن تُجرى انتخابات الكنيست الإسرائيلي الثامنة عشرة، نهاية عام 2010؛ ولكن تقدم موعدها بسب قضايا الفساد التي تورط فيها رئيس الوزراء المستقيل أولمرت، وعجز خليفته في حزب “كاديما”، وزيرة الخارجية “تسيبي ليفني”، عن تشكيل حكومة جديدة. عجز ليفني جاء مع أن حزبها كان لدية 29 مقعداً، وحزب “العمل” 19 مقعداً فقط. وقد فشلت في تشكيل الحكومة على مدى الأسابيع الستة، التي يمنحها إياها القانون لتشكيل الحكومة. ويعود ذلك إلى رفضها الرضوخ لمطالب حزب “شاس”، وهي في جوهرها مطالب ومزايا مالية ومادية لطلبة المدارس الدينية المعبر عنهم باسم “الأولاد”، إضافة إلى تقييد موقف الحكومة من التفاوض على مدنية القدس المحتلة؛ ومن ثم قررت ليفني إجراء انتخابات برلمانية مبكرة. وفي 26 أكتوبر 2008، أوقفت ليفني مفاوضاتها مع “شاس”، وأبلغت الرئيس الإسرائيلي “شيمون بيريز” بقرارها، وتم الاتفاق على إجراء انتخابات برلمانية مبكرة، في العاشر من فبراير 2009.

  1. نتائج انتخابات الكنيست الثامن عشر (10 فبراير 2009)

أسفرت الانتخابات عن استمرار حزب “كاديما” في المقدمة (28 مقعداً)، يليه تكتل “الليكود” اليميني في المرتبة الثانية (27 مقعداً)؛ ولكن النتيجة الإجمالية هي فوز معسكر اليمين الإسرائيلي بأغلبية المقاعد، التي تعني أن هذا المعسكر يستطيع تشكيل الحكومة منفرداً، خلافاً لمعسكري اليسار والوسط، اللذين ليس بمقدورهما تشكيل الحكومة دون الاستعانة بقوائم تنتمي لمعسكر اليمين.

وقد جاءت نتائج الانتخابات متوافقة إلى حد بعيد مع نتائج استطلاعات الرأي. فقد سيطر معسكر اليمين على أغلبية مقاعد البرلمان، وتراجع اليسار تراجعاً غير مسبوق؛ فحزب “العمل” فقد ستة مقاعد (من 19 إلى 13) واحتل المرتبة الرابعة لأول في تاريخه، وحزب “ميرتس” فقد مقعدين (من 5 إلى 3). أما معسكر اليمين، فقط قفز “الليكود” بـ 15 مقعداً (من 12 إلى 27)، وزادت مقاعد “إسرائيل بيتنا”، الأكثر عنصرية وتطرفاً، (من 12 إلى 15).

  1. تشكيل الحكومة الجديدة الثانية والثلاثون (31 مارس 2009)

روج كل من “نتنياهو” و”تسيبي ليفني” لأحقيتهما في تشكيل الحكومة؛ فالأول أكد أنه الأقدر على تشكيل الحكومة، والثانية أكدت قدرتها على ذلك، شريطة أن يمنحها الرئيس الفرصة. وجاء ذلك على خلفية أنه لا يوجد ما يلزم رئيس الدولة بتكليف زعيم الحزب الفائز بالمرتبة الأولى في الانتخابات. صحيح أنه، عادة، ما يجري ذلك، إلا أن الرئيس في حال تقارب النتائج، يعقد سلسلة من المشاورات مع رؤساء القوائم الفائزة في الانتخابات للاستماع إلى توصياتهم. وأسفرت هذه اللقاءات عن توصية الأحزاب اليمينية، من دينية وعلمانية بشخص نتنياهو، حيث أوصي به قادة “إسرائيل بيتنا” و”شاس” و”الاتحاد الوطني” و”البيت اليهودي”، بينما لم يوص أحد بشخص “تسيبي ليفني”؛ ومن ثم توقفت حصتها عند المقاعد الـ 28 التي فازت بها “كاديما”، ومن ثم صدر تكليف الرئيس الإسرائيلي لزعيم تكتل “الليكود” “بنيامين نتنياهو” بتشكيل الحكومة في المهلة المحددة بـ 42 يوماً (أربعة أسابيع ثم أسبوعين).

وعلى الفور شرع نتنياهو في بذل جهود تشكيل الحكومة، وحرص على أن تكون حكومة موسعة تضم حزبي “كاديما” و”العمل”. وبدأ بالتفاوض مع حزب “كاديما” عارضاً عليه المشاركة في حكومة وحدة وطنية بقيادة “الليكود”، إلا أن “تسيبي ليفني” رفضت المشاركة في الحكومة، من منطلق الشريك الأصغر. وطالبت بتقاسم رئاسة الحكومة مع نتنياهو عامين لكل منهما، على غرار ما حصل بين “الليكود” و”العمل” عقب انتخابات 1984، وهو ما رفضه نتنياهو مؤكدا أنه سوف يرأس الحكومة الإسرائيلية الجديدة، ولن يحدث تناوب على منصب رئيس الوزراء.

ومع رفض نتنياهو لمطلب “تسيبي ليفني” بالتناوب على رئاسة حكومة وحدة وطنية، عاد للتركيز على تشكيل حكومة يمينية ضيقة مع حزب “إسرائيل بيتنا”، وأحزاب يمين ديني أخرى؛ ولأن ليبرمان يدرك تماماً أن مفتاح تشكيل الحكومة الجديدة في يده، فقد غالى في مطالبه وشروطه؛ فطلب شخصياً الحصول على منصب وزير الخارجية وحقيبتي الأمن الداخلي والبنية التحتية، مع الإبقاء على وزير العدل في الحكومة السابقة “دانئيل فريدمان” في منصبه. وقد وافق نتنياهو على طلب ليبرمان. أما مع حزب “شاس”، فقد وعده نتنياهو بحقيبتي الداخلية والإسكان، وحقيبتين أخريين من بينهما الصحة.

وقد أثارت مفاوضات نتنياهو مع حزبي “إسرائيل بيتنا” و”شاس” استياء قادة في “الليكود”، رأوا أن نتنياهو يسعى إلى تشكيل حكومة بأي ثمن، حتى ولو كان على حساب تماسك “الليكود” واستقراره. فقرار نتنياهو منح حقيبة الخارجية إلى ليبرمان أثار استياء “سليفان شالوم”، الذي سبق أن شغل هذا المنصب وكان يتطلع إليه من جديد، مع الحصول على منصب القائم بأعمال رئيس الحكومة. كما أن تقديم الحقائب الوزارية لهذين الحزبين أثار استياء شديدا لدي عدد من قادة “الليكود”، الذين هددوا بالبقاء خارج الحكومة، ومن ثم إمكانية الانشقاق على “الليكود”.

في 31 مارس 2009، عرض “بنيامين نتنياهو” حكومته الجديدة على الكنيست. وكانت هذه الحكومة تتكون من ثلاثين وزيراً، وهي أوسع حكومة في تاريخ الدولة. من الناحية النظرية يضم الائتلاف 74 عضواً؛ ولكنه من الناحية الفعلية يضم نحو 69 عضواً (أعلن خمسة أعضاء كنيست من حزب “العمل”، كانوا قد عارضوا انضمام الحزب إلى الحكومة، أنهم لا يؤيدون الحكومة، وأنهم لا يرون أنفسهم خاضعين للانضباط الائتلافي). والمدلول السياسي لتشكيلة الائتلاف هو أنه باستثناء حزب “إسرائيل بيتنا”، لا يستطيع أي حزب منفرداً أن يسقط الحكومة. علاوة على هذا، طرح نتنياهو و”الليكود” بعض التعديلات الدستورية، التي من شأنها أن تجعل إسقاط الحكومة أو حل الكنيست أمراً بالغ الصعوبة. لكل ذلك يمكن القول إن انتخابات الكنيست الإسرائيلية الثامنة عشرة كشفت عن أزمة المجتمع الإسرائيلي، الذي بات منقسماً بشدة حول قضايا عدة، ولم يحسم اختياره؛ إضافة إلى أزمة مركبة لدى قوى اليسار والوسط، التي تراجعت كثيراً أمام الأحزاب اليمينية المتطرفة، وأيضاً نخبة سياسية مأزومة غير قادرة على إتباع سياسات محددة المعالم، حيث غلبت الاعتبارات الشخصية على البرامج والمشروعات، وهو ما انعكس في محاولات تشكيل الحكومة بعد الانتخابات، وصراعات الأشخاص والحقائب الوزارية بين “الليكود” والأحزاب اليمينية، وداخل “الليكود” ذاته.

سادساً: نتنياهو واحتمالات تعديل الائتلاف

يتعرض الائتلاف الحاكم في إسرائيل، الذي يقوده رئيس حزب “الليكود” “بنيامين نتنياهو”، لتحديات صعبة تهدد بقاءه؛ ومن ثم شهدت القنوات الخلفية مفاوضات سرية بين نتنياهو وزعيمة حزب “كاديما” المعارض “تسيبي ليفني”، لأجل ضم الأخيرة إلى الائتلاف في حالة انسحاب الأحزاب الداعمة للجماعات الاستيطانية المتطرفة منه. وعلى الرغم من أن بعض المراقبين الإسرائيليين يشككون في إمكانية دخول “كاديما” الائتلاف، فإن العديد من الأسباب ربما تدفع في اتجاه هذا الاحتمال بشكل متسارع.

  1. أزمة الائتلاف الحاكم

جاءت نتائج انتخابات عام 2009 في إسرائيل مدعمة لخط التفكك، الذي يعتمل في أوساط الحياة الحزبية والسياسية في إسرائيل منذ سنوات، محيلاً إياها في فسيفساء يصعب تجميع أجزائها، حيث كانت حصيلة أكبر حزبين من الأصوات (“كاديما” 28 مقعداً، و”الليكود” 27 مقعداً) لا تفي مجتمعة بإقامة ائتلاف ينبغي أن يكون مدعوماً بـ61 مقعداً، على الأقل، داخل الكنيست، من 120 مقعداً؛ ناهيك عن الخلافات الكبيرة بين كافة الأحزاب على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والتي تهدد بقاء الائتلافات الحاكمة كما حدث مرات عديدة.

ومع أن نتنياهو تمكن من تشكيل ائتلاف قوي نسبياً (من حيث قاعدة القوة العددية في الكنيست)، مدعوماً بـ74 مقعداً موزعة بين أحزاب “إسرائيل بيتنا” (15 مقعداً)، و”العمل” (13 مقعداً)، و”شاس” (11 مقعداً)، و”يهودت هتوراه” (5 مقاعد)، إلا أن مواقف هذه الأحزاب كانت متباينة في عديد من القضايا، خاصة مسألة الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتصور النهائي لحل الصراع مع الفلسطينيين. واحتوت الاتفاقات الموقعة مع هذه الأحزاب على صياغات غامضة لعبارات كان من شأنها أن تفجر ـ إن أجلاً أو عاجلاً ـ الخلافات بين الشركاء في الائتلاف.

تتفق أحزاب الائتلاف جميعها على ضرورة الإبقاء على القدس موحدة وعاصمة لإسرائيل، وإن اختلف حزب “العمل” وحده مع الأحزاب الخمسة الأخرى الشريكة في الائتلاف، في إمكانية قبول إدارة ذاتية للأحياء العربية في القدس، وكذلك المقدسات الإسلامية والمسيحية، بما لا يخل بالسيادة الإسرائيلية على المدينة.

وبسبب ارتفاع الشعور بالخوف من الهاجس الديموغرافي، والرغبة الجارفة في أوساط الجمهور الإسرائيلي للانفصال عن الفلسطينيين، لا يبدو أن هناك خلافاً بين شركاء الائتلاف على حل الدولتين. وقد بيّن قرار نتنياهو عشيه إطلاق المفاوضات غير المباشرة مع الفلسطينيين، بقبول مبدأ حل الدولتين دون أن يؤدي ذلك إلى ردود فعل عنيفة داخل الائتلاف الحاكم. إن مبدأ حل الدولتين لا يشكل خطراً ملموساً على تماسك الائتلاف الحاكم، وتبقي المشكلة الكبرى في التأثير الواسع للمستوطنين وأحزابهم ومؤسساتهم على حرية الحكومة، في قبول عملية تجميد الاستيطان في الضفة الغربية؛ فإذا كان نتنياهو قد استطاع أن يمرر قرار تجميد الاستيطان، في نوفمبر الماضي ولمدة عشرة أشهر تنتهي في 26 سبتمبر القادم، فإن حزب “الليكود” نفسه الذي يتزعمه نتنياهو اتخذ قراراً بأغلبية كبيرة في لجنته المركزية، في شهر يونيه الماضي، بعدم تجديد فترة تجميد الاستيطان على الرغم من الضغوط الأمريكية والفلسطينية. كما نشطت منظمة “ييشع”، وهي كبرى المنظمات الراعية للاستيطان في إسرائيل، لإطلاق حملة ترهيب ضد نتنياهو لقطع الطريق عليه ومنعه من الاستجابة للضغوط الأمريكية والعربية والدولية، لتمديد قرار تجميد الاستيطان.

في ظل هذه الأوضاع فإن نتنياهو يجد نفسه أمام خيارين صعبين

الأول: هو المحافظة على تماسك الائتلاف باستئناف البناء في الأراضي الفلسطينية، والامتناع عن تمديد قرار حظر الاستيطان، مع تحمل الدخول في مواجهة كبرى مع الإدارة الأمريكية، وكذلك مع أحد الشركاء الكبار في الائتلاف وهو حزب “العمل”، الذي هدد زعيمه باراك بالانسحاب من الائتلاف، إذا ما انهارت عملية التسوية.

الثاني: هو القبول بتمديد قرار تجميد الاستيطان في الضفة والقدس الشرقية، وهو ما سيعجل بانسحاب حزب “إسرائيل بيتنا” ومعه حزب “البيت اليهودي” على الأقل، ما يعني انهيار الائتلاف وحتمية تشكيل حكومة جديدة بالتفاوض مع أحزاب أخرى لضمها لائتلاف جديد، أو الذهاب إلى انتخابات مبكرة، في حالة الفشل في إقناع أحزاب أخرى بالانضمام إلى الائتلاف المزمع تكوينه.

وبالنظر إلى كلا الاحتمالين، فإن فرص لجوء نتنياهو إلى الاحتمال الثاني مع بعض التعديلات، أي إعادة تشكيل الائتلاف، أكبر قليلاً من فرص لجوئه إلى السير في الاحتمال الأول.

المصدر:

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى