دراسات سياسية

موسم الهجرة إلى الشرق: هل تحقق الصين التعددية القطبية الجديدة؟

بقلم _التجاني صلاح عبد الله المبارك

على مدى ما يقرب ثمانية عقود ظلت الإدارات الأمريكية المتعاقبة، تتعامل مع ملف النزاعات العربية خاصة النزاع العربي_الإسرائيلي، باعتبارها وسيطا غير نزيه على إعادة السلام والأمن إلى المنطقة، ووقوفها المساند دائما لإسرائيل، وباعتبارها راعية للسلام والفوضى الخلاقة في وقت واحد، ولهذه الاعتبارات وربما غيرها كانت الحاجة إلى فاعل ومعادل أخر، أكثر قوة وفعالية، ليس في حلحلة النزاعات العربية خاصة وحدها، ولكن لحاجة المنطقة الإقليمية بأكملها إلى عودة الاستقرار والسلم.

ولأن الصين الشعبية ترفض انفراد دولة واحدة بمقدرات النسق الدولي، ولا تميل إلى الدخول في تحالفات مع دول أخرى أو تشكيل أي جبهات في مواجهة قوى معينة، وحرصت على تنحية الخلافات الأيديولوجية بينها وبين دول المنطقة جانبًا، وتنمية علاقات أكثر تعاونية قوامها المصلحة المتبادلة، وهو الأمر الذي يتناسب مع توجهات عدد من دول العالم من أجل تحقيق مستوى أكبر من الاستقرار على الصعيدين الإقليمي والدولي. [1] فقد كانت تمثل وجهة جديدة يمكن بها فرض توازن قوى جديد في المحيطين الإقليمي والعالمي.

ورغم أن ما يميز الصين الهدوء والابتعاد عن الصراعات والنزاعات السياسية في المجتمع الدولي، إلا أنها ترتكز على استراتيجية مختلفة تماما عن الاستراتيجية الأمريكية القائمة على استخدام القوة الفجة، وتوجيه الصراعات بما يخدم مصالحها أولا، فقد كانت الاستراتيجية الصينية تقوم على مبدأ “نسق دولي متعدد القطبية” وهو يعد مبدأ رئيسيًا في حركة السياسة الخارجية الصينية، حيث اتضحت معالمه عالميا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي، ودعمت الصين مبدأ “عالم متعدد الأقطاب” يقوم على عدد من القوى الدولية التي باستطاعتها أن تحقق التوازن مع التأثير العالمي للقوة الأمريكية، رفضت الصين الهيمنة الأمريكية على الشئون العالمية ودعت لنسق دولي متعدد الأقطاب يحقق مصالح الأطراف كافة وهو ما انعكس على الصين وسعيها نحو تأسيس “نسق دولي متعدد الأقطاب”، لذا، تركزت الرؤية الصينية على ضرورة تعزيز القوة الصينية الشاملة للوصول إلى نسق دولي تعددي.[2]

ومن أجل تطبيق ذلك المبدأ فقد كان اهم ما يميز السياسة الخارجية الصينية هو الابتعاد عن الدخول في النزاعات الدولية، وتركيزها بالضرورة على العلاقات الخارجية التي تخدم أهداف التنمية الاقتصادية التي بدورها تقود إلى تحقيق السلم والأمن الدوليين، واعتمدت في ذلك بشكل رئيس على قوتها الناعمة وسعيها في التزام استراتيجية الفائز- الفائز ” Win-Win Cooperation” بعيدًا عن المعادلة الصفرية  Zero-sum game

الإطار النظري الصيني للعلاقات الدولية في فترة ما بعد 1978 يكشف عن وجود توجهين:

1. نظريات النزعة البراغماتية على حساب المنظور الأيديولوجي: [3] فحتى التسعينيات من القرن العشرين، دارت المناقشات في الأدبيات السياسية الصينية حول طبيعة النظام الدولي، وتركزت هذه المناقشات على الأسئلة التي طرحها المفكر الصيني كين QIN سنة 1978 والمتمثلة في عدد من التساؤلات الاستراتيجية حول كيفية النظر للنظام الدولي من زاوية الحرب والصراع، أم من زاوية السلام والتنمية؟ أو التساؤل حول هل تحقق الصين أهدافها من خلال الاندماج في النظام الدولي، أم من خلال التنافس والقوة؟

وسعت الأدبيات الفكرية الصينية إلى أساس صياغة نظام دولي طبقاً لمنظور يقوم على التعددية القطبية، ثم التحول من دولة تريد تغيير النظام الدولي القائم، كما كان الحال في فترة “ماوتسي تونغ “، إلى دولة تسعى للاندماج في النظام القائم إلى حدّ تقديم نفسها كقائدة لمسيرة العولمة، ولكن هذه الدولة تشترط في هذا الإطار القبول بها كدولة تريد مكانة خاصة في النظام الدولي تتناسب ومكانتها الدولية الصاعدة.

وقد استندت هذه التوجهات لمنظور فكري حددته نظريتان سادت الفكر الصيني المعاصر بعد موت “ماوتسي تونغ”، وهي: [4]

أ. نظرية قفص العصفور bird-cage theory التي طرحها Deng Xiaoping، والتي تقوم على فكرة عدم التخلي عن الاشتراكية مع توظيف بعض ميكانيزمات الرأسمالية، أي أن تبقى الصين في” قفص الاشتراكية” مع ضرورة توسيع مساحة القفص.

ب. نظرية لون القط التي صاغ فكرتها “لوي جيوي” Lou Jiwei، وهي التعبير عن النزعة البراغماتية في التوجهات الصينية لفترة ما بعد “ماوتسي تونغ”، فليس مهماً لون القط، المهم أن يصطاد الفئران، أي أن المهم هو النتائج الاقتصادية والسياسية بغض النظر عن “اللون العقائدي”.

2. تعززت التوجهات الفكرية ذات النزوع البراغماتي بتنامي نزوع قومي صيني تجسدت ملامحه في الشروع في إحياء التراث الصيني منذ عهد هسيا Xia Hsiaوالتي تعود إلى 2200 قبل الميلاد.

  ومنذ انتهاء الحرب الباردة تحولت الصين إلى التزام سياسات جديدة تحاول من خلالها إحداث تحول في بنية النظام الدولي، وهو إحداث التحول من آحادي القطبية إلى نسق متعدد الأقطاب أو إلى الوصول إلى حالة من اللاقطبية في النسق الدولي وكان مشروع “الحزام والطريق” أو “طريق الحرير” هو المبادرة التي خرجت بها الصين على العالم في شكل بيان صدر في 18 أغسطس 2003، أكدت فيه ضرورة الاحترام المتبادل للسيادة والسلامة الإقليمية وعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول، وإدارة الصراعات الدولية سلميًا، ومعارضة استخدام أو التهديد باستخدام القوة، ودعم مفهوم جديد للأمن يكون جوهره الثقة المتبادلة والمساواة في السيادة بين الدول أيًا كانت ظروفها الاقتصادية والسياسية، وتحقيق التعاون المنفعي المتبادل والتنمية المشتركة بين الدول كافة.

ولأن السمة الغالبة للعلاقة العربية الصينية هي السمة السلمية لأن التاريخ القريب والبعيد لا يشير إلى نزعة تدخل عسكري من الصين في المنطقة العربية على عكس الاجتياح والاستعمار الغربي القديم والحديث للمنطقة فقد كان لذلك كله مؤشرات جيدة للصين الشعبية في مبادرتها التي تحتاج فيها إلى تأمين حاجاتها من مصادر الطاقة المختلفة سواء النفط أو الغاز الطبيعي في توفير الأمن والحماية للطريق التجاري البري والبحري لمشروع “الحزام والطريق”.

 وبدورها فان مبادرة الحزام والطريق الصينية كانت تمثل واقعا جديدا للعلاقات العربية الصينية، فقد وقعت مع الصين نحو 18 دولة عربية اتفاقات للمشاركة في هذه المبادرة، وانضمت تسع دول عربية إلى البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية.

  ومن منطلق هدف إرساء نسق دولي تعددي، اتبعت الصين عدد من الآليات تهدف إلى الحوار السلمي وتعزيز التعاون والاستفادة المتبادلة، ويعد مدخل توسيع العلاقات التجارية والتعاون التكنولوجي، والمبادلات العلمية والثقافية مع كل دول ومناطق العالم، ومن ثم، تشجيع ما يصفه الصينيون بالرخاء المشترك، أحد المداخل الجوهرية التي تتمسك بها الصين في تنمية علاقاتها الخارجية. [5]

مع هذا، وفي خطوة مفاجئة ليست للخصم التقليدي الولايات المتحدة وحدها فقد فجرت الصين مفاجأة كبيرة من نوعها، في رعايتها وإنجازها للاتفاق التاريخي بين المملكة السعودية وإيران بما يحسب إنجازا للدبلوماسية الصينية بعد قطيعة استمرت سبع سنوات كاملة بين الدولتين الجارتين وبما يعتبر أيضا محاولة للتموضع في النظام الدولي الجديد الذي تعمل الصين جاهدة على وصوله إلى حالة من تعدد الأقطاب أو اللاقطبية. 

 في كتابه (الدول المارقة) يقول “نعوم تشومسکي”: حذر “جوزيف ناي” من أن صعود القوة الناعمة للصين– على حساب نظيرتها الأمريكية-هو أمر يحتاج إلى وقفة جادة وخطيرة، فعناصر القوة الصينية لا تقتصر على تلك المتعلقة بالقوة الصلبة، وإنما تتزايد قوتها الناعمة بشكل مستمر، فالحضور الصيني الدائم على الساحة الإقليمية والدولية يرتكز على أساس من سرعة التنامي الاقتصادي، والاندماج المطرد في الاقتصاد العالمي، وكذلك الدور السياسي الذي تلعبه الصين في النسق الدولي، إضافة إلى التواجد الثقافي المكثف على المسرح الدولي. [6]

الهوامش:

[1] عبد القادر محمد فهمي، دور الصين في البنية الهيكلية للنظام الدولي، (أبو ظبي، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2000).  ص 20

[2] حسن إبراهيم سعد، السياسة الخارجية الصينية تجاه إفريقيا منذ انتهاء الحرب الباردة، رسالة دكتوراه، (جامعة القاهرة، معهد البحوث والدراسات الأفريقية، قسم السياسة والاقتصاد، 2007). ص 120

[3] وليد عبد الحي، الانخراط الحذر: هل تقيد سياسة التوازن دور الصين في الشرق الأوسط، مجلة السياسة الدولية، مؤسسة الأهرام، القاهرة، العدد 207، كانون الثاني/ يناير 2017، ص 25-30.

 [4] وليد عبد الحي، المكانة المستقبلية للصين في النظام الدولي 1978–2010 (أبو ظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث، 2000). ص 51

  [5] الشيماء هشام أبو الوفا، السياسة الصينية في النظام الدولي من 1990 إلى 2005، رسالة ماجستير، (جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2008). ص33

 [6] نعوم تشومسكى؛ تعريب: أسامة أسبر، الدول المارقة: استخدام القوة في الشؤون العالمية، (الرياض، مكتبة العبيکان، 2004)

5/5 - (16 صوت)

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى