دراسات أمريكا الشمالية و اللاتينيةدراسات أمنية

أبعاد تزايد الانقسامات الداخلية في الولايات المتحدة

عرض: د. إيمان عبد الحليم

تعرض النموذج الأمريكي، خلال السنوات الماضية، لإشكاليات عديدة قوضت من حالة الاستثنائية التي لطالما سعت الإدارات الأمريكية المتعاقبة إلى الاستناد إليها للتكريس لصورة إيجابية عن الولايات المتحدة؛ فقد باتت الولايات المتحدة تعاني من انقسامات سياسية داخلية حادة دفعت البعض إلى الحديث عن إمكانية حدوث سيناريو الحرب الأهلية في الولايات المتحدة، لا سيما مع استمرار تداعيات فترة رئاسة “ترامب” على المشهد الأمريكي. وفي هذا الإطار، نشرت “الإيكونوميست” تقريرين بعنوان “السياسة الأمريكية تنقسم، ولاية بولاية، إلى كتلتين”، في 3 سبتمبر 2022، و”الولايات الأمريكية تصبح إحدى أدوات الانقسام”، في 1 سبتمبر 2022، وهما التقريران اللذان يستعرضان أبرز مؤشرات التأزم السياسي الداخلي في الولايات المتحدة وانعكاسات هذا التأزم على الاستقرار الأمريكي.

مظاهر رئيسية

مع حذر الولايات الأمريكية من الخضوع تاريخياً لسطوة الحكومة الفيدريالية، ضمن الدستور الاتحادي سلطات عدة تدعم الحكم الذاتي للولايات، تشجيعاً لها على المصادقة على الدستور، وخصوصاً مع اعتقاد المؤسسين أن جمهورية اتحادية من ولايات متميزة ومتنوعة ستكون محمية من انتشار التعصب الخطير، وليقر التعديل العاشر للدستور منح الولايات الأمريكية صراحة “الصلاحيات غير المفوضة” للحكومة الفيدرالية. ولكن رغم ذلك، شهدت الأعوام القليلة الماضية، على نحو خاص، تنامياً لخطر الانقسام في التوجهات السياسية بين الولايات المتحدة الأمريكية، التي زاد تمايزها بين ولايات داعمة للجمهوريين المحافظين مقابل ولايات أخرى تسود فيها التوجهات الديمقراطية الأكثر ليبرالية. ومن هذا المنطلق، يشير التقريران إلى أبرز مظاهر الانقسام في الداخل الأمريكي على النحو التالي:

1- الموقف المتباين من حظر الإجهاض: يتبدى الانقسام في المواقف بين الولايات إزاء قضية الإجهاض مع الموقف الذي تبناه حاكم ولاية مسيسيبي الجمهوري “تيت ريفز”؛ حيث كان حظر الإجهاض الذي فرضته ولايته في عام 2018 بعد 15 أسبوعاً من الحمل هو الذي أعاد القضية إلى المحكمة العليا؛ ما مهد الطريق لإلغاء قضية “رو ضد وايد” في يونيو الماضي، وهو القرار الذي منح جميع حكومات الولايات حرية تقرير أنظمة الإجهاض الخاصة بها.

وفي المقابل، اعتبر حكام آخرون، ومنهم حاكم كاليفورنيا “جافين نيوسوم”، ذلك التوجه بمنزلة “انهيار عظيم” لكل التقدم الذي تحقق على مدار الخمسين عاماً الماضية داخل الولايات المتحدة، وليعيد الديمقراطيون في كاليفورنيا تأكيد القيم الليبرالية التي يرون أنها مهددة، مع توقيع “نيوم” في يونيو الماضي على قانون يحمي الذين يجرون عمليات الإجهاض أو يتساهلون معها في كاليفورنيا من الدعاوى القضائية المرفوعة في الولايات التي يُحظر فيها الإجهاض، وفي الوقت الذي بدأت فيه كاليفورنيا تطرح الإعفاءات الضريبية أمام الشركات التي قد تفكر في إنهاء نشاطها في الولايات التي تعيق حقوق الإنجاب والمثليين والمتحولين جنسياً.

2- القيود المفروضة على حمل السلاح: تعتبر القيود المفروضة على حمل السلاح من ساحات الخلاف الأخرى بين الولايات بحسب توجهاتها السياسية؛ حيث فرضت عشر ولايات خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام، قيوداً جديدة على شراء أو حمل الأسلحة النارية. في المقابل، تضغط الولايات التي يحكمها قادة وتشريعيون جمهوريون من أجل قيود أقل، وقد تبنى الكثيرون منهم قوانين “الحمل غير المرخص”، التي تزيل جميع القيود المفروضة على مالكي الأسلحة في الأماكن العامة. وقد أضحت أوهايو في يونيو الماضي، الولاية الثالثة والعشرين التي تسمح بذلك.

3- التعامل مع المهاجرين غير الشرعيين: رغم أن تطبيق قانون الهجرة بشكل عام يعتبر من اختصاص الحكومة الفيدرالية، لكن مع ذلك تمثل معاملة المهاجرين غير الشرعيين مجالاً آخر للاختلاف بين الولايات التي تعمل بشكل متزايد على تغيير التجربة والنتائج بالنسبة إلى سكانها غير المسجلين. ومن خلال قوانين مختلفة؛ حيث قامت ولاية كاليفورنيا فعلياً بإضفاء الشرعية على المهاجرين غير المسجلين، وكانت أول ولاية تبدأ في تقديم نظام التأمين الصحي الحكومي للفقراء ولجميع البالغين ذوي الدخل المنخفض، بغض النظر عن وضعهم في إطار قانون الهجرة.

وذلك في الوقت الذي تدفع فيه ولايات مثل تكساس في الاتجاه المعاكس، وقد رفض حاكمها توسيع برنامج التأمين الصحي ليشمل المزيد من مواطني الولاية ذوي الدخل المنخفض، ناهيك عن غير المواطنين. وقد أمر شرطة الولاية بالبدء في إعادة المهاجرين غير الشرعيين إلى الحدود.

4- الاختلاف في التعامل مع تبعات جائحة “كوفيد- 19”: أكدت كذلك جائحة “كورونا” مدى السلطات الممنوحة للولايات منفردة في وضع سياساتها الخاصة بالتعامل مع الوباء، ومن خلال مسارات مختلفة بعضها عن بعض؛ حيث فضلت الولايات التي تصنف ديمقراطية وضع قيود أكبر وتقييد النشاط التجاري، في مقابل معارضة الولايات الجمهورية مثل هذه الإجراءات، فيما بدا أنه انشقاق بين الولايات حول إذا ما كان ينبغي إعطاء الأولوية للاقتصاد أو الصحة العامة.

5- التنازع بشأن سياسات مكافحة التغير المناخي: حيث يشير التقريران إلى أن السياسات الخاصة بمكافحة تغير المناخ هي أيضاً سياسات مثيرة للانقسام؛ ففي حين أعلنت ولاية كاليفورنيا في أغسطس الماضي أنها ستحظر بيع السيارات التي تعمل بالبنزين اعتباراً من عام 2035، أعلنت ولاية فرجينيا الغربية في يوليو أنها ستتوقف عن التعامل مع خمسة بنوك كبرى تنتقد استخدام الفحم.

تداعيات ممتدة

تنطوي مظاهر الانقسام الداخلي على عدد من التداعيات السلبية بالنسبة إلى الولايات المتحدة. وتتمثل أبرز هذه التداعيات، بحسب “إيكونوميست”، فيما يلي:

1- التباين السياسي يثير مخاوف تعميق حالة الانقسام بين الولايات: يفترض من الناحية النظرية أن يكون الخلاف بين الولايات الأمريكية له أوجه إيجابية، مع وجود نحو 50 مختبراً في 50 ولاية لاختبار السياسات المختلفة، وحيث يمكن للمواطنين المفاضلة والانتقال للعيش بين الولايات، وكذلك يمكن للشركات أن تختار العمل في الأماكن التي تنعكس فيها تفضيلاتها المحلية، كما كان الحال أثناء الوباء. غير أن إدارة الخلاف بين السياسيين داخل الولايات المتحدة لا تتم على هذا النحو؛ حيث يخوض كل طرف حرباً ثقافية وطنية ضد الطرف الآخر المختلف معه، ومن خلال تعمد إثارة القضايا التي تثير غضب أنصار الطرف الآخر، بطريقة لا تؤدي، مثلاً، إلى إصلاح الطرق أو تحسين السياسة الضريبية.

2- ترسيخ النفود الحزبي في الولايات يضاعف مخاوف الانقسام: تتضاعف المخاوف بشأن ترسيخ حالة الانقسام القائمة بين الولايات؛ ليس فقط لمنحها بالفعل المزيد من الصلاحيات، ولكن أيضاً للاستقطاب السياسي القائم بين الجمهوريين والديمقراطيين الذي تتنامى سيطرتهم السياسية منفردة على ولايات دون أخرى؛ إذ يوجد اليوم 37 ولاية من أصل 50 ولاية يسكنها نحو ثلاثة أرباع الأمريكيين يسيطر فيها حزب واحد على مناصب حكام الولاية وعلى مجلسي التشريع. وتنقسم هذه الولايات بين 23 ولاية يسيطر عليها الجمهوريون مقابل 14 ولاية ديمقراطية، في حين كانت هذه الولايات 19 فقط قبل ثلاثين عاماً مضت. وفي حال إعادة تقسيم الدوائر التي تسيطر عليها الهيئات التشريعية في معظم الولايات، فإن ذلك يجعل الأمر أسوأ من خلال تقليل المنافسة السياسية؛ حيث يعيد الفائزون رسم الخرائط الانتخابية لمصلحتهم الخاصة.

3- التأثير على نظام التصويت والانتخابات على المستوى الوطني: إن تنامي مظاهر التباين بين الولايات يترك أثره على الاتحاد، وخصوصاً مع سلطات كل ولاية في إدارة عملية التصويت والانتخاب، من خلال التحكم في آليات الوصول المبكر إلى التصويت، والمتطلبات الخاصة بتأكيد هوية الناخب، وفرص التصويت عبر البريد، وإذا ما كان ينبغي إعادة منح المجرمين حق الاقتراع؛ ففي عام 2021، وسعت 29 ولاية فرص التصويت عن طريق البريد، بينما قيدته 13 ولاية، في حين تستهدف العديد من الولايات التي يسيطر عليها الجمهوريون إدارة الانتخابات، على سبيل المثال، من خلال تحويل سلطة الرقابة بعيداً عن البيروقراطيين غير الحزبيين إلى الفاعلين السياسيين؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى تعقيد مصادقة الولايات على نتائج الانتخابات.

4- المخاوف من تحول الانقسام السياسي بين الولايات إلى نمط صراعي: ذلك أن بعض الولايات لا تبدي اهتماماً بإدارة الخلافات فيما بينها بقدر اهتمامها بتوجيه هذه الاختلافات في إدارة الصراعات فيما بينها، ومن أمثلة ذلك إقرار كاليفورنيا في عام 2016 “نظام عقوبات” يحظر استخدام أموال الولاية في السفر غير الضروري إلى الولايات التي تميز ضد المثليين والمتحولين جنسياً. ويوجد الآن 22 ولاية على قائمة الممنوعين من السفر، فيما يمكن للأنظمة التي تقيد الاتصال والسفر بين الولايات، حتى لو كانت إجراءاتها في معظمها رمزية، أن تجعل العلاقات بين الولايات أكثر حدة.

ومع الإشارة كذلك إلى أن العديد من الولايات لا تكتفي مثلاً بالحد من الإجهاض داخل حدودها، بل تسعى إلى معاقبة الأشخاص من خارج الولاية الذين يساعدون ويحرضون على الإجهاض، وهو ما يضعهم في مواجهة ضد ولايات أخرى مثل كاليفورنيا وكونيتيكت، التي تمرر قوانين جديدة لحماية المواطنين من الدعاوى القضائية المتعلقة بالإجهاض الذي تسهله ولايات أخرى.

5- التبعات السلبية للانقسام على النموذج الأمريكي: إن التباينات القائمة بين الولايات الأمريكية لها أثر أشد خطراً على كون الولايات المتحدة وجهة لكبريات الشركات العالمية؛ ذلك أنه يجعل من الصعب القيام بأعمال تجارية بالدولة التي كانت ذات يوم سوقاً عملاقة متجانسة؛ حيث تدفع ولايات مثل كاليفورنيا ونيويورك الشركات الآن لتصبح أكثر اخضراراً، بينما تعاقبها تكساس وفرجينيا الغربية لتفضيلها الطاقة المتجددة على النفط والغاز. وفي القترة الأخيرة، ذهبت تكساس إلى حد إدراج عشر شركات مالية في القائمة السوداء لكونها أكثر مراعاة للبيئة، ولا شك أن التباين المتزايد في اللوائح الاقتصادية يزيد خطر التوترات ويقلل ميزة وجود سوق محلية كبيرة ومفتوحة.

ولا يتوقف الأمر عند هذا؛ ذلك أن أكبر مصدر للقلق هو أن التحزب يمكن أن يقوض الديمقراطية الأمريكية ذاتها، وهو ما يفرض على الحكومة الفيدرالية التوقف عن إهمال مسؤولياتها الوطنية، وخصوصاً تجاه القضايا التي تنعكس تبعاتها على المستوى الوطني العام، ودون إغفال الأهمية الكبرى لإصلاح النظام الانتخابي على نحو خاص، وحيث يمكن للولايات كذلك إعادة تقسيم الدوائر من خلال لجان مستقلة، كما تفعل ميتشجان، في سبيل إلغاء تسييس العملية الانتخابية، ووضع قيود على فرص الحزب الواحد لترسيخ قواعده المحلية.

خلاصة القول أن التحولات التي شهدتها الولايات المتحدة خلال السنوات الماضية عكست، بشكل أو بآخر، حالة من التأزم تهدد نموذج الاستثنائية الأمريكية، وخصوصاً أن هناك العديد من القضايا – مثل قضايا الإجهاض وحمل السلاح والتعامل مع المشكلات الاقتصادية والتهديدات غير التقليدية كجائحة كورونا – تفرق الأمريكيين أكثر مما تجمعهم، ناهيك عن مساعي الحزبين الديمقراطي والجمهوري لتوظيف هذه التباينات لخدمة مصالحهما السياسية وإضعاف الطرف الآخر.


 إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى