دراسات سياسيةنظرية العلاقات الدولية

أثر متغيرات النظام الدولي على الأمن الإقليمي العربي: دراسة تأصيلية لدور نظرية الأيکولوجية السياسية

مجلة السياسة والاقتصاد، المقالة 7، المجلد 10، العدد (9) ینایر 2021، الشتاء 2021، الصفحة 1-26 ، من اعداد وئام السيد عثمان قسم العلوم السياسية والادارة العامة -کلية التجارة -جامعة بورسعيد

المستخلص

هدفت الدراسة إلى التعرف على التغيرات التي طرأت على النظام الإقليمي العربي من خلال دراسة عوامل الارتباط مع النظام الدولي، وقد استندت الدراسة إلى تحليل هذه التغيرات من خلال نظرية الأيکولوجية السياسية لما لها من أهمية في دراسة أبعاد وانعکاسات هذه التأثيرات على عملية مدخلات ومخرجات هذه الدول، بالإضافة إلى دراسة طبيعة التفاعلات الأيکولوجية في داخل الدول العربية کإطار شامل يمکن من خلاله توضيح عوامل تهديد الأمن الإقليمي العربي وسبل مواجهة هذه المخاطر کبداية لتعزيز فرص تأسيس نظم سياسية عربية تتلاءم مع طبيعة التهديدات التي تواجهها الدول العربية، وضمن سياق آخر محاولة إيجاد الفرص وتعزيزها نحو امتلاک الدول العربية مقومات القوة للهيمنة الإقليمية.

مقدمة: 

إن ما یمر به العالم من تداعیات أزمة کورونا وتأثیرها علی مستقبل النظام الدولی، وما تمر به المنطقة العربیة منذ نهایة دیسمبر 2010 من تراجع فی معدلات الاستقرار السیاسی فی هذه النظم، بالإضافة إلى تزاید الاختراقات الخارجیة للأمن الإقلیمی، وتفاقم الأزمات الداخلیة فی کل من العراق وسوریا ولیبیا والیمن، وتحول آلیات اختراق الأمن الإقلیمی من استخدام القوة العسکریة فی الصراع بین الدول إلی اختراق قائم علی تفکک المجتمعات الداخلیة وفقاً للطبیعة الأیکولوجیة لکل نظام. الأمر الذی یظهر أهمیة إحیاء تطبیق نظریة الأیکولوجیة السیاسیة لإعادة تقییم الوضع الراهن، ووضع مقاربة لتعزیز الأمن الإقلیمی العربی من خلال تحدید ورصد الاعتماد المتبادل الفعال بین النظام السیاسی وخصوصیة البیئه بهدف مواکبة متطلبات متغیرات النظام الدولی الذی یری حالیاً أن أفضل استثمار فی الأمن القومی هو: تحقیق الأمن التنموی فی جمیع المجالات “الاقتصادیة – الاجتماعیة – السیاسیة – – الثقافیة” إلی جانب المجال العسکری. وتهدف الدراسة إلی: تعزیز الأمن الإقلیمی العربی من خلال إعادة تقییم تطبیقات نظریة الأیکولوجیة السیاسیة ودورها فی مواجهة تأثیرات متغیرات النظام الدولی، بالإضافة إلى تقییم تطبیق دور نظریة الأیکولوجیة السیاسیة ودورها فی تأثیرات متغیرات النظام الدولی سواء بتعظیم فرص تأسیس نظم سیاسیة تتلاءم مع طبیعة الأمن الإقلیمی العربی، بما یزید التخلص من التبعیة، وامتلاک مقومات القوة القائد إقلیمیاً أو تحقیق الریادة الإقلیمیة. وهنا تظهر إشکالیة الدراسة فی تساؤل رئیسی، هو: إلى أی مدى یمکن لنظریة الأیکولوجیة السیاسیة أن تطبق بصورة عملیة؛ لتعزیز الأمن الإقلیمی العربی أثناء التصدی للتبعیة الخارجیة وتحدیات متغیرات النظام الدولی؟، ومن هذا التساؤل صاغة الدراسة فرضیة تحددت فی :أن إستجابة الأنظمة السیاسیة العربیة إلى تعظیم فرص مقومات القوة المهیمنة إقلیمیاً یکون بامتلاک إیکولوجیا سیاسیة  خاصة یساعد فی القضاء علی مخططات التقسیم والدمج فی إقلیم الشرق الاوسط الجدید، وتستخدم الدراسة التکامل المنهجی لکل من المنهج الاستنباطی والاستقرائی، بالإضافة إلى استخدام الاقتراب الوظیفی أثناء عملیة التحلیل.

وبناء على ذلک تم تقسیم الدراسة إلی مجموعة من المحاور وهی: المحور الأول بعنوان التأصیل النظری للدور الأمنی للأیکولوجیة السیاسیة، ویهدف إلى دراسة الاتجاهات النظریة المفسرة لمفهوم الأیکولوجیة السیاسیة والمنطلقات الفکریة الخاصة بهذا المفهوم، والمحور الثانی بعنوان تحدیات وفرص تأثیر متغیرات النظام الدولی علی الأمن الإقلیمی العربی، ویهدف إلى دراسة مجموعة التغیرات التی طرأت على النظام الدولی سیاسیاً واقتصادیاً وعسکریاً. فیما جاء المحور الثالث بعنوان مقاربة استشرافیة لدور تفعیلی لنظریة الأیکولوجیة السیاسیة فی إطار تعزیز أمن النظام الإقلیمی العربی.

الملخص :

هدفت الدراسة إلى التعرف على التغیرات التی طرأت على النظام الإقلیمی العربی من خلال دراسة عوامل الارتباط مع النظام الدولی، وقد استندت الدراسة إلى تحلیل هذه التغیرات من خلال نظریة الأیکولوجیة السیاسیة لما لها من أهمیة فی دراسة أبعاد وانعکاسات هذه التأثیرات على عملیة مدخلات ومخرجات هذه الدول، بالإضافة إلى دراسة طبیعة التفاعلات الأیکولوجیة فی داخل الدول العربیة کإطار شامل یمکن من خلاله توضیح عوامل تهدید الأمن الإقلیمی العربی وسبل مواجهة هذه المخاطر کبدایة لتعزیز فرص تأسیس نظم سیاسیة عربیة تتلاءم مع طبیعة التهدیدات التی تواجهها الدول العربیة، وضمن سیاق آخر محاولة إیجاد الفرص وتعزیزها نحو امتلاک الدول العربیة مقومات القوة للهیمنة الإقلیمیة.

الکلمات الدالة: الأیکولوجیة السیاسیة – الأمن الإقلیمی العربی – النظام الدولی.

المحور الأول: التأصیل النظری للدور الأمنی لنظریة الأیکولوجیة السیاسیة

یعرف علم الأیکولوجیا بأنه علم البیئة  أو علم الأحیاء البیئی(بالإنجلیزیة: Environmental Biology)، وهو أحد فروع البیولوجیا أو علم الأحیاء، ویهتم بدراسة علاقة الکائنات الحیة مع بعضها البعض، ومع محیطها أو بیئتها. [1]،  لذا  اعتبر الکثیرون “الأیکولوجیا السیاسیة” “Political Ecology”  منذ بدایة ظهورها الفرع الثالث للجغرافیا السیاسیة؛ حیث تم تعریفه کحقل جغرافی على أنه ذلک العلم الذی یربط قضایا الأیکولوجیا وفواعلها بالاقتصاد السیاسی بمعناه الواسع من منظور مکانی) [2]،ولقد رکزت الأیکولوجیا بوجه عام على علاقات القوة غیر المتکافئة، مثل الصراع، والتحدیث الثقافی تحت تأثیر الاقتصاد السیاسی الرأسمالی العالمی والذى یعد المفتاح القوی فی إعادة تشکیل الإنسان وزعزعة استقراره من خلال تفاعلاته مع البیئة المادیة. فی حین أن نظریة الأیکولوجیا والنظم الثقافیة أکدت على التکیف والتوازن معاً فقد أکدت الأیکولوجیا السیاسیة أیضاً على دور السیاسة، والاقتصاد کقوة یمکن لها أن تتجاوز سوء التکیف وعدم الاستقرار[3].

أولاً: ما هی “الأیکولوجیا السیاسیة”:

 تمثل الدراسة محاولة لتکوین اطاراً  نظریاً لحقل جدید یتشکل تناوله تحدیداً منذ الثمانینیات من القرن العشرین، وهو مصطلح “الأیکولوجیا السیاسیة”. وإنطلاقاً من أن تحدید المفهوم یعد خطوة أساسیة لمعرفة اتجاهات تطوره[4]. لذا یتم استعراض مجموعة من التعریفات الخاصة بالأیکولوجیا السیاسیة من خلال مؤلف الکاتب Blaikie، P.M.”” والذی یحمل عنوان:

 “The political Economy of soil erosion in developing countries” ــــــ وهو ما یُعد البدایة الحقیقیة لوضع حجر الأساس لمفهوم لأیکولوجیا السیاسیة وذلک فی عام 1985ـــــ وذلک کما یلی: [5]

1- هناك من یعرف “الأیکولوجیا السیاسیة” على أنها فحص المشاکل البیئیة کتفاعل ظاهرتی”Phenomenological Interaction” للعملیات البیوطبیعیة، والحاجات البشریة، والنظم السیاسیة [6] . حیث تم تعریفها على أنها مجال یتم فیه دمج اهتمامات الأیکولوجیا والاقتصاد السیاسی بتعریفه العام والشامل، وهذا یشمل الجدل بین المجتمع والموارد، وکذلک داخل الطبقات والمجموعات ضمن المجتمع نفسه.

2- هناک أیضاً مفهوم “سیاسة الأیکولوجیا” “Politics Of Ecology” بمعنى الفاعلیة السیاسیة لصالح البیئة الخضراء العمیقة ونقدها للحداثة والرأسمالیة؛ حیث جاء ذلک فی تعریف “Atkinson” للأیکولوجیا السیاسیة التی هی مجموعة من الأفکار والمسائل النظریة من ناحیة، وحرکة اجتماعیة یشار لها کحرکة أیکولوجیة من ناحیة أخرى[7].

3-ثمة اتجاه آخر اعتمد على استخدام الأیکولوجیا کاستعارة “Metaphor” للارتباطات الداخلیة للعلاقات السیاسیة، وهذه الاستعارة تم تبنیها من قِبل أول کتاب للأیکولوجیا السیاسیة فی عنوانه “الأقالیم العالمیة والنظام العالمی: دراسة فی الأیکولوجیة السیاسیة” عام 1967، وعلى الرغم من ذلک لم یناقش الکتاب تغیر أو صیانة البیئة البیوطبیعیة فقد کتب أنه قدم مصطلح “دراسة فی الأیکولوجیا السیاسیة” وعرف الأیکولوجیا على أنها علاقة الأفراد بالبیئة الخاصة بهم؛ حیث حاول اکتشاف بعض العلاقات بین النظم السیاسیة وبیئتها الاجتماعیة والطبیعیة[8].

4- أن “الأیکولوجیا السیاسیة” عُرفت على أنها تحلیل أکثر دقة للنقاشات المارکسیة حول المادیة، والعدالة، والطبیعة فی المجتمعات الرأسمالیة، مع نظرة إلى تحقیق توزیعاً أفضل للحقوق [9] والموارد  [10].

5- من ناحیة أخرى هناک أیضاً استعمالًا لمفهوم الأیکولوجیا السیاسیة للإشارة إلى مصطلحات عامة فی سیاسة المشاکل البیئیة “Politics Of Environmental Problems” بدون مناقشة محددة للأیکولوجیا. فنجد على سبیل المثال “Bryant” یصف الأیکولوجیا السیاسیة کفهم للقوى السیاسیة وظروف وعواقب التغیر البیئی، ویمکن أن یتضمن دراسات الآثار البیئیة من مصادر مختلفة، ومظاهر موقع معین للتغیر الأیکولوجی وتأثیر التغیر البیئی على العلاقات الاجتماعیة، والاقتصادیة، والسیاسیة [11].

وترکز الدراسة علی تعریف “”Bryant” لإتساقة مع الهدف الرئیسی، ولکونه الخبرة المعرفیة التاریخیة التی تحاول الدراسة أن تستکمل من حیث ما انتهت أرکان نظریة الأیکولوجیا السیاسیة.

وبناءً علی ما سبق یتم تعریف الأیکولوجیا السیاسیة بأنها “ذلک الواقع المعرفی الذى یقدم إطاراً تحلیلیاً لوصف التفاعلات المرکبة بین المجتمع والبیئة، ویرصد  العوامل، والفواعل، والمؤسسات، والهیئات، والدوافع التی تسهم فی هیکلة البیئة المعاصرة على کافة المستویات المحلیة والوطنیة والدولیة”.

ثانیاً: تأصیل تطور الأیکولوجیا السیاسیة تاریخیاً وعلاقتها بالعلوم الأخرى:

ظهر أول استخدام لهذا المصطلح فی عام 1970؛ حیث تم تعریفه من قبل “ستیوارد” عام 1955 على أنه التقاء البیئة الثقافیة مع البیئة الاجتماعیة والتی ربطت استراتیجیات النجاح البیئی بالتکیف الثقافی للإنسان مع البیئة الاجتماعیة والأنظمة السیاسیة على الرغم من وجود اختلافات مهمة بینهما [12]. ونادراً ما تم الاهتمام بتاریخ الأیکولوجیا السیاسیة أو موقعه بین العلوم. ومن ناحیة أخرى فان الاهتمام کان ینصب فی هذا الحقل على تطبیق مبادئ الاقتصاد السیاسی، وهو ما قاد إلى تأخر ظهور هذا الحقل المعرفی ومن ثم تأخر اهتمام الباحثین به ولاسیما أن فهم أهمیة البحث فی أی حقل یتناسب طردیاً مع تطور ذلک الحقل [13].

 ومن خلال ما سبق یلاحظ أن العلاقة بین الأیکولوجیا السیاسیة والعلوم الأخرى علاقة تکاملیة- کما أوضحنا من قبل فی ضوء التعریفات السابقة – فنجد أن الأیکولوجیا السیاسیة یمکن أن تمیز على أنها حقل بحثی جغرافی فی الأساس نظراً لأن أغلب من اهتموا به کانوا من الباحثین فی العلوم الجغرافیة، إلا أنها ومع ذلک فإن لها علاقات قویة مع حقول أخرى مثل الإدارة البیئیة، والأیکولوجیا الحضاریة، والسیاسة البیئیة وهذا ما یمکن استیضاحه من التعریفات السابق ذکرها.

ثالثاً: الدور الأمنی فی ضوء تطبیق نظریة الأیکولوجیا السیاسیة:

أحدثت نهایة الحرب الباردة تغییراً فی الأسالیب الأمنیة التقلیدیة، ولم تعد النماذج السابقة لمعالجة الأمن مناسبة للتعامل مع الحقائق والتهدیدات والتحدیات الجدیدة. واتجهت مراکز الفکر الجدید فی هذا النهج نحو دراسة الأمن من خلال دمج واستخدام الأساس المنطقی للتنمیة، ووضع الأمن فی تقاطع الحکم، وسیادة القانون، والإصلاح الاقتصادی، وحل النزاعات ومشروعات إعادة الإعمار، وإلى جانب ظهور مفهوم متعدد الأبعاد للأمن، کان الاتجاه الأساسی الآخر فی المنطقة منذ أواخر السبعینیات هو عملیة الانتقال نحو الأنظمة الدیمقراطیة، بما فی ذلک الانتخابات، وفی هذا الإطار السیاسی والمؤسسی الجدید، یحق للمواطنین أن یشعروا بالأمان والحمایة فی حیاتهم الیومیة، ومن ثم قادت الولایات المتحدة جهود إعادة تأهیل العالم العربی ضمن ما یعرف بمشروع الشرق الأوسط الکبیر عبر الإصلاح السیاسی والاقتصادی والاجتماعی، من خلال سیاسة تداخلیة تقوم على الترکیز على الأوضاع الداخلیة للدول العربیة. وبدأ الترکیز بوجه خاص على الربط بین التطرف والعنف وبین نقص الحریات السیاسیة ومستویات التعلیم وحقوق الإنسان وتحریر المرأة [14].

رابعاً: أیکولوجیا الدیمقراطیة:

أدى التدهور الاقتصادی ورغبة بعض الدول فی أحداث التنمیة – وما أعقبه من أزمات وخاصة الاجتماعیة – بالعدید من النظم إلى ادخال إصلاحات هیکلیه على مؤسساتها الاقتصادیة والسیاسیة، کما شکلت رغبتها فی الاستعانة بقروض، ومنح صندوق النقد والبنک الدولیین ودول أوروبا الغربیة والولایات المتحدة الأمریکیة، عاملاً رئیسیاً للتحول إلى الدیمقراطیة؛ حیث تشترط بعض تلک المؤسسات والدول أن تتضمن عملیة التحول الاقتصادی تحولاً دیمقراطیاً باتجاه مزید من الحریات، وتداول السلطة، والانتخابات، والمشارکة السیاسیة، ودعم حقوق الإنسان، وقد نجحت تلک الشروط فی تحول العدید من البلدان وبالأخص العربیة إلى الدیمقراطیة، کما سعت إلى إدخال إصلاحات فی بنیتها الاقتصادیة والسیاسیة، فخلال عقد السبعینات من القرن الماضی أقدمت العدید من النظم السیاسیة العربیة على إحداث إصلاحات دستوریة وقانونیة سمحت بإنشاء الأحزاب السیاسیة[15].ویمکن القول إنه برغم استعانة النظم العربیة بنماذج الدیمقراطیة الغربیة، إلا أنها لم تراع فی التطبیق البیئة السیاسیة وطبیعة المجتمعات العربیة، وهو ما أدى إلى فشل تلک التجارب أو اقتصارها على نموذج الدیمقراطیة الإجرائیة أو الشکلیة  [16].

وضمن السیاق ذاته یأتی دور نظام المعونات الدولیة، وفی القلب منه مؤسسات بریتون وودز “البنک الدولی وصندوق النقد الدولی” کحلقة وسط تعکس تأثیرات النسق الدولی على نظم الحکم فی الدول المتلقیة للمعونة، وفی هذا السیاق، فقد شهد عقد التسعینات الصعود المتزامن “للمشروطیة السیاسیة” التی طبقتها المؤسسات المالیة الدولیة، فی ظل برنامج الحکم الرشید “Good Governance”، والاتجاه إلى تبنی التعددیة السیاسیة الحزبیة فی العدید من الدول النامیة شدیدة الاعتماد على المعونة، وعلى وجه الخصوص الأفریقیة، والتی فی جوهرها تربط بین المساعدات الاقتصادیة، وتطبیق خطة الإصلاح الاقتصادی[17]، ویمکن القول بأن البحث فی شؤون الدیمقراطیة وسبل الدولة، والأفراد إلى تدعیمها، ومواجهة آثار تراجعها، وانخفاض المشارکة فی ما تتیحه من “مسارات، وخیارات، واختیارات” مع الأخذ فی الاعتبار البیئة المحیطة التی یعیشها الأفراد [18]، هو ما تهدف إلیه الدراسة من ثنایا تناول مصطلح أیکولوجیا الدیمقراطیة فی تحدید: استراتیجیة لإدارة عملیة التحول الدیمقراطی، بما یتوافق مع طبیعة البیئة من خلال عملیة تدریجیة تتحول إلیها المجتمعات عن طریق مؤسساته السیاسیة واتجاهتها من خلال عملیات وإجراءات شتى ترتبط بطبیعة الأحزاب السیاسیة وبنیة السلطة التشریعیة ونمط الثقافة السیاسیة السائدة وشرعیة السلطة التشریعیة [19]، وذلک بهدف الوصول إلى أمن تنموی تستقر من خلاله الأنظمة السیاسیة فی الإقلیم العربی.

المحور الثانی: تأثیر متغیرات النظام الدولی على الأمن الإقلیمی العربی

إن التغیرات التی تحدث على المستوى الدولی من إعادة الهیکله لبعض التکتلات، والمؤسسات والأحلاف، أو إقامة مؤسسات جدیدة، أو التحولات من نظام متعدد القطبیة إلى ثنائی القطبیة أو إلى قطب واحد، وصولاً للمرحلة الحالیة التی یعانی منها النظام الدولی من عدم الاستقرار بسبب الأزمة الصحیة العالمیة لإنتشار فیروس کورونا، التی کان لها من الأثر على أمن الأنظمة الإقلیمیة علی المستوى العالمی وفقاً لطبیعة استجابة کل دولة والتی تتنوع بسبب اختلافات الأیکولوجیا السیاسیة لکل إقلیم.

أولاً: متغیرات النظام الدولی المعاصر:

شهد العالم منذ انهیار الاتحاد السوفیتی وحتى مطلع عام 2020 ثلاث تحولات عمیقة فی النظام الدولی: الأولى وقد اختصت بالتحول فی هیکل النظام؛ حیث انتقل النظام من ثنائیة القطبیة إلی أحادیة القطبیة بزعامة الولایات المتحدة ثم ازدهار الصین لتنازع فی الآحادیة القطبیة، والثانیة تتمثل فی طبیعة النظام الدولی فلقد حدث تحول جذری فی قائمة الاهتمامات العالمیة المترکزة حول الأمن والاستراتیجیة إلى قضایا النمو والتطور الاقتصادی، والبیئة والرفاهیة والأقلیات وحقوق الإنسان، والثالثه تمثلت فی بنیة المؤسسیة للنظام فیما یتعلق بحفظ السلم والأمن الدولیین أو وظیفتها فی معالجة المشکلات الاقتصادیة والاجتماعیة  [20]. ونتج عن هذه التحولات متغیرات دولیة استهدفت إعادة رسم خریطة العالم من خلال عولمة النظام بالاعتماد علی اسس اقتصادیة تتحکم بها الدول الکبرى لتحقیق مصالحها مقابل تهمیش سیادة الدول وتراجع إرادتها السیاسیة، ولم یلبث الأمر أن یتحول فیما بعد أزمة جائحة انتشار فیروس کوفید 19، ومع تعدد المتغیرات وتأثیراتها فقد قسمت الدراسة المتغیرات إلی:

1- متغیرات اقتصادیة:

ثمة مجموعة من المتغیرات الاقتصادیة التی ساهمت فی التأثیر على طبیعة التحولات التی کان لها الدور الأبرز فی تشکیل النظام الدولی على النحو التالی:

 أ- الانتقال إلی اقتصادیات السوق: انطلاقاً من تصور أمیرکی یری ان الاقتصاد الرأسمالی هو الأفضل وأنه یصلح لجمیع دول العالم  [21] مستخدماً کل من البنک الدولی وصندوق النقد الدولی کأداة عالمیة، إلا أن منذ عام 2008 مازالت الاقتصادیات الرأسمالیة تعانی من تداعیات الأزمة المالیة، الأمر الذی مهد إلی تراجع تأثیر البنک الدولی وصندوق النقد الدولی وخاصة بعد أن تم افتتاح بنک التنمیة الجدید من جانب مجموعة بریکس فی مدینة شنغهأی فی الصین عام 2015، والهدف منه إنشاء منظمة دولیة شبیهة بالبنک الدولی قادرة على تمویل المشاریع التنمویة فی البلاد النامیة. ومن المتوقع أن یلعب هذا البنک دوراً مهماً منافساً للبنک الدولی، وأن تلجأ إلیه الدول النامیة هرباً من شروط البنک الدولی وصندوق النقد الدولی المجحفة وسیاسات التثبت والتکییف الهیکلی والتی أثبتت فشلها وأضرت وأفقرت العدید من الدول.

ب- ظهور التکتلات الاقتصادیة الدولیة: تعتبر سیاسة الاعتماد المتبادل وتقسیم العمل فی مجالات الاستثمار والتجارة من أهم خصائص النظام الاقتصادی العالمی الحدیث، والتی یتم تحقیقها من خلال سعی الدول المتقدمة والنامیة على اختلاف مذاهبها الاقتصادیة ودرجات نموها لإقامة تجمعات اقتصادیة عملاقة تحتفظ فیه الدول القطریة بشخصیتها القانونیة ومکانتها وسیادتها. ویمکن النظر للتکتلات الاقتصادیة على أنها تعاون بین دول التکتل وتکامل فی الإنتاج وفی ذات الوقت جدار لمواجهة الاقتصادات الأخرى القوىة. إلاّ أن هذه التکتلات لا تتوقف عند نقطة المصالح الاقتصادیة بل تنظر إلى أفق بعید وأشمل للتحول بعد ذلک إلى کتل سیاسیة کبرى، ومن أبرز تلک التکتلات(الاتحاد الأوروبی- نافتا-البریکس-آسیان-إیبسا- تجمع المیروکوسور).

ج- الشرکات متعددة الجنسیات، وهی شرکة مقرها الرئیسی فی الدولة الأم، ولها نشاطات اقتصادیة متعددة فی مجالات تجاریة وصناعیة ومالیة، وعملیات موزعة على أکثر من دولة سواء عن طریق مشاریع خاصة أو شرکات تابعة، وکثیراً ما تندمج مع شرکات من دول أخرى، وهو ما جعلها تسیطر على نسبة کبیرة من التجارة العالمیة. وتعد الشرکات متعددة الجنسیات من أهم ملامح ظاهرة العولمة أو النظام الاقتصادی الجدید، وتمتاز هذه الشرکات بضخامة حجمها وتنوع نشاطها وانتشارها الجغرافی والسوقی، وقدرتها على تحویل الإنتاج والاستثمار عالمیاً وإقامة التحالفات الاستراتیجیة[22].

د- اقتصادیات المعرفة: یشهد الاقتصاد الجدید تغیُّرات جذریة فی آلیات اقتصادیات السوق، والتحول نحو ما یعرف باقتصادیات المعرفة، وهو الاقتصاد الذی یشکل فیه إنتاج المعرفة وتوزیعها واستخدامها المحرِّک الرئیسی لعملیة النمو المستدام ولخلق الثروة وفرص التوظیف فی کل المجالات. کما أنه یقوم على أساس إنتاج المعرفة، واستخدام ثمارها وإنجازاتها، بحیث تشکل هذه المعرفة مصدراً رئیساً لثروة المجتمع المتطوِّر ورفاهیته. وفیما یتعلق بأشکال المعرفة فهی تتمثل فی: المعرفة الصریحة التی تشتمل على قواعد البیانات والمعلومات والبرمجیات وغیرها، أو المعرفة الضمنیة التی یمثلها الأفراد بخبراتهم ومعارفهم وعلاقاتهم وتفاعلاتهم. ویدار هذا الاقتصاد من خلال التسویق الإلکترونی والتجارة الإلکترونیة التی تزول فیها الحدود تدریجیاً بین التجارة الداخلیة والخارجیة؛ حیث بدأت الأسواق فی العصر الجدید تتراجع لصالح “اقتصاد الشبکات”، والانتقال من نظام الامتلاک القائم على فکرة الملکیة بمفهومها التقلیدی، إلى نظام النفاذ Access القائم على فکرة الاستخدام [23].

2- متغیرات العولمة:

مهدت عملیة الاعتماد المتبادل إلی عملیة أخری وهی(العولمة) فمع بدایة التسعینات ظهر فی السیاسة الدولیة هذا المصطلح لیعبر عن ظاهرة تشیر إلى تحول العالم إلى سوق وقریة عالمیة واحدة تنتقل فیها عناصر الإنتاج دون قیود فی ظل نسق عالمی جدید یتخطى نسق الدولة القومیة یقود تلک العملیة ویحرکها القوة الرأسمالیة المتمثلة فی الشرکات متعددة الجنسیة والحکومات التی تعمل لتحقیق مصالح تلک الشرکات مستندة إلى مکتسبات “الثورة الصناعیة الثالثة” التی أعطتها قوة تکنولوجیة هائلة وقدرة اقتصادیة هائلة علی تحقیق مصالح تلک القوى الرأسمالیة من خلال تنمیط العالم بما یتفق وتلک المصالح، ویقصد بالتنمیط فی هذا السیاق أن یسود العالم نموذج فکری واحد ذو أبعاد اقتصادیة وسیاسیة وثقافیة تتطابق مع المصالح الغربیة. بید أن هذا التنمیط لا یعنی صنع عالم متجانس واحد إذ إن العولمة تبدأ من تحدید مصالح القوى الرأسمالیة الدولیة وتضع المعاییر التی تحقق تلک المصالح وتلقی على دول الجنوب عبء محاولة الاستفادة من تلک المعاییر ومن ثم فإن العولمة لیست مجرد ظاهرة اقتصادیة متعددة الأبعاد تضمن جوانب اقتصادیة وسیاسیة وثقافیة، وإن ظل الجانب الاقتصادی المتمثل فی تحریر التجارة الدولیة هو الجانب الأکثر أهمیة [24].

وتمتلک العولمة مجموعة من التأثیرات السیاسیة والاقتصادیة والثقافیة والأمنیة مثل فتح الأسواق الدولیة أمام الانتقال الحر للسلع والخدمات [25]، بالإضافة إلى إعادة صیاغة مفاهیم العلاقات الدولیة بما یعطی للدول الدافعة للعولمة فرصة الصعود إلى مصاف القوى الکبرى فی النظام العالمی الجدید، وذلک بممارسة حق التدخل فی شؤون دول الجنوب. فتلک الدول تطرح مفاهیم مثل حقوق الإنسان والدیمقراطیة کمفاهیم یجب على دول الجنوب تطبیقها لتحقیق الاندماج مع العولمة، ویتم التدخل الإنسانی لمراقبة وحمایة تطبیق تلک المفاهیم [26]. وإلى جانب ذلک إلغاء القیم والهویات التقلیدیة للثقافات الوطنیة والترویج للقیم الفردیة الاستهلاکیة الأمریکیة، والمفاهیم الاجتماعیة الغربیة بصفة عامة، واعتبار تلک القیم والمفاهیم هی وحدها المقبولة کأساس للتعاون الدولی فی ظل العولمة [27]. وفیما یتعلق بالتأثیرات الأمنیة فإنها تعنی أن حلف الأطلنطی سیکون له مهام فی أماکن متفرقة من العالم والتی تحتاج إلى تدخل الحلف لحسم النزاعات من خلال مفهوم “إجراءات بناء الثقة” کطریق لحل الصراعات الإقلیمیة، وذلک حینما یکون لدول الجنوب مطالب إزاء الشمال مع التغاضی عن تلک الإجراءات إذا کان لدول الشمال مطالب إزاء دول الجنوب [28].

3- المتغیرات التکنولوجیا

لم تعد القدرات العسکریة وحدها هی المعیار القیاسی لتوزیع القوة والسلطة؛ فلقد تبؤت القدرات التکنولوجیة مکانة رئیسة فی تحدید القوة فی النظام الدولی الجدید؛ حیث تمیزت بیئة النظام بتسارع تراکم المعلومات، وزیادة استخدمها وتحولها إلى سلعة تدر الأموال الطائلة على الدولة التی تحتکر هذه المعلومات وتسارعت الاتصالات، الأمر الذی أعلن معه ازدهار الثورة العالمیة الثالثة-بعد الثورة الزراعیة، والثورة الصناعیة- وهی: الثورة المعرفیة وعناصرها العلم والتکنولوجیا والمعلومات والثقافة، وقد تمیز قادة المرحلة الثالثة، وهم رجال الأعمال وقیادات الشرکات العابرة للحدود والقیادات السیاسیة بسرعة وکثافة الاتصالات، وأصبح الامتداد المعرفی یتخطى الحدود الجغرافیة ویشمل مختلف دول العالم، وهو الأمر الذی أدى إلى نشوء وحدات دولیة جدیدة وبروز قضایا جدیدة فی السیاسة الدولیة بدأً بتحول المعرفة إلى سلع منتجة قابلة للتصدیر فیتحول الاقتصاد الریعی إلى اقتصاد معرفی، ومروراً بإقامة المدن الذکیة، ووصولاً إلى تسخیر الذکاء الاصطناعی فی إدارة الدولة. ومن ثم زادت القدرة التفاعلیة للنسق الدولی؛ فالدول التی امتلکت زمام الثورة الصناعیة الثالثة استطاعت أن تسود فی النظام الدولی [29].

4- متغیرات التنمیة المستدامة

تعتبر الاستراتیجیات والأفکار الحاکمة للعلاقات الدولیة مقیاساً لرصد تحولات طبیعة النظام الدولی، وهذا ما نجده فی متغیرات التنمیة المستدامة منذ إعلان خطة الأمم المتحدة للتنمیة المستدامة فی عام 2014؛ حیث جاءت تلک المتغیرات نتیجة تداعیات بروز مشکلات وقضایا ذات طابع عالمی، وما نتج عنها من تداعیات استلزمت التصدی، وذلک من خلال البرنامج الإنمائی “للتنمیة المستدامة”. وفیما یلی تحلیلاً لتلک التحولات:

أ- بروز مشکلات وقضایا ذات طابع عالمی: اکتسبت بعض من المشکلات الطابع والاهتمام العالمی، والتی تتصدرها قضایا حقوق الإنسان وتطبیق الدیمقراطیة، ومشاکل البیئة وانتشار أمراض نقص المناعة، والأمراض الفیروسیة المتطورة والتی اتخذت کآلیة من آلیات حروب الجیل الرابع؛ حیث تم اعتبار تلک القضایا من التهدیدات غیر العسکریة التی تحول دون استقرار العدید من الدول، الأمر الذی کان محط اهتمام عالمی. إلا أن انتهاج الانتقاء والتهمیش من قبل الدول الکبرى والعظمى إزاء الدول الصغرى والمتوسطة دفع إلى استخدام هذه القضایا الکبرى کأوراق ضغط أحیاناً من قبل دول غربیة فی مقدمتها الولایات المتحدة، على دول أخرى، لیس بالضرورة  لتحقیق الاستقرار والأمن غیر التقلیدی على المستوى العالمی أو انتصاراً لهذه القیم أو دفعاً على درب هذه الاتجاهات، وإنما لخدمة مصالح ضیقة ومحددة للدول الضاغطة. وعلى سبیل المثال ولیس الحصر نجد ما یلی: [30].

– جاءت سیاسات الدول الغربیة والولایات المتحدة الأمریکیة الداعمة لمظاهرات واحتجاجات الثورات العربیة احتراماً لمجال حقوق الإنسان والدیمقراطیة وحریة التعبیر، متناقضة مع سیاسات القمع التی تمارس عند احتجاجات بعض الشعوب الغربیة، على سبیل المثال ولیس الحصر: احتجاجات السترات الصفراء فی فرنسا عام 2018 [31]، ومن جهة أخرى طالب الرئیس الأمریکی ترامب فی 31 مایو 2020 نشر قوات الحرس الوطنی فی شتى مدن الولایات المتحدة لقمع التظاهرات على خلفیة قیام شرطی أمریکی بتعذیب مواطن أمریکی من أصول أفریقیة حتى الموت [32].

ب- البرنامج الإنمائی “للتنمیة المستدامة”: وضع البرنامج الإنمائی فی الأمم المتحدة استراتیجیة للدعم الفعال والمتسق فی تنفیذ جدول أعمال التنمیة الجدید “التنمیة المستدامة”، وذلک بهدف التعمیم بین الجهات الفاعلة المعنیة ومساعدة الحکومات فی إدماج جدول الأعمال فی الخطط والاستراتیجیات والمیزانیات الوطنیة، بالإضافة إلى مساعدة الحکومات على تسریع التقدم فی تحقیق أهداف التنمیة المستدامة بتحدید المعوقات، والترکیز على الغایات الإنمائیة الأکثر صلة بالأیکولوجیا الوطنیة، إلى جانب دعم السیاسات من خلال توفیر دعم سیاسی منسق ومجمع للدول بتقدیم حزمة متکاملة من خدمات دعم السیاسات التی تتماشى مع أولویات البرمجة وتغطی هذه الخدمات مجموعة واسعة من المجالات تتمثل فی الحد من الفقر والنمو الشامل للجمیع وفرص العمل المنتجة، والمساواة بین الجنسین وتمکین المرأة، ومواجهة فیروس نقص المناعة البشریة والصحة، والتکیف مع تغیر المناخ، وتعزیز إمکانیة الحصول على مصادر الطاقة المستدامة، والإدارة المستدامة للأنظمة الأیکولوجیة البیئیة، وإدارة المحیطات، وتعزیز المجتمعات المسالمة والشاملة للجمیع. وتأتی تلک الأهداف تحقیقاً للإزدهار الاقتصادی والرفاة الإنسانی والبیئی عبر الأجیال [33].

5- متغیرات فیروس کورونا

یمثل انتشار فیروس کورونا المستجد أحد أهم المتغیرات التی أثرت على الأیکولوجیة السیاسیة للدول على المستویین الداخلی والخارجی، وخاصة الدول العربیة التی تشهد صراعات داخلیة مثل سوریا والیمن ولیبیا نظراً إلى أنظمة الرعایة الصحّیة المتقهقرة لدیها وغیاب القیادة فیها، خاصة وأن الأطراف المتحاربة یمکن أن تستثمر هذه الأزمة لصالحها من خلال احتفاظ هذه الأطراف بالمساعدات الطبیة لداعمیها، ومن جانب آخر فإن هناک بعض الأنظمة التی استثمرت الأزمة الصحیة لإحکام سیطرتها على النظام الداخلی ومخرجات السیاسة الخارجیة، ومن المحتمل أن تواجه بعض الدول العربیة صعوبات فی مواجهة تداعیات أزمة کورونا الاقتصادیة، خاصة الدول النفطیة [34].

ومن جانب آخر فقد تسبب فیروس “کورونا” فی التأثیر على مفهوم العولمة والترویج له، فبعدما کانت الدولة محکومة بدینامیکیة العولمة وتتعامل مع تهدیدات معقَّدة وعابرة للحدود والقومیات وتستعین على ذلک بزیادة التسلح لمواجهة عدوٍّ خارجی، إلا أن هذه الأزمة فرضت عزلة داخلیة وخارجیة على حرکة الأفراد والدول ولو لفترة وجیزة. وهذه التجربة من شأنها أن تضع سطوة العولمة تحت اختبارٍ آخر ربما لا تعود بعده إلى ما کانت علیه، کما أن کشف الوباء عن مدى عجز القطاع الصحی فی دولٍ کثیرة، سیکون مؤشراً لانکفاء الدول إلى تقویة نُظمها الصحیة لمواجهة التحدیات الطبیعیة المقبلة وإعطاء أولویة لدعم الأمن الإنسانی والتنمیة الوطنیة. وإذ تستنفر الدول الغنیة احتیاطاتها من أجل تحقیق ذلک، فإنّ العزلة الأکبر ستکون على الدول الفقیرة التی یتکشّف حالها مع انکماش النمو الاقتصادی، فضلاً عن ازدیاد حاجتها لدعم المنظمات الدولیة. بالإضافة إلى ذلک سیطرة مفهوم ما یعرف بتثاعد فی الحوکمة غیر الرسمیة وحوکمة ما دون الدولة، والتی تعنی سیطرة بعض الفاعلین من دون الدولة من الجماعات والأحزاب على صناعة القرار فی ظل تراجع الدور التقلیدی للدولة [35].

إن الأیکولوجیا السیاسیة للنظم العربیة مختلفة فی هیکلها وتکوینها، ولکنها واجهت نفس التحدیات التی ظهرت نتیجة انتشار هذا الفیروس، والذی کان من أهم تداعیاته اتجاه هذه الدول إلى الاعتماد على مؤسسات الدولة فی إدارة أزمتها، والابتعاد بصورة جزئیة عن المساعدات الخارجیة، کما أن هذا الفیروس کان له العدید من التداعیات المختلفة على الدول العربیة؛ حیث ساهمت هذه الأزمة فی التأثیر على أیکولوجیة هذه الدول الداخلیة من حیث الاهتمام بالقطاع الصحی والنشاطات الیومیة للمواطنیین، وتفاقم الوضع الإنسانی؛ فالعمّال بالیومیّة غیر قادرین على العمل فی حالة الإغلاق وجعلت أسعار النفط المتراجعة الدول العربیة غیر قادرة على التخفیف من الأزمات الاقتصادیة. ووسْط مؤسّسات دولة ضعیفة، ستتدخّل الجهات الفاعلة غیر الحکومیة على الأرجح لتوزیع الطعام والدواء، فتزداد أهمّیتها على المدى الطویل، وبالإضافة إلى ذلک ساهمت الأزمة فی ظهور أحزاب سیاسیة تهتم بالمشکلات البیئیة، ومن جانب آخر کان لهذا الفیروس تداعیاته على السیاسة الخارجیة أیضاً؛ حیث واجهت الدول العربیة مجموعة من التحدیات المتمثلة فی تراجع تحالفاتها الدولیة وعدم قدرتها على حمایة مصالحها الإقلیمیة بصورة کبیرة، کما ومنح انسحاب الولایات المتحدة المزید من القوّة أیضاً للتنظیمات المتطرفة التی استغلّت انتشار الفیروس کفرصة لإعادة التجمّع وشنّ المزید من الهجمات داخل الدول العربیة [36].

ثانیاً: طبیعة الأمن الإقلیمی العربی المعاصر:

عرف دکتور حامد ربیع “الأمن الإقلیمی العربی” فی کتابة “نظریة الأمن القومی والتطور المعاصر للتعامل الدولی فی منطقة الشرق الأوسط” بأنه: “اصطلاح أکثر حداثة برز بشکل واضح ما بین الحربین العالمیتین، لیعبر عن سیاسة مجموعة من الدول تنتمی إلى إقلیم واحد تسعى من خلال هذه التوجهات إلى وضع تعاون عسکری وتنظیمی لدول هذا الإقلیم، ومنع أی قوى أجنبیة أو خارجیة من التدخل فی مصالح هذا الإقلیم، وجوهر تلک السیاسة هو مواجهة التبعیة الإقلیمیة من جانب، والتصدی للقوى الدخیلة على الإقلیم من جانب آخر، وحمایة الوضع القائم من جانب ثالث” [37]. وبالتطبیق على المنطقة العربیة، نجد أن مرحلة تأسیس مفهوم الإقلیمیة العربیة ظهرت منذ خمسینیات القرن الماضی خاصة بعدما شهدت دول المنطقة تدخلات أجنبیة لم تتوقف بسبب حجم الإمکانیات الاقتصادیة التی تستحوذها دول المنطقة، وتغیر نمط التحالفات وتزاید الصراعات الداخلیة.

وضمن السیاق ذاته استمرت مهددات الأمن الإقلیمی العربی فی التأثیر بالتزامن مع تغیر طبیعته فی أعقاب ما یسمى الثورات العربیة، وذلک انطلاقاً من الرؤیة العربیة السائدة للأمن الإقلیمی والتی تستند على أهمیة وضرورة دمج القضایا الأمنیة فی البنیة السیاسیة الشاملة، ومن ثم تهدف الدراسة فی هذا المحور إلى تقدیم تحلیل لطبیعة الأمن الإقلیمی العربی من خلال رصد المحددات الأیکولوجیا لکل من السیاسة “الداخلیة والخارجیة” على النحو الآتی:

1- محددات الأیکولوجیا السیاسیة الداخلیة.

بعد تفکک الهیاکل السلطویة فی کثیر من الدول العربیة، وهو الأمر الذی سمح بتصاعد حرکات المعارضة الداخلیة، ترافق مع ذلک تراجع الأهمیة الوظیفیة للأنظمة السیاسیة، خاصة أنها جاءت أیضاً بالکثیر من المشکلات الاقتصادیة، وعدم امتلاک هذه الدول القدرة على إشباع احتیاجات وتطلعات القطاعات الأوسع من شعوبها، وقد امتد الأمر إلى فشل صانعی القرار فی هذه الدول فی إدارة عملیة التحول الدیموقراطی أو فیما یتعلق بإعادة بناء الأمة مع نخب جدیدة تفتقد الخبرة.

وضمن هذا الإطار فقد تصاعدت الانقسامات والصراعات الداخلیة وصولاً إلى انهیار کثیر من الدول العربیة مثل “سوریا والیمن ولیبیا” لیس فقط بسبب صعود الهویات الاثنیة والطائفیة والتی ساهمت فی تقسیم المجتمع العربی إلى طبقات وشرائح. إلا أن هناک أیضاً مجموعة من التیارات السیاسیة اللیبرالیة والقومیة والیساریة، وهذه القوى السیاسیة کانت من أهم أسباب مرحلة عدم الاستقرار، وتفکک السلطة المرکزیة، وسیطرة المیلشیات المسلحة والنزاع الداخلی فی إقلیم الدولة، وتصاعدت هذه الانقسامات إلى الحد الذی فقدت فیه الدولة السیطرة على حدودها، وهو الأمر الذی تؤشر علیه سیطرة بعض التنظیمات الإرهابیة المسلحة مثل تنظیم الدولة الإسلامیة(داعش)؛ حیث أنه نتیجة للاقتتال الداخلی فی سوریا فقدت الحکومة القدرة على السیطرة على أجزاء من حدودها مع ترکیا والأردن ولبنان، والتی تدفق عبرها اللاجئون السوریون، بالإضافة إلى سیطرة ترکیا وقطر على الانقسامات اللیبیة فی محاولة للاستحواذ على الغاز اللیبی، وتهدید الأمن القومی المصری من خلال إرسال مجموعات من المرتزقة والجماعات المسلحة التابعة لها [38].

ویجب الإشارة هنا إلى الثورات العربیة کمتغیر ساهمت بصورة أو بأخرى فی التأثیر على الأمن الإقلیمی العربی وذلک بعدما فقدت عدة دول عربیة القدرة على الحضور والتأثیر فی مجریات الأوضاع الإقلیمیة وهو الأمر الذی سمح لدول أخرى مثل ترکیا وإیران إلى محاولة تعزیز نفوذهما الإقلیمی لسد هذا الفراغ، ومن ناحیة أخرى یمکن القول أن طبیعة النخب الحاکمة فی کل دولة، وطبیعة النظام السیاسی هما اللذان یحددان شکل وطبیعة العلاقة بین الحکام والمحکومین ومن ثم فإن طبیعة هذه العلاقة تعد من أهم العوامل المؤثرة فی العلاقات بین الدول فی داخل المنطقة العربیة، وضمن السیاق ذاته یقدم العراق مثالاً لأعنف نتائج الترابط بین الشأنین الداخلی، والإقلیمی ضمن تأثیر الأیکولوجیة الداخلیة على محددات التوجهات الخارجیة [39].

وخلاصة القول فإن الأیکولوجیا السیاسیة الداخلیة للدول تؤثر بصورة مباشرة على علاقات هذه الدول مع الدول الأخرى، ولا یقف الأمر عند هذا الحد بل امتد لیشمل التأثیر على الأمن الإقلیمی للمنطقة التی توجد بها هذه الدولة، ومن ثم یتضح بأن الأمن القومی الداخلی للدول یؤثر على الأمن الإقلیمی العربی على المستوى الخارجی وهذا ما سوف یتضح عند تناول المنظور الثانی وهو الأمن الإقلیمی العربی فی ضوء الأیکولوجیا الخارجیة.

2- الأمن الإقلیمی العربی فی ضوء الأیکولوجیا السیاسیة الخارجیة.

تعتبر المنطقة العربیة من المناطق ذات الطابع الصراعی منذ قدیم الأزل، ومؤخراً وبعد حدوث ما أطلق علیه ثورات الربیع العربی، فقد زادت حدة ونطاق هذا الصراع، ویمکن القول بأن الصراع فی المنطقة العربیة یتمیز بأنه صراع شامل ومتنوع (طائفی، وعرقی، واثنی)، وهو الأمر الذی حدث بسبب غیاب التنسیق الشامل من الناحیة العربیة، والإقلیمة للحد من هذه الصرعات التی تهدد الأمن الإقلیمی العربی بأکمله [40]. ولعل من أهم إفرازات متغیرات النظام الدولی على الوطن العربی هو تصاعد دور دول الجوار الجغرافی على حساب الدول العربیة، وهذا الاختلال یزید من أطماع القوى الإقلیمیة ویحفزها على تحقیق طموحاتها ومصالحها الإقلیمیة على حساب الأطراف العربیة بالعدوان علیها أو استباحة أمنها من خلال وسائل عدیدة کالتعدی على الموارد المائیة أو التدخل فی الشؤون الداخلیة لها، أو زعزعة استقرارها وإثارة الانقسامات القومیة المذهبیة، والطائفیة، ومحاولة امتلاک القدرة على تحدید نمط التفاعلات السیاسیة والاقتصادیة والأمنیة بین الأقطار العربیة بحیث تصبح هی المحدد الرئیسی للعلاقات الإقلیمیة بما فیها التفاعلات العربیة – العربیة. الأمر الذی یعنی أن مضمون علاقات دول الجوار مع الوطن العربی یؤطرها الخلافات والتوترات عبر محاولتها فرض أجندتها ومنظورها وتصوراتها، وهو ما یؤثر بطبیعة الحال على الأمن الإقلیمی العربی [41].

ویمکن فهم أثر الأیکولوجیا السیاسیة الخارجیة من ثنایا تحلیل ودراسة ما أطلق علیة مشروع الشرق الاوسط الکبیر؛ من خلال سیاسة تغییر الأنظمة فی بعض البلدان العربیة، ویذهب المشروع بعیداً فی تفاصیل کل من البنود الثلاث، فیرى بأن الدیمقراطیة والحکم الصالح یشکلان الإطار الذی تتحقق داخله التنمیة، فالدیمقراطیة والحریة ضروریتان لازدهار المبادرة الفردیة، لکنهما مفقودتان الى حد بعید فی أرجاء الشرق الأوسط الکبیر، وذلک من خلال الالتزام بدعم مبادرة الانتخابات الحرة، سواء فی مجال الانتخابات وإنشاء معاهد للتدریب على القیادة خاصة بالنساء المهتمات بالمشارکة فی التنافس الانتخابی أو إنشاء منظمات المجتمع المدنی غیر الحکومیة، هذا إلى جانب تشجیع الإصلاح القانونی والقضائی [42].

ثالثاً: العلاقة التفاعلیة بین متغیرات النظام الدولی والأمن الإقلیمی العربی المعاصر:

یعد مصطلح المتغیرات الدولیة وصفاً شائعاً لکل التفاعلات الدولیة التی تؤدی دوراً محوریاً فی عملیة تحویل النظام السیاسی الدولی من حیث الهیکلة التی تنعکس على قیادة النظام بفعل القوة والنفوذ، ویذهب “مورتن کابلان” إلى اعتبار المتغیرات الدولیة بمثابة مدخلات، تتسبب فی إحداث نوع من التغیرات فی العلاقات الدولیة التبادلیة لوحدات النظام الجدید وأیضاً فی الخصائص الذاتیة للبعض منها، وأن ذلک لابد من أن یفضی إلى تحولات سیاسیة فی سلوکیات النظام بصیغة مخرجات معینة تؤثر فی استقراره [43].

وفی ضوء ما سبق یمکن القول بأن آثار هذه المتغیرات لیست ثابتة وأنما تتغیر بتغیر الحدث فنجد على سبیل المثال أنه فی بدایة العقد الأخیر من القرن العشرین شهد النظام الدولی مجموعة من المتغیرات الجدیدة التی کان لها عظیم الأثر فی شکل وطبیعة النظام الدولی على الوجه العام والأمن الإقلیمی العربی على وجه التحدید؛ حیث أکدت التجربة التی مر بها العالم بعد انهیار الاتحاد السوفیتی رسمیاً عام 1991 إلى أن انهیار دولة عظمى لا یقل تأثیراً فی السیاسة الدولیة عن دور الحرب وما تحدث من آثار، کما أن تفکک الاتحاد السوفیتی السابق قد وضع حد لنظام القضبیة الثنائیة الذی امتد لفترة طویلة، ویرى البعض أن الانهیار جاء بسبب الأوضاع الداخلیة التی أفضت فی تصاعدها إلى الانهیار، وهو ما أثر بدوره على الأمن الإقلیمی العربی [44]. ویمکن إرجاع السبب فی ذلک إلى أن أغلب الدول العربیة کانت تربطها بالاتحاد السوفیتی السابق علاقات اقتصادیة وعسکریة وسیاسیة وأیدویولوجیة.

وبالاضافة للمتغیر الدولی المتعلق بانهیار الاتحاد السوفیتی والتحول لنظام القضبیة الأحادیة؛ یمکن القول بأن العولمة فضلاً عن التکتلات الاقتصادیة الکبرى تعد من أبرز السمات الجدیدة للنظام الدولی على الصعید الاقتصادی، ولم تقف دول العالم بوجه عام والدول العربیة بوجه خاص بعیدة عن مؤثرات تلک المستجدات ولاسیما أن لتلک المؤثرات انعکاسات فاعلة على المقومات السیاسیة للدول العربیة، لما تحمله مبادئ العولمة من مضمون عبرت عنها مقولاتها والتی تؤکد على عالمیة الاقتصاد الرأسمالی، الاعتماد على النموذج الغربی للتنمیة، وسقوط الحدود السیاسیة، وانتهاء مفهوم القومیة، وتآکل الحواجز الثقافیة، وانتشار التقدم التکنولوجى وعولمة المعلومات [45].

وخلاصة القول فی شأن العلاقة التفاعلیة بین متغیرات النظام الدولی المعاصر والأمن الإقلیمی العربی المعاصر نجد أن ما یحدث من تغیرات فی النظام الدولی یؤثر بصورة أو بأخرى على الأمن الإقلیمی العربی، کما سبق وأن تم توضیحه، فی اطار ما یحدث من تغییرات متعلقة بالنظام الدولی فی العراق وما أدت إلیه من تطورات کان لها عظیم الأثر على الأمن الإقلیمی للوطن العربی کما تم توضیحة من قبل.

المحور الثالث: استشراف مقاربة  لدور تفعیلی “عملی” لنظریة الأیکولوجیة السیاسیة تجاه تعزیز أمن الإقلیم العربی

فی دراسة عن مستقبل المنطقة الإقلیمیة العربیة صدرت عام 1976، توصل باحثان أحدهما عربی، والآخر أمریکی إلى أنه فی الثمنینیات لن یکون الصراع العربی – الإسرائیلی محور السیاسات الإقلیمیة، وسوف تحتل مکان الصدارة قضیة کیفیة استخدام الثروات العربیة فی التنمیة، والعلاقات بین الدول العربیة الغنیة وتلک الفقیرة، وأن الفارق المتزاید بین الدول الغنیة والفقیرة سوف یطرح تأثیراته على شکل النظام العربی وأنماط التفاعلات بداخله [46]. ویمکن القول أن تحقیق هذه الأبعاد المستهدفة یتطلب رؤیة استراتیجیة شاملة للتنمیة، ویعد التحلیل الاستراتیجی، أحد أهم العناصر الرئیسیة لاستشراف مقاربة  لدور تفعیلی “عملی” لنظریة الأیکولوجیة السیاسیة لتعزیز أمن الإقلیم العربی.

وضمن السیاق ذاته یُعد التحلیل الاستراتیجی أحد العناصر المکونة للرؤیة الاستراتیجیة؛ حیث یهتم بتحلیل المتغیرات الأیکولوجیة فی البیئة الداخلیة والخارجیة للدول، وتحدید جوانب القوة والضعف فی أنشطتها الداخلیة، والفرص والتهدیدات فی أنشطتها الخارجیة، ومدى مواءمة مواردها المادیة والبشریة فی تحسین آدائها وکفاءتها فی تحقیق أهدافها [47]. وإن الغرض من التحلیل الاستراتیجی هو: إثبات صحة فرضیة الدراسة من خلال  إستشراف مقاربة لدور تفعیلی “عملی” لنظریة الأیکولوجیة السیاسیة لتعزیز أمن الإقلیم العربی من ثنایا دراسة الأیکولوجیا السیاسیة الداخلیة والخارجیة بما یمکن هذه الدول من رفع قدرتها التنمویة بالاعتماد على تحدید القوى والعوامل المؤثرة فی نموها، وتطورها المستقبلی بما یساهم فی وضع خطط مستقبلیة لحمایة أمنها القومی والإقلیمی.

أولاً: دراسة وتحلیل الأیکولوجیا السیاسیة الداخلیة:

تشتمل البیئة الداخلیة على مختلف العناصر التی تدخل ضمن الحدود الداخلیة للدول، والتی یتم تحدیدها بناء على قرارات یتم اتخاذها داخل الدولة، ومن ثم یمکن القول أن البیئة الداخلیة تکون تحت سیطرة الدولة، فیمکنها رصد نقاط القوة، ونقاط الضعف بهدف وضع البدائل الاستراتیجیة المثلى لکل موقف. وتتمثل نقاط القوة فی النواحی الإیجابیة الداعمة والتی تمیزها عن غیرها، وبحسن استخدام هذه العوامل تستطیع الدول تحقیق مکاسب تجعلها قادرة على مواجهة التحدیات المستقبلیة. ومن جانب آخر تمثل نقاط الضعف، کافة النواحی السلبیة التی تحد من قدرة الدول للاستجابة لمتطلبات المواطنین، من جودة وسعر الخدمة المقدمة لهم، وغیرها من العوامل السلبیة الأخرى التی یتطلب معالجتها لدعم قدرة الدولة التنافسیة، وزیادة قدرتها لمواجهة التحدیات المستقبلیة.

1- مجالات القوة الرئیسیة للدول العربیة:

لقد حددت جامعة الدول العربیة فی مادتها الأولى من میثاق جامعة الدول العربیة شروط الانضمام إلیها من خلال نص المادة التالیة “تتألف جامعة الدول العربیة من الدول العربیة المستقلة الموقعة على هذا المیثاق، ولکل دوله عربیة مستقلة الحق فی أن تنضم إلى الجامعة” ولم یضع المیثاق مفهوم للعروبة ومن ثم ظهرت إشکالیة لتوضیح هذا المفهوم واستقرت الجامعة على أن هناک ثلاثة عناصر لابد من توافرها والتی اعتبرتها الدراسة من أهم نقاط القوة فی الوطن العربی والتی تتمثل فی مجموعة العناصر التالیة [48]:

– اللغة: مما لاشک فیه أن اللغه على مستوى الوطن العربی موحدة.

– الموقع الجغرافی والثروات العربیة: حیث یتمیز الوطن العربی بموقعة الجغرافی الممیز وبثرواته الغنیة.

– الشعور إلى الانتماء للقومیة العربیة – المواطنة: یمثل هذا العنصر أهم العناصر اللازم تحققها فی تحدید معنى العروبة.

– التقارب الجغرافی.

– عناصر التماثل بین الدول فی اطار الإقلیم الواحد والدعوة إلى ربط الجوانب الثقافیة والاجتماعیة والاقتصادیة عن طریق المقاربة التجانسیة.

– العامل الحیوی المتمثل فی جدوى تفاعلات العلاقات السیاسیة والاقتصادیة والاحتماعیة بین الدول [49].

2- أوجه الضعف الرئیسیة:

إلى جانب مجالات القوة العربیة فهناک مجموعة من التحدیات والتهدیدات التی تعوق إمکانیة التوافق الإقلیمی حول بعض الرکائز الأمنیة فی إطار محاولة هذه الدول إیجاد صیغة عربیة مشترکة تکون بمثابة حجر الأساس لتعزیز هذه العلاقات، وتتمثل هذه التحدیات فی:

– تحدی تحقیق الوحدة فی مواجهة التجزئة.

– تحدی مواجهة التبعیة.

– تحدی تفعیل مفهوم الدیمقراطیة وصعوبة وجود نظام سیاسی یضمن مشارکة المواطنین؛ حیث أن مسؤولیة الأنظمة العربیة تتمثل فی العجز وعدم القدرة على تطبیق الأمن الإقلیمی العربی، وهذا الأمر لیس فقط بسبب طبیعة التفاعلات بین الأنظمة العربیة، وما یحدث خلالها من تفاعلات ونزاعات، بل بسبب عدم الوفاء بمتطلبات الدیمقراطیة وعدم تفعیل المشارکة السیاسیة بکافة صورها ومنها المشارکة فی اتخاذ القرارات وخاصة تلک التی تؤثر على مستقبل الشعوب [50].

– تحدی السعی إلى تحقیق تنمیة متوازنه ترتبط بالنمو وعدالة التوزیع.

– تحدی التجدید فی ضوء متغیرات النظام الدولی المعاصر وفقدان الهویة الثقافیة.

– الخلل الهیکلى فی البناء الاقتصادی.

ثانیاً: دراسة وتحلیل الأیکولوجیا السیاسیة الخارجیة:

هناک مجموعة من المتغیرات المؤثرة فی إطار تحلیل الأیکولوجیة السیاسیة الخارجیة بعضها یتعلق بتأثیر الفرص على هذه النظریة من جانب ومن جانب آخر هناک بعض العقبات التی تقف فی وجه إمکانیة تحقیق التوافق الأیکولوجی بین الأنظمة العربیة المختلفة وذلک على النحو التالی؛ فهناک مجموعة من الفرص تتمثل فی التباین والتنوع فی الاقتصاد السیاسی الدولی، وطبیعة التحالفات فی النظام الدولی. ومن ناحیة أخرى هناک مجموعة من التهدیدات تتمثل فی إعادة ترتیب توازنات القوى داخل الإقلیم العربی، وقضیة الدیون الخارجیة، والنزاعات الداخلیة التی لها أبعاد دولیة وإقلیمیة، وسباق التسلح.

وتأسیساً على ذلک فإن الفارق المتزاید بین البلدان الغنیة والبلدان الفقیرة – کما سبق وان تم توضیحة – قد طرح تأثیراته على شکل النظام العربی وانماط التفاعلات فیه. ومن أمثلة الآثار السیاسیة المتعلقة بالنظام العربی التی ترتبت على ذلک تمثلت فی اعادة توازنات القوى فی المنطقة [51]. ویمکن توضیح تأثیر هذه المتغیرات على النحو التالی:

1- تصاعد دور دول الجوار الجغرافی فی مواجهة الأمن الإقلیمی العربی، وهو ما یعنی أن مضمون علاقات دول الجوار مع الوطن العربی یؤطرها الخلافات والتوترات عبر محاولتها فرض رؤاها ومنظورها وتصوراتها؛ حیث یلاحظ أن تأسیس مفهوم الشرق الأوسط الجدید، والمتوسطیة، یعد امتداداً منطقیاً لتوجهات وملامح البیئة الدولیة وانعکاساتها وآثارها وتداعیاتها على المنطقة العربیة، وقد ساهم ذلک فی تزاید واضح لدور القوى الإقلیمیة غیر العربیة الساعیة لتعظیم مصالحها ومحاولتها القیام بدور أکبر على الساحة الدولیة والإقلیمیة، وذلک فی إطار استجابتها لهذه التفاعلات والتغیرات والتعامل معها، ونکتفی أن نشیر هنا إلى کل من إیران، ترکیا، أثیوبیا، أریتیریا، ومناقشة دور کل منها بإیجاز کمصدر تهدید للأمن الإقلیمی العربی [52].

2- الثورات العربیة وتحولاتها الاستراتیجیة؛ حیث ساهم اندلاع ثورات الربیع العربی فی عام 2011 إلى ظهور مجموعة من التحولات الاستراتیجیة فی المنطقة وذلک على النحو التالی :

–        التحول فی أدوار بعض الفاعلین الإقلیمیین :حیث تغیرت أدوار العدید من الفاعلین الإقلیمین فی منطقة الشرق الأوسط بعد اندلاع الثورات العربیة، فتصاعد الدور الإقلیمی لبعضها بینما تراجعت أدوار دول أخرى، وفی مقابل ذلک تصاعد الدور الإقلیمی للمملکة العربیة السعودیة. کما تحولت سوریا من لاعب إقلیمی لها تأثیر کبیر فی بیئتها الإقلیمیة إلى ساحة للحرب الأهلیة والمعارک الجیوسیاسیة، کما حاولت دول أخرى الاستفادة من الثورات العربیة بالعمل على تعزیز دورها الإقلیمی مثل ترکیا.

–        الصراع على القیادة الإقلیمیة وزیادة حدة التوتر الطائفی فی الشرق الأوسط :لقد تحول الشرق الأوسط بعد الثورات العربیة إلى ساحة للصراع بین المملکة العربیة السعودیة وایران؛ فالسیاسة الإیرانیة القائمة على دعم حلفاءها الشیعة وتعزیز نفوذها فی کل من العراق ولبنان وسوریا وأخیراً الیمن أدت لتصاعد المخاوف السعودیة من قیام إیران بإنشاء هلال شیعی فی هذه المناطق.

ثالثاً: التوجهات الاستراتیجیة لتعزیز الأمن الإقلیمی العربی فی ضوء نظریة الأیکولوجیة السیاسیة:

1- الناحیة البنیویة:

–     إعادة رسم حدود النظام “تحدید دول القلب ودول الاطراف والهامش”: ویقصد بها مجموعة من الأحداث التی قد تعید رسم حدود النظام الإقلیمی العربی وتحدید دول القلب، ودول الأطراف والهامش.

–      إعادة ترتیب توازنات القوى فی الإقلیم العربی: إن قوة الدولة قد لا تکمن فی حجم السیولة النقدیة التی تمتلکها فحسب، بل تتحدد أیضاً فی مجموعة من العوامل المادیة وغیر المادیة، مثل عدد السکان والتعلیم والقاعدة الصناعیة، والتکنولوجیة، والقدرة العسکریة، واستقرار نظام الحکم، علاوة على الرغبة فی القیام بدور إقلیمی، ووجود الموارد الدبلوماسیة والسیاسیة التی تمکنها من القیام بهذه الوظائف [53].

2- من الناحیة القیمیة:

–     معالجة الانقسامات الأیدیولوجیة.

–      التغلب على بؤر التوتر والانقسامات(الأزمة اللبنانیة – الصراع العراقی – الإیرانی).

–      اتاحة الفرصة للمشارکة السیاسیة الحقیقیة.

–      الانتقال إلى التفکیر فی الوحدة على المدى القریب، والعمل الفعال من أجل التنسیق البناء والانتقال من الاکتفاء بخطاب سیاسى مساند أو متعاطف إلى إیجاد حلول واقعیة.

–      الدعوه إلى العمل الجاد نحو تغییر الأطر السیاسیة والاجتماعیة والفکریة وتفعیل مفاهیم الحکم الرشید والتنمیة المستدامة من واقع الأیکولوجیا السیاسیة الخاصة بکل نظام.

–      تطویر جامعة الدول العربیة تطویراً کلیاً لتکون أکثر فاعلیة، سواء فیما یتعلق بمیثاقها أو بمؤسساتها.

–     ضرورة إعادة صیاغة العلاقات العربیة بدول الجوار.

خاتمة الدراسة

تناولت الدراسة بالبحث والتحلیل أثر نظریة الأیکولوجیة السیاسیة فی صیاغة نظام أمنی إقلیمی للدول العربیة، من خلال التعریف بأسس هذه النظریة ومحدداتها، بالإضافة إلى التطرق إلى تأثیر المتغیرات الإقلیمیة والدولیة على تطبیق هذه النظریة، وبجانب ذلک تم استعراض مهددات الأمن الإقلیمی العربی فی محاولة لإیجاد دور تطبیقی لنظریة الأیکولوجیة السیاسیة فی دعم النظام الأمنی الإقلیمی للدول العربیة، وقد تم التوصل إلى عدة نتائج أثناء اختبار صحة فرضیة الدراسة، والتی من خلالها تمت صیاغة توصیات لمواجهة إشکالیة الدراسة . وذلک کما یلی :

أولاً: نتائج وتوصیات الدراسة:

خلاصة القول فإنه فی ضوء ما تم استعراضه من واقع دراسة وتحلیل أثر متغیرات النظام الدولی على الأمن الإقلیمی العربی فی إطار تحلیل دور نظریة الأیکولوجیا السیاسیة، فقد بدا واضحاً ضرورة تعزیز الأمن الإقلیمی العربی من ثنایا إعادة تقییم تطبیق نظریة الأیکولوجیة السیاسیة، ودورها فی ظل تأثیرات متغیرات النظام الدولی سواء بمواجهة التحدیات الدیمقراطیة، وتعظیم القیمة المضافة من فرص تأسیس نظم سیاسیة  تتلاءم مع طبیعة الأمن الإقلیمی العربی، وبالصورة التی توفر فرص امتلاک مقومات القوة المهیمنة إقلیمیاً. وفی إطار ذلک فقد اقترحت الدراسة مجموعة من التوصیات على الدول العربیة اتباعها لتعزیز الأمن الإقلیمی العربی أثناء التصدی لتحدیات تأثیر متغیرات النظام الدولی، وأنه لکی یتحقق الأمن الإقلیمی العربی النابع من استعادة الدور العربی الإقلیمی مرة أخرى لابد من أن یکون هناک خططاً محدده، ووسائل مناسبة لتنفیذ تلک الخطط، بما یتناسب مع احتیاجات مجتمعاتهم الداخلیة واحتیاجات الإقلیم وذلک فی إطار محکم من المبادئ والقیم المجتمعیة العلیا أی یکون هناک نوع من التوازن والترابط بین الدور الإقلیمی والمجتمع الداخلی، بالصورة التی یمکن من خلالها تعزیز النظرة الجماهیریة للقیادة ومن ثم تحقق الشعور الجمعی العام. فالعوامل الداخلیة السیاسیة والاقتصادیة والاجتماعیة وغیرها هی الأهم فی عملیة مواجهة المخاطر الأمنیة. کما یلاحظ أنه یجب أن یتم الحد من المخاطر الأمنیة من خلال بناء الدفاعات الأمنیة المشترکة على قدر من المرونة، بحیث یمکن استخدامها للتعامل مع مجموعة واسعة من المخاطر الأمنیة المتعددة، ومن ثم توزیع الوحدات ذات الطابع الخاص الأمنی على المناطق ذات الاهتمام والنفوذ المختلف.

وفی الختام؛ یمکن القول بأن تطبیق الرؤیة الاستراتیجیة بمفهومها الواسع، والاهتمام بدراسة وتحلیل البیئة السیاسیة من المنظور الأیکولوجی، وتدعیم منهج الفکر الاستراتیجی، وإستشراف مقاربة  لدور تفعیلی “عملی” لنظریة الأیکولوجیة السیاسیة یمکن من خلاله تعزیز أمن الإقلیم العربی فی مواجهة متغیرات النظام الدولی.

تحميل الدراسة

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى