دراسات سياسيةمنهجية التحليل السياسي

أهم المصطلحات المستعملة في النظرية السياسية

فحيث أن النظرية هي مجموعة من المصطلحات أو المفاهيم Concept والقضايا Propositions ،إذن يصبح المصطلح هو العامود الفقري للنظرية أو الوحدة الأساسية فيها ،وعليه سنقوم بشرح أهم المصطلحات الرائجة في النظرية السياسية والتي لم يتم التطرق إليها في الفصول السابقة . 

أولا : العدالة:
من أقدم وأهم المفاهيم السياسية ،حتى بات العدل هو أساس الحكم الصالح وهدف أي نظام سياسي بغض النظر عن الأيديولوجية التي يتبناها -باستثناء الأنظمة العنصرية كالنازية والفاشية والصهيونية- ،وكل النظم السياسية تزعم بأنها تهدف لتحقيق العدل ،إلا أن الممارسة كثير ما تشي بعكس ذلك0 كلمة عدالة ترادف في اللغة الإنجليزية كلمة Justice وهي اشتقاق من الكلمة اللالتينية Jus بمعنى “حق” أو “قانون” Law . والعدالة هي إحدى الفضائل الأربع الكبرى التي سلم بها الفلاسفة في العصور القديمة. وهذه الفضائل هي الحكمة والشجاعة والاعتدال والعدالة.

يعتبر كل من أفلاطون وأرسطو أول من نظر لمفهوم العدالة. ولقد جاء تحليل أفلاطون لمفهوم العدالة رداً على قول السفسطائيين وعلى لسان ثراسيماخوس بأن العدالة هي مصلحة الأقوى . فلقد دحض أفلاطون مقولتهم هذه ورفضها تماماً في “الجمهورية” مؤكداً أنه لا يجب ولا يجوز أن يكون هناك توازن بين الحق من جانب والقوة من جانب آخر. فالقوة، في رأيه، لا تبرر الحقوق ولا تفرضها، وفي رأيه أن العدالة هي أن يحصل كل فرد على ما هو حق له بمعنى أن يعرف كل فرد وأن يؤدي ما هو مؤهل له بالطبيعة وألا يتدخل فيما هو حق للآخرين،إلا أن هذا التحليل الأفلاطوني يؤسس على ألا مساواة حيث ان أفلاطون يعتبر أن الله خلق الناس غير متساويين ،وبالتالي فالعدالة التي يرومها لا تعني المساواة بين الناس . 

أما أرسطو فلقد اعتبر العدالة القضية المحورية للفكر السياسي كله. ولقد عرفها بأنها حد وسط بين الظلم المتمثل في الاعتداء على ما يخص الآخرين والظلم المتمثل في اعتداء الآخرين على ما يخصك. ولقد ميز أرسطو بين ما أسماء عدالة التوزيع (Distributive justice) وترجع إلى الدولة حيث تعمل على ضمان حصول كل فرد على نصيب عادل من موارد الدولة، وعدالة التعويض (Retributive Justice) وترجع إلى القضاء حيث يعمل على تعويض المظلوم من الظالم. 
ولقد أثر هذا التقسيم الأرسطي لمفهوم العدالة في الفكر السياسي حتى يومنا هذا، وإن كان المفكرون المعاصرون لا ينظرون إلى العدالة التوزيعية و العدالة التعويضية بوصفهما نوعين من أنواع العدالة بل بوصفهما تطبيقين لنفس المفهوم. وعادة ما يبرز التركيز على مفهوم العدالة التعويضية عند الحديث عن القانون وعلاقته بالعدالة، في حين تعظم الإشارة إلى مفهوم عدالة التوزيع عند الحديث عن العدالة الاجتماعية (Social Justice).

فإذا أخذنا فكرة عدالة التعويض أولاً وجدنا أنها كانت الفكرة المسيطرة على الفكر السياسي الخاص بمفهوم العدالة وحتى الثورة الصناعية. والعدالة، وفقاً لهذا الاتجاه، هي احترام المبادئ والقواعد والحقوق. فهذا الاتجاه يعتبر أن العدالة هي الفضيلة التي تحمي النظام الاجتماعي القائم حيث لكل فرد مركزه ووضعه القانوني المحدد. أما فيما يتعلق بالجانب العقلي لمفهم العدالة التعويضية فقد أكد أنصار هذا المفهوم أنه لا بد من توافر ثلاثة شروط حتى يمكن أن نتكلم عن عدالة العقاب. الشرط الأول هو أن العقاب لا بد أن يقع على هؤلاء الذين أثبتت الإجراءات القانونية أنهم مذنبون دون النظر لاعتبارات العفو أو الرحمة أو تخفيف العقاب. الثاني أن العقوبات لا بد أن تختلف باختلاف الجرائم. والثالث أنه لا بد أن يتناسب العقاب مع الجريمة.

أما عدالة التوزيع فقد بدأت تظهر شيئاً فشيئاً كمناقشات تذكر بمفهوم أرسطو عنها،وهو الأمر الذي مهد لظهور مفهوم العدالة الاجتماعية وتسيده للفكر السياسي في العصر الحديث خاصة منذ بدايات القرن التاسع عشر. ويرتكز مفهوم العدالة الاجتماعية على افتراضيين أساسيين: الأول هو أن العمليات الاجتماعية تخضع لقوانين بشرية يمكن صياغتها وبالتالي فإنه يمكن عن طريقة إعادة صياغة تلك القوانين إعادة تشكيل المجتمع، والثاني أن الحكومات كمصدر قوة وصاحبة سلطة يمكنها أن تنفذ إعادة تشكيل المجتمع هذا. والمفكرون السياسيون الذين يتحدثون عن العدالة الاجتماعية ينقسمون إلى فريقين. الفريق الأول يناقش مفهوم العدالة الاجتماعية من جهة الاستحقاق (Desert) والتقدير (Merit). أما الفريق الآخر فيناقشها من جهة الحاجة (Need) والمساواة (Equality).

أما العدالة الاجتماعية من جهة الاستحقاق والتقدير فتعني أن المركز الاجتماعي والدخل المادي لكل فرد لا بد أن يكون متناسباً، بقدر الإمكان، مع مهاراته وكفاءته، ولقد ظهر هذا المفهوم أساساً ليجابه مفاهيم مثل الامتياز بالوراثة ولينادي بمجتمع مفتوح، الفرص فيه متساوية للجميع حتى يبرز من يتساهل الصعود والتألق اعتماداً على قدراته الذاتية. ولكن ثارت مشكلات عدة تتعلق بمفهوم الاستحقاق وكيف يمكن تحديد التقدير عملياً حيث أكد بعض المفكرين أن القول بأن قيمة الفرد تحددها مهاراته وقدراته قول غير منطقي، لأن هذه القيمة لا بد أن يحددها ما يبذله من مجهود فعلي. ويقف وراء هذه المناقشات الاتجاهان: الليبرالي من جانب والاشتراكي من جانب آخر.

ففي حين أن الفلسفة الليبرالية تؤكد أن السوق الحرة هي معيار تحديد قيمة الفرد وما يستأهله حيث يعرض كل فرد قدراته فتحدد قيمته وفقاً للعرض والطلب المفتوح. إلا أن المفكرين الاشتراكيين ينتقدون هذا الاتجاه الليبرالي مؤكدين أن السوق يتأثر بعوامل غير العرض والطلب مثل الحظ والبيئة الاجتماعية للعارض وغيرها من العوامل التي ليس لها أي علاقة بمهارات العارض وكفاءته فاقترحوا بالتالي أن تحدد قيمة ما يستأهله الفرد بوسائل مباشرة تقوم عليها الدولة مثل نظام تحديد الأجور في ظل اقتصاد موجه حيث تتولى الدولة مهمة التوزيع بين الأفراد حسب كفاياته ووفقاً للمصلحة العامة.

أما العدالة الاجتماعية من جهة الحاجة والمساواة فتؤكد أن العدالة لا تتحقق إلا بإعادة توزيع الموارد وفقاً لمدى حاجة الأفراد إليها. ويؤكد أنصار مفهوم العدالة هذا إلى أنه يؤدي إلى سيادة مفهوم المساواة حيث إن إشباع حاجات الأفراد بتنويعاتها المختلفة تجعلهم متساوين بمعنى من المعاني. ولكن الصعوبة الأساسية التي تواجه أنصار هذا المفهوم تكمن في تحديد معنى الحاجة. فهل الحاجة هي الرغبة والتفضيل، بمعنى أن كل من يرغب أو يفضل الحصول على شيء يكون بالفعل في حاجة إليه؟ وينبع من هذه الصعوبة صعوبة أخرى هي كيف يمكن تحديد ماهية الحاجة مع الاختلاف الشديد في حاجات الأفراد وفقاً للأنماط الحياتية المختلفة. وفي مواجهة هذه الصعوبات تبلور اتجاهان فكريان رئيسيان الأول هو الاتجاه الشيوعي الذي يرى أن كل فرد أقدر على تحديد حاجاته وأن على الدولة أن توفر بالفعل الموارد اللازمة لإشباع كل الحاجات بغض النظر عن مدى تباينها، ثم هناك الاتجاه الديمقراطي الاشتراكي الذي يرى أن السلطة العامة في الدولة لا بد أن تكون هي المناطة بتحديد حاجات الأفراد وفقاً للمستويات المعيشية السائدة في المجتمع.

أما أنصار النظرية النفعية فيرفضون مفهوم العدالة الاجتماعية القائم على توزيع الموارد وفقاً للحاجة، كما أنهم يرفضون التوزيع القائم وفقاً للاستحقاق ويؤكدون أن توزيع الموارد في المجتمع يكون عادلاً بالنظر إلى النتائج التي يحققها فإذا ترتب على توزيع ما تحقق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الأفراد فهو توزيع عادل بغض النظر عن المبدأ الذي اتبعه.
وربما بسبب هذه الصعوبات التي يثيرها مفهوم العدالة الاجتماعية المستند إلى مفهوم العدالة التوزيعية ظهر اتجاه حديث يرفض أصحابه التمسك بأفكار العدالة الاجتماعية ويطالبون بالعودة إلى المفهوم التقليدي للعدالة بمعنى احترام القانون والحقوق التي يحميها.

العدل (في المفهوم الإسلامي):
العدل – في المصطلح الإسلامي، هو الضد والمقابل للجور والظلم.. لا بالمعنى السلبي، فقط، أي نفي الجور والظلم وغيبتهما.. وإنما بالمعنى الإيجابي، المتمثل في سيادة “الوسطية الإسلامية الجامعة”، التي لا تنحاز إلى قطب واحد من قطبي الظاهرة، وكذلك لا تنعزل عنهما معاً ولا تغايرهما كل المغايرة، وإنما تجمع عناصر العدل والحق فيهما، مكونة الموقف العادل بين ظلمين، الحق بين باطلين، المعتدل بين تطرفين… فالعدل: هو التوسط.. والوسطية الجامعة لعناصر الحق من أقطاب الظواهر موضوع الدرس ومحل النزاع..

وهذا المعنى –للعدل- في المصطلح الإسلامي – هو الذي يشير إليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يقول “الوسط: العدل.. جعلناكم أمة وسطاً” – رواه الترمذي والإمام أحمد..
والعدل – في شرعة الإسلام – فريضة واجبة، وضرورة من الضرورات الاجتماعية والإنسانية، وليس مجرد “حق” من الحقوق، التي لصاحبها أن يتنازل عنها إن هو أراد ذلك، أو أن يفرط فيها، بالإهمال، دون وزر وتأثيم..
إنه فريضة واجبة، فرضها الله، سبحانه وتعالى، على الكافة دون استثناء – بل لقد فرضها على ذاته، سبحانه، بالمعنى اللائق بذاته، حتى لقد جعلها اسماً من أسمائه الحسنى..
فرضها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره بها.. “فلذلك فادع واستقم كما أمرت، ولا تتبع أهواءهم، وقل آمنت بما أنزل من كتاب، وأمرت لأعدل بينكم..” (الشورى: 15)..

وفرضها على أولياء الأمور، من الولاة والحكام، تجاه الرعية والمتحاكمين.. “إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، إن الله نعما يعظم به، إن الله كان سميعاً بصيراً” (النساء: 58).
بل لقد أنبأن الله، سبحانه وتعالى، أن هذه “الأمانة” التي فرض على الإنسان حملها وأداءها، كانت هي المعيار الذي تميز به الإنسان، وامتاز عن غيره من المخلوقات غير المختارة.. “إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا” (الأحزاب: 72).. ومن المفسرين من قالوا : إنها أمانات الأموال والعدل بين الناس فيها..

وفرضها، معياراً، للعلاقة بين الرعية وبين أولى الأمر –الدولة والسلطان- يشير إليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يحدث الولاة عن تكافؤ “العقد” بينهم وبين رعيتهم، محذراً  الذي يحث الولاة عن تكافؤ “العقد” بينهم وبين رعيتهم، محذراً إياهم من التفريط فيما عليهم تجاه الرعية، في سياق حديثه إلى الرعية عن علاقتهم بالولاة والأئمة: “إن لهم – (الأئمة) – عليكم حقاً، ولكم عليهم حقاً مثل ذلك، ما إن استرحموا رحموا وإن عاهدوا وفوا، وإن حكموا عدلوا فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين..” –رواه الإمام أحمد..

وهو – العدل – فريضة في مجتمع الأسرة – الذي هو لبنة بناء مجتمع الأمة.. يشير إليها حديث رسول الله ، الذي يقول فيه :”اعدلوا بين أبنائكم” رواه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود والإمام أحمد.. وتعنيه الآية القرآنية التي تقرر ما للمرأة وما عليها “ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف” (البقرة) .. وتلك التي تعلق التعدد في الزوجات على تحقق العدالة بينهن “فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة..” (النساء: ).

إنها فريضة شاملة لكل ميادين الحياة.. عدل الولاة في الرعية.. وعدل القضاة في المتحاكمين.. وعدل الإنسان في أهل بيته.. ولهذا الشمول كانت إشارة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه :”المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن، عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا” – رواه مسلم والنسائي والإمام أحمد.

ويستوي، في وجوب العدل أن يكون الغير أو حيال النفس.. بل إن تحريم الإسلام ظلم الإنسان لنفسه لمن أكبر الأدلة على أن العدل ضرورة وفريضة، وليس مجرد “حق” من الحقوق .. وإلا لجاز للإنسان أن يتنازل عن “حقه” فيه فيظلم نفسه..”إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا: فيه كنتم؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا. إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا. فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفواً غفوراً” (النساء: – ).
وحتى هؤلاء المستضعفين، فرض الله على القادرين الجهاد لتحريرهم من الاستضعاف.. “وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذي يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً”. (النساء:).

وتؤكد هذا المعنى – تأثيم ظلم الإنسان لنفسه – الآية الكريمة “الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فقالوا السلم ما كنا نعمل من سوء، بلى إن الله عليهم بما كنتم تعلمون، فادخلوا أبواب جهنهم خالدين فيها فلبئس مئوى المتكبرين” (النحل:).
وإذا كان العدل فريضة واجبة، وضرورة اجتماعية للإنسان، وعليه تجاه نفسه.. وتجاه الآخرين.. موالين ومحبوبين كان هؤلاء الآخرون أم معادين مكروهين.. فإنه كذلك، فريضة وضرورة، في مختلف الميادين.. في القانون وإمامه.. وفي الشؤون الأدبية والمعنوية.. وفي أمور المال والثورة والاقتصاد والمعاش – أي التكافل الاجتماعي – (أنظر مادة “التكافل”).

ولقد حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن علاقة التنافي بين “العدل” و “الجور”.. فوجود الواحد منهما، يعني نفي الآخر وانتقاءه.. فقال:”لا يلبث الجور بعدي إلا قليلاً حتى يطلع، فكلما طلع من الجور شيء ذهب من العدل مثله، حتى يولد في الجور من لا يعرف غيره؟.. ثم يأتي الله، تبارك وتعالى، بالعدل، فكلما جاء من العدل شيء ذهب من الجور مثله، حتى يولد في العدل من لا يعرف” – رواه الإمام أحمد..
فهو – العدل – واحد من فرائض الله.. وواحد من قوانينه وسننه في الاجتماع الإنساني.. له معالمه.. وله آلياته في الحضور وفي الغياب.

ثانيا:الحرية Liberty ,Freedom

المساواة (في المفهوم الإسلامي):-
المساواة هي تشابه المكانة الاجتماعية، و الحقوقية ، و المسؤوليات ،و الفرض للناس في المجتمع ،علي النحو الذي تقوم فيه الحالة المتماثلة فيما بينهم..
وسوى بالشيء ؛ جعله مثله سواء ، فكانا مثلين لين .. وفي القرآن الكريم ؛ “بلى قادرين على أن نسوى بنانه” (القيامة:4)..
وسواء : تدل على معنى التوسط والتعادل، يقال، فلان وفلان سواء أي متساويان وقوم سواء أي متساوون.
ولقد شاع الحديث عن المساواة، في فكر الحضارة الغربية، منذ أن أعلنت مبدأ مبادئ حقوق الإنسان ، في الإعلان الذي أصدرته الثورة الفرنسية لذلك سنة 1789م.. فدخلت منذ ذلك التاريخ في الكثير من الدساتير والمواثيق الدولية..
أما ميادين المساواة، فعادة ما يذكر فيها، المساواة السياسية والمساواة الاقتصادية والمساواة المدنية والمساواة الاجتماعية..

ويجري الحديث عنها في علاقات المواطنين الداخلية وبين الأمم والدول وبين الأجناس والقوميات والشعوب.
وبعض المذاهب والفلسفات قد نحت منحاً خيالياً في الحديث عن تصوراتها لتطبيقات مبدأ المساواة بين الناس، فتصوت إمكان تحقيق التماثل الكامل والتسوية الحقيقية بين الناس في كل الميادين، وبالتحديد في الميادين الاقتصادية – شؤون المال والثروة والمعاش – وفي الميادين الاجتماعية – التي تتأثر أوضاعها ومراتبها، عادة، بأوضاع الاقتصاد والمعاش والأموال والثروات. لكن هذه التصورات قد استعصت على الممارسة الواقعية وعلى التطبيق في أي مجتمع من المجتمعات حتى تلك التي حكم فيها أنصار هذه المناصب والفلسفات..
ولعل أقرب التصورات إلى الدقة والواقعية، في مذهب المساواة، وإمكان وضع مبدئها في الممارسة والتطبيق، وهو التصور الذي يميز بين:
أ- المساواة بين الناس أمام القانون على النحو الذي ينفي امتيازات المولد، والوراثة، واللون، والعرق، والجنس، والمعتقد..
فهذه المساواة ممكنة.. بل وضرورية.. وواجبة التحقيق والتطبيق.. وهي قد تحققت بدرجات كبيرة في عديد من المجتمعات.
ب- والمساواة في تكافؤ الفرص أمام سائر المواطنين.. وسائر الأمم والقوميات وسائر الدول.. المساواة وتكافؤ الفرص المتاحة بمختلف الميادين وذلك حتى يكون التفاوت ثمرة للجهد الذاتي والطاقة المتاحة.. وليس بسبب التمييز والقسر والحجب أو الامتياز.
جـ- أما المساواة فيما بعد الفرص المتكافئة فإنها هي التي تعد خيالاً وحلماً يستعصي على التحقيق، ويناقض السنن والقوانين الحاكمة لسير الاجتماع والعمران.
ففي المجتمع الذي تتكافأ فيه فرص تحصيل واكتساب وامتلاك العلم والمال والاشتغال بالشؤون العامة، سياسية واجتماعية، نجد الطاقات لدى الناس متفاوتة، ومن ثم تتفاوت أنصبتهم وحظوظهم في الملك والكسب والمحصول، بسبب تفاوت طاقاتهم المادية والذهنية والإرادية.إلخ. فالمساواة في الفرص المتكافئة لا تثمر مساواة في مراكز الناس المالية والاجتماعية، لتفاوت القدرات، الموروثة، والذاتية، والمكتسبة بين هؤلاء الناس.. فالمساواة في تكافؤ الفرص لا تثمر، بالضرورة، مساواة في أنصبة الناس وحظوظهم من هذه الفرص..

وحتى المأثورة الإسلامية، التي يحسب بعض الناس أنها تقنن المساواة المطلقة والتماثل المطلق بين كل الناس في كل الميادين.. مأثورة: “الناس سواسية كأسنان المشط..” حتى هذه المأثورة لا تشهد لهذا المعنى في المساواة المطلقة، إذا نحن أكملنا نصها .. فنصها الكامل يقول “الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى”.. فهي لم تغفل الحديث عن التفاضل والتمايز والتفاوت بين الناس، وإنما هي أكدت على حقيقة: ولادة الناس جميعاً متساوين تمام المساواة فهم يولدون على الفطرة، صفحاتهم بيضاء ثم بعد ذلك تتفرق بهم السبل وتتفاوت الأنصبة. والمأثورة تدعو إلى حقيقة ثانية: وهي أن تكون التقوى هي معيار التفاضل والتمايز والتفاوت – والتقوى هي اتقاء كل ما هو سلبي – فهي معنى جامع لعمل المعروف وتجنب المنكر..
فهي – كما رأينا – جامعة لما فيه المساواة ولما فيه التمايز والتفاضل مع التزكية لتأسيسي التفاضل على التقوى، أي على المشروع الشرعي من الأسباب..

وإذا جاز لنا أن نصور المساواة، العادلة والممكنة، بين الفرقاء المختلفين، في مجتمع من المجتمعات، أو بين الأمم والقوميات والحضارات، وفي المجتمع الدولي فإن صورة أعضاء الجسد الواحد هي هذه الصورة للمساواة العادلة..
فإسهام كل عضو من الأعضاء في حياة الجسد وحيويته ليس متماثلاً ولا متساوياً وحظ كل عضو ونصيبه من رصيد حياة الجسد وحيويته ليس متماثلاُ ولا متساوياً.. لكن علاقة كل الأعضاء بكل الجسد هي علاقة “التوازن” –وليست علاقة “المساواة”؟.. فالتوازن والارتفاق، الذي يصبح فيه كل عضو فاعلاً ومنفعلاً ومتفاعلاً مع الآخرين، وكأنه المرفق الذي يرتفق به وعليه الآخرون كما يرتفق هو بهم وعليهم، مع التفاوت في الحظوظ والمقادير والدرجات في عملية الارتفاق والتوازن هذه.. إن هذه الصورة هي الممكنة والحقيقية والعادلة في مبدأ المساواة بالميادين التي تتفاوت في تحصيلها طاقات الناس، وتتفاوت فيها أيضاً احتياجاتهم لما يحصلون من هذه الميادين..

ولعل هذه الحقيقية الاجتماعية، والسنة الحاكمة في العمران البشري –سنة “التوازن” لا “المساواة المطلقة” – هي التي قادت المجتمعات التي طمعت في تحقيق المساواة المطلقة إلى الإخفاق والإحباط..ولعلها هي التي جعلت مذهب الإسلام الاجتماعي لا يذكر حقيقة تميز المجتمع إلى طبقات اجتماعية، مع التأكيد على ضرورة الحفاظ على أن تكون العلاقة بينها عند مستوى “العدل.. الوسط.. التوازن”.. وفي كلمات الإمام علي بن أبي طالب (23ق.هـ – 40هـ – 600-661م) إلى واليه على مصر الأشتر النخعي (37هـ-657م) – في عد توليته – الذي يعد من قمم الوثائق الفكرية والسياسية والاجتماعية والإدارية في تراثنا الإسلامي.. في كلماته يقول: “..واعلم أن الرعية طبقات، لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض، فمنها، جنود الله.. ومنها : كتاب العامة والخاصة ومنها : قضاة العدل ومنها : عمال الإنصاف والرفق.. ومنها: أهل الجزية والخراج، من أهل الذمة ومسلمة الناس ومنها: التجار وأهل الصناعات.. ومنها :

الطبقة السفلى، من ذوي الحاجة والمسكنة فالجنود حصون الرعية وسبل الأمن ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب ولا قوام لهم جميعاً إلا بالتجار ذوي الصناعات..فهي كلمات ترسم لوحة الحقيقة الاجتماعية لمذهب الإسلام الاجتماعي، التعددية، القائمة علاقات أطرافها على “التوازن”، فلا قيام لطرف منها إلا بالارتفاق على الجميع.. ولهذه الحقيقة من حقائق معنى المساواة في مذهب الإسلام، كان “الدفع” وليس “الصراع” هو السبيل الذي يزكيه الإسلام طريقاً لتصحيح الخلل الاجتماعي في علاقات الطبقات، فإنا حل “الخلل الاجتماعي” محل “التوازن الاجتماعي” في العلاقة بين الطبقات، كان “الدفع” – الذي يزيل الخلل، ويعيد التوازن بين الفرقاء، مع الاحتفاظ بسنة التعدد – هو السبيل الإسلامي للحراك الاجتماعي.. وليس “الصراع”، الذي يعني صرع ونفي الآخر، والانفراد بالوجود والثمرات.. فالصراع الاجتماعي والطبقي – كما عرفته مذاهب الحضارة الغربية – قد استهدف مساواة ينفرد فيها طرف –البورجوازية- في الليبرالية – والبروليتاريا – في الشمولية الماركسية –بالوجود والثمرات، بعد نفي النقيض.. أما “الدفع”، في المفهوم الإسلامي، فهو حراك اجتماعي، يغير مواقع الفرقاء المختلفين، ويعيد العلاقة بينهم إلى مستوى “التوازن – الوسط – العدل” عندما ينفي “الخلل .. الظلم” ودون أن ينفي الآخر أو يصرعه بالصراع..
فالصراع يعني نفي الآخر “.. فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخلٍ خاوية” (الحاقة:7)..

أما الدفع فإنه تغيير للمواقع، دون نفي التعددية والتمايز: “ادفع بالتي هي أحسن إذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم” (فصلت: 34)..
فهو سبيل الحراك الاجتماعي – وليس الصراع الاجتماعي والطبقي – المتسق مع مذهب الإسلام الاجتماعي، الذي يرى المساواة “توازناً” و “عدلاً” بين فرقاء متمايزين – يتأسس تمايزهم على المشروع والحلال من الأسباب والتصرفات.. ولا يراها مساواة مطلقة فيما تتفاوت فيه – بالطبع والكسب – القدرات والاحتياجات..
( م ع )
(الإسلام والثورة) للدكتور محمد عمارة – القاهرة سن 1988م. (نهج البلاغة) للإمام علي بن أبي طالب – طبعة دار الشعب – القاهرة.

الثورة (في المفهوم الإسلامي):
الثورة – ككثير من قضايا ومباحث وتطبيقات العلوم الاجتماعية والسياسية والإنسانية – مما تتعدد لها وفيها التعريفات..
فهي: نقطة تحول في الحياة الاجتماعية، تدل على الإطاحة بما عفا عليه الزمن، وإقامة نظام اجتماعي تقدمي جديد..
أو هي : التعبير الجذري المفاجئ في الأوضاع السياسية والاجتماعية، بوسائل تخرج عن النظام المألوف، ولا تخلو عادة من العنف..
أو هي: في التعريف الذي أختاره، العلم الذي يوضع في الممارسة والتطبيق، من أجل تغيير نظم ومجتمعات الجور والضعف والفساد، تغييراً جذرياً وشاملاً، والانتقال بها من مرحلة تطورية معينة إلى أخرى، أقل قيوداً، وأكثر حرية وأبعد في التقدم، الأمر الذي يتيح للقوى الاجتماعية صاحبة المصلحة في هذا التغيير، أن تأخذ بيدها مقاليد القيادة، فتصنع الحياة الأكثر ملاءمة وتمكيناً لها، محققة بذلك خطوة على درب التقدم الإنساني نحو مثله العليا، التي ستظل دائماً وأبداً زاهرة بالجديد، الذي يغري بالتقدم ويستعصي على النفاد والتحقيق..
والثورة، في علوم الاجتماع الغربية، هي غير “الإصلاح”، لا لتميز وسائلها، عادة، بالعنف، فقط.. وإنما لأن مفهوم “الإصلاح”، في تلك العلوم لا يعني التغيير الجذري والشامل، الذي تعنيه “الثورة” .. بل يعني “الإصلاح” – في العلوم الغربية: الترقيع.. والتغيير الجزئي.. والسطحي.. فهو غير شامل وغير جذري..

أما في الاصطلاح العربي والإسلامي، فأن المغايرة بين الثورة والإصلاح، في هذا المقام غير قائمة.. فالإصلاح، هو الآخر، تغيير شامل وجذري وعميق – كالثورة تماماً.. وهو إنما يتميز عنها في الأدوات التي يتم بها التغيير .. إذ في الثورة عنف وهياج لا يوجدان في أدوات الإصلاح على نحو ما هما عليه في الثورات.. وفي الإصلاح تدرج، قد لا ترضى عن وتيرته الثورات..
فرسالات الأنبياء والرسل: تغيير جذري وشامل للحياة والأحياء – فهي متضمنة معنى الثورة- في العمق والشمول.. لكن، لأنها تبدأ بذات الإنسان ونفسه، كانت إصلاحاً بريئاً من العنف والهياج.. فثورة النفس: هياج فيه من الهدم أكثر مما فيه من البناء.. بينما إصلاح النفس: بناء لا هياج فيه.. وقد الله العظيم: “إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب” (هود:88)..

وفي القرآن الكريم إشارات إلى ما يعنيه هذا المصطلح –الثورة- من تغيير عميق، ومن انقلاب في الأوضاع.. فبقرة بني إسرائيل كانت “لا تثير الأرض” (البقرة:71).. أي لا تقلبها، بالحرث، القلب الذي يغيرها فيجعل عاليها سافلها.. ومن الأمم السابقة من “كانوا أشد قوة وأثاروا الأرض وعمرها” (الروم:9).. أي قلبوها، وبلغوا عمقها..
وفي القرآن والسنة إشارات لتضمن هذا المصطلح لمعنى الهياج والانتشار.. فالخيل، إذا اقتحمت الميدان “فأثرن به نقعاً” (العاديات:4).. أي هيجن به التراب.. والله سبحانه وتعالى، هو “الذي أرسل الرياح فتثير سحابا” (فاطر:9).. أي تهيجه وتنشره..
وفي الحديث، الذي ترويه السيدة عائشة، رضى الله عنها، حول هياج الأوس والخزرج: “فثار الحيان، الأوص والخزرج، حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله يخفضهم حتى سكتوا وسكت” 
– رواه البخاري ومسلم والإمام أحمد.

وفي الحديث الذي يرويه مرة البهزي، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم متنبئاً بفتنه عهد عثمان بن عفان: “كيف في فتنة تثور في أقطار الأرض كأنها صياصي – (قرون) –بقر” –رواه الإمام أحمد..
وكذلك، أحاديث: “أثيروا القرآن، فإن فيه خير الأولين والآخرين”. و”من أراد العلم فليثور القرآن”.. أي لا تقفوا عند ظواهر الألفاظ، بل أبلغوا العمق “بالقراءة الثورية” للقرآن الكريم؟.

ولقد استخدم أدبيات الفكر الإسلامي مصطلح “الثورة” للدلالة على هذا المعنى.. فرأس الخوارج، نافع ابن الأزرق (65هـ – 685م) يدعو أصحابه إلى اللحاق بثورة عبد الله بن الزبير (1- 73هـ – 622 – 692م) بمكة، لنصرتها وللدفاع عن بيت الله الحرام فيقول لهم:”.. وهذا، من قد ثار بمكة، فأخرجوا بنا نأت البيت ونلق هذا الرجل” الثائر”..
على أن الأدبيات الإسلامية قد عرفت – للتعبير عن معنى الثورة ومضمونها – أو بعض هذا المعنى والمضمون – مصطلحات أخرى، جرى استخدامها، بل وشيوعها في هذه الأدبيات.
 فمصطلح “الفتنة”: شاع استخدامه للتعبير عن الاختلاف، والصراع حول الأفكار والآراء، وقيام الأحزاب والتيارات المتصارعة، والثورة، أي الوثوب، ووقوع البلاء والامتحان والاختبار، وتمييز الجيد من الرديء، عن طريق الصهر في حرارة الأحداث والصراعات.. وهي معان لجوانب من العلم والحدث الثوري..

 ومصطلح “الملحمة”: عرفته الأدبيات العربية الإسلامية، للدلالة على التلاحم في الصراع والقتال، والقتال في الفتنة – (الثورة) – بالذات، والإصلاح العميق الذي يشمل الأمة ويعمها، لأنه يؤلف بين أفراد الأمة وطوائفها، فيحقق وحدتها وتلاحمها.. ولذلك، وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه “نبي الملحمة” أي نبي القتال.. ونبي الإصلاح، الذي يقيم وحدة الأمة وتلاحمها..
 ومصطلح “الخروج”: دل على الثورة، لأنه عنى الخروج على ولاة الجور، وتجريد السيف لتغيير نظمهم.. ولقد شاع اسم “الخوارج”، علماً على تيار “الثورة المستمرة” في تاريخ الإسلام.. 
 وكذلك استخدم مصطلح”النهوض” و “والنهضة” ومصطلح “القيام” للدلالة على الخروج، والثورة .. لما فيهما من معنى الوثوب والانقضاض والصراع.. وفي حديث أنس بن مالك، رضي الله عنه: “حضرت عند مناهضة حصن تستر، عند إضاءة الفجر..” – رواه البخاري.. وحديث ابن أبي أولى: “كان النبي صلى الله عليه وسلم، يحب أن ينهض إلى عدوه عند زوال الشمس” – رواه الإمام أحمد..

 كذلك استخدم القرآن الكريم، للدلالة على معنى الثورة، مصطلح “الانتصار”.. فالانتصار : هو الانتصاف من الظلم وأهله، والانتقام منهم .. وهو فعل يأتيه “الأنصار” –الثوار- ضد “البغي” الذي هو الظلم والفساد والاستطالة ومجاوزة الحدود..
استخدم القرآن الكريم هذا المصطلح، في هذه المعاني، عندما قال “فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا، وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواشح وإذا ما غضبوا هم يغفرون، والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون، والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون، وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح بأجره على الله إنه لا يحب الظالمين، ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل، إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم، ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور” (الشورى 36-43)..
فمن صفات المؤمنين: إنهم إذا أصابهم البغي هم ينتصرون..
بل لقد استثنى القرآن الكريم الشعراء الذين ثاروا وانتصروا من بعد ما ظلموا.. استثناهم من الحكم، الذي أصدره على الشعراء –أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون.. “والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون؟ وأنهم يقولون ما لا يفعلون؟ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون” (الشعراء، 224-227)..
ولعل لعلاقة الانتصار بردع الظلم والبغي .. كان اختيار اسم “الأنصار” للذين انتصروا للإسلام ضد الظلمة والبغة.. والشاعر يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول:
والله سمى نصرك الأنصارا أثرك الله به إيثاراً..؟
هذا عن المصطلحات .. ومضامين هذه المصطلحات..

أما عن مشروعية الثورة، كسبيل لتغيير نظم الجور والضعف والفساد.. فإنها قضية اختلف فيها علماء الإسلام.. لا لأن أحداً منهم قد أقر الجور أو رضي بالضعف أو هادن الفساد، فالجميع قد آمنوا بأن الأمر بالمعروف والنهي بالمعروف عن المنكر فريضة إسلامية، “ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر” (آل عمران).. و”من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان” – رواه مسلم والترمذي والنسائي والإمام أحمد.. و “لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليضربن الله بعضكم ببعض، ثم تدعون فلا يستجاب لكم” – رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة والإمام أحمد..
لم يختلف أي من علماء الإسلام على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. ولقد أجمعوا على وجوب التغيير السلمي – بالإصلاح – لنظم الجور والضعف والفساد.. لكن الخلاف بينهم قام حول استخدام العنف – السيف – الثورة – في التغيير، لا كراهة للتغيير، وإنما لاختلافهم في الموازنة، بين إيجابيات وسلبيات استخدام العنف في التغيير.. ولقد نهضت طبيعة مناهج التفكير، وملابسات العصر بدور كبير في هذا الاختلاف ..
 فالخوارج قد رأوا الخطر الأعظم، على الإسلام والمسلمين، في الانقلاب الأموي الذي حدث على فلسفة الشورى، وعلى علاقة الحاكم بالمحكوم.. فرجحت لديهم كفة الثورة – بل والثورة المستمرة – على كل المحاذير..
 والمعتزلة قد رأوا ذلك الرأي.. مع نضج في الفكر السياسي، جعلهم يشترطون “التمكن”، الذي يجعل النصر محققاً أو ظناً غالباً، لإعلان الثورة.. تفادياً لما جرته الهبات والتمردات من مآس وآلام.. كما اشترطوا وجود الإمام الثائر.. أي الدولة والنظام البديل..
 وأهل الحديث – بإمامة أحمد بن حنبل (164 – 241هـ – 780 – 855م) – قد رفضوا سبيل الثورة، لأنهم رجحوا إيجابيات النظام الجائر على سلبيات الثورة.. فقالوا: “إن السيف – العنف – باطل، ولو قتلت الرجال، وسبيت الذرية، وأن الإمام قد يكون عادلاً ويكون غير عادل، وليس لنا إزالته وإن كان فاسقاً..” ومن أقوال ابن تيمية:”..فستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان”..
 والإمام الغزالي (450 – 505هـ – 1058 – 1111م)- من الأشعرية – وقف موقف الموازنة .. فقال عن الحاكم الجائر: “والذي نراه ونقطع به: أنه يحب خلعه إن قدر على أن يستبدل عنه، من هو موصوف بجميع الشروط، من غير إثارة فتنة ولا تهيج قتال. فإن لم يكن ذلك إلا بتحريك قتال، وجبت طاعته وحكم بإمامته.. لأن السلطان الظالم الجاهل، متى ساعدته الشوكة، وعسر خلعه، وكان في الاستبدال به فتنة ثائرة لا تطاق، وجب تركه، ووجبت الطاعة له..”.
ومعنى هذا، أنه إذا احتمل الناس تبعات الثورة، وأطاقوها، ولم يكن التغيير عسيراً.. فإن الثورة تجوز، سبيلاً للتغيير..
ونحن نلحظ أن أهل الحديث قد غلبوا الالتزام بالماثورات الداعية إلى طاعة الأمراء.. دون تمييز – أحياناً – بين “أمراء القتال” – الذين قيلت فيهم هذه الأحاديث – وبين أمراء وولاة الجور، الذين دار بشأن الثورة عليهم الخلاف..
كما نلاحظ أن الفترات التي تشهد فيه الخطر الخارجي على الدول الإسلامية – تتريا كان هذا الخطر أم صليبياً – هي التي زادت فيها وعلت الأصوات الرافضة للثورة على ولاة الجور.. وذلك تغليباً –في الموازنة – لكفة الوحدة في مواجهة الخطر الخارجي، على كفة الصراع الداخلي ضد ولاة الجور؟.. فالمواجهة المسلحة مع الكفار، أوجب وأولى من المواجهة مع الظلمة والطغاة؟..
أما ميادين الثورة فلقد رحبت لتشمل العديد من الميادين .. وعبر المسيرة الحضارية، إذا نحن بحثنا عن التغيير الشامل والجذري، الذي ينتقل بالإنسان إلى طور جديد أكثر تقدماً.. سنجد في الاجتهاد ثورة على التقليد.. وفي الجهاد ثورة على الاستسلام.. وفي التجديد ثورة على الجمود.. وفي الإبداع ثورة على المحاكاة.. وفي التقدم ثورة على الرجعية والاستبداد.. وفي العقلانية ثورة على ظاهرية وحرفية النصوصيين..
(م ع)
(الإسلام والثورة) – للدكتور محمد عمارة – طبعة القاهرة سنة 1988م. (مسلمون ثوار) –للدكتور محمد عمارة – طبعة القاهرة سنة 1988.

الإرهاب 

مصطلح الإرهاب السياسي المتداول في اللغة العربية اليوم هو ترجمة لكلمة TERRORISM الانجليزية وكلمة TERRORISME الفرنسية وهما مشتقان من اللغة الاتينية حيث أن كلمة TERROR تعني الرعب والفزع أو الشخص الذي يبثهما في قلوب الآخرين . ومع ذلك يجب الإشارة إلا أن كلمة إرهاب كلمة عربية أصيلة ذكرت في القرآن الكريم قال تعالى ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ) ويتقاطع معناها مع المعنى الذي يروج اليوم في جانب واحد وهو بث الخوف والرعب ، ولكن الإرهاب المذكور في القرآن يكون لرد المعتدي ، قال الله تعالى ( ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) .
أخذ مصطلح الإرهاب مفهومه السياسي الغربي مع الثورة الفرنسية وتحديدا عام 1794 حيث دخل مصطلح TERRORISME المعاجم الفرنسية بمعنى سياسة الرعب التي بثتها الثورة الفرنسية في عهد روبيسبيير وسان جوست وتحديدا عامي 1793و1794– وسنشير إلى ذلك بعد قليل – . ومنذ ذلك التاريخ أخذ فقهاء السياسة والقانون يستعملون مصطلح الإرهاب للإشارة إلى أعمال العنف السياسي التي تثير الهلع والفزع عند الجمهور ،إلا أن مستجدات الحياة السياسية والعلاقات الدولية ودخول مفاهيم الشرعية السياسية والدولية أضفى بعدا قيميا على مفهوم الإرهاب والعنف السياسي بحيث أن هذا الأخير يقترب أو يبتعد عن الإرهاب بمدى قربه أو بعده عن الشرعية كما يحددها القائمون على النظام السياسي الوطني أو النظام الدولي ، وزاد مفهوم الإرهاب الدولي إرباكا مع انقسام العالم إلى معسكرين متصارعين – المعسكر الإشتراكي والمعسكر الغربي – وظهور حركات التحرر في دول الجنوب .ولم يعد أمر التعرف على الإرهاب وتعريفة يدور حول مكونه المادي – أي عنف ورهبة وفزع – بل حول شرعيتة أو عدم شرعيته .
وكذا تعددت التعريفات حول الإرهاب ، فقد عرفه الفقيه سوتيل بأنه العمل الإجرامي المقترف عن طريق الرعب أو العنف أو الفزع الشديد بقصد تحقيق هدف محدد . ويعرفه جيفانوفتش بأنه اعمال من طبيعتها أن تثير لدى شخص ما الإحساس بالتهديد مما ينتج عنه الإحساس بالخوف من خطر بأي صورة .إذا كان التعريفان السابقان يعرفان الإرهاب بشكل عام سواء كان سياسيا أو غير سياسي ، فأن هذا الإرهاب يصبح سياسيا عندما يصبح هدف الفاعل من ممارسته لفعل الإرهاب تحقيق هدف سياسي أو التأثير على الوضع العام ،ومن هنا يعرف الفقيه البولوني فاسيورسكي الإرهاب بأنه (منهج فعل إجرامي يرمي الفاعل من خلاله إلى فرض سيطرته بالرهبة على المجتمع أو الدولة بالمحافظة على علاقات اجتماعية عامة أو من أجل تغييرها أو تدميرها ) . 

وبصورة عامة هناك موقفان من ” الإرهاب الدولي ” (4) : 
الموقف الأول : الموقف الرافض للإرهاب بغض النظر عن الدوافع.
بما أن العمليات “الإرهابية” تستهدف غالبا مصالح أو أفراد ينتمون للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وللدول الأوروبية ،(5) فإن هذه الدول تبذل قصارى جهدها لإسقاط أي صفة شرعية عن هذه العمليات ، فتضع في سلة واحدة كل العمليات الإرهابية سواء منها العمليات الإرهابية الدموية التي تمارسها جماعات لا تمثل إلا نفسها أو قطاع صغير من الشعب والعمليات التي تمارسها دول متطرفة في مواقفها السياسية ومنبوذة دوليا، أو العمليات التي تُمارس من قبل حركات تحرر معترف بها دوليا وتمارس كفاحها المسلح كحق من الحقوق التي منحها المنتظم الدولي وتطبيقا لحق تقرير المصير.
يلاحظ أن أنصار هذا التيار المعارض كليا للإرهاب السياسي يكرس كل وسائله الإعلامية لمحاربة هذه الظاهرة والتنديد بمن يقف وراءها دون البحث في أهدافها والدوافع الكامنة وراء ممارسة هذا الضرب من العنف السياسي. وقد تحفظت هذه الدول ودول أخرى تدور في فلكها بشأن شرعية نضال حركات التحرير الوطنية ، وهذا ما ظهر جليا من خلال الاجتماعات المتكررة للجمعية العامة للأمم المتحدة ولمجلس الأمن لبحث هذه الظاهرة، وكما يظهر من خلال التعريف الذي تعطيه هذه الدول للإرهاب الدولي. عرّفت الولايات المتحدة الإرهاب الدولي بأنه : ” التهديد باستخدام العنف لأغراض سياسية بواسطة أفراد أو جماعات سواء يعملون مع / أو معارضون لسلطة حكومية ثابتة، سواء قصد بأعمالهم صدم أو إكراه جماعة مستهدفة أوسع قدرا من الضحايا المباشرين”.(6) 
الموقف الثاني : البحث عن الدوافع قبل الإدانة ( شرعية الغاية تشرعن الوسيلة). 
من دعاة هذا الموقف مجموعة من دول العالم الثالث بما فيها الدول العربية، ويتلخص موقفها في أن معالجة (الإرهاب الدولي) لا تتم بمجرد إدانته أو تجريم مرتكبيه، لأن هذا لا يشكل إلا نصف القضية ولن يحل المشكلة ، إن محاربة الإرهاب الدولي تكمن في البحث في جذور الظاهرة، بواعثها، وأهداف القائمين بها، فالغاية قد تبرر الوسيلة أحيانا.
برز التباين لأول مرة ما بين أنصار الموقف الأول الرافض للإرهاب دون البحث في بواعثه وأهدافه والموقف الثاني الذي يجد سندا شرعيا لممارسي بعض العمليات الإرهابية ، في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة لبحث ظاهرة “الإرهاب الدولي” ، على إثر قيام مجموعة من الفدائيين الفلسطينيين بعملية فدائية ضد الفريق الرياضي الإسرائيلي ومرافقيهم في ميونيخ عام 1972 وفي الاجتماعات اللاحقة ، وما زال التباين بين وجهتي النظر مطروحا حتى اليوم بالرغم من قرار مجلس الأمن يوم 12 سبتمبر 2001 بعد العمليات التفجيرية في نيويورك وواشنطن.
وفي عام 1973 أخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة بوجهة نظر التيار الثاني في تحديد موقفها من “الإرهاب الدولي” فجاء في توصيات الجمعية العامة حول الموضوع: ” على الرغم من الحاجة إلى مكافحة الإرهاب الدولي وغيره من وسائل العنف التي تهدد أرواح الأبرياء أو تحرم الأفراد من حرياتهم الأساسية إلا أن الأمر يتطلب دراسة الأسباب التي تكمن وراء ممارسة الإرهاب، والتي تجد جذورها في الإحساس باليأس والإحباط والظلم، والذي يدفع بعض الناس إلى التضحية بالأرواح الإنسانية، بما في ذلك أرواحهم هم أنفسهم وذلك من أجل أحداث تغييرات راديكالية في معالم هذه الصورة القاتمة “.(7)
يمكننا استخراج العناصر المكونة للعمل الإرهابي بصورة عامة وهي : 
1- أنه عمل عنيف يعرض أرواح وممتلكات الأفراد للخطر أو يهدد بتعريضها.
2- موجه إلى أفراد أو مؤسسات ومصالح أو كليهما معا تابعة لدولة ما.
3- يقوم به أفراد أو جماعات بصورة مستقلة، أو يكونون مدعومين من طرف دولة ما.
4- يهدف إلى تحقيق أهداف سياسية.
ومن خلال العناصر أعلاه المكونة للعمل الإرهابي بصورة عامة، يمكن القول أن جوهر الإشكالية يتمحور حول العنصر الأخير، أي الهدف السياسي للعمل الإرهابي، ذلك أن تحديد شرعية العمل الإرهابي أو عدم شرعيته يرتبط بمدى شرعية الأهداف السياسية ، فشرعية الأهداف السياسية تسقط صفة الإرهاب بمعناها الإجرامي عن العمليات العنيفة التي تقوم بها الجماعات السياسية الممارسة لها، من منطق أن العنف ليس بالأمر الغريب عن الحياة السياسية.ولكن يبقى السؤال الذي يجعلنا ندور في حلقة مفرغة ، من هي الجهة أو المرجعية التي لها الحق في تقييم شرعية أو عدم شرعية العمل الإرهابي ؟ .
وفي الواقع فإن اعتماد (شرعية) الهدف من استعمال ذلك النوع من العنف السياسي المسمى (إرهاب) كمقياس للحكم على مدى شرعيته ليس بالأمر المستحدث، بل نجد له جذورا في التاريخ السياسي الأوروبي.
ثالثا : النضال من أجل تقرير المصير للشعوب : إرهاب أم كفاح مشروع ؟ :

أكدت الثورتان الفرنسية والأمريكية على الحق في الحرية والمساواة للأفراد، وأصبحت مسألة الاستقلال والحرية للشعوب والأفراد من المبادئ المعترف بها في المواثيق والاتفاقات الموقعة ما بين دول العالم الغربي ودُونت في دساتير دوله، إلا أن تطور المنتظم الدولي وتطور الأفكار السياسية حتما ضرورة خروج هذه المبادئ من إطارها الأوروبي الأمريكي لتأخذ صبغة عالمية، وتمد جذورها في بلدان آسيا وإفريقيا، ولكن تطبيق هذه المبادئ كان يصطدم بغياب الاستقلال الوطني لشعوب هذه القارات بسبب الاستعمار الذي مارسته نفس الدول التي قالت بالحرية والاستقلال وناضلت من أجلهما .
وهكذا بدأت الأصوات تتعالى مطالبة بحق الشعوب في تقرير مصيرها الوطني ،هذا الحق الذي وردت فكرته في المبادئ الأربعة عشر التي أعلنها الرئيس الأمريكي ويلسون إبان الحرب العالمية الأولى، ثم أكدت عليها الأمم المتحدة بتدوينها في مقاصدها فحثت على إنماء العلاقات الودية على أساس احترام “المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها الحق بتقرير مصيرها”.(19)
إن ازدواجية الغرب في التعامل مع هذه المبادئ تبدو جلية إذا عرفنا أن أول من طبق مبدأ حق تقرير المصير وحق الشعوب الخاضعة للاحتلال بمقاومة الاستعمار هو الغرب نفسه عندما قامت القوات النازية باحتلال فرنسا والعديد من دول أوروبا ، آنذاك نهضت دول العالم الحر وعلى رأسها الولايات المتحدة وناصرت الشعوب المحتلة من النازيين بالمال والسلاح ، بل وضعت أراضيها لتكون قواعد لجيش تحرير فرنسا وغيره من حركات مقاومة النازية والفاشية ، ولو الدعم الذي وجدته شعوب أوروبا من الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد السوفييتي لكان مصير أوروبا ومصير العالم اليوم مختلفا. 
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية أخذت الجمعية العامة على مسئوليتها وضع هذا الحق موضع التنفيذ، من خلال تشجيع الدول غير المتمتعة بالاستقلال على المطالبة بحقوقها، وحث الدول المستعمرة على منح الشعوب الخاضعة لها ،الاستقلال والحرية ومد يد العون لها. وفي قرار للجمعية العامة معنون بـ : “إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمَرة” نصت الفقرتان الأوليتان منه على : 
1-. إن إخضاع الشعوب لاستعباد الأجنبي وسيطرته واستغلاله يشكل إنكارا لحقوق الإنسان الأساسية، ويناقض ميثاق الأمم المتحدة، ويهدد قضية السلم والتعاون العالميين.
2-. لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها، ولها بمقتضى هذا الحق أن تحدد بحرية مركزها السياسي، وتسعى بحرية إلى تحقيق إنمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.(20)
ومن منطلق أن الاستعمار نقيض لحق تقرير المصير، فقد جددت الجمعية العامة التنديد بالاستعمار وبالسياسة الاستعمارية التي تحرم الشعوب من حريتها واستقلالها وتشكل انتهاكا لكرامة الإنسان، كما نددت بكل أشكال احتلال الأراضي بالقوة باعتباره شكلا من أشكال الاستعمار.
ولأن الاستعمار ينتهك الكرامة الإنسانية، ولأن حق تقرير المصير تدعمه الشرعية الدولية ويخدم السلام العالمي، فقد أعطت الجمعية العامة الحق للشعوب باللجوء إلى كل أشكال النضال بما فيها الكفاح المسلح من أجل نيل استقلالها وهذا ما جاء واضحا في البرنامج الصادر عن الجمعية بتاريخ 12/10/1970 والمعنون بـ : “برنامج العمل من أجل التنفيذ التام لإعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة”، حيث اعتبر البرنامج أن الاستعمار بأي شكل من الأشكال يعتبر خرقا لميثاق الأمم المتحدة ولكل المواثيق الدولية، كما اعتبر : ” أن للشعوب المستعمرة حقها الأصيل في الكفاح بجميع الوسائل الضرورية التي في متناولها ضد الدول الاستعمارية التي تقمع تطلعاتها إلى الحرية والاستقلال” وحث البرنامج الدول بتقديم “كل مساعدة معنوية ومادية تحتاج إليها في كفاحها لنيل الحرية والاستقلال”.
إلا أنه كان لقرار الجمعية العامة الصادر عام 1977، أهمية خاصة حول الموضوع، فهو من جانب اتُخذ بأغلبية ساحقة في الأصوات كما أنه خطا خطوة مهمة بربطه مباشرة بين حق تقرير المصير وشرعية اللجوء للكفاح المسلح، كما أنه ندد بالدول التي تنكر على الشعوب حقها في النضال لنيل الاستقلال. ونظرا لأهمية القرار فإننا نورد هنا أهم فقراته.
“إن الجمعية العامة، 
إذ تؤكد من جديد، ما للإعلان العالمي لحق الشعوب في تقرير المصير والسيادة والسلامة الإقليمية وللإسراع في منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة من أهمية بوصفهما شرطين حتميين للتمتع بحقوق الإنسان.
وإذ تستنكر الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان التي تُرتكب في حق الشعوب التي لا تزال واقعة تحت السيطرة الاستعمارية والأجنبية، والتحكم الأجنبي ،ومواصلة الاحتلال غير الشرعي لناميبيا ، وحرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه الوطنية غير القابلة للتصرف…
1- تدعو جميع الدول إلى التنفيذ الكامل والأمين لقرارات الأمم المتحدة بشأن ممارسة الشعوب الواقعة تحت السيطرة الاستعمارية والأجنبية لحق تقرير المصير.
2- تؤكد من جديد شرعية كفاح الشعوب في سبيل الاستقلال والسلامة الإقليمية والوحدة الوطنية والتحرير من السيطرة الاستعمارية والأجنبية ومن التحكم الأجنبي بجميع ما أتيح لهذه الشعوب من وسائل بما في ذلك الكفاح المسلح .
3- تؤكد من جديد ما لشعبي ناميبيا وزمبابوي وللشعب الفلسطيني وسائر الشعوب الواقعة تحت السيطرة الأجنبية والاستعمارية، من حقوق، غير قابلة للتصرف، في تقرير المصير والاستقلال الوطني والسلامة الإقليمية والوحدة الوطنية والسيادة، دون أي تدخل خارجي.
4-. تدين بقوة جميع الحكومات التي لا تعترف بحق تقرير المصير والاستقلال لجميع الشعوب التي ما زالت واقعة تحت السيطرة الاستعمارية والأجنبية والتحكم الأجنبي ولا سيما شعوب إفريقيا والشعب الفلسطيني”.(21)
يتبين لنا من خلال مقارنة العنف الذي تمارسه الشعوب إعمالا لحقها في تقرير مصيرها، بالعنف الوارد في الحالتين السابقين المشار إليهما- عنف الدولة مع الثورتين الفرنسية والروسية وعنف الجماعات الفوضوية ومثيلاتها -، أن النوع الأول يحظى بالشرعية الدولية ويأتي دفاعا عن النفس، فهو عنف يستهدف إلغاء حالة القهر والتسلط التي تمارسها القوى الاستعمارية ضد الشعوب المستعمرة كما أنه عنف يصب في مصلحة السلام العالمي انطلاقا من كون الاستعمار يتناقض مع السلام العالمي، أو بمعنى آخر أنه عنف أو إرهاب مشروع يأت ردا على إرهاب الدولة الذي تمارسه الدول الاستعمارية من منطلق أن الاستعمار هو إرهاب بل أبشع أشكال الإرهاب ، حيث يشمل بإرهابه كل الشعب ، مهددا استقراره ومهينا كرامته وسالبا حريته . 
لقد مارست العديد من الشعوب هذا الضرب من النضال أو الإرهاب المشروع ضد مستعمريها وقاهريها، بل يمكننا القول بأن غالبية الشعوب المستعمَرة والتي نالت استقلالها، لجأت إلى أسلوب الكفاح المسلح ودعمتها في ذلك قوى التحرر العالمي والشعوب المحبة للسلام، مع اختلاف في المضامين الأيديولوجية التي توجه هذا النضال. ولأن سياسة التحرر من الاستعمار كانت دائما توجه ضد الدول الرأسمالية ومصالحها، فإن هذه الحقيقة كانت وراء المواقف المتحفظة التي وقفتها وتقفها الدول الغربية والولايات المتحدة في مواجهة حركات التحرر العالمية وأخرها حركة التحرر الفلسطينية.
لقد أعطى العنف المتضمن في الكفاح المسلح مضامين أبعد من المضامين ذات البعد العسكري المحض، فهذا فرانز فانون يعتبر “أن محو الاستعمار لهو خالق رجال جدد، حقا أن المستعمر يصبح إنسانا بمقدار ما يحدث من عمل لتحرير ذاته … لقد أدرك المستعمر منذ ولادته إدراكا واضحا أن هذا العالم المضيق المزروع بأنواع المنع لا يمكن تبديله إلا بالعنف المطلق”.(22)
بل إن فانون ، ذلك الزنجي القادم من جزر المارتنيك للقتال إلى جانب الشعب الجزائري ضد الفرنسيين، لا يتصور أن ينال شعب من الشعوب استقلاله، أو أن تتحد أمة من الأمم دون اللجوء إلى العنف الذي يرفع القانون من قيمته إلى درجة التقديس، ذلك أن “محو الاستعمار إنما هو حدث عنيف دائما” 23)
يمكننا استخلاص بعض المضامين المميزة للعنف المصاحب للكفاح المسلح تطبيقا لحق الشعوب في تقرير مصيرها.
1-. إنه عنف جماهيري، فهو عنف أغلبية الشعب أو يحض برضى الأغلبية.
2-. إنه عنف موجه ضد قوى مستعمرة أو نظام يفتقر للشرعية.
3-. هدف العنف إجبار المستعمر على منح الشعب حقه في تقرير مصيره.
4-. هذا العنف مدعم بالشرعية الدولية ويخدم السلام العالمي.
5-. لا يمكن القول بأن هذا النوع من العنف يشكل عدوانا ضد أحد، فهو بمثابة الدفاع عن النفس، فهو عنف في مواجهة عنف أكبر.
6- نظرا لأن المستعمر (بكسر الميم)، لا يقتصر تواجده على الأرض المستعمَرة بل إن سيادته تشمل أماكن أخرى، فإن الحق في اللجوء للكفاح المسلح يمتد إلى حيث يوجد المستعمر.
7- نظرا لأن القوى المستعمرة تتفوق عسكريا على الشعب الخاضع للاحتلال ،مما يجعل قدرة حركات التحرر على مقارعته بنفس أدواته القتالية – طائرات ودبابات وصواريخ – فمن الطبيعي والمشروع أن تلجا حركات التحرر إلى الوسائل القتالية المتاحة وخصوصا العمليات الاستشهادية وضرب العدو في نقاط ضعفه. 
رابعا : شرعية العمليات الفدائية التي يمارسها الفدائيون العرب ضد إسرائيل :

سبق وأن ذكرنا في بداية البحث أن هناك موقفان تجاه ما يسمى بـ (الإرهاب الدولي) : موقف رافض له بالمطلق وموقف آخر يحبذ البحث في الدوافع والأهداف قبل الإدانة، و السبب في الاختلاف يرجع إلى مواقف إيديولوجية ومصلحية، ذلك أن من يضع الكفاح المسلح للشعوب لنيل حقها في تقرير المصير ، في سلة واحدة مع عمليات الإرهاب ذات الطابع الأوروبي الغربي والتي هي إفراز لواقع المجتمع الأوروبي أو مع الإرهاب الذي تمارسه جماعات داخل دول الجنوب ولكنها تفتقر إلى الشرعية والدعم الشعبي ، إنما يشوه نضال حركات التحرر ، ويحارب حق هذه الشعوب في الاستقلال وتقرير المصير. وليس من الصعب فهم أسباب رفض اعتراف الغرب وإسرائيل بشرعية كفاح حركات التحرر ،ذلك أن استقلال وتحرر شعوب العالم الثالث من الاستغلال والهيمنة والتدخل الأجنبي بكل أشكاله يعني تقليص نفوذ الدول الرأسمالية ووضع حد لتحكمها في هذا العالم، وهذا يعني وضع حد للمنافع المادية الضخمة التي جناها ويجنيها العالم الرأسمالي باستغلاله للشعوب، ومن جهة أخرى يتأتى الموقف الغربي الأمريكي الصهيوني الرافض لإضفاء الشرعية على العنف المسلح الذي كانت تخوضه حركات التحرر وما زال يخوضه الشعب الفلسطيني، من كون أن هذه الأخيرة كانت تحظى بدعم ومساندة الدول الاشتراكية وغالبا ما كانت تتبنى مواقف سياسية وإيديولوجية متشابهة مع مواقف المعسكر الاشتراكى – سابقا-.
ومن هنا ليس غريب أيضا أن تكون غالبية العمليات المصنفة تحت عنوان – الإرهاب – تُمارس ضد مصالح إسرائيلية أو أمريكية أو أوروبية ، وغالبا ما توجه أصابع الاتهام إلى العرب والمسلمين ، وقبل انتشار نفوذ حركات الإسلام السياسي كانت أصابع الاتهام توجه مباشرة للفلسطينيين . وقد دأبت وسائل الإعلام الغربية والإسرائيلية على تضخم أية عملية عنيفة مسلحة يشتبه في أن مرتكبها عربي أو مسلم ، بينما تتجاهل أو تقلل من أهمية العمليات الإرهابية التي تمارسها جماعات إرهابية أوروبية كجماعة الباسك في إسبانيا والجيش الجمهوري في أيرلندا ، ولا تهتم بالعنف الذي تمارسه حركة التاميل في سيريلانكا أو يمارسه حزب العمال الكردستاني في تركيا ، الخ ، فقد منحت الولايات المتحدة لزعيم الجيش الجمهوري الأيرلندى تأشيرة دخول لها وتم استقباله من طرف مواطنيه من حملة الجنسية الأمريكية استقبال الأبطال .
هذه الانتقائية في التعامل مع ما يُدرج تحت عنوان الإرهاب السياسي ، من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل تحديدا،إنما تهدف لتحميل العرب والمسلمين مسؤولية ظاهرة “الإرهاب الدولي” وتشويه نضال الفلسطينيين ومن يناصرهم في نضالهم من أجل الحرية والاستقلال ،كما نصت على ذلك قرارات المنتظم الدولي، وتصوير الفلسطينيين والعرب والمسلمين أنهم إرهابيون وقتلة، بل وإعطاء المبرر للاعتداء على سيادة دول عربية تحت شعار محاربة الإرهاب ، وهذا ما بدأت تتضح معالمه مع الحملة الأمريكية الأخيرة ضد الإرهاب .

لقد أكدت الأمم المتحدة في قرارات متعددة على حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، ولأن المجال لا يتسع هنا لسرد كل القرارات المتعلقة بالموضوع، فسوف نذكر بعضها.
في عام 1970، أكدت الجمعية العامة مطالبتها بضرورة انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة، وبالكف عن انتهاك حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة وأعلنت أنها : “تعترف لشعب فلسطين بالتساوي في الحقوق وبحق تقرير مصيره بنفسه وفقا لميثاق الأمم المتحدة. وتعلن أن الاحترام التام لحقوق شعب فلسطين غير القابلة للتصرف هو عنصر لا غنى عنه في إقامة سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط”.50(24)
وفي عام 1974، وعلى إثر اعتراف مؤتمر القمة العربي بالرباط بأن م.ت.ف. هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، صدر عن الجمعية العامة قرار، يوم الثاني والعشرين من نوفمبر 1974، يؤكد من جديد الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، حيث أعربت فيه الجمعية العامة عن قلقها لما يمثله عدم التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية من مخاطر على الأمن والسلام الدوليين، ولكون الشعب الفلسطيني قد مُنع من التمتع بحقوقه غير القابلة للتصرف بما فيها حقه في تقرير مصيره، كما نص القرار على أن الجمعية العامة : 
1- تؤكد من جديد حقوق الشعب الفلسطيني في فلسطين، غير القابلة للتصرف وخاصة : 
أ) الحق في تقرير مصيره دون تدخل خارجي.
ب) الحق في الاستقلال والسيادة الوطنية.
2- وتؤكد من جديد أيضا حق الفلسطينيين، غير القابل للتصرف، في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم التي شردوا عنها واقتلعوا منها وتطالب بعودتهم.
3- وتشدد على أن الاحترام الكلي لحقوق الشعب الفلسطيني هذه، غير القابلة للتصرف وإحقاق هذه الحقوق أمران لا غنى عنهما لحل قضية فلسطين.
4- وتعترف بأن الشعب الفلسطيني طرف رئيس في إقامة سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط.
5- وتعترف كذلك بحق الشعب الفلسطيني في استعادة حقوقه بكل الوسائل وفقا لمقاصد الأمم المتحدة ومبادئها.
6- وتناشد جميع الدول والمنظمات الدولية أن تمد بدعمها الشعب الفلسطيني في كفاحه لاسترداد حقوقه وفقا للميثاق.
7- وتطلب إلى الأمين العام أن يقيم اتصالات مع منظمة التحرير الفلسطينية في كل الشؤون المتعلقة بقضية فلسطين.51
كما منحت الجمعية العامة منظمة التحرير الفلسطينية مركز المراقب في الجمعية وفي المؤتمرات الدولية الأخرى التي تعقد برعاية الأمم المتحدة.
وهكذا أعطت الأمم المتحدة لشعب فلسطين الحق باستعمال كافة الوسائل بما فيها الكفاح المسلح من أجل إحقاق حقوقه المشروعة.
اعتراف الأمم المتحدة بشرعية الكفاح المسلح لحركات التحرر ينبع من عدالة القضية التي تدافع عنها حركات التحرر وهي الإستقلال وتقرير المصير ، أيضا من كون الكفاح المسلح هي طريقة القتال أو الحرب المتاحة أمام الشعوب الضعيفة في مواجهة قوى المستعمر المتفوقة والمدعومة بأحدث ما اخترع من آلات الحرب والدمار، ذلك أن الشعب المستعمر (بفتح الميم) غير قادر على خوض حرب كلاسيكية مع المستعمر، حرب مواجهة تحشد لها الجيوش، فيلجأ لما يتوفر عليه من إمكانات تتيح له إلحاق الأضرار بالخصم وإرهاقه، واستنزاف قواه من خلال تسليح الجماهير وتدريبها واستعمال أسلوب القتال في مجموعات صغيرة، واللجوء إلى أسلوب الكر والفر وضرب مواقع منعزلة للعدو، أو قطع خطوط تموينه ،و غير ذلك من الأساليب التي تختلف باختلاف ظروف كل بلد.
إن كانت الأمم المتحدة أعطت للشعوب بما فيها الشعب الفلسطيني الحق في اللجوء إلى الكفاح المسلح ضد الاحتلال الأجنبي، فإنه لم يتم التطرق إلى مجال محدد يمارس فيه هذا الكفاح المسلح .
ولكننا نرى أن الكفاح المسلح موجه إلى الدولة المستعمرة، المنكرة على الشعب حقه في تقرير مصيره، والدولة تعني أفرادا ومصالح ومؤسسات تخضع لسيادتها، وعليه فإن كل ما يخضع لسيادة الدولة المستعمرة وإشرافها يصلح محلا لممارسة الكفاح المسلح ضده باستثناء المدنيين .
فإذا قلنا حق الشعب الفلسطيني في الكفاح المسلح ضد إسرائيل، فإن هذا يعني الحق في ممارسة الكفاح المسلح أينما امتدت السيادة الإسرائيلية ، يعني أن السفارات الإسرائيلية في الخارج والسفن والطائرات الإسرائيلية والشركات الإسرائيلية وكل العاملين في هذه الأماكن بما انهم يخضعون للسيادة الإسرائيلية وينفذون السياسة الصهيونية، ويخدمون أهدافها التوسعية العدوانية ،فهم هدف مشروع لممارسة الكفاح المسلح ضدهم، وقد عبر فرانز فانون عن ذلك يقوله “أن القتال في الحرب العصابات لا يتم في المكان الذي يكون فيه المقاتل، بل في المكان الذي يذهب إليه، إن كان مقاتل في حرب العصابات إنما ينقل الوطن إلى حيث تمضي قدماه العاريتان”.52
وهذا الطرح وإن كان يجد مبرره في الطبيعة العدوانية للكيان الصهيوني الرافض للسلام والمنتهك لكل الشرائع الدولية والإنسانية ، فأنه يتوافق أيضا مع الموقف الذي اتخذته الجمعية العامة حول “الإرهاب الدولي” بل أيضا أُخذ به في الاتفاقية الدولية لـ “مناهضة أخذ الرهائن” التي وضعتها الأمم المتحدة عام 1979، فبعد أن وصفت الجمعية العامة أخذ الرهائن بأنه “عمل يعرض حياة الأشخاص الأبرياء للخطر وينتهك الكرامة الإنسانية”. ذكرت في المادة (12) منها ما يلي : 
“لا تسري هذه الاتفاقية على فعل من أفعال أخذ الرهائن يُرتكب أثناء المنازعات المسلحة المعرفة في اتفاقيات جنيف لعام 1949 أو بروتوكولاتها، بما في ذلك المنازعات المسلحة التي يرد ذكرها في الفقرة 4 من المادة 1 من البروتوكول الأول لعام 1977، والتي تناضل فيها الشعوب ضد السيطرة الاستعمارية والاحتلال الأجنبي ونظم الحركة العنصرية، ممارسة لحقها في تقرير المصير كما يجسده ميثاق الأمم المتحدة وإعلان مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول وفقا لميثاق الأمم المتحدة “.
وشعورا من منظمة التحرير الفلسطينية بشرعية النضال الفلسطيني والدعم العالمي الذي يحظى به هذا النضال، دافع السيد ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، في كلمته في الأمم المتحدة يوم الثالث عشر من نوفمبر 1974، عن الكفاح المسلح الذي يخوضه الشعب الفلسطيني ضد إسرائيل، مميزا بين هذا الشكل من الكفاح وبين الإرهاب فقال : 
“إن الذين يسموننا إرهابيين يريدون أن يحولوا دون اكتشاف الرأي العالمي لحقيقتنا ودون رؤيته للعدالة في وجوهنا، وهم يسعون إلى إخفاء ما تتسم به أعمالهم من إرهاب وطغيان، وموقفنا في الدفاع عن النفس …”.
وحدد المقياس في التمييز بين الإرهابي وبين المناضل من أجل الحرية ، بالهدف الذي يقاتل من أجله حيث أن “الفرق بين الثوري والإرهابي يكمن في السبب الذي يقاتل كل منها من أجله، إذ ان كل من يناصر قضية عادلة ويقاتل في سبيل الحرية وتحرير أرضه من الغزاة والمستعمرين، لا يمكن بأي حال أن يسمى إرهابيا”.
ولكن يبدو أن تعقد الظاهرة الإرهابية وتداخل مكونات عدة في تشكيلها، ونظرا لصعوبة المنعطف الذي مرت به القضية الفلسطينية بعد إخراج منظمة التحرير من لبنان 1982، صدر بيان القاهرة في العام 1985 عن رئيس منظمة التحرير السيد ياسر عرفات ، الذي أعطى موقفا جديدا من الإرهاب تميز بنبذ العمليات الفدائية خارج حدود فلسطين المحتلة ، حدث هذا في وقت تكثف فيه الحديث عن التسوية السلمية الصراع العربي الإسرائيلي .53
ثانيا :الجهاد : شرعية المبدأ والتباس الممارسة :
لن ندخل في تحليلات فقهية – لأننا ليس من أهل الاختصاص – ولكن نشير إلى ان القرآن الكريم تحدث عن الإرهاب والقتال والجهاد والحرابة كحالات تستوعب ما يسمى اليوم بالعنف السياسي ، وقد ذكر ما يشير إلى الإرهاب في الآية :” وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم” ، فالإسلام لا يمانع بممارسة الإرهاب والترهيب ولكن ضد أعداء الله واعداء الوطن وكحالة دفاعية أو ما يسمى اليوم بحالة الدفاع الشرعي عن النفس ، يقول تعالى ( ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) . أما (الحرابة)، فيقول فيها صبحي الصالح : (أنها توحي لغة بالمخالفة والمضادة ومدلولها اللغوي هذا يُلمح أيضا في الاصطلاح الفقهي ، عند إفساد الأمن وتعطيله بالإرهاب ،ومضاده النظام والخروج عليه بقوة السلاح لقطع الطريق وإخافة الآمنين والفساد في الأرض).56
ويرى صبحي الصالح بأنه إذا كانت الأعمال المدرجة ضمن الأعمال الإرهابية التي تطرق إليها تعريف الحرابة قد عددت على سبيل المثال وليس الحصر الحالات التي عاصرها القدامى، فإنها تنطبق أيضا على حالات مستحدثة لها علاقة بالتطور التكنولوجي والنمو في مجالات المعرفة الأخرى التي أصبحت سمة من سمات العصر الحديث وبالتالي فإن الحرابة تصدق على أعمال وممارسات هي وليدة عصرنا الحالي.
ونرى أن هذا التعريف يصدق على العديد من المجموعات الإرهابية في العالم الرأسمالي حيث انتشرت عصابات المافيا، والجماعات العنصرية والمنظمات التي ترفض نمط الحياة الرأسمالية واستلاب الإنسان من قبل الآلة وتعقد الحياة الاجتماعية والاقتصادية ، كما أن بعض الأنظمة العربية والإسلامية المشتبكة في صراع مع جماعات إسلامية تدرج هذه الجماعات ضمن مفهوم الحرابة مُسقطة عنها صفة الجماعات الجهادية ، ومن هنا تُكثر هذه الأنظمة من وصف هذه الجماعات بالزنادقة والمرتدين وقطاع الطرق الخ . 
مقابل هذا النوع من العنف غير المشروع وُجد الجهاد في الإسلام الذي اعتبر فرضا على كل مسلم ومسلمة . أولى الإسلام للجهاد حيزا كبيرا من اهتماماته، وتعددت الآيات والأحاديث التي تحض على الجهاد وتعتبره واجبا على المسلمين.و يشمل الجهاد في معناه الواسع أشكالا متعددة من البذل والتضحية في سبيل الحق ودين الحق، فهو جهاد بالنفس والمال (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون).57
وبالإضافة إلى الجهاد بالمال والكلمة الحق ووجود الجهاد الأصغر والجهاد الأكبر ، فإن الجانب القتالي من الجهاد ( الجهاد الأصغر ) أخذ حيزا كبيرا من مفهوم الجهاد ودلالته، حتى أنه غالبا ما اقترنت كلمة الجهاد بالقتال والحرب، والمسلمون جماعات وفرادى مطالبون بالجهاد فهو واجب على كل مسلم ومسلمة، “والمسلم مطالب بالجهاد حتى وأن عارضه أولي الأمر، (فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، و (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع بلسانه وإن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإيمان).
ويشمل الجهاد في الإسلام، الجهاد من أجل نشر دين الحق، والجهاد من أجل مناصرة المظلوم، وإحقاق الحق .. ” وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والوالدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا).58ويقول تعالى أيضا.. ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين . إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون )*
أما المفكر الإسلامي سيد قطب فهو يوسع من مفهوم الجهاد في الإسلام ويجعله صالحا لكل زمان ومكان، وضد كل قوى الظلم والشر في العالم فهو .. (دفاع عن الإنسان ذاته ضد جميع العوامل التي تفيد حريته وتعوق تحرره، هذه العوامل التي تتمثل في المعتقدات والتصورات كما تتمثل في الأنظمة السياسية القائمة على الحواجز الاقتصادية والطبقية والعنصرية والتي كانت سائدة في الأرض كلها يوم جاء الإسلام والتي ما تزال أشكال منها سائدة في الجاهلية الحاضرة في هذا الزمان).59 وقد أخذت جماعات إسلامية معاصرة بهذا المفهوم الواسع للجهاد ، كالجماعات الإسلامية في فلسطين وحزب الله والجماعات الإسلامية في مصر وجماعة الإخوان المسلمين في سوريا وجماعة طالبان وتنظيم القاعدة الذي يتزعمه أسامة بن لادن وبعض الجماعات الإسلامية في الجزائر ،مع تباين شاسع بينها في تحديد أولويات الجهاد بل في تحديد مفهوم الحق والباطل .
لا غرو أن للشعوب الخاضعة للاحتلال والهيمنة وعلى رأسها الشعب الفلسطيني الحق في المقاومة ، ولكن ممارسة هذا الحق هو الذي يحتاج إلى حذر شديد حتى لا يشوه عدالة الحق وعدالة القضية ،فممارسة حق النضال لتقرير المصير يفقد معناه إذا تحول إلى أعمال فئوية لجماعات لا تندرج في إطار الإجماع الوطني، وخصوصا إذا غاب التنسيق بين من ينصبون أنفسهم قيمين على القضية. فعلى الساحة الفلسطينية مثلا ، يحتاج الكفاح المسلح أو الجهاد ، لتكون له مرودية،إلى أن يندرج في إطار استراتيجية فلسطينية بل عربية إسلامية مشتركة أو على الأقل في إطار تنسيق يسمح بأن توظف هذه العمليات لخدمة الأهداف الوطنية، وهذا التنسيق للأسف غير موجود، وعدم وجوده يجعل قدرة إسرائيل والولايات المتحدة على استثمار هذه العمليات لصالحها أكبر من الفوائد التي تتحقق للقضية .
لقد علمتنا التجربة وعلمنا التاريخ أن كثيرا من الحقوق الوطنية ومن القيم السامية يخسرها أصحابها وتفقد مصداقيتها إن لم يتعاملوا معها بعقلانية وضمن رؤية شمولية تربط ما بين الفعل والهدف والوسيلة وردود الأفعال المحلية والدولية، وإن الطريق إلى جهنم معبدة بذوي النوايا الحسنة، ونحن لا نشكك بوطنية وبقوة إيمان أولئك الذين فجروا أنفسهم واستشهدوا داخل فلسطين من أجل الوطن والدين، والشعب الفلسطيني يزخر بالكثير من أمثالهم، ولكن المشكلة المثارة اليوم تتعلق بجماعات إسلامية غير فلسطينية تقوم بعمليات قتالية (الجهاد) ضد الولايات المتحدة ودول غربية باسم فلسطين ودفاعا عن الإسلام . فهل مثل هذه العمليات تندرج ضمن مخطط استراتيجي كفاحي إسلامي شامل ؟ وهل ينطبق عليها مفهوم الإسلام للجهاد ؟ وإن كان الأمر كذلك فكيف ينجح هذا المخطط إن لم يكن معتمدا على قاعدة إسلامية شعبية ورسمية واسعة؟. 
لا محاجة أن بلاد المسلمين ترزح تحت نير الاستعمار غير المباشر وتعاني الأمرين من الاستغلال الاقتصادي والسياسي الغربي ،ليس هذا فحسب بل أن إسرائيل وقوى سياسية مؤثرة في الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة تعتبر الإسلام خطر يهدد حضارتهم وهذا ما ظهر جليا بعد تفجيرات 11 سبتمبر ، ولكن كيف يمكن الرد على هؤلاء الأعداء ؟ وما هو موقف الإسلام من المسيحية واليهودية ؟ . إن ما يربك المواطن العربي والمسلم ويجعله في حيرة من أمره حيال اتخاذ موقف مع أو ضد عمليات ( جهادية ) تقوم بها جماعات إسلامية مثل العمليات التي قام بها تنظيم القاعة هو عدم وجود رؤية موحدة أو إجماع عن المسلمين حول هل أن اليهودية والمسيحية ديانات سماوية ومعتنقيها أهل كتاب أم أنهم – خصوصا اليهود – كفرة على المسلمين مقاتلتهم دون هوادة أينما كانوا سواء في ديار الإسلام أو في ديارهم ( دار الكفر ) ؟ .ومما يزيد من حالة الإرباك عند الإنسان المسلم أن عديد من الجماعات التي تصفها الولايات المتحدة بالإرهابية ، تقاسمها أنظمة عربية الرأي في هذا الوصف ، فالجماعات الإسلامية –الإسلام السياسي – في سوريا وتونس ومصر والجزائر والسعودية والبحرين ، تصنف كجماعات إرهابية … ، بل أن بعض علماء الدين المرموقين في العالم العربي – في مصر والسعودية تحديدا – نفوا صفة الجهاد حتى عن العمليات التي يقوم بها فلسطينيون ضد الكيان الصهيوني ، واعتبروا مفجري العبوات الناسفة انتحاريين لا استشهاديين …، فهل تلام الولايات المتحدة إن اعتبرت هذه الجماعات كجماعات إرهابية وتطالب بناء عليه من العالمين العربي والإسلامي مساعدتها بالقضاء عليهم ، وتطالب السلطة الفلسطينية بتفكيك حركتي الجهاد وحماس ؟. 

مما لا شك فيه أن المزاعم الأمريكية والصهيونية حول نعت العمليات الإستشهادية بالإرهاب هي مزاعم لا تقوم على أي أساس أخلاقي أو قانوني أو واقعي فحق الشعوب في مقاومة الاحتلال منصوص عليه في كل المواثيق الدولية والشرائع الدينية ، والشعب الخاضع للإحتلال له حرية وصف نضاله بما يتناسب مع عقيدته وأيديولوجيته فإن شاء سماه كفاحا مسلحا أو حرب عصابات أو حرب تحرير شعبية الخ ، وإن شاء سماه جهادا أو عمليات جهادية . أما الزعم بان المسلمين يوظفون الدين لأغراض سياسية ، فهذا الزعم قد يكون صحيحا في بعض الحالات وهو مرفوض بالنسبة لنا إن أخذ شكل حرب أهلية أو تصارع على السلطة ،أما فيما يتعلق بمعارضتهم لتوظيف الدين لمحاربة العدو الصهيوني فهذا مردود عليه ، أولا : لأن الكيان الصهيوني كيان استيطاني احتلالي قائم على الإرهاب والغصب ومقاومته واجبة على كل مواطن بغض النظر عن دينه ولونه ، ومن المعروف أن مناضلين وقادة أوائل في الثورة الفلسطينية كانوا من المسيحيين – جورج حبش ونايف حواتمه وناجي علوش الخ- . أيضا شارك في القتال إلى جانب الثورة الفلسطينية العديد من المناضلين من مختلف جنسيات العالم وأديانه بل شارك فيها يهودا خلال السبعينيات قاموا بعمليات عسكرية داخل فلسطين وتم اعتقالهم . وثانيا : كيف يقول الغرب وإسرائيل هذا القول وجزء كبير من التأييد الغربي المسيحي لإسرائيل قائم على أساس ديني – الكتاب المقدس عند المسيحيين يشمل العهد القديم وهو التوراة اليهودية والعهد الجديد وهو الإنجيل المسيحي – كما أن الكيان الصهيوني قائم بالأساس على مزاعم ومقولات دينية كمقولة وعد الرب وأرض الميعاد … و الجماعات الدينية المتطرفة في إسرائيل هي التي تتحكم في سياسة البلاد ، هذا ناهيك عن أن دولة الكيان الصهيوني هي الدولة الوحيدة في العالم التي تمنح جنسيتها على أساس ديني . 
إذن من حق الشعب الفلسطيني أن يقاتل باسم الجهاد او باسم الشرعية الدولية ومن واجب كل عربي ومسلم مناصرة ومشاركة الفلسطينيين في قتالهم ، ولكن هذا لا يمنع من عقلنة الممارسة الجهادية والإستشهادية حتى لا تضر بعدالة القضية وقدسية المبدأ ، وحتى لا يكون الجهاد بدون طائل . وعندما نقول بعقلنة المقاومة فهذا لا يعني دعوة للتخلي عنها بل دعوة للبحث عن طرق ووسائل جديدة للمقاومة تأخذ بعين الاعتبار واقع العالم اليوم وواقع النظم والحركات السياسية العربية والإسلامية .فمثلا عندما يرفع المجاهدون راية الجهاد لتحرير فلسطين من البحر إلى النهر، فأن تحرير فلسطيني يعني القضاء على إسرائيل ، وإسرائيل دولة يعترف بها المنتظم الدولي بل حتى دول عربية وهي عضو في هيئة الأمم المتحدة … فكيف يمكن أن نطالب العالم ان يقف إلى جانبنا للقضاء على دولة معترف بها ؟ نفس الأمر بالنسبة للعمليات الإستشهادية ، فهذه العمليات بالرغم من شرعيتها وكونها ردا على إرهاب صهيوني لا يرحم صغيرا ولا كبيرا من الفلسطينيين ، فهي تثير غضب الرأي العام العالمي الذي لا يفهم القيمة التي يمثلها الإستشهاد عند المسلم ، وينظر لها باعتبارها عمل إرهابي .
وواقع الحال ما دام الفلسطينيون غير قادرين لوحدهم على القضاء على الكيان الصهيوني ضمن موازين القوى القائمة اليوم وما دامت الأنظمة والحركات السياسية العربية والإسلامية غير معنية بالجهاد في فلسطيني – فهي ترسل المقاتلين والمجاهدين والأموال إلى كابول وقندهار وكشمير وكوسوفو وتتجاهل القدس المحتلة وكأن تلك البلاد النائية أكثر قدسية من القدس – وغير قادرة ولا راغبة بتبني الجهاد في فلسطين ، فعلى الفلسطينيين أن يستقطبوا إلى جانبهم الرأي العام الدولي وتأييد دول العالم ، وهذا يتطلب وضع برنامج عمل وطني مرحلي يأخذ بعين الاعتبار هذه الخصوصيات ، برنامج لا يتخلى عن الحق بالمقاومة ولكن تمارس المقاومة أو الجهاد بمفهوم واسع ضمن استراتيجية عمل وطني لا كخيار حزبي أو فئوي وأن يتم التفكير بقصر العمليات الاستشهادية على مناطق محددة أو وقفها مؤقتا إن احتاجت المصلحة الوطنية ذلك .

العولمة
كلمة ألعولمة باللغة العربية، والبعض سماها ب(الشوملة) هي ترجمة للكلمة الإنجليزيةGlobalization والكلمة الفرنسية Mondialisation فالكلمة تعني وضع الشيء على مستوى عالمي ،أو تعميم خاص وطني ليصبح عالميا ، أو هي مسعى لإزالة الحدود والموانع ما بين الدول للسماح بحرية الأفكار والثقافات والأموال والسلع دون قيود تفرضها السيادة الوطنية أو الخصوصيات القومية. ومن هنا تأتي التخوفات من العولمة، ففتح الحدود وإلغاء السيادة القومية يجعل العالم سوقا مفتوحة يحكمها مبدأ البقاء للأصلح والأقوى، الأقوى ثقافيا والأقوى اقتصاديا. وحيث أن المروج للعولمة والمدافع عنها هي الدول المتقدمة صناعيا وخصوصا الولايات المتحدة الأمريكية، فهذا معناه إنها المستفيدة من العولمة، لأن اقتصادها أصبح من القوة والتضخم بحيث لم تعد الحدود والسوق الوطنية وخصوصا بالنسبة للولايات المتحدة قادرة على الاستجابة لمتطلبات هذا الاقتصاد المتضخم ،ولأن اقتصادها وثقافتها ومجتمعاتها في منعة من التهديدات الخارجية التي قد تفرزها العولمة.
نظرا للتداخل الوثيق اليوم ما بين الاقتصاد والسياسة والثقافة، يجب الافتراض إن لم يكن التأكيد على أن من يتحكم بالاقتصاد العالمي سيكون معنيا بعولمة ثقافته وقوانينه وأنماط سلوكه لتسهيل انتشاره وتغلغله الاقتصادي، ومن هنا تصاحب الحديث عن العولمة الاقتصادية بالحديث عن العولمة الثقافية والعولمة السياسية (تعميم الديمقراطية) والعولمة القانونية (على مستوى القانون الدولي العام وتأسيس شرعية دولية جديدة وعلى مستوى القوانين الداخلية أي القانون الخاص :في الاقتصاد والتجارة وحتى التشريع في مجال مدونة الأحوال الشخصية ) .لا يعني هذا أن من يملك الاقتصاد الأقوى والأفضل يملك الثقافة الأفضل والقيم الأفضل ،فالأمر يرتبط بإمكانيات وليس أفضليات، فبالمال يمكن امتلاك وسائل الإعلام المتطورة وكل مشتملات الثورة المعلوماتية والتأثير على سياسات الدول الأقل قوة اقتصادية وشراء الأدمغة بل والمثقفين أحيانا وتوجيه كل ذلك لتعميم قيم ثقافية وسياسية تخدم فلسفة الأقوى اقتصاديا. 

إن أية محاولة لتفكيك مفهوم العولمة من اجل مقاربته إجرائيا تتطلب من الباحث الغوص في حقول معرفية متعددة كعلم اللغة واللسانيات وعلم الاقتصاد وعلم السياسة، بالإضافة إلى علوم الفلسفة والإعلام والتاريخ.وإن كانت هذه المقاربة الشمولية ترمي إلى التعرف على حقيقة المصطلح/الظاهرة إلا أن الحقيقة في هذا المجال تبقى نسبية كما هي في مجمل العلوم الإنسانية، وبالتالي ففي اعتقادنا أن الجهد البحثي المعرفي في هذا المجال يجب أن ينصب على البحث عن قاسم مشترك لمجمل التأويلات والتعريفات يهيئ لغة تخاطب متفق عليها تمكننا من قراءة واقع العولمة ونحن على هدى مما نقوم بدراسته.
ضبط مفهوم العولمة يتطلب أيضا تمييزه وفصله عن مفهومات أو مصطلحات قريبة منه أو متداخلة معه، كالحداثةModernization ، فبالرغم من أن العولمة نتاج الليبرالية الجديدة وهذه الأخيرة هي نتاج الحداثة و ما بعد الحداثة Post Modernity –وألما بعد لا يعني القطيعة بل تَمثُل الشيء وتجاوزه- ومع أن البعض تساءل عما إذا كانت “العولمة هي دين الحداثة أم نذير نهايتها” ،إلا أننا نعتقد أن صلة الحداثة بالعولمة هو أن كلاهما نعت لواقع مغاير عما سبقه، فعندما تم تداول تعبير الحديث modern أواخر القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين كان مرادفا لتعبير (الآن) ،والعولمة هي حداثة (الآن ) مع الأخذ بعين الاعتبار ما أضفي عليها من مستجدات. أيضا لا يمكن فصل العولمة عن ظاهرتين انبثقت عنهما وهما ظاهرة التدويل Internationalisation وظاهرة تعدد الجنسية Multinationalsation ، فالعولمة تجد جذورها في المساعي المتواصلة لوضع قواعد قانون دولي عام ومنظمات دولية تسمو على القوانين الوطنية وتعبر عما هو مشترك بين المجتمعات والدول ،وتعدد أو تعدي الجنسية تجلت في الشرطات متعددة الجنسية والرأي العام العالمي والحركات الاجتماعية والنقابية والأمميات –الاشتراكية والشيوعية- المفتوحة أمام أفراد وجماعات من جنسيات مختلفة. أيضا يجب التمييز بين العولمة المتوحشة كما ينعتها البعض وهي محل البحث هنا والعولمة كتطلع أنساني نحو التوحد وتوسيع مجالات المصالح المشتركة،أو ما بين العولمة والعولمة المضادة، عولمتهم وعولمتنا .
ربما أكثر حالات اللبس هو الذي يحدث ما بين العولمة والعالمية.فالفهم السائد لكلمة العالمية يعني الانتقال من العام المشترك إلى الخاص الوطني أو أسبقية العام على الخاص مع ترك الخيار للدول للدخول في العالمية أو أن تنأى بنفسها عنها،إلا أن المدقق في المجالات التي توصف بالعالمية سواء في القانون (القانون الدولي العام )أو بالاقتصاد (القانون الدولي الاقتصادي ثم اقتصاد السوق) أو في مجال حقوق الإنسان(الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومجمل التشريعات الدولية بهذا الشأن) أو نظريات التنمية الشمولية /الإنسانية التي تتبناها الأمم المتحدة وتسعى لها دول الجنوب،إذا تمعنا بكل ذلك لوجدنا أن صفة العالمية لا تخفي حقيقة أن المنتج لهذه النظم والقوانين والتوجهات هو الغرب وهي تعبر عن ثقافته وتخدم مصالحه بالدرجة الأولى، فالدول الأوروبية المسيحية والولايات المتحدة هم الذين وضعوا أسس القانون الدولي العام بكل تشعيباته ثم أضفي عليه صفة العالمية وهم الذين وضعوا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي أصبح له صفة العالمية، وهم الذين وضعوا أسس الديمقراطية والتنمية السياسية ثم أصبحت مطلبا عالميا وخصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ،وقد أشار سيرج لاتوش (Serge Latouche) إلى أن مصطلح النظام الدولي الذي ساد في العقود السابقة كان يعبر عن عالمية مركزها الحضارة الغربية وخصوصا الولايات المتحدة (والتي لا تعني إلا فرض الأنساق القيمية في إطار ما هو متعارف عليه بأنه أنماط الحياة Way of life ولا يمكن أن تفهم عناصر حقوق الإنسان ،الديمقراطية إلا باعتبارها تعبيرات تحاول أن تحقق تنميطا حضاريا عالميا). وهذا ما دفع ريجيس دوبريه للقول إن العالمية كانت مجرد أكذوبة أو وهم أو ستارا خادعا “لأن الناس محليون أولا، وينبغي أن يقام سبيل للذهاب والإياب بين المحلي والعالمي… ينبغي أن نفكر عالميا ولكن أن ننشط محليا على الدوام” . إلا أن ما يميز العالمية عن العولمة هو أن الأولى لم تكن تلغي الخصوصيات وحرية الاختيار بالضرورة، فحرية الاختيار كانت متاحة أكثر مما هو الحال مع العولمة.
ضبط المفهوم يمكننا أيضا من الحسم في مسالة حداثة الظاهرة التي يحيل إليها المصطلح أو قدمها، فإذا كان من الممكن أن نتحدث عن وجود إرهاصات للعولمة الاقتصادية كاقتصاد السوق والمؤسسات المالية العالمية وسيولة تنقل رؤوس الأموال، فإن العولمة الثقافية والسياسية بمفاهيمها المتداولة اليوم هي حديثة العهد نسبيا وترتبط بشكل كبير بتفاعلات الثورة المعلوماتية، حتى ذهب البعض إلى القول بأنه في عصر العولمة لم يعد السؤال مَن يتحكم بالوسائل المادية -من أراض وموارد طبيعية وحتى رؤوس أموال- بل من يتحكم بالوسائل اللامادية – تكنولوجيا متطورة وإعلام وبحث علمي ومعلومات- فالغزاة الجدد صانعو العولمة كما يقول بيترلاR.PETRELLA هم أشخاص معنويون أو طبيعيون يستطيعون من خلال امتلاكهم لإمكانات مالية ضخمة التحكم في تخصيص وتوزيع الموارد العالمية،ويحددون القيم والرهانات والأولويات ويتحكمون في قواعد اللعبة. 
ومن جهة أخرى لا بد من تبيان مفارقة يحتويها مصطلح العولمة، فإذا كان مفهوم العولمة هو تجاوز الحدود والخصوصيات، فأن مسيرة العولمة تزامنت مع تفجر حروب وصراعات دولية وأهلية، بل تصاحب مع مزيد من تشرذم العالم ثقافيا وأيديولوجيا. هذه المفارقة عكستها كتابات اثنين من المفكرين الاستراتيجيين الأمريكيين الذين تصدوا لتحليل المتغيرات الدولية ما بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وهما، (فرانسيس فوكوياما) في كتابه نهاية التاريخ حيث أكد توجه النظام الدولي نحو نهاية الصراعات الإيديولوجية والثقافية وتوحد العالم اقتصاديا وسياسيا وثقافيا ضمن المنظومة الرأسمالية الغربية ،و(صمويل هنتنجتون) في مقالته صدام الحضارات حيث يختلف عن سابقه بالقول أنه مع إمكانية توحيد العولمة للدول في اقتصاد السوق إلا أن التوتر بل الصدام ما بين الدول سيستمر لأسباب ثقافية،فالنظم السياسية والاقتصادية قد تتغير وتتبدل ولكن لا يمكن للمجتمعات أن تتخلى عن ثقافتها وخصوصا ذات الثقافات العريقة.

تعدد التعريفات وتضاربها أحيانا يعود لحداثة معالجة ظاهرة العولمة مفاهيميا ولكون العولمة لم تستقر نهائيا كواقع مسلم به بقدر ما هي توجه أو إرادة لصيرورتها واقعا، فتنجح في مجالات وبلدان وتتعثر في مجالات وبلدان أخرى، أو على حد تعبير راينسمث “لقد وصلت العولمة إلى العالم، ولكنها لم تصل إلى معظم منظمات العالم” وهذا ما يجعل نعت العولمة بالشوملة يفتقر إلى الدقة ما دامت لم تشمل كل العالم. ومن هنا يرى البعض بأن العولمة قد حُدًدت حتى الآن بشكل غامض هذا إذا حددت على وجه العموم، أما لماذا يصعب تعريف وتحديد العولمة فهذا يعود كما يقول كل من Hirst,P.And Thompson, G.”إلى غياب نموذج يشرح لنا كيف يمكن أن يكون عليه النموذج المعولم” . العولمة ضمن الواقع الدولي الراهن تتصاحب مع حالة من الشك وفقدان اليقين ليس فقط في الحاضر بل بالمستقبل أيضا، ومن هنا لا نستغرب حالة القلق التي تنتاب كثير من الشعوب ومن المفكرين من جنسيات مختلفة من هذا القادم الجديد ومن انفلات الأمور من يد البشر ومن التفكير العقلاني بشكل تدريجي، ليس فقط على مستوى تلوث البيئة – ثقب الأزون – أو انتشار أسلحة الدمار الشامل أو التلاعب بالجينات البشرية أو تزامن العولمة مع انتشار الإرهاب، بل أيضا على مستوى القيم والأفكار وآليات التنشئة الاجتماعية والسياسية “إذ نرى عالما يسوده الاغتراب والاضطراب واللا يقين (عالم منفلت). ولعل ما يثير الجزع المعرفي والفكري والأخلاقي أن تقدم المعارف البشرية والقدرة على (التحكم المحكوم ) في المجتمع والطبيعة –وهي أمور كان يظن أنها ستخلق قدرا أكبر واكبر من اليقين- إذا بها تشكل أساسا عميقا لحالة العجز عن التنبؤ بالمستقبل ” . صعوبة التعريف وحالة القلق لفظان ملطفان يعبران في الحقيقة عن حالة من الرفض للعولمة التي تسعى لتعميم النموذج الغربي وخصوصا الأمريكي، فالسياسة الخارجية الأمريكية سواء في العراق وفلسطين وأفغانستان ومواقفها المتعنتة المتعارضة مع توجهات غالبية دول العالم حتى الأوروبية في قضايا البيئة وحقوق الإنسان والتبادل التجاري، بالإضافة إلى الأزمات العميقة التي يعيشها المجتمع الأمريكي … كل ذلك يولد خوفا وقلقا من العولمة ،وقلقا أشد من قيادة الولايات المتحدة لقاطرة العولمة. 
التأريخ للعولمة

مسألة التأريخ للعولمة أمر يستحق النقاش ،فالجدل الدائر اليوم حول العولمة وخصوصا وجهة النظر المنتقدة للعولمة ،إنما تعالج العولمة المعاصرة المرتبطة بالنظام الرأسمالي أو التي هي نتاج له ، ووجهة النظر هذه ترى بأن العولمة ظهرت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي أو هي نتاج نهاية القرن العشرين المتسمة بالهيمنة الأمريكية وبقيم الثقافة الغربية المسيحية، ومن هنا تبدو العولمة نتيجة مسببات راهنة،وتخدم الوضع الدولي القائم الآن. ولكن حتى ضمن هذه المقاربة فما نسميه اليوم بالعولمة هو نتاج لأفكار وترتيبات وأوضاع سابقة على العقد الأخير من القرن العشرين. لا شك بان هناك عوامل معاصرة سرعت من صيرورة العولمة وجعلتها أكثر حضورا و راهنية، إلا أن هذه العوامل كانت تفعل فعلها عبر الزمن داخل الدول وما بينها بتؤدة مع وجود ممانعات ولا شك،هذه الممانعات أخذت تتهاوى شيئا فشيئا.
يترتب على هذه المقاربة التي تحيل العولمة لمرجعية أوروبية أمريكية رأسمالية حديثة التشكل، أحكام قيمة سلبية مؤداها تغييب إسهامات الشعوب والحضارات الأخرى في الإبداعات الإنسانية الراهنة ، وإن كنا لا ننكر أن حضارة القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين ذات معالم غربية في غالبيتها ،إلا أن شعوب أخرى ساهمت فيها بطريقة مباشرة، كالصين واليابان ودول شرق أسيا بشكل عام، وبطريقة غير مباشرة من خلال سياسة النهب والاستغلال التي مارستها الدول الغربية على دول العالم الثالث، ثم الاستعمار غير المباشر أو النهب غير المباشر بما في ذلك الثروة النفطية التي خدمت الدول المتقدمة أكثر مما خدمت الشعوب المنتجة لها. 

في مقابل هذه المقاربة التاريخية الاختزالية، هناك وجهة نظر أخرى تذهب إلى القول بتاريخية العولمة، فالعولمة الراهنة ما هي إلا صورة منقحة ومتطورة لعولمة تعود إلى بداية التاريخ ،من القائلين بذلك بول كيركبرايد الذي وضع أربع مراحل للعولمة وهي:1) العولمة قبل الحداثة-ما بين بداية التاريخ وعصر النهضة-2) العولمة في ظل الحداثة الجديدة-1500إلى 1800- 3)العولمة الحديثة- 1850إلى 1954-4)العولمة المعاصرة-1954وحتى الآن-. هذا التوجه يرى بان العولمة موجودة في جذور النظام الرأسمالي بل هي المرحلة الراهنة من مراحل تطور النظام الرأسمالي،وحسب رأي جوناثان فريدمان(man J.Fried) ،فالبنى المعولمة ليست جديدة على النسق العالمي الراهن ،فالشركات التجارية الأوروبية التي انتشرت ما بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر، وما ارتبط بها من نظم تجارية في المحيط الهندي وجنوب شرق أسيا والإمبراطوريات الكبرى، (كلها كيانات معولمة قوية). ويدعم هذا الرأي رونالد روبرتسون الذي يضع خمس مراحل تاريخية للعولمة منطلقها بدايات القرن الخامس عشر ،وهذه المراحل هي: المرحلة الجنينية ،مرحلة النشوء ،مرحلة الانطلاق ،مرحلة الصراع من اجل الهيمنة ،وأخيرا مرحلة عدم اليقين. 

هذه المقاربة التاريخية للعولمة بوجهتي النظر السابقتين لا تخلو من أنوية حضارية غربية حيث تقرن العولمة بالحضارة الغربية الحديثة التي بدأت مع عصر النهضة ،وهي ولا شك مقاربة صحيحة بمقدار ربط العولمة بالنظام الرأسمالي قيما وسلوكا ،إلا أن الوجه الأخر للعولمة ،إي العولمة كفكر وتطلع إنساني لتجاوز قيود الحدود السياسية والخصوصيات الثقافية الموهومة والتطلع نحو عالم يعترف بإنسانية الإنسان ككائن ينتمي إلى وطن عالمي وقانون عالمي ،تضرب بجذورها إلى ما قبل وجود الولايات المتحدة الأمريكية على الخريطة السياسية الدولية بل قبل وجود الرأسمالية كنظام اقتصادي والليبرالية كنظام سياسي. ويمكن القول أن الفلسفة الرواقية أول من بشر ودعا للعولمة دون أن تسميها عولمة وذلك من خلال مبدأين شكلا دعامة فكرها وهما :القانون الطبيعي ،قانون كل البشر الذي لا يفرق بين الناس على أساس الدين أو الموطن أو الخلفية الاجتماعية ،والمبدأ الثاني هو الدولة العالمية والمواطنة العالمية Cosmopolitanism أو( مدينة العالم( ،مبدأ هذه المدينة كما يقول زينون مؤسس هذه الفلسفة” يكمن في أن الناس يجب أن لا يتفرقوا في مدن وشعوب لكل منها قوانينها الخاصة،لأن كل الناس مواطنون،ولأن لهم حياة واحدة ونظاما واحدا للأشياء،كما هو حال القطيع الموحد في ظل قاعدة قانون مشترك”. أيضا لا تخلو الديانة الإسلامية من شكل من العولمة ،فدعوة الإسلام للتوحيد وعدم تفريقه بين الناس على أساس العرق أو المكانة الاجتماعية ،وكونه رسالة لكل البشر في كل زمان ومكان ،وحيث انه عبادات ومعاملات تحدد للبشر المبادئ العامة لأسلوب حياتهم ،فهذا يعني أنه دعوة مبكرة للعولمة، وبالفعل تمكن الإسلام من ربط عديد من الشعوب ضمن نمط حياة وسلوك لفترة طويلة من الزمن. والعولمة متضمنة أيضا في الدعوات المبكرة في عصر التنوير في أوروبا لوضع قانون دولي عام أو قانون للأمم كما سماه جيرمي بنتام ،وفكرة تأسيس منظمات دولية لا تخلو من فكر معولم – كما سبقت الإشارة إلى ذلك-. 

وعليه يمكن القول أنه بالرغم من حداثة تداول مصطلح العولمة ،حيث تكثف الحديث عنها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بداية التسعينيات ،إلا أن مؤشرات وجود العولمة، بمعنى سهولة انتقال السلع والأفكار عبر الحدود الوطنية وتراجع سيادة الدولة القومية،أمر سابق لهذا التاريخ ،فالعولمة الاقتصادية كانت تتغلغل في نسيج حياتنا مع الشركات متعددة الجنسية والتبعية الاقتصادية والمالية لمراكز رأس المال الغربي ،والعولمة الثقافية كانت تفعل فعلها في ثقافتنا من خلال الإيديولوجيات المستوردة ومن خلال الإعلام وخصوصا الفضائيات ومن خلال الثورة المعلوماتية.غالبية الدول العربية دخلت العولمة دون أن تدري من خلال تبعيتها للغرب وإلتحاقها بالمركز الرأسمالي العالمي. وهذا يعني أنه وجدت العولمة أو إرهاصاتها بداية ثم تواتر الحديث عن ضرورة التسليم بها والتعامل معها كأمر واقع ،ومن هنا مأتى الحرج عند معارضي العولمة ،حيث لم يستفيقوا لمخاطرها أو تحدياتها إلا بعد أن أصبحت بعض تجلياتها أمرا واقعا بدرجة ما وخصوصا في مجال الاقتصاد (العولمة الاقتصادية ) .
أيضا على الرغم من أن الحديث عن العولمة تزامن مع الحديث عن نهاية الايدولوجيا،إلا أن العولمة كفكر يتمأسس بشكل متدرج ،لا تخلو من أيديولوجيا ولو خفية،سواء من طرف مؤيديها أو من طرف معارضيها ،لأن العولمة تعبير عن مصالح وخيارات وإرادات ،فمؤيدوها يخفون حقيقة نواياهم بخطاب العلم والحداثة ومنطق التطور التاريخي، ومعارضوها يخفون الأسباب الحقيقية لمعارضتهم لها بالحديث عن الهوية والخصوصية الوطنية والمصلحة الوطنية ورفض الهيمنة والغزو الخارجي، وكل لا يخلو من ترسانة إعلامية وثقافية ومفاهيمية لتبرير وجهة نظره. مصطلح العولمة إذن حمال أوجه “حيث تتعدد وتتباين معانيها مع تباين مقاصد المتحدثين عنها والداعين إليها أو إلى مناهضتها. فهي حينا زعم بأن الكوكب قرية واحدة تهاوت فيها الحدود القومية مع إعلان وفاة أو نهاية الدولة-الأمة. والعولمة أيضا تدويل للحياة الاقتصادية والسياسية سقطت معه الحواجز الحمائية، وهي الحدود المفتوحة للشركات المتعدية القومية لدخول استثماراتها المالية ومنتجاتها،وتكريس للاستسلام لآليات السوق الحرة المتحررة من الضوابط والقوانين الاجتماعية . ويرى البعض الآخر العولمة في ضوء التحولات العلمية التقانية وتجلياتها من حيث حالة التماس والاتصال المباشر بين الناس أفرادا وجماعات على صعيد الكوكب”. 

ومع ذلك يجب التأكيد بان العولمة التي يراد لها أن تسود هي نتاج حضارة الغرب والصيغة الأكثر حداثة وفجاجة لهذه الحضارة والتي تجسدها الولايات المتحدة الأمريكية،إنها تجسيد وتكثيف المابعديات :ما بعد الرأسمالية وما بعد الامبريالية وما بعد الحداثة وما بعد الايدولوجيا وما بعد سيادة الدولة القومية ،إنها تجاوز-دون قطيعة- بشكل ما لإرث أوروبا العجوز ،أوروبا التي أصبحت تتعجب بتخوف مما تفعله الولايات المتحدة بهذا الإرث. لا يعني هذا إنها المرادف لنهاية التاريخ التي بشر بها فرنسيس فوكوياما،ولكنها قد تكون تحديا للتاريخ .وقد ذهب انطوني جيدنز إلى اعتبار التحولات التي يعرفها العالم في السنوات الأخيرة بما في ذلك العولمة، نتيجة أزمة اليسار وأزمة اليمين على حد سواء ،فالعولمة نعت لواقع مضطرب وغير مفهوم وبالتالي يسود تعريفها عدم الوضوح ،ومع ذلك فهو يتلمس أبعادها العميقة والخطيرة محذرا من ربطها فقط بالاقتصاد،أو بالنظام العالمي ” تتعلق العولمة في حقيقتها بالتحول في الزمان والمكان ،ويمكن تحديد معناها بأنها العمل أو التأثير عن بعد، ولشيوعها علاقة بالكثافة المتزايدة في السنوات الأخيرة لوسائل الاتصال الفوري وحركة الانتقال الجماعية الواسعة على نطاق الكوكب… وتأثير العولمة مس أيضا أساليب الحياة المحلية بل والشخصية … بل يمكن الحديث عن نشوء نظام اجتماعي جديد –ما بعد تقليدي “. 

الأوليغاركية:-
مصطلح أصله اليوناني مكون من جزأين Oligoi وتعني قلة ثم arche وتعني حكم، ومن ثم، فالمصطلح – لغوياً – يعني نظام حكم القلة، ولا يقصد به حكم القلة وحسب بل حكم القلة صاحب الثروة بالتحديد والتي تستخدم المنصب السياسي لتحقيق مصالحها الشخصية.

ووفقاً لتصنيف الحكومات عن “أفلاطون” فإن نظم الحكم تتدهور حتماً نتيجة للفساد الذي يطرأ على الهيئة الحاكمة. ونظام الحكم الأوليغاركي هو حلقة في التطور السلبي لهذه النظم إذ يتولد من نظام الحكم التيموقراطي عندما يصيبه الفساد والتحلل. فبعد أن كانت الطبقة الحاكمة التيموقراطية تمجد الشرف والسلطان ولا تأبه بالمال إلا لكونه وسيلة لإسباغ مظاهر المجد والسلطان عليهم، يضحي المال، بتقادم الزمن، غاية في حد ذاته فتزداد شهوتهم إليه ورغبتهم فيه ويتحول النظام من التيموقراطية إلى الأوليغاركية – أي حكم القلة التي تعشق الثروة وتستخدم السلطة السياسية من أجل تحقيق مصالحها الشخصية التي توفر لها المال.

أما أرسطو، فهو على عكس أفلاطون لم يتكلم عن دورة حكم بل استخدم في تحليله لأنواع نظم الحكم معيارين أساسيين أولهما معيار كمي مؤداه عدد القائمين على الحكم وثانيهما معيار كيفي يهتم بمعرفة لصالح من يمارس الحكم. فالأوليغاركية هي الوجه الفاسد لنظام حكم القلة لأنه يعمل لصالح القائمين عليه وذلك في مواجهة نظام الحكم الارستقراطي وهو الوجه النقي لحكم القلة لأنه يعمل لصالح المحكومين. ولقد اقترب هويز من مفهوم أرسطو هذا فيرى أنه لا يوجد نظام حكم قائم بذاته اسمه الأوليغاركية ذلك أن “أوليغاركية” ما هو إلا الاسم الذي يصم به الناس نظام الحكم الارستقراطي عندما يكونون غير راضين عنه. بعبارة أخرى، يرىهوبز أنه يوجد نظام حكم قلة، إذا رضي الناس عنه أسموه ارستقراطية وإذا نقموا عليه أسموه أوليغاركية.

وهذه التفرقة الحادة بين حكم قلة صالح نقي يعرف باسم الارستقراطية وحكم قلة فاسد يعرف باسم الأوليغاركية لم تعد مقبولة تماماً في الفكر السياسي المعاصر. فهو ينظر عادة إلى الارستقراطية على أنها نظام حكم يقوم بالأساس على تنظيم طبقي محدد، فيكرس من ثم مفهوم الطبقية. ثم أنه، وهو الأهم، ليس من المشاهد دائماً أنه نظام حكم يعمل للصالح العام. والعكس صحيح، فرغم أن العديد من المفكرين السياسيين يدخلون نظام حكم الحزب الواحد تحت بند نظم الحكم الأوليغاركية، فإنه من المشاهد أنه رغم أن بعض هذه النظم لا تعمل لصالح الشعب فإن بعضها الآخر يكون الصالح العام هو هدفها الأساسي.

ويذهب بعض الفلاسفة المحدثين إلى أن الأوليغاركية هي واقع أمر أي نظام حكم وبغض النظر عن المسميات التي قد يتسمى بها، فعلم الاجتماع أسماه بقاون الأوليغاركية الحديد) ومؤداه أن السلطة في أي منظمة – تتوزع حتماً بدرجات متفاوتة على أعضاء تلك المنظمة، وبالتالي فإن هذه السلطة تتركز بصورة أكبر في أيدي بعض الأشخاص دون البعض الآخر، وهذا البعض الذي تتركز السلطة في يده عادة ما يكون أقل عدداً بكثير من البعض الآخر. ومن ثم، فإن نظم الحكم التي تنص دساتيرها على أنها ديمقراطية مثلاً هي في واقع الأمر أوليغاركية لأنه بغض النظر عن المؤسسات والقوانين التي يراد بها الحد من سطوة الأفراد الذين يحتلون مناصب الحكم، فإن هؤلاء الأفراد لا بد وأن يرتبطوا ببعضهم البعض ولا بد وأن ينسقوا تحركاتهم بصورة تجعلهم يسيرون دفة الحكم بوصفهم قلة ذات مصالح مشتركة خاصة.

وتبعاً لوجهة النظر هذه، فإن صلاحية نظام الحكم في دولة ما لا يكون بالرجوع إلى دستور الدولة لاكتشاف ما إذا كان حكم قلة أم حكم كثرة لأنه، وكما قال مايكلز، حيثما توجد منظمة فستوجد أوليغاركية من الناحية الفعلية،وبغض النظر عما يتضمنه الدستور المنظم لتلك المنظمة. فالحكم على صلاح حكومة ما يكون من ثم بمحاولة تعرف ما إذا كانت هناك قواعد تمكن النخبة الحاكمة من أن تتماسك وتتيح لها الفرصة لاستثمار المنصب لتحقيق مناصب شخصية أم لا، وما إذا كان هناك قواعد تحد من قوة وسطوة المجموعة الحاكمة، وما إذا كان أفراد الشعب قادرين على ممارسة قدر لا يستهان به من التحكم في القلة صاحبة السلطة يصل إلى حد إقصائها عن السلطة عن طريق الانتخابات مثلاً أم أن كل ما يستطيعون فعله لا يتعدى مجرد ممارسة قدر من التأثير الجاد.

ويرى العديد من المفكرين السياسيين المعاصرين أن سمة “الديمقراطية” بمعنى اشتراك الشعب في تسيير دفة الحكم تكون مقصورة في النظم الديمقراطية المعاصرة على مرحلة انتخاب الممثلين وحسب. ويؤكد هذا الفريق أن القول بأن نظاماً ما ديقمراطي بالنظر إلى هذه المرحلة يعتبر أكذوبة كبرى، ذلك أن التسيير الفعلي لدفة الحكم يكون في يد القلة التي اختارها الشعب وإنها تقوم بهذه المهمة دون الرجوع إلى الشعب في معظم الأحوال، ومن ثم فإن دور الشعب –أو الأغلبية – ينتهي بانتهاء الانتخابات. ومن ثم، يرفض هذا الفريق اطلاق سمة الديمقراطية على النظم الديمقراطية المعاصرة، مؤكداً أن هذا الوصف لا يصح إلى على نموذج الديمقراطية المباشرة، كما عرفها اليونان قديماً. ولكن يرد فريق آخر من المفكرين السياسيين مؤكداً أنه إذا كانت القلة تحكم بالفعل في كل النظم السياسية المعاصرة، وبغض النظر عما تنص عليه دساتيرها إلا أن قدرة أفراد الشعب على أن يكون لهم الكلمة الأخيرة في استمرار تلك القلة في الحكم ولا بد وأن يعتبر معياراً حقيقياً للقول بأن نظاماً ما هو نظام ديمقراطي، حتى لو كانت القلة – أو النخبة الحاكمة –هي التي تسير وحدها عملية الحكم في هذا النظام.

البلوتوقراطية:-
مصطلح يعني الحكم عن طريق الثروة. فالبلوتوقراطية هي نظام الحكم الذي تكون مؤسساته السياسية مبنية ومخططة بصورة لا تسم بالوصول إلى مناصب الحكم والسلطة إلا للأفراد الذين يمتلكون ثروات ضخمة. فطبيعة تكون المؤسسات السياسية في الدولة والطريقة التي تعمل بها تجعل الراغب في منصب الحكم محتاجاً إلى ثروات طائلة إما للاستحواذ على المنصب ابتداء أو للاحتفاظ به بعد الوصول إليه. ونسترعي الانتباه هنا إلى ضرورة عدم الخلط بين نظام الحكم البلوتوقراطي بالمعنى السابق وبين نظم الحكم التي تساعد طبيعة مؤسساتها السياسية من يتولى منصب الحكم على أن يستفيد من منصبه هنا لتكوين الثروات الضخمة. فنظام الحكم البلوتوقراطي يتطلب من راغب السلطة انفاق أموال طائلة من أجل تحقيق غرضه ولكن هذا لا يعني أن المنصب في حد ذاته يضحى مصدراً لتكوين ثروة.

ونظام الحكم الذي ينظر إليه عادة على أنه أقرب النماذج إلى البلوتوقراطية هو نظام الحكم الأمريكي فطبيعة عملية الانتخابات في ظل النظام الديمقراطي الرئاسي المطبق في الولايات المتحدة تفرض على المرشحين أن ينفقوا أموالاً طائلة ولفترة غير قصيرة من الزمن في حملات انتخابية تتضمن عقد المؤتمرات الصحفية واستئجار الوقت من الشبكات التلفزيونية والسفر من ولاية إلى ولاية وغير ذلك من أساليب دعائية تتطلب قدراً لا يستهان به من الأموال. ولا يستطيع الناخب الذي يرغب جاداً في المنصب إلا أن يفعل هذا. فطبيعة المؤسسة السياسية تجعل من هذه الوسائل الأداة الوحيدة للتأثير على الناخبين ومحاولة كسب أصواتهم الانتخابية.

وفي الجانب الآخر، عادة ما ينظر إلى نظم الحكم التي تطبق الديمقراطية المركزية، مثل النظام السوفيتي، على أنها نظام حكم غير بلوتوقراطية فالنظام السياسي لا يعرف إلا حزباً واحداً، ورغم وجود انتخابات لمناصب الهيئة المركزية للحزب السياسي، فإن طبيعة تكوين الحزب وطبيعة المؤسسة السياسية ككل لا تسمح بمنافسة ضارية على تلك المناصب بصورة تبرر إنفاق الأموال الطائلة على الدعاية الانتخابية.

ويؤكد بعض المفكرين السياسيين المعارضين لمفهوم الديمقراطية المركزية أن نظم الحكم التي تطبقه، بدلاً منه أن تدفعالراغبين في السلطة إلى إنفاق الاموال من أجل المنصب، فإنها تساعد أحاب السلطة على أن يجمعوا ثروات طائلة مستغلين مناصبهم السياسية وطبيعة المؤسسة السياسية حيث لا تخضع النخبة الحاكمة لأي نوع من الرقابة الحقيقية من قبل المستويات الأدنى في الحزب.

والذي يجب أن نلفت الانتباه إليه هذا هو أنه يوجد في كل النظم السياسية فرق واضح بين المثالية السياسة التي يقوم عليه النظام وبين ما يحدث في واقع الممارسات السياسية. فرغم أن طبيعة نظم الديمقراطية الرئاسية تسمح بقدر لا يستهان به من الرقابة والمساءلة لشاغلي مناصب السلطة إلا أن التحايل عند الرغبة في استغلال المنصب بصورة غير مشروعة لجمع الثروة ممكن دائماً. وفي الجانب الآخر، فإن مفهوم الديمقراطية المركزية، بالنظر إلى مثالياته التنظيرية، لا يسمح بالتأكيد باستغلال المنصب السياسي لجمع الثروة، وإن كانت طبيعة الممارسات السياسية الفعلية تسهل هذا الأمر لمن يرغب في الاستغلال غير المشروع للمنصب.

الثيوقراطية:
الأصل اللغوي للمصطلح مشتق من الكلمة اليونانية Theokratia وتعني “حكم الله” ولكن في استعمال الشائع، فإن المصطلح يقصد به “حكم رجال الدين”. ونظام الحكم الثيوقراطي بهذا المعنى، وكما طبق ونوقش وفهم، في التاريخ والعالم القديم، لم يكن يعني تولي رجال الدين مناصب الحكم نيابة عن الله، وإنما كان يعني فقط حتمية توليهم مناصب القضاء والتشريع. وذلك لأن الثيوقراطية هي نظام الحكم الذي يعتبر أن الله هو السلطة السيادية العليا وأن القوانين الإلهية هي القوانين المدنية الواجبة التطبيق وأن رجال الدين بوصفهم الخبراء بتلك القوانين الآلهية فإنه تتمثل فيه سلطة الله والتي يكون لزاماً عليهم تجسيدها من خلال فرض وتطبيق قوانينه السماوية. وأول من استخدم مصطلح “ثيوقراطية” بذا المعنى المؤرخ اليهودي جوزيف وإن كان قد قصد به، على وجه التحديد، المفهوم اليهودي للحكومة كما هو وارد في التوراة حيث تؤكد أن القوانين الإلهية هي مصدر الالتزامات الدينية والمدنية على حد سواء.

والفكرة الرائدة هي المقابلة بين نظام الحكم الثيوقراطي من جانب ونظريات العقد الاجتماعي من جانب آخر. فالفكرة الأساسية هنا هي أن نظام الحكم الثيوقراطي يقوم على أساس وجود ميثاق أو عهد بين الناس والله، وأن هذا العهد يضحى هو مصدر كل الالتزامات المدنية. يترتب على ذلك أن هذا العهد مع الله يكون هو المصدر الأوحد للسلطة ويلغي، من ثم، أي عقد آخر سواء بين الشعب والحاكم أو بين أفراد الشعب بعضهم وبعض – وهي الأفكار التي تقوم عليها نظريات العقد الاجتماعي – ذلك أن هذه العقود لا تضحى ملزمة حيث يجبها كلها العهد الذي يربط الناس بالله.

ويدافع بعض المفكرين اليهود المتدينين عن المفهوم الأصلي للثيوقراطية مؤكدين أن مهمة تفسير القانون لم تكون موكلة في الثيوقراطية اليهودية القديمة إلى الحاكم ولكن إلى الأحبار –رجال الدين اليهودي – والذين لم يكونوا بدورهم أعضاء في الحكومة كما أكدوا أيضاً على أن الحاكم –عادة- لم يمكن ينتمي إلى طبقة رجال الدين. من ثم، فلقد كان هناك في ظل الثيوقراطية اليهودية فصل بين السلطات أدى عملياً إلى وضع حدود على سلطات الحاكم. ولقد خلصوا من دراسة هذا النموذج للثيوقراطية إلى أن فكرة الولاية الإلهية لم تمنع –بل ساعدت على- ظهور نظام حكم يتمتع بدرجة عالية من سيادة القانون.
وهناك نماذج تاريخية أخرى لنظم الحكم ثيوقراطية منها فلورنسا تحت حكم سافونارولا وجنيف تحت حكم كالفن. ولقد كان لخبرة أوروبا في عصورها الوسطى المظلمة حيث امتدت سيطرة الكنيسة ورجالها إلى كافة نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في رد فعل عنيف تجاه تدخل رجال الدين في حياة الأفراد بأي صورة من الصور. فكان أن ظهرت الحركات القومية والمذاهب الفردية والنظريات الديمقراطية كردود فعل لممارسات رجال الدين المسيحي المتعدية في أوروبا العصور الوسطى. وكان أن ترجم الفكر السياسي الأوروبي رفضه لممارسات رجال الكنيسة في العصور الوسطى إلى رفض للدين ذاته فظهرت الحركات العلمانية التي ترمي إلى الفصل التام بين الدين والسياسة، مؤكدة أن الدين مكانه ليس البرلمان ولكن دور العبادة، وهي الفكرة التي تقوم عليها المجتمعات السياسية في أوروبا وأمريكا حتى وقتنا الحالي.
وتشهد المجتمعات الإسلامية في الوقت الحالي خبرة عكسية تماماً خاصة في الدول التي تبنت مفاهيم القومية وغيرها من الأفكار التي سادت المجتمعات الغربية نتيجة لخبرتهم التاريخية السابق الإشارة إليها. فمعظمهم المجتمعات الإسلامية تشهد حركة فكرية قوية تحاول تقديم تفسير لحالة التدهور والتخلف في كافة مناحي الحياة والذي تشهده المجتمعات الإسلامية إنما يرجع إلى استبعاد القوانين الإلهية من التسيد على كافة مناحي الحياة دينية ومدنية معاً. ومن ثم يدعو هذا التيار إلى ضرورة العودة إلى تطبيق القوانين الدينية وضرورة إعطاء رجال الدين مكانتهم الصحيحة في الهيئة الحكومية تشريعياً وقضائياً بل وكاستشاريين للقائمين على السلطة التنفيذية إذا لم يكن الآخيرون متفهمين في أمور الشريعة الإسلامية، وهو ما يعتبر لب المفهوم الثيوقراطي في الحكم.

الديكتاتورية:
الديكتاتورية في الاستعمال الحديث تشير إلى نظم الحكم التي تسمح لفرد أو منصب أو حزب أن يكون له من القوة والسلطة ما يجعله يسيطر سيطرة تامة على الدولة فيقرر منفرداً كل التحركات والقرارات السياسية، وأن يفرض الطاعة على كل المواطنين ليقبلوا صاغرين كل ما يصدر عنه من تحركات وأفعال.
أما الأصل التاريخي للمصطلح فيرجع إلى عصر الجمهورية الرومانية حيث جرى العرف على اختيار أحد القضاة في وقت الأزمات المدنية أو العسكرية ومنحه سلطات واسعة وغير محدودة طوال فترة الأزمة. هذا القاضي كان يطلق عليه اسم “ديكتاتور”. فالديكتاتورية تاريخياً كانت منصباً. ولكنها الآن تشير إما إلى شكل الحكم في النظام السياسي أو أيدلوجية تتشكل بها طريقة الحياة لمجتمع ما.

ويرادف بعض علماء السياسة المعاصرين بين لفظ الديكتاتورية وألفاظ مثل: طغيان، استبداد، أوتوقراطية، قيصرية، تسلطية وشمولية. ويعترض بعض المفكرين على الموازاة بين الديكتاتورية و الاستبداد بالتحديد على أساس أن النظم الديكتاتورية تتخذ خطوات إيجابية في سبيل التمكين للقهر، في حين أن النظم الاستبدادية تتبع أسلوباً سلبياً في قهرها للمحكومين. فنظم الحكم الديكتاتورية تقوم أساساً على إصدار الأوامر التعسفية مطالبة المواطنين بوجوب طاعتها والالتزام بتنفيذها، في حين أن السمة الأساسية للنظم الاستبدادية هي إقامتها للعراقيل في وجه الحريات السياسية.

ومن أهم السمات المميزة للنظم الديكتاتورية:
1- التحكمية في ممارسة السلطة وقصرها على أشخاص معينين أو فئة محددة وغياب اي توزيع للسلطة وإلغاء كل المؤسسات أو الجمعيات السياسية والاجتماعية التي قد تلعب دوراً مؤثراً فتشكل منافساً لمن هم في السلطة، وتركيز كل القوى السياسية في يد فرد أو نخبة وإقامة جهاز حكم يكرس احتكار السلطة هذا.2- إلغاء أو إهمال القاعدة التشريعية للسلطة السياسية فعادة ما يلغي الدستور في مثل هذه النظم ليحل محله بناء قانوني جديد يخدم الطبقة الحاكمة ويضحى أداتها الأساسية في الحكم. ويرتبط بهذه السمة صعوبة، إن لم يكن استحالة، تنظيم عملية خلافة الديكتاتور القائم بصورة قانونية دستورية.
3- إلغاء الحريات المدنية أو تقييدها بدرجة كبيرة.
4- سيطرة الانفعالية والاندفاعية على عملية صنع القرار.
5- استخدم وسائل استبدادية لتحقيق التحكم السياسي والاجتماعي تبدأ من الدعاية وفرض واجب الطاعة إلى التخويف والاستخدام الفعلي لوسائل الإرهاب والقمع.

ويرى العديد من المفكرين السياسيين أن ثمة علاقة بين النظم الديكتاتورية والنظم الديمقراطية. ويعد أفلاطون أول من عبر عن هذه القناعة في محاورة الجمهورية حيث أكد أن الطغيان يتولد بالضرورة عن الديمقراطية. ولقد تبعه أرسطو في هذا وكذلك العديد من المفكرين السياسيين المحدثين ومنهم فرانز نيومان الذي كتب عام 1957 قائلاً أن الدكتاتورية تعتبر أحد تطبيقات الديمقراطية. ويرى هؤلاء المفكرون أن سبب تحول الديمقراطية إلى ديكتاتورية يكمن في ضعف الديمقراطية البنائي وعجزها عن حل المشكلات الاجتماعية والأزمات الاقتصادية التي تأسست أصلاً من أجل حلها، بل والأسوأ من هذا أن الممارسات الديمقراطية تشجع، بمرور الوقت، على عدم الالتزام بالدستور، كما أنها تنمي طريقة حكم سلطوية أبعد ما تكون عن الديمقراطية مما يؤدي في النهاية إلى تولد نظام الحكم الديكتاتوري في نظر هؤلاء المفكرين.

وهناك تصفيات عدة للديكتاتورية أشهرها تصنيف شميت الذي يميز بين ديكتاتورية وقتية أو مشروطة والتي تتسم بتفويض الحاكم سلطات مطلقة في حالات الطوارئ وديكتاتورية الحاكم وتهدف إلى إحداث تغيرات جذرية في كل أوجه الحياة الاجتماعيةو السياسية. ولكن ينتقد البعض هذا التصنيف على أساس أنه لا يكون مثمراً عند تطبيقه على التنويعات المختلفة للنظم الديكتاتورية في الأحقاب التاريخية المتعاقبة والحضارات المتنوعة، ومن ثم فهم يفضلون عليه تقسيم نيومان والذي يفرق بين دكتاتورية بسيطة أو معتادة، ويمارس فيها الحاكم تحكماً مطلقاً وسيطرة تامة على أدوات السلطة التقليدية في النظام، والديكتاتورية القيصرية، ويحتاج فيها الحاكم إلى مساندة قطاعات عريضة من الشعب حتى يحصل على السلطة أولاً وكذلك يحتاج إلى استمرار هذه المساندة وإلى القيام بإصلاحات اقتصادية واجتماعية واسعة حتى يستطيع أن يدعم سلطاته ثانياً، والديكتاتورية الشمولية حيث يمارس الحاكم مهام الحكم بمساعدة جهاز سلطوي يسيطر عليه حزب واحد وحركة اجتماعية واسعة.

ويرى بعض المفكرين أن الديكتاتورية يكون مرغوباً فيها أحياناً وفي ظل ظروف معينة. فنجد المفكر الثوري الفرنسي بلانكوي يتحدث عما أسماه بالدكتاتورية الثورية فيعني بها الانقلاب الذي تقوم به الصفوة، وليس ثورة جموع الشعب ويصف انقلاب أو ثورة الصفوة هذا بأنه الوسيلة الوحيدة والمضمونة للقضاء على الرأسمالية وآثارها. وهو يرى أن هذه الصفوة التي تقوم بالانقلاب لا بد أن تمسك بنصاب الأمور في الدولة، ولو مؤقتاً فتشكل نظام حكم نخبوي دكتاتوري يرسم برنامجاً ثورياً يطرحه على الناس ويفرضه عليهم في حالة عدم رضائهم عنه وعدم رغبتهم في مساندته.

ولم يقتصر أثر البلانكوية على الأجيال المتتالية من الراديكاليين الفرنسيين ولكنه امتد أيضاً إلى ماركس الذي تعاطف مع لب الدعوة وإن كان قد رفض الاتجاهات النخبوية فيها وعدم إيلائها اهتماماً كافياً للطبقة العاملة. ولكن بلانكوي نفسه أظهر في مرحلة متأخرة اهتماماً بإيجاد قاعدة من الطبقة العاملة لمفهومه الثوري، وكان هذا الاهتمام هو الذي أوحى للماركسية بمفهوم ديكتاتورية البروليتاريا. ولقد أصبح هذا المفهوم شائعاً في الفكر الماركسي بعد ماركس، وخاصة في كتابات لينين، حيث أضحى له دلالة معينة هي إشاراته إلى طبيعة السلطة في الدولة الشيوعية في الفترة الانتقالية من مرحلة الثورة إلى مرحلة المجتمع الشيوعي الحقيقي. ويرى أنجلز أن البروليتاريا تمارس سلطات ديكتاتورية بغرض تحقيق التحكم في وسائل الإنتاج، ثم الديكتاتورية. كما أن ماركس كان يؤمن أيضاً أن ديكتاتورية البروليتاريا هي وسيلة تساعد على تحقق غاية فناء الدولة وهو هدف الشيوعية الأسمى. ويستخدم هذا التحليل من الناحية العملية لإضفاء الشرعية على الأحزاب الشيوعية الحاكمة ولتبرير السلطات السياسية الواسعة التي تمارسها تلك الأحزاب بحجة أن الأحزاب الشيوعية الحاكمة إنما تحكم باسم البروليتاريا وأن سلطاتها التحكمية هي وسيلة في سبيل تحقيق هدف الشيوعية الأسمى. 

والواقع أن الشرعية هي إحدى المشكلات المحورية في النظم الدكتاتورية. ومعظم النظم الدكتاتورية. ومعظم النظم الدكتاتورية تلجأ إلى البناء القانوني الذي خلقته ابتداء لتستمد منه شرعية وجودها وأساليب حكمها. ثم هناك بعض النظم الديكتاتورية التي تلجأ إلى العادات والتقاليد والأراف والقانون الطبيعي لتبرر وجودها وعندما تفشل تلجأ إما إلى العزف على وتران أن الممارسة التحكمية للسلطة هي وسيلة أيدويولجية ميتافيزيقية تبرر النظام الديكتاتوري القائم بوصفه جزءً من نظام كوني محددة معالمه مسبقاً ومقضي قيامه في هذا الوقت وعلى هذا الشكل إما وفقاً لقواعد القاء والقدر أحياناً أو وفقاً لنظرية النشوء والترقي أحياناً أخرى. ويعد العامل الكاريزماتي أيضاً أحد أهم العوامل المستغلة في إكساب النظام الديكتاتوري قدراً من الشرعية خاصة في تلك النظم التي تحاول إقامة واجهة ديمقراطية براقة لها مثل النظم الشمولية.

ويهتم العديد من الباحثين السياسيين بدراسة ظاهرة الديكتاتورية في دول العالم الجديد التي نالت استقلالها حديثاً، ويضع هؤلاء الباحثون أسباباً عديدة لهذه الظاهرة رغم اتباع معظم هذه الدول – ظاهرياً – لأشكال حكم ديمقراطية برلمانية. ومن أهم الأسباب المذكورة في هذا الصدد هو أن الاتباع العملي لوسائل حكم ديكتاتورية هو ميراث فترات طويلة من الخضوع لاستعمار كان يمارس نفس أساليب الحكم السلطوية تلك. ومن الأسباب المذكورة أيضاً أن الممارسة الديمقراطية الحقة لا يمكن قيامها إلا في دول تعرف طبقة وسطى عريضة مستقرة ومبادئ سياسية واجتماعية مستتبة وقنوات اتصال كفء تعمل في الاتجاهين اي بين الحاكمين والمحكومين والعكس، وأن هذه المتطلبات غير متوافرة في معظم الدول الدول الحديثة الاستقلال مما يجعل الأساليب الديمقراطية تبدو دخيلة ومستوردة وغريبة على البنيان الاجتماعي الموجود. ثم هناك سبب أخير يطرحه هذا الفريق من الباحثين مؤداه أن أساليب الحكم الدكتاتورية أمر لا يمكن تجنبه في المرحلة الانتقالبية بين الخضوع للاستعمار وإقامة نظم دستورية متعددة الأحزاب. ويؤكد هذا الفريق من الباحثين أن الطبقة المتعلمة في معظم تلك الدول تؤمن أن التطور الصناعي الجذري والسريع كإحدى وسائل تحقيق الرفاهية الاجتماعية لا يمكن أن يتم في ضوء الظروف المتاحة إلا عن طريق نظام حكم تسلطي. ويخلص هؤلاء الباحثون إلى أن كل هذه الأسباب أو بعضها يؤدي إلى قيام هذه الدول بالأخذ بنظام الحزب الواحد المدعوم بمساندة المؤسسة العسكرية والهيكل البيروقراطي وحيث يكون على قمة هذا الهرم التسلطي زعيم كاريزماتي. ويطلق الباحثون على هذه النظم اسم “الديكتاتورية التنموية”.

الراديكالية:
الراديكالية هي الميل إلى اخضاع الأنظمة والترتيبات القائمة لتساؤلات نقدية مع الاستعداد للدعوة إلى إصلاح أو حتى إزالة تلك الترتيبات إذا ما ثبت عدم استنادها إلى مبادئ محددة تبرر وجودها. ومن ثم، فإن العديد من علماء السياسة يعتبرون الراديكالية موقف أو توجه أكثر منها عقيدة سياسية. والموازاة المعتادة بين الراديكالية من جانب والتطرف من انب آخر لا تبعد عن الصواب، وإن كانت وجهة النظر الأخرى التي عادة ما تربط بين الراديكالية واليسار غير سليمة تماماً ذلك أن الراديكالية قد تكون أيضاً ناحية اليمين، فهنا يتوقف على طبيعة الأفكار ووجهات النظر التي تتبناها وتحاول أن تصل بها إلى مداها الأقصى ويتوقف أيضاً على طبيعة المؤسسات التي يتناولها الراديكاليون بالمعارضة النقدية.

والراديكالية في ميدان السياسة هي ضد المحافظة ذلك أنها تؤمن بأن التحرك السياسي يمكنه أن يصلح من أوضاع الأفرا في المجتمع وذلك على خلاف المذهب المحافظ الذي يرى أن الأثر الحكرة السياسية في تحسين الأوضاع البشرية داخل المجتمعات السياسية أثر محدود جداً أحسن تقدير. ويتضح معنى التوجه الراديكالي من استعراض موجز لأشهر المدارس والمذاهب والحركات وحركة الراديكاليين البريطانيين وحركة الاشتراكيين الريكارديين ومذهب الراديكالية الفلسفية.

أما لليفليرز وتسمى حركة المتساوين فكانت حركة إصلاحية راديكالية برزت خلال الحرب الأهلية الإنجليزية خاصة في الفتة ما بين 1646 – 1649م وتلخصت مطالبها في : اللتسامح الديني؛ حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية لأكبر قطاع ممكن من الشعب، القضاء على السلطة التحكمية سواء تمثلت في ملك أو طبقة ارتسقراطية أو حتى في مجلس العموم، ضمان وجود قانون دستوري يحمي الشعب من الأشكال المتختلفة للسلطة المطلقة التحكمية. ويعتبر الكثير من علماء السياسة الغربيين حركة الليفليرز نقطة بداية جيدة في التاريخ للنظريات السياسية الراديكالية حيث تعتبر أول حركة في بريطانيا تتحدث عن “الشعب” كقوة سياسية علمانية حيث أكدت هذه الحركة أن السلطة السياسية لا يمكن أن تستمد إلا من الشعب، فحاول أنصارها وضع مسودة دستور تؤكد هذه الفكرة وذلك في كتاباتهم المعنونة “اتفاقات الشعب”.

ولقد كانت حركة الراديكاليين البريطانيين والتي نشطت في انجلترا بين 1789م – 1815م صدى لحركة الليفليزر. ففي نهايات القرن الثامن عشر كان المسرح السياسي في بريطانيا يعج بمناقاشات ومطارحات تتناول بالنقد المبادئ التي يقوم عليه النظام السياسي وتطالب بالإصلاح السياسي. وفي هذا الجو المشحون تشكلت مجموعة من الجمعيات السياسية الراديكالية على المستويين المحلي والقومي أخذت على عاتقها مهمة تنظيم نشر وتوزيع الأدب الناتج عن تلك المناقشات والأهم من ذلك، أن هذه الجمعيات أضحت تنادي نفسها بالإصلاح البرلماني وبتغيير نظام الانتخاب. ولقد طور الراديكاليون البريطانيون نظرية سياسية في الحقوق الطبيعية وكذلك في السيادة الشعبية شكلت في القرن التاسع عشر في مطالبها الديمقراطية والاشتراكية كما أن الراديكاليين البريطانيين لعبوا دوراً مؤثراً في وضع أسس نظرية وممارسة الديمقراطية البرلمانية في بريطانيا.

أما الاشتراكيون الريكارديون فكانوا جماعة منا لراديكاليين ظهروا في عشرينيات القرن الثامن عشر معلنين أن العمال في النظم الرأسمالية يحرمون ظلماً من جزء مما هو حق لهم. ورغم أن تأثير هؤلاء الراديكاليين على المستوى الشعبي لم يتعد منتصف ثلاثينيات القرن الثامن عشر إلا أنهم كانوا مثار اهتمام المنظرين السياسيين على مر العصور بسبب إرجاعهم أسباب أزمة العمال أساساً إلى النظام الاقتصادي. ورغم أن الا شتراكيين الريكارديين لم الاستغلال الاقتصادي. ورغم أن الاشتراكيين الريكارديين لم الاستغلال الاقتصادي إلا أن المدخل الذي تبنوه في دراستهم لأحوال العمل ومطالبهم الإصلاحية تعد علامة بارزة في تاريخ الفكر الراديكالي.
أما الراديكالية الفلسفية فهي مذهب اقترن باسم جون ستيورات مل وغيره من تلامذة جيرمي بنتام وجيمس مل ورغم أنه مذهب سياسي اقتصادي فلسفي نظري إلا أنه اهتم بالجانب التطبقي أيضاً حيث طالب بتغيرات راديكالية في النظام القائم وارتبط بحركات الإصلاح حتى بدايات القرن التاسع عشر التي عارضت الكنيسة والطبقة الارستقراطية والاحتكارات الاقتصادية. وهدف المذهب الأساسي كان العمل على الإسراع بحركة الإصلاح حتى تنجح في تحويل المجتمع لاارستقراطي التقليدي إلى مجتمع حديث علماني وديمقراطي ليبرالي. ولقد قام هذا المذهب على أربع دعامات أساسية. الأولى هي النظرية النفعية والتي ترى أن على كل فرد أن يسعى إلى تعظيم حظه من السعادة، ومن ثم يرى هذا المذهب الراديكالي أن وظيفة الحكومة الأساسية هي أن تحقق أكبر قدر ممكن من الساعدة لأكبر عدد من الأفراد في المجتمع. أما الدعامة الثانية لهذا المذهب فهي التشريع حيث كان بنتام ناقداص لاذعاً للقانون العام لكونه تقليدياً، تحكمياً، متعارضاً مع ذاته وصعب الفهم، ولذا كان يطالب بتشريع جديد يتلافى هذه العيوب. والدعامة الثالثة كانت الأخذ بمبادئ اقتصادية وسياسية مستمدة من المذهب الفردي وتعد على طرف نقيض من الاحتكار والحماية والمبادئ الاقتصادية المرتبطة بالطبقة الارستقراطية أما المكون الرابع للمذهب فهو الإيمان العميق بالديمقراطية حيث أكد أن هدف السياسة يجب أن يكون توحيد مصالح الحكمام والمحكومين ويرى المذهب أن العقبة الرئيسية في سبيل تحقق هذا الهدف هو وجود مصالح متميزة لأناس معينين وأنه، من ثم، يجب منع هؤلاء الناس ذوي المصالح المتميزة من الوصول إلى وتولي اي مناصب سلطوية كما يجب منعهم من الوصول إلى من هم في السلطة وتوحيد المصالح معهم أو إغرائهم بوسائل غير شريفة بغرض استغلالهم في تحقيق مصالحهم الخاصة المتميزة تلك. ويؤكد المذهب على أن النظام الرستقراطي هو أوضح مثال على هذا حيث يستخدم الارستقراطيون سلطة الحكومة لتحقيق مصالحهم الطبقية، وإن أفضل وسيلة لإعاقتهم هو إقامة نظام نيابي يستند إلى المصلحة العامة للشعب ككل. إصلاحات عضوية على النظام مثل إحداث تغيير دستوري جذري يسمح بالانتخابات الحرة المتواترة وكذلك الاستفتاء والتصويت السري وغير ذلك من أساليب اصطلح على كونها ديمقراطية.

وفي الوقت الحالي أصبحت الراديكالية هي سمة المجتمعات الغربية المعاصرة حتى أن الصحفي الأمريكي توم وولف استحدث مصطلح “الشيكالة الراديكالية” مشيراً بها إلى انتشار موضة تبني وجهات نظر راديكالية، واليسارية منها على وجه الخصوص، بين مفكري الطبقة الوسطى في المجتمعات الغربية كأحد أساليب تحقيق صعود يعتد به للسلم الاجتماعي.

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى