تتعقد الأزمة الروسية-الأوكرانية بشكل متسارع، تحت وطأة التعبئة العسكرية التي يقوم بها أطراف الأزمة بالإضافة إلى كلٍّ من موسكو وكييف، وتتجه واشنطن إلى تقويض خطط روسية لغزو محتمل لأوكرانيا مطلع العام المقبل وفق تقديرات الاستخبارات الأمريكية، حيث تلوح واشنطن بحزمة جديدة من العقوبات، كمرحلة أولى إذا ما فشلت مباحثات جديدة حول الأزمة ذاتها مرتقبة بين الرئيسين الأمريكي جو بايدن ونظيره الروسي فلاديمير بوتين. وفي المقابل فإن روسيا تستبق خطوة المباحثات بتعبئة عسكرية نوعية على الحدود الأوكرانية بخطة تكتيكية، تهدف بها في الأغلب إلى تحسين موقعها في المباحثات المرتقبة، مع التلويح بجاهزية قوتها البحرية لاستعداد لشن هجوم صاروخي على كييف حال تجاوز حلف شمال الأطلنطي ما تعتبره موسكو خطًا أحمر بضمها إلى الحلف أو تعزيز الأصول العسكرية لقوات أجنبية على الأراضي الأوكرانية بما يتجاوز اتفاق مينسك (2015) وفق رؤية موسكو.
وعلى وقع التصعيد الكلامي بين الأطراف بالتلويح بالخيارات الاقتصادية، ورفع السقف إلى التحركات العسكرية؛ تعكس محصلة المؤشرات والتطورات العسكرية الميدانية على خطوط التماس بين روسيا وأوكرانيا، بالإضافة إلى تسريبات متعمدة لتقارير استخبارية متبادلة، وحالة الانتشار العسكري في منطقة البحر الأسود؛ أن تلك الأطراف تقرع طبول الحرب، وأن كلًا منهما يسعى إلى فرض أمر واقع على الآخر الإذعان له، إن لم يتم التوصل إلى اتفاق قوي يخرج كافة الأطراف من مأزق محدودية الخيارات والضغوط القصوى، في دلالة رئيسية على هشاشة التفاهمات السابقة، وفي المقدمة منها اتفاق “مينسك” -السالف الإشارة إليه- والمفترض أنه عمل على تسوية النزاع على شبه جزيرة القرم بين تلك الأطراف، وذلك في ضوء تصور القوى الغربية بأن روسيا لم تكتفِ بضم “القرم” وتسعى إلى ضم “أوكرانيا” بالكامل تحت مزاعم تهديدها من جانب الحلف. وعلى الجانب المقابل، فإن موسكو تستند إلى دلائل فعلية بشأن خطوات أقدمت عليها كييف، أبرزها مؤخرًا عرض مشروع قانون أمام البرلمان يسمح باستضافة قوات أجنبية، وهي خطوة مضافة إلى إقرار البرلمان (يونيو 2021) تمويل بريطانيا بقرض لأوكرانيا يقدر بـ1.7 مليار جنيه إسترليني بهدف شراء أسلحة وسفن عسكرية وتشييد قاعدتين للقوات البحرية في مدينتي “بيرديانسك” و”أوتشاكوف”.
أبعاد التوتر الحالي
يعود مشهد التوتر الراهن بين موسكو من جهة والولايات المتحدة والناتو وكييف من جهة أخرى، لأكثر من سبب، لكن يُمكن القول إن السبب الرئيسي الذي يمكن إرجاع أغلب دوافع التوتر الراهن إليه هو رفض موسكو مساعي ضم أوكرانيا للحلف، ففي السابق لم تعترض موسكو على توسع دور الناتو مع العديد من البلدان التي تقع في المجال الحيوي للاتحاد الروسي، لدرجة أن موسكو لم تعتبر ذلك تهديدًا في السابق، على خلفية أن ذلك التوسع لم يرتبط بنشر أصول عسكرية للناتو في كل من المجر وبولندا في السابق. وعلى العكس من ذلك، تقول موسكو إن التحرك الحالي من جانب الحلف تجاه أوكرانيا يرتبط في المقام الأول بتعزيز البنية العسكرية للحلف في كييف.
على التوازي، هناك معركة تسريبات لتقارير الاستخبارات بين كافة الأطراف، حيث تُشير التقارير الأمريكية إلى أن روسيا حشدت ما يصل إلى 95 ألف جندي على الحدود مع أوكرانيا، وهو حشد يكاد يصل إلى مستوى مماثل في أبريل 2021، بلغ نحو 100 ألف عسكري روسي في المنطقة ذاتها، كما تفيد التقارير الأمريكية بأن نوعية الحشد مختلفة في هذه المرة، حيث يغلب عليه زيادة في عدد القوات الخاصة، بالإضافة إلى طبيعة التسليح، وتستنج –التقديرات الأمريكية- إلى أن موسكو ليست بصدد المناورة باستعراض قوتها العسكرية، وإنما تستعد لغزو فعلي لأوكرانيا بحلول العام المقبل 2022. ونقلت “واشنطن بوست” (الجمعة 3 نوفمبر 2021) معلومات استخبارية حول خطة روسية عن غزو محتمل لأوكرانيا بمشاركة 175 ألف جندي مطلع العام المقبل، وبالتالي فإن التقديرات الاستخبارية الأمريكية رهنت الأمر باستمرار موسكو في مضاعفة تعبئتها العسكرية قرابة العدد الموجود حاليًا، فيما اكتفي الجنرال مارك ميلي رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية تعقيبًا على تلك التقارير الاستخبارية بقوله إن “هناك ما يكفي الآن لإثارة الكثير من القلق”. ومقابل ذلك، أعلنت المتحدثة باسم الخارجية الروسية عن حشد مضاد قامت به أوكرانيا لنصف قواتها العسكرية يبلغ 125 ألف عسكري على الجهة الأخرى من الانتشار الروسي. وهو ما يرجح فرضية أن روسيا ربما لن تتراجع خطوة إلى الخلف إذا لم تنسحب القوات الأوكرانية إلى الخلف.
حسابات متعارضة
من الواضح أن كلًا من موسكو وواشنطن لديه حسابات مختلفة في التعامل مع الأزمة، بناء على تحليل مواقف الأطراف، على مستوى الخطاب والتحركات التصعيدية، ويمكن تناولها في السياق التالي:
حسابات موسكو: الضغط للوصول إلى مفاوضات
من المتصور أن إعادة تعبئة موسكو لقواتها العسكرية على الحدود الأوكرانية لا بد أنه سيكون مختلفًا في كل مرة تتم فيها هذه العملية، وهو تكتيك متبع في النهج العسكري، لا يمكن التلويح بنفس الورقة في كل مرة، مع الوضع في الاعتبار أن “بوتين” زاد على عامل التعبئة التلويح بالهجوم الصاروخي، مشيرًا إلى أن قواته اختبرت صاروخ (تسيركون) فرط صوتي “9 ماخ” وسيكون بحوزة قواته البحرية بحلول مطلع عام 2022، وسيستغرق 5 دقائق للوصول إلى مركز اتخاذ القرار في كييف، لكنه في الوقت ذاته صرح بأن هناك حاجة إلى الوصول إلى مفاوضات جادة مع واشنطن، وأن يسود لدى الغرب “حس منطقي ومسئولية تجاه بلدانهم والمجتمع الدولي”، آملًا ألا تصل الأمور إلى الحد الذي تنزلق فيه إلى التصعيد، أي الحرب. ويعني ذلك في المقام الأول أن موسكو تضغط بورقة التعبئة العسكرية للضغط على الأطراف المقابلة للتراجع، وأن هناك إمكانية لذلك عبر طاولة الحوار مع واشنطن فقط، كحوار جاد ومباشر يوصل إلى اتفاق نهائي ينزع أسباب التوتر، والتي أُشير من بينها -على سبيل المثال- إلى سحب تشريع من البرلمان يسمح باستضافة أوكرانيا لقوات أجنبية.
حسابات واشنطن: المفاوضات تحت الضغط
كخطٍّ معاكس لاتجاه موسكو، لوح وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بحزمة عقوبات ضد موسكو لإثنائها عن مواقفها تجاه أوكرانيا، وهو السياق الذي عززته تصريحات “بايدن” في الوقت ذاته، بالإشارة إلى أن لدى إدارته حزمة شاملة وذات مغزى من المبادرات من شأنها أن تجعل “من الصعب جدًا” على الرئيس الروسي “غزو أوكرانيا”، لكنه في الوقت ذاته سيجري أولًا “نقاشًا طويلًا” مع نظيره الروسي. ومن منظور واشنطن فإن الأمر لا يتعلق بمجرد عملية التعبئة العسكرية الحالية على حدود أوكرانيا الشرقية، وإنما تعتبر أن لدى موسكو “خططًا عدوانية أكبر من ذلك” بتعبير “بلينكن”، كما تنشط واشنطن من تحركات “الناتو” لوضع تصور حول السيناريوهات المحتملة.
ورغم عدم قبول الرئيس الأمريكي جو بايدن بصيغة “الخطوط الحمراء” التي وضعها نظيره الروسي فلاديمير بوتين فيما يتعلق بإقدام حلف شمال الأطلسي “الناتو” على ضم أوكرانيا، وما يستتبعه ذلك من نشر بنية عسكرية للحلف على الأراضي الأوكرانية، مما تعتبره موسكو بمثابة تهديد مباشر لها؛ إلا أن فرص احتواء الأزمة دبلوماسيًا لا تزال قائمة حتى الآن، في ظل اللقاء المرتقب بين الرئيسين بايدن وبوتين، وربما يكون دور منظمة الأمن والتعاون الأوروبية أيضًا بديلًا لانقطاع الاتصالات بين موسكو وقيادة الناتو، وإن كان عديد من المراقبين يقللون أيضًا من شأن استدامة تلك الفرصة أو فاعليتها في الاحتواء الشامل للأزمة.
وبالتالي، تُشير محصلة هذه الحسابات إلى أنه لا يمكن حتى الآن التنبؤ أو ترجيح أي من احتمالات التسوية أو التحرك العسكري، لكن منهما ما يدعمه من مؤشرات، وستكون المباحثات الأمريكية-الروسية نقطة تحول رئيسية في الأزمة، ربما لن تقود إلى تصعيد فوري، كما أنها في الوقت ذاته قد لا تقود إلى حسم مباشر وتسوية الأزمة، على الأرجح سيخوض الطرفان حربًا باردة مع إطلاق سباق تسلح في المنطقة على نحو يسعى فيه كل طرف إلى تعزيز قدراته العسكرية، واختبار قدرات الطرف المقابل على تحمل الضغط، وهناك احتمال بأن يتأخر الناتو لبعض الوقت في عملية ضم أوكرانيا حتى وإن ظل يلمح إجرائيًا إلى اتخاذ خطوات تقود إلى هذا المسار. بمعنى آخر، إن السيناريو الأكثر احتمالًا هو كسب الوقت وتأجيل الصدام المحتمل قدر الإمكان.
في السياق ذاته، هناك تفاعلات هامشية لا يمكن الحد من آثارها. فعلى سبيل المثال يثير عدد من المراقبين الأمريكيين باستمرار مقاربة العلاقات الروسية-الصينية في الأزمة الحالية، التي تتجاوز حدودها أوكرانيا إلى الأمن الأوروبي، وبالتبعية تقدير مدى مسئولية واشنطن عن الأمن الأوروبي، وفي تقديرات عديدة أشير إلى “التسلح الصامت” الذي تقدمه بكين لموسكو في هذا الصدد دون دليل كافٍ. كذلك، تثار قضية ضم الصين لتايوان في إطار التفاعلات الجارية في منطقة “الإندوباسيفك”، وبعض المراقبين يعتبرون أن إقدام روسيا على غزو كييف قد يكون مقدمة لمعسكر موسكو-بكين في الإقدام على خطوة مماثلة، وإن كان هذا التوقع يعتبره آخرون مبالغًا فيه إلى حد التطرف، لكنه لا يمكن إسقاطه من الحسابات على المدى الطويل.
العامل الآخر الذي يستدعي مراقبة تطوراته، هو متغير السياسة البريطانية، في ضوء رصد تطورات في هذا السياق على أصعدة مختلفة، منها الموقف البريطاني الداعم للموقف الإسرائيلي من التصعيد ضد إيران في المرحلة الحالية، إضافة إلى موقفها السابق في تحالف “أكوس” والانضمام للولايات المتحدة وأستراليا مقابل جبهة الصين. وفي الأزمة الأوكرانية يبدو أن بريطانيا تسارع الخطى لفرض أمر واقع يسبق الناتو بخطوة في فرض معادلة موازين القوى في أوكرانيا بدعم إقامة قواعد عسكرية جديدة، مع الوضع في الاعتبار أن البحرية البريطانية ونظيرتها الروسية كانا على وشك إشعال حرب في البحر الأسود في يونيو الماضي.
من الزاوية نفسها، من الواضح أن الاصطفافات الحالية في الأزمة الأوكرانية تُعيد تموضع تركيا في مسار الحلف، فموسكو تنظر بعين الريبة إلى صفقة الطائرات دون طيار لأوكرانيا، مما يرفع من مستوى الاحتقان المكتوم بينهما بعد حرب أذربيجان-أرمينيا، ورغم تمرير موسكو لها بدعوى لعب دور الوسيط النزيه في المفاوضات لوقف تلك الحرب، والتخلي عن موقعها كطرف في المعركة، لكن على الأرجح لن تمرر صفقة “الدورنز” الأوكرانية.
إجمالًا يمكن القول إن الأزمة الروسية-الأوكرانية هي نموذج مثالي لطبيعة الحرب الباردة الراهنة بين أطرافها، فبرغم أن كافة مؤشرات الحرب محتملة لكن من المؤكد أن كافة الأطراف تسعى إلى إبعادها أو تأجليها قدر الاستطاعة رغم التوترات المتنامية، لا سيما وأن الأطراف التي تدير هذا الملف لديها رصيد طويل من الدروس المستفادة من الحروب بمستوياتها المختلفة الساخنة والباردة.