انتبه حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- مبكراً للتفكير خارج الصندوق، فكان يسأل عكس ما اعتاد أن يسأل عنه أصحابه. فقال: “كان الناس يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني”.. الحديث في الصحيحين.
فيما يمكن تسميته “الاستشراف” أو دراسة المستقبل، وكما أنها “عملية شاقة، تحفها مخاطر محاكمة الواقع الذي يتحكم بنا ويضغط علينا ويفرض علينا اعتباراته آناً ويقسرنا على إملاءاته أحياناً، إلا أن هذه الضغوط يجب ألا تمنعنا من دراسة مشكلاته بغية تقويمها.. لكن يبقى الاستشراف فعلاً إيجابيًّا يحرك دواعي النقد والمراجعة ورصداً متواصلاً للواقع، ربما يتحول إلى نقطة انطلاق باتجاه عملية التجديد الحقيقية والإصلاح الجذري الواجب” كما يقول الدكتور سيف عبد الفتاح.
ولا يعلم الغيب إلا الله، ولكنها رؤية بنور الله حين يشرح الصدور، ويوفق عبده بفراسة، فيرى ما لا يراه الآخرون أو رؤيا صادقة تكون جزءاً من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، وكان عمر بن الخطاب صاحب بصيرة وعبقرية في استشراف المستقبل. ففي الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم ناس مُحدَّثون، فإن يكن في أمتي أحد منهم فهو عمر” والمحدثون الملهمون الذين يُجري الله تعالى على ألسنتهم بعضاً من المغيبات، كأنما حدثوا بها.
والناس قد اعتادوا حسن الظن بالقادم، وتأملوا الخير الدائم، ولكن الرياح تأتي بما لا تشتهيه السفن كما في المثل. ولو أنهم حسبوا لكل أمر حسابه، فجمعوا المعطيات، ودرسوا المدخلات، وكتبوا الاحتمالات، وجعلوا لكل احتمال ما يستحقه، حتى ولو كان نسبة الشر أو السلب فيه 1% وتعاملوا معها وكأنها نسبة تحقق 100% لتفادوا الكثير من المصاعب والمشاكل والمحن. وفق عملية التدافع “مغالبة قدر بقدر” التي شرحها ابن القيم في مدارجه؛ بدفع قدر الشر بقدر الخير، ثم قال: “نفر من قدر الله إلى قدر الله” وقولته الذهبية: “ليس المسلم هو الذي يستسلم للقدر، وإنما المسلم الحق هو الذي يُغالب القدر بقدر أحب إلى الله”.
وحين جثم حكم الفرد على صدر العالم العربي ضاع الأمل في إنشاء مراكز لدراسة الحاضر والمستقبل، لأن من خصائصه، الكبرياء والتعالي، فلا رأي سوى رأي الحاكم، ولا يعلو صوت على صوته، وحين طالب أحمد عرابي الخديوي توفيق باسم الأمة أن يمنح الشعب دستوراً، قال له: هل أنتم إلا عبيد إحساناتنا؟ّ وكانت سياسة الرئيس عبد الناصر تقوم على التجربة؛ والخطأ والصواب كما قال الدكتور مجيد خدوري في كتابه دور القادة في السياسة، ودخل صدام حسين الحرب مع إيران بأز من الملك الحسين بن طلال بن الشريف حسين، حين بدأ الخميني يتحرش بالعراق وألحَّ عليه وشجعه حين تردد حتى اقتنع، وفقدت العراق نصف مليون من شبابها، وصار في كل بيت مأتم وسواد، وكان ذلك الأز انتقاماً لمقتل الملك فيصل الثاني بن غازي بن الشريف حسين على يد الانقلابيين، لما حدث انقلاب 14 يوليو/تموز 1958.
وأضاعت مصر حقها في مياه النيل، ويوشك أن تتعرض للجفاف، بسبب غياب الرؤية واستشراف المستقبل أثناء بناء إثيوبيا لسد النهضة.
وفطنت أمريكا والغرب لهذه الدراسات، فأنشأت المئات من مراكز دراسة المستقبل. وتُعتبر المدرسة الأميركية ورائدها هو العالم الألماني “أوسيب فلتخهايم” أهم مدارس المستقبليات؛ وبعدها تأتي المدرسة الروسية، ثم الفرنسية.
من هذه المراكز:
* مؤسسة راند (RAND) تأسست عام 1946 من قبل الجيش وسلاح الجو الأميركي.
*مؤسسة الجمعية الدولية للأنظمة والعلوم (ISSS) وفي عام 1955م تم تأسيس (الجمعية العامة للأبحاث) بجامعة ستانفورد باسم (مركز الدراسات المتقدمة).
*نادي روما ((The Club Of Rome تأسس في عام 1968م، وهو جمعية غير رسمية من الشخصيات المستقلة البارزة من رجال السياسة، والأعمال والمفكرين، لا يتجاوز عدد أعضائها المائة وتضم صفوة النخبة، وتؤثر في القرار السياسي العالمي.
*منظمة الاتحاد العالمي لدراسات المستقبل (WFSF) في عام 1960 ظهرت كاتحاد من الأفكار والأعمال الرائدة للأشخاص مثل إيغور، لادا (روسيا)، برتراند دي جوفينيل (فرنسا)، يوهان غالتونغ (النرويج)، روبرت (النمسا)، جون مكهيل (المملكة المتحدة/الولايات المتحدة الأميركية) وغيرهم.
*جمعية المستقبل العالمية تشكلت في عام 1966م في واشنطن كرابطة تعليمية وعلمية غير ربحية تميزت بتقديم الدراسات المستقبلية ويصدر عنها مجلتان (التنبؤات والاتجاهات والأفكار عن المستقبل) و(جمعية المستقبل العالمية).
*وفى أوكسفورد يوجد مركز تابع للحكومة البريطانية يضم كل رؤساء الوزراء البريطانيين، ووزراء الخارجية، والدفاع، ورؤساء أركان الجيش الذين ما زالوا أحياء، فيجتمعون كل ثلاثة أشهر لتبادل الرأي والخروج بتقدير عام ووصية جامعة حول ما يجب أن تكون عليه السياسة البريطانية.
ويتم استشراف المستقبل بالسيناريوهات أو التنبؤات، وأنقلها بتصرف للأستاذ فاروق الذهب.
السيناريو: عمل توجيهي أو إرشادي إلى ما هو ممكن وما هو محتمل .
وللسيناريوهات الجيدة عدة مواصفات من أهمها ما يلي:
• الاتساق الداخلي والتناسق بين مكوناته.
• محدودية السيناريوهات، بحيث تتضح الاختلافات والتمايزات فيما بينها.
• أن يكون له فائدة في التخطيط المستقبلي.
• أن يكون واضح الأهداف.
خطوات بناء السيناريو:
1. وصف الوضع الحالي والاتجاهات العامة، وتوضيح نقاط القوة والضعف، وتحديد الاتجاهات السائدة والناشئة، أوالتغييرات التي تنبئ عن تحولات كبيرة في المستقبل.
2. فهم ديناميات السيناريو، والقوى المحركة فيه، وتحليل العلاقات بين أجزائه، والاتجاهات التي تؤثر عليه، وتصنيف أو تنظيم هذه القوى وفقا لقوة تأثيرها إلى: (عالية- متوسطة- منخفضة)
التنبؤ: “التخطيط ووضع الافتراضات حول أحداث المستقبل باستخدام تقنيات خاصة عبر فترات زمنية مختلفة”.
أشكال التنبؤ:
أولاً: النمـاذج النوعيـة (الوصفية): التي تعتمد على الخبرة ورأي الأفراد ومنها:
الحدس والخبرة: وتعتبر من الأساليب الوصفية الأكثر شيوعاً في القيام بعملية التنبؤ والمتعلقة بالقرارات اليومية
ثانياً: طريقة دلفي: اشتراك عدد معين من الخبراء في عملية التنبؤ بظاهرة معينة، وذلك بقيام الشخص المسؤول عن القيام بعملية التنبؤ ويسمى بالمنسق، بإرسال استفسارات إلى الخبراء في صورة قائمة أسئلة لإبداء الرأي حول الظاهرة محل التنبؤ. ثم يقوم بدراسة لكل المراسلات وتبويب الإجابات، ثم إرسال استفسارات لهؤلاء مع تزويدهم بالمعلومات المتجددة والمستوحاة من قبل بعض الخبراء المشاركين في عملية التنبؤ، ثم يطلب منهم إبداء الرأي حول الظاهرة مجدداً مع توضيح المبررات.
يتم تكرار الخطوة السابقة عدة مرات حتى يتم التوصل إلى درجة كبيرة من الاتفاق في تقديرات الخبراء حول الظاهرة محل الدراسة.
ثالثاً: أسلوب لجنة الخبراء: تعتمد هذه الطريقة على إعلان اجتماع رسمي لعدد من الخبراء لتقدير ظاهرة معينة، ثم تكتب أفكار الحضورعلى لوحة مُعدة لذلك، ثم تبدأ عملية المناقشة حول الأفكار المكتوبة، ثم تتم فيما بعد إجراء عملية التصويت والاختيار للفكرة الرئيسية التي تدعم الموضوع المتوقع اتخاذ القرار فيه.
إن الأمة والحركة التي لا تستشرف وتدير المستقبل؛ لا يمكنها التفاعل الإيجابي مع الحاضر، وستبقى حبيسة ردود الأفعال التي تساهم في التراجع والتأخر والتخلف، وستعيش تلك الأمة أو الحركة أو القيادة على وقع المفاجآت والحلول الاستعجالية التي تساهم في تحقيق خطط الغير.
والمجتمع غير القادر على رسم خطوات المستقبل سيغوص في هموم الحاضر، وسينحصر في ثقافة الماضي، ومن ثم يكون التأخر رهينة، وهذا ما تبدو عليه الكثير من حالات مجتمعاتنا العربية.