...
دراسات سياسيةمنهجية التحليل السياسي

الثورة الابستمولوجية الكانطية

الأستاذ ادريس الجامعي أديب

تعتبر أسئلة من قبيل: ماذا يعني أن نفهم؟ و كيف يكون الفهم ممكنا؟ من أقدم و أهم الأسئلة في الفلسفة. حيث طرحت إجابات عديدة عنهما، كانت أول محاولة عند أفلاطون في محاورة “ثياتيتوس”. غير أنه يمكن وضع الإجابات التي وردت من أقلام مجموع الفلاسفة الذين عرفهم تاريخ التفكير البشري الإنساني، تحث مقولتين أساسيتين: حيث تقول المقولة الأولى: أنه ثمة تمثل صادق و أمين للعالم عبر تصوراتنا الذهنية و لغتنا العادية. أما إجابات المقولة الثانية فترى أن العالم يختلف اختلافا جوهريا عن إدراكنا إياه. و الحق أن هذا هو التقابل بين أرسطو و أفلاطون داخل إطار الفلسفة اليونانية. و كذلك التناقض القائم من داخل الخطاب الفلسفي، في المرحلة الحديثة، بين كل من الفكر و الواقع، الروح و المادة، و الذات و الموضوع. أي بخلاصة التناقض القائم بين العقل و العالم، الاستنباط و الاستقراء، النظرية و التجربة…الخ، أي عموما العقلانيين و التجريبيين.

نظرية المعرفة الكانطية ثورة ابستمولوجية

و يعتبر الفيلسوف الألماني ايمانويل كانط (1804-1724) من أهم الفلاسفة قبل مواطنه فردريك هيجل الذي وحد في التركيب مجموع المتناقضات السابقة، والذي حاول الجمع بين هذه المتناقضات داخل نسق واحد، دون التوحيد بينهما جوهريا.

كما لا ننسى كذلك الثورة الابستمولوجية التي أحدثها هذا الفيلسوف، و التي تشبه إلى حد كبير الثورة الابستمولوجية الكوبرنيكية، في محاولته التوحيد بين مفهومي الزمان و المكان ضمن مفهوم واحد هو الزمكان، و رفع مستوى هذا المفهوم المركب إلى مستوى التعالي “transcendantal، بمعنى أنه يعلو على التجربة، يسبقها و لا يشتق منها. و بهذا المغزى يمكن القول أن اينشتاين قد سار بحجج كانط إلى ما هو أبعد، و بطريقة أكثر حذرا مما سبقها. بعبارة أخرى، النظرية النسبية لا تنتهك مبادئ المقاربة الكانطية بشكل مباشر، كما لاحظ ارنست كاسيرر.”[1]

كما يتطرق تحليل كانط إلى جوانب أخرى من التفكير الكلاسيكي لها أهميتها، حيث تمدنا مقولات الفهم لديه على وجه الخصوص، و بمراجعة حذرة منهجية لأنماط التفكير. و من بين المقولات الاثنتي عشر، تستحق مقولتا الإثبات (الواقع) -حيث يقول الدكتور محمود زيدان أن كانط ” لا يقصد أن يشير إلى واقع أي وجود بالمعنى الحسي أو الميتافيزيقي، و إنما بالمعنى المنطقي، أي إثبات تصور لشيء ما”[2]- و العلية اهتماما خاصا.

 قد يتجاوز المرء ما يكثر في الأدبيات المحدثة من مناقشات مستفيضة صعبة المراس لهذه المقولات”[3]، و يتجه فورا إلى كتاب كانط ليكتشف كيف تشتبك مقولتا الإثبات و العلية اشتباكا حميما مع التفكير الكلاسيكي. ربما نلاحظ أيضا أن مقولة كانط عن التلازم أو العرض الذي لا ينفصل عن الجوهر، و ذلك باعتبار أن الجوهر هو المقولة الأولى من مقولات العلاقة تتفق مع مناقشة ليبنتز للأشياء التي لا يمكن التمييز بينها حيث يقول: “ينبغي أن تكون كل موناد مختلفة عن موناد أخرى، لأنه لا وجود في الطبيعة لكائنين متشابهين تماما و لا يختلف أحدهما عن الآخر في صفة داخلية.”[4]

أي عموما شيئان (جوهران) ينبغي وفقا للتفكير الكلاسيكي أن تكون ثمة إمكانية للتمييز بينهما عن طريق سمة ما. و أيضا تتنازل فيزياء الكوانتم عن هذا التصور للتلازم”[5] و في واحد من مبادئها الأولية جدا (مبدأ باولي).

إن الفهم خاصية إنسانية – على الرغم من أن بعض الناس قد يرون أنماطا أخرى من الفهم تتمتع بها الآلات أو كائنات أخرى غير البشر. لا ينبغي البتة أن نترك دروس كانط السيكولوجية في الفهم البشري فريسة لأي محاولات للبحث عن أسس جديدة. و ما دام كانط لم يأخذ المخ في اعتباره بشكل صريح، فما كان له أن يقدر أن هناك دائما خبرة أسبق من كل فعل، أولي للعقل- كل ما هو ترنسندنتالي. و يقول كانط في بداية كتابه نقد العقل الخالص بتعبير جميل:” كتب على عقلنا هذا المصير المتعين، فحين نأخذ في اعتبارنا مستوى معين من المعرفة، نجد عقلنا منشغلا دائما بتساؤلات لا يمكن تجاهلها، لأنها تنشأ عن طبيعة العقل”[6]، و هي أسئلة لا يمكن الإجابة عنها، لأنها تعلو على قوى العقل البشري”[7].

حيثية الزمان والمكان

يرى كانط أن هيئة الظاهرة يسودها(حكمان تركيبيان قبليان) أساسيين: هما المكان و الزمان و يعتبران قبليان ينتميان إلى مجال العقل و ليس متوشجين في الأشياء التي نستطيع أن نلاحظها. و هما (تركيبيان) متعلقان بتنظيم مختلف الظواهر أي بتركيبها. مثلا،” العقل الذي يضع الأشياء المختلفة بعضها بجوار بعض و ليس يخلطها معا، و بالمثل تنتظم مختلف الأحداث في تتابعها عبر الزمان.[8] إن حدسنا بالعالم الكائن خارجنا و داخلنا، وعينا به، مصبوب بالضرورة في هذان القالبان للزمان و المكان و يفترض أنهما ليس لهما وجود واقعي حقيقي و خارجي.”[9]

إن حيثية الزمان و المكان عنصر جوهري في فلسفة كانط، و أيضا نموذج قياسي لكل أنماط الفكر. و ذلك ما جاء متضمنا ضمن كتابه (نقد العقل الخالص)، حيث يقول كانط : ” الفهم لا يشتق قوانينه( قبليا) من الطبيعة بل يفرضها على الطبيعة”[10]. و كثيرا ما يعقد مؤلفو المراجع الدراسية الفلسفية مضاهاة بين هذا التغير الجذري في الإشارة إلى منشأ المعرفة، و بين الثورة الكوبرنيكية.

و لكي نقدر هذا النقد الابستمولوجي الثوري أحسن تقدير ينبغي أن نمحص أفكار كانط في وقتنا الراهن، حيث نجده قد أحدث زلزالا ابستمولوجيا بإحداثه هذا التغيير كاختراق للإشكال الميتافيزيقي عند هيوم: العقل كفؤ و كاف لتفسير وجود القوانين و وجود الاطرادات في العالم، فعند مقارنة مقاربة كانط و بعض العلوم الصورية التي نشأت في تلك الآونة، على الفور توعز فكرتا الزمان و المكان بمقارنتهما بالنظرية النسبية. فالتعريف الترنسندنتالي لأفهوم المكان هو، عند كانط ،” لا يمثل لا خاصية للأشياء في ذاتها و لا هذه الأشياء في علاقتها فيما بينها، فالهندسة علم يعين خصائص المكان تأليفيا، و مع ذلك قبليا، باعتبار المكان ذو أبعاد ثلاثة. أعني لا يمثل أي تعين لها و يكون ملازما للموضوعات نفسها، و يبقى إذا جردنا الحدس من جميع شروطه الذاتية لأنه ليس ثمة تعينات، لا مطلقة و لا نسبية، يمكن أن نحدس قبل وجود الأشياء التي إليها نرجع، و قبليا بالتالي. كما أن المكان ليس سوى صورة جميع ظاهرات الحواس الخارجية.”[11]

أما بالنسبة لأفهوم الزمان من الناحية الترنسندنتالية فهو “مرتبط أشد الارتباط بمفهوم الحركة و مفهوم التغير، فهذان المفهومان لا يمكن تصورهما إلا بتصور الزمان و فيه. و لا يمكن لتعينين متضادين تناقضيا أن يلائما شيئا واحدا إلا في الزمان، أي على التتالي. يشرح أفهومنا الزماني إذن، إمكان جميع المعارف التأليفية القبلية التي تتضمنها نظرية الحركة العامة، و هي ليست نظرية عميقة.”[12]

النقيضة الكانطية الأولى كمسبب لظهور مفهوم الزمكان

و لكي نكتشف الموضوع الفعلي لهذا الصراع، علينا أن نلقي نظرة على صفحات لاحقة في كتاب (نقد العقل الخالص)، حيث نوقشت النقائض الشهيرة. إنها أربعة أزواج من الأطروحات المتناقضة، يقر كانط بأن العقل يظل إلى الأبد عاجزا عن فصل القول فيها. و قد طرح براهين هذه الدعوى مستخدما مناهج ترنسندنتالية( أي مبادئ العقل الخالص)، على الرغم من أن هذه البراهين ليست أثقل وزنا و لا أكثر إقناعا من براهين عديدة مطروحة في أعمال أرسطو.

فالنقيضة الرابعة تتعلق بمسألة وجود الله، و تتعلق النقيضة الثالثة بالعلية ،و ترتبط النقيضة الثانية ارتباطا مباشرا بالعلم، ما دامت تزعم أنه لا يمكن فصل القول فيما إذا كان الجوهر المركب مكونا من أجزاء بسيطة أم لا. أما في النقيضة الأولى، فثمة أطروحتان متقابلتان:” تقر الأطروحة الأولى “أن العالم ليس له بداية في الزمان، و ليس له حدود مكانية، بل انه لا متناه في الزمان و لا متناه”[13] في المكان””[14].

و يمكن مضاهاة هذا برأي غالبية علماء الكونيات المحدثين الذين يزعمون أن لديهم أسانيد وطيدة تشير إلى أن الكون له بداية، و يعتبرون أن تناهي الكون يمكن من حيث المبدأ فصل القول فيه عن طريق القياس الدقيق لمعدل كثافة المادة في الفضاء. و يندهش المرء، فكيف يمكن لهؤلاء العلماء التمسك بأنهم طرحوا الحل لإشكالية رآها كانط غير قابلة للحل بتاتا. النقطة الجوهرية هي أن علماء الكونييات يعتمدون على مفهوم رياضي هو الزمكان، أي الزمان و المكان معا، برفقة بضعة قوانين فيزيائية يخضع لها هذا المفهوم الذي يقع خارج نطاق الحدس تماما.

و مادام هذا المفهوم لا ينتمي إلى نسق الظواهر عند كانط، فإنه لا يخضع لأحكام كانط.

فالإجابات الكسمولوجية بشأن النقيضة الأولى تعتمد على النظرية النسبية الخاصة بالجاذبية أي نظرية النسبية العامة، حيث نجد مفهوم (الزمان- المكان) مفهوما جوهريا.

كانط ذروة التفكير الكلاسيكي

يقدم لنا كانط الذروة التي بلغها التفكير الكلاسيكي، ذلك(العقل الخالص)، كما قدم أعمق تحليل عرفته البشرية على وجه الإطلاق فيما يتعلق بكل شيء حدسي. على الرغم من أننا نستطيع أن نقبل إقراره بأن العقل يفرض قوانينه على الطبيعة، فإننا نستطيع أن نعول عليه تماما في تحديد ماهية التفكير الكلاسيكية.حيث” ينتج التفكير بشكل فريد عن حدس و عن رؤية و عن وضوح لا يكتسب السمة الصورية، إن كانط هو المفرد العلم الذي لا يضاهى كمرجع نعود إليه من أجل تعريف و تحديد المعرفة الكلاسيكية، لاسيما من منظور ما قدمه من علم نفس بصير بالوعي العقلاني. و لهذا السبب نعتبر عمله ذا قيمة استثنائية، على الرغم من أنه في البداية قد يبدو غير ملائم لنا و مثيرا للجدال، على أن مشروعيته تبدو الآن واضحة جلية.”[15]

لا يشير كانط إلى المخ، بالقطع كان على صواب في أن يفعل هذا، لأنه لم يكن لديه تلك المعارف القليلة عن المخ التي كانت متاحة في عصره. و مع هذا قد نتفق في عجالة ضرورية على تأويل كانط المتعلق بالمخ، حتى لو كان تأويلا اختزاليا رديا، يصفي هذا التمييز الذي طرحه كانط بين نوعين من المعرفة: البعدية و القبلية، والمعرفة البعدية لديه تعني كل شيء نخرج به من الحدس التجريبي، غير أن كانط معني أساسا بشيء ما يوجد قبل  إمكان حدوث أي حدس. و سوف يكون الطريق الملائم لتأويل هذا المعطى الأولي أن ننظر إليه بوصفه لا يعدو أن يكون إطارا للمخ و وظائف يؤديها.

[1] أومنيس رولان.

[2] زيدان محمود، كانط و فلسفته النظرية، دار المعارف بمصر، ط 2، 1976، ص : (128).

[3] المقولات عند كانط تنقسم إلى مقولات الكم و مقولات الكيف و مقولات العلاقة- أو الإضافة- و مقولات الجهة، كل واحدة منها تتضمن ثلاث مقولات. أولى مقولة الكيف هي الاثبات (الواقع) reality.

[4] متى كريم، الفلسفة الحديثة، عرض نقدي، دار الكتاب الجديدة المتحدة، ط 2، 2001، ص : (134).

[5] التلازم –inhrrence- هو عدم القابلية للانفصال، كتلازم المادة و الثقل، أو النار و الحرارة.

[6] كانط ايمانويل نقد العقل الخالص، ص :

[7] العقل عند كانط هو: الملكة التي ينجم عنها الوحدة في خضم قواعد الفهم وفقا للمبادئ، أما مغزى العقل في العلوم المعرفية الحديثة يعتبر أن التفكير بحدث في المخ، و أن الجنس البشري قد اكتسب العقل، و المنطق على وجه الخصوص من خلال عملية تاريخية طويلة تأخذ طابع التطول فالعقل يه مكون اجتماعي قوي، يتضمن التواصل و الثقافة.

[8] أومنيس رولان، فلسفة الكوانتم، فهم العلم المعاصر و تأويله، ص (112).

[9] الحدس intuition، هو المعرفة الفورية المباشرة، أي التي لم نصل إليها عبر استدلال أو عبر تفكير مرحلي يمر بخطوات. و كانط يرجعها إلى المدركات الحسية الفورية قبل أن تخضع لأي استدلال أو تفكير يمر بخطوات، فهي خامة لإدراكنا العالم الخارجي.

[10] المرجع السابق، ص (112).

[11] ايمانويل كانط، نقد العقل الخالص ترجمة موسى وهبة ص: (60-63).

[12] المرجع السابق ص : (65).

[13] أومنيس رولان، فلسفة الكوانتم، فهم العلم المعاصر و تأويله، ص : (113).

[14] و ذلك هو المفهوم الرياضي للاتناهي، و يتضمن بذلك مجموعا (من وحدة معطاة) أكبر من أي عدد.

[15] أومنيس رولان، فلسفة الكوانتم، فهم العلم المعاصر و تأويله، ص : (114).

 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى