دراسات تاريخية

الحاج أمين الحسيني.. في كواليس لقائه مع هتلر ومسيرة النضال الفلسطيني ضد الإنجليز

    هو الحاج محمد أمين الحسيني أو المفتي (1895 – 4 يوليو 1974) كان المفتي العام للقدس، ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى، ورئيس اللجنة العربية العليا، وأحد أبرز الشخصيات الفلسطينية في القرن العشرين، ولد في مدينة القدس عام 1895 وتلقى تعليمه الأساسي فيها، وانتقل بعدها لمصر ليدرس في دار الدعوة والإرشاد، أدى فريضة الحج في السادسة عشر من عمره، والتحق بعدها بالكلية الحربية بإسطنبول، ليلتحق بعدها بالجيش العثماني، والتحق بعد ذلك في صفوف الثورة العربية الكبرى.

     اعتقل الحسيني عام 1920، ولكنه استطاع الفرار إلى الأردن، وحكم عليه بالسجن 15 عاما، تولى منصب المفتي العام للقدس بعد وفاة أخيه كامل، وأنشأ المجلس الإسلامي الأعلى في 1921، وبعد فشل ثورة القسام عام 1936، أنشأ اللجنة العربية العليا، التي ضمت تيارات سياسية مختلفة.

     أصدر المندوب السامي البريطاني قرارا بإقالة المفتي من منصبه والقبض عليه، وحينها هرب الحسيني إلى لبنان، حيث اعتقلته السلطات الفرنسية، وبعدها استطاع الهروب من لبنان إلى العراق، ثم تركيا، ثم ألمانيا، حيث مكث فيها قرابة 4 سنوات. فرضت على الحاج أمين الحسيني الإقامة الجبرية بعد النكبة، فهاجر إلى سوريا ومنها إلى لبنان، حيث مكث فيها حتى وفاته.

نشأته وتعليمه

     وُلِد محمد أمين الحسيني في القدس عام 1895 م، وقيل في 1897. لعائلة ميسورة كان من أفرادها ثلاثة عشر شخصاً تولوا مناصب إدارية وسياسية في القدس. تلقى علوم القرآن واللغة العربية والعلوم الدينية في فترة مبكرة من عمره، أدخله والده «مدرسة الفرير» لمدة عامين لتعلم الفرنسية، ثم أُرسل إلى جامعة الأزهر بالقاهرة ليستكمل دراسته، كما التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية، وكذلك في مدرسة محمد رشيد رضا «دار الدعوة والإرشاد»، نشبت الحرب العالمية الأولى عام 1914، فلم يستطع العودة لاستكمال دراسته، فذهب إلى إستانبول ليلتحق بالكلية العسكرية، وتخرج برتبة ضابط صف في الجيش العثماني، وقد ترك الخدمة لاعتلال صحته بعد ثلاثة أشهر فقط من تخرجه، وعاد إلى القدس، فما لبثت القوات العربية والبريطانية أن سيطرت على القدس سنة 1917 فالتحق بقوات الثورة العربية وجند لها المتطوعين، وكان قد أدى فريضة الحج مع والدته في عام 1913، فاكتسب لقب الحاج من حينها.

جهاده للقضية الفلسطينية

     شارك أمين الحسيني في العمل الوطني الفلسطيني منذ نهاية الحرب العالمية الأولى في عام 1918م، وشارك في عقد «المؤتمر العربي الفلسطيني الأول» عام 18 – 1919م، والمظاهرات الفلسطينية في عام 1920م، وقد اتهمته السلطات البريطانية بأنه وراء هذه المظاهرات، وهاجم شباب القدس القافلة البريطانية المشرفة على ترحيله للسجن، وهرب إلى سوريا، وحكم عليه غيابيًا بالسجن 15 سنة، وتحت ضغط الغضب الفلسطيني تم العفو عنه، وبعد عودته بأشهر يُتَوفَّى شقيقه مفتي القدس، ويرشِّحه رجال فلسطين لخلافة شقيقه وهو ابن خمسة وعشرين عامًا، ويفوز الشاب بالمنصب، ولكنه لا يكتفي بهذا، فيطالب بتشكيل هيئة إسلامية تشرف على كافة الشئون الإسلامية في فلسطين، وينجح في حمل السلطة البريطانية على الموافقة، ويفوز في انتخابات رئاسة هذه الهيئة، ويعمد من خلال هذه الهيئة إلى تنظيم الشعب الفلسطيني، فينظم الجمعيات الكشفية، وفرق الجوالة، وإعدادها إعدادًا جهاديًا، ويتصل بكافة المخلصين والمناضلين في العالمين العربي والإسلامي من أمثال عز الدين القسام وعبد القادر الحسيني.

    وقد توجهت الدعاية المعارضة لأمين الحسيني لتظهره وكأنه الرجل المسالم للإنجليز، وفي لقاء بينه وبين بعض قادة العمل الوطني على رأسهم عبد القادر الحسيني يدور الحديث عن موقفه من مقاومة الإنجليز، فيرد الرجل قائلاً: ما رأيكم أن تقاوموا أنتم الإنجليز وتتركوني لمقاومة اليهود؟.

    وأحسَّ القوم أن الرجل له علم ونظرة أعمق من مجرد دفع عدو ظاهر، وأن الأمر أخطر من مجرد السيطرة الإنجليزية، وأن هذه السيطرة ستار لمؤامرة استيطانية، وتتوحد الجهود، ويكون عبد القادر الحسيني قائداً للأعمال العسكرية، والمفتي أمين الحسيني هو الواجهة السياسية، والمنسق (من خلال منصبه واتصالاته) للجهود العسكرية، وتوفير التمويل اللازم لكافة الجهود لنصرة القضية الفلسطينية، وتتحرك الثورة عام 1929م، ثم في عام 1933م، ثم تكون الثورة الكبرى عام 36 – 1939م، ويتولى أمين الحسيني مسئولية «اللجنة العربية العليا لفلسطين»، وهي لجنة سرية لتنسيق الجهود على مستوى الدول العربية لنصرة القضية الفلسطينية، وتتعقب بريطانيا المفتي في كل مكان، ويلجأ الرجل للمسجد الأقصى يدير الثورة من داخله، وتُصدر السلطة الإنجليزية قرارًا بإقالة المفتي من جميع مناصبه.

    ويضطر المفتي إلى الخروج من فلسطين إلى لبنان، وقد وقع في قبضة السلطة الفرنسية بها، وترفض فرنسا تسليمه للسلطة البريطانية، وتسمح له بالعمل في الفترة من 37 إلى 1939م، ومع بشائر الحرب العالمية الثانية، تقرر السلطة الفرنسية القبض عليه ونقله للسجن، فيهرب إلى العراق، وهناك يشجع الضباط العراقيين على الثورة، وتقوم ثورة رشيد عالي الكيلاني عام 1941م، ويناصر المفتي الثورة، ويشترك معه مجموعات فلسطينية على رأسها عبد القادر الحسيني الذي يشترك في مقاومة التقدم الإنجليزي في العراق، ومع بشائر الفشل للثورة ينتقل إلى طهران، ثم انتقل سرًا بين عدة عواصم أوروبية حتى انتهى به الأمر إلى برلين، وقد التقى في هذه المرحلة مع قادة دول المحور سواء في إيطاليا أو ألمانيا، ولم يكن الأمر مفاجئاً، فقد أجرى المفتي اتصالات سابقة مع القيادة الألمانية في بداية الحرب، وهذا أمر طبيعي، فالدول العربية كلها تقريبًا ليس بينها وبين ألمانيا عداوة، ثانيًا ألمانيا صارت العدو القوي المواجه لكل من إنجلترا وفرنسا «وهما الدولتان اللتان يحتلان أغلب الدول العربية».

مطاردة من جديد

    استطاع المفتي الهروب من ألمانيا في اللحظات الأخيرة قبل سقوط برلين، وتم القبض عليه في فرنسا، وقضى يومين في زنزانة مظلمة، ولكنه تقدم للضابط المسئول وعرَّفه بنفسه ومكانته، وطالب أن يعامل بالشكل اللائق، وبالفعل انتقل لمنزل جنوب باريس، وعندما أعلن عن وجوده في فرنسا، بدأت المطاردة له من السلطات البريطانية والأمريكية، والصهيونية داخل فرنسا، ورفضت فرنسا أن تسلِّمه بسبب خلافها مع المصالح البريطانية والأمريكية، وحرصًا على عدم استثارة المشاعر الإسلامية، وتدخل ملك المغرب ورئيس تونس أثناء وجودهما في باريس، وطالَبَا باصطحاب المفتي معهما، وتدخلت الجامعة العربية، ورئيس باكستان محمد علي جناح، من أجل سلامة المفتي، ورفضت فرنسا، وبدأت المقايضة الأمريكية مع مشروعات إعادة إعمار فرنسا بتمويل أمريكي، وقبل أن تقرر فرنسا تسليمه لأمريكا استطاع أن يهرب المفتي من فرنسا عن طريق استخدام جواز سفر لأحد أنصاره في أوروبا، وهو الدكتور معروف الدواليبي بعد استبدال الصورة. ونجح المفتي في الوصول إلى القاهرة عام 1947م، ويظل متخفيًا بها عدة أسابيع حتى استطاع أن يحصل على ضيافة رسمية من القصر الملكي تحميه من المطاردة الدولية لشخصه.

     ويبدأ الحاج أمين الحسيني في تنظيم صفوف المجاهدين من القاهرة، وتدخل القضية الفلسطينية طورها الحرج، وتعلن الأمم المتحدة مشروع تقسيم فلسطين، وتعلن دولة إسرائيل، ويرأس المفتي الهيئة العربية العليا لفلسطين، وتبدأ الحرب، وتبدأ المؤامرات والخيانات، وتقوم بعض الدول العربية بمنع المجاهدين من الاستمرار في مقاومة العصابات الصهيونية، وذلك بحجة أن جيوشهم سوف تقوم بهذه المهمة، ثم يبدأ مسلسل الخيانات لاستكمال المؤامرة، وتنتهي الحرب بهزيمة الجيوش الدول العربية، ويتم حمل المفتي من خلال موقعه كرئيس للهيئة العربية العليا على أن يصدر أمرًا للمجاهدين الفلسطينيين بوضع السلاح، وما إن يتخلص المفتي من بعض القيود حتى يسرع لعقد المؤتمر الفلسطيني في القدس ليعلن استقلال فلسطين وقيام حكومتها، ولكن مصر تعتقل المفتي وحكومة عموم فلسطين وتحدد إقامتهم في القاهرة، ومع قيام الثورة، يبدأ المفتي في تنظيم الأعمال الفدائية على كافة الجبهات، وتستمر العمليات حتى عام 1957م. وفي نفس الوقت ينشط في الجانب السياسي على مستوى الدول العربية والإسلامية، وبعض من الدول الآسيوية؛ وذلك لتأييد الحق الفلسطيني في وطنه، ودعم الجهاد المسلح في مواجهة العدو الإسرائيلي، ويمثل فلسطين في تأسيس حركة عدم الانحياز عام 1955م في مؤتمر باندونج، ولكن تدريجيًا يتم تقييد حركته السياسية ووقف العمل الفدائي من عام 1957م على معظم الجبهات، وتظهر بشائر مؤامرة جديدة، ومحاولة لإنهاء القضية في خطوات سلمية، وتظهر خطة التسوية مع أعوام 1959م، 1960م والمعروفة بخطة همر شولد، وهي الخطة التي وافقت عليها دولة المواجهة العربية مقابل ثلاثة مليارات من الدولارات، وينتقل الحاج أمين الحسيني إلى بيروت عام 1961م، وينقل إليها مقر الهيئة العربية العليا، ويفضح الرجل خطوط المؤامرة، وتفشل الخطة.

     وتبدأ خطة عربية بإنشاء كيان بديل للهيئة العربية العليا، وتبدأ بإصدار قرار من جامعة الدول العربية بإنشاء كيان فلسطيني عام 1963م، وينشأ الكيان تحت رعاية مصر باسم منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964م، ويعين رئيساً له أحمد الشقيري الذي يخضع للتوجهات العربية، وبعد نكسة عام 1967م، يبدأ الحسيني من جديد نشاطه من أجل القضية، موضحاً موقفه الثابت أن القضية لن يتم حلها إلا بالجهاد المسلح، ويستمر الرجل في نضاله حتى تُفضي روحه إلى بارئها عام 1974م.

      لقاء جمع الزعيم الألماني أدولف هتلر ومفتى فلسطين الأسبق الحاج أمين الحسيني، الذي ألجأته مطاردة البريطانيين المحتلين لبلاده للتحالف مع ألمانيا طلبا لدعمها في مواجهة الاحتلال البريطاني والمطامع اليهودية.

سياق تاريخي

      أدت معارضة المفتي الحسيني لتزايد دور الحركة الصهيونية وعصاباتها المسلحة في فلسطين تحت ظلال حكومة الانتداب البريطانية إلى الصدام مع الأخيرة، فأصدرت قرارا بحل اللجنة العربية العليا التي كان يرأسها، وأقصته من مناصبه كافة تمهيدا لطرده، كما نفت العديد من رفاقه إلى خارج فلسطين.

    استطاع الحسيني الإفلات من البريطانيين فغادر بلاده بحرًا إلى لبنان الذي أقام فيه سنتين قاد خلالهما عمليات الثورة الفلسطينية التي انطلقت عام 1936، ثم انتقل منه إلى العراق الذي وصله في 25 أكتوبر/تشرين الأول 1939، وتحت ضغط ملاحقة بريطانيا له اضطر للانتقال إلى إيران في مايو/أيار عام 1941، ثم غادر طهران حاملا جواز سفر إيطاليًا إلى روما.

      وفي 22 مايو/ أيار عام 1939 وقعت إيطاليا مع ألمانيا اتفاقية المحور لتنضم للحلف الألماني الياباني القائم منذ عام لمواجهة وحصار الأممية الشيوعية. وفي الثالث من سبتمبر/أيلول من العام نفسه بدأت الحرب العالمية الثانية بعد أن أعلنت بريطانيا وفرنسا الحرب على ألمانيا ردا على غزوها لبولندا.

      وفي العراق تشابكت الخيوط الدولية واصطدمت بالمصالح العربية واختلاف رؤى القادة العراقيين حول الموقف من طرفيْ الحرب “الحلفاء” و”المحور”، فبدأ الحاج أمين البحث عن مساندة خارجية، وهنا بدأ اتصالاته بالألمان عن طريق سكرتيره اللبناني عثمان كمال الحداد الذي تنقل ذهابا وإيابا بين العراق وألمانيا مرتين.

     كانت بغداد منذ عام 1933 تحظى باهتمام ألماني خاص في أجندة السياسة الخارجية الألمانية، وساهم في ذلك وجود دبلوماسي ألماني محنك ونشط فيها يدعى الدكتور غروبا، كان له تأثير كبير في أوساط الجالية الأوروبية في بغداد، وكان ذا صلة طيبة بالضباط العراقيين الوطنيين وبكل القادة العرب القوميين من مناطق أخرى، وعبره بدأت اتصالات الحسيني مع ممثلي الحكومة الألمانية.

     وفي 12 فبراير/ شباط 1941 أرسل المبعوث الألماني إلى الشرق غروبا برسالة إلى الخارجية الألمانية يؤكد فيها وصول عثمان الحداد (سكرتير الحسيني) إلى برلين حاملا رسالة من الحسيني إلى الزعيم الألماني أدولف هتلر.

      وأبدى الحسيني في رسائله إلى هتلر استعداده للتحالف مع ألمانيا في الحرب نظرا لوجود عدو مشترك اسمه الصهيونية، إذ إن ألمانيا النازية كانت تعادي الصهيونية والدولة البريطانية الراعية لها والمحاربة لألمانيا.

     ولكن الحسيني اشترط لتحقيق هذا التحالف شروطا، هي: أن تعترف دول المحور (ألمانيا وإيطاليا واليابان) بالاستقلال التام للأقطار العربية المستقلة وقتها ولتلك التي ما زالت تحت الانتداب أو تحت الحكم البريطاني. وبأن تعلن دول المحور بصورة قاطعة أن ليست لها أية مطامع استعمارية في مصر والسودان. كما طالب بالاعتراف للأقطار العربية بحقها في إقامة الوحدة العربية وفق رغبات أهلها، وبعدم الاعتراف بالوطن القومي اليهودي في فلسطين وتمكين الأمة العربية من إلغاء هذا المشروع. وقد ردت ألمانيا على طلبات الحسيني برسالة من وكيل الخارجية الألمانية فون فايسكر أكد فيها أن “ألمانيا تعترف باستقلال البلاد العربية استقلالا تاما….، وإن كلا من الأمتين الألمانية والعربية متفقتان على الكفاح ضد عدوهما المشترك الإنجليز واليهود، وألمانيا مستعدة للعمل المشترك معكم ومساعدتكم مساعدة عسكرية فعالة على قدر الاستطاعة، إذا اضطررتم إلى الحرب ضد الإنجليز لتحقيق أهداف شعبكم”. وهكذا كان أمل الحسيني أنه إذا ما انتصرت قوى المحور فإن بريطانيا ستخرج من فلسطين والشرق الأوسط، ولن تكون هناك فرصة لليهود ليقيموا دولتهم في فلسطين.

     وصل الحسيني إلى العاصمة الألمانية برلين في الأسبوع الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني 1941 قادما من إيطاليا حيث قابل زعيمها موسوليني حليف ألمانيا القوي، وفي 28 من الشهر نفسه استقبل هتلر الحسيني في مقر الرايخ الألماني بوصفه “مفتي القدس الأكبر وأحد أكثر رجال حركة التحرر العربي تأثيرا”.

مجريات ونتائج

     يحكي الحسيني في مذكراته -الصادرة عام 1999 بعنوان “مذكرات محمد أمين الحسيني”- بعض ما صرح به هتلر إليه في لقائهما، إذ قال له “إن خطط الكفاح واضحة، وهي أولا أنني أكافح اليهود بلا هوادة، ويدخل في هذا الكفاح ما يقال له الوطن القومي اليهودي بفلسطين، لأن اليهود إنما يريدون أن يؤسسوا دولة مركزية تساعدهم على مقاصدهم التدميرية ونشاطهم الهدام بدول العالم”.

     وأضاف هتلر “إنه لمن الواضح أن اليهود لم يقوموا بعمل إنشائي في فلسطين، وادعاؤهم هذا كذب فإن كل الأعمال الإنشائية التي أقيمت في فلسطين يرجع فضلها إلى العرب لا إلى اليهود، إنني مصمم على أن أجد حلا للمشكلة اليهودية خطوة فخطوة وبدون انقطاع، وإنني سأوجه الدعوة اللازمة إلى جميع البلاد الأوروبية ثم إلى البلاد التي هي خارج أوروبا في هذا الشأن”.

     ومن جانبه ألح الحاج أمين في المطالبة بمعاهدة رسمية بين العرب ودول المحور، لكن هتلر قال ما معناه إنه ينبغي للطرفين أن ينتظرا ما ستسفر عنه معارك الحرب الدائرة، نظرا لحساسية الأمر وخشية من استغلال معسكر الحلفاء (بريطانيا وفرنسا أساسا) له ضد الطرفين.

    قامت الدعاية الألمانية بتصوير اللقاء بين الزعيمين واستثماره للترويج للموقف الألماني في الحرب الدائرة بين القوى الكبرى في أوروبا، باعتبار أن اللقاء كان بداية لما سُمي بالتحالف بين القيادة الفلسطينية والعملاق النازي ضد الإمبراطورية البريطانية.

     وبعد أن اطمأن الحسيني لموقف دول المحور من المطالب العربية شرع في تهيئة المناخ من حوله للعمل الجاد في هذا الحلف، فأنشأ في نهاية مارس/آذار عام 1942 “مركز الأنباء العربي” الذي كان يصدر نشرة إخبارية بعنوان “بريد الشرق”، وهي التي كانت تنشر نصوص خطبه الحماسية الداعمة لدول المحور، والتي كان يلقيها على الجماهير العربية عبر إذاعة برلين العربية.

      كان من نتائج هذا التحالف أن أصبح الحسيني يتصرف وكأنه سفير العالم العربي في برلين، فقد كان يقيم حفلات استقبال للشخصيات المؤثرة في النظام والمجتمع الألمانيْين، وكان مهتما بتعريف المجتمع الألماني بالإسلام ككل لتبديد الأحكام المسبقة ضد الإسلام والمسلمين، ودعا إلى إقامة مؤسسة بحثية وإعلامية تُعنى بالتعريف بالإسلام.

     ولما وقع عدد من العرب الذين كان الإنجليز يستخدمونهم عمالا في اليونان أسرى في أيدي الألمان ومعظمهم من الفلسطينيين, اتفق الحسيني مع السلطات الألمانية على إخراجهم جميعا من معتقلات الأسر وإرسالهم إلى ميادين التدريب العسكري لتخريجهم ضباط صف وجنودا مغاوير (كوماندوز)، فكان يزورهم ويخطب فيهم، فأصبحوا النواة الأولى لتكوين قوات عربية في جيوش دول المحور.

    وفي خضم التراجع العسكري الألماني أمام معسكر الحلفاء؛ نجح الحسيني نهاية عام 1944 في الحصول على دعم عسكري ألماني، تمثل في إرسال كوماندوز يتألف من ثلاثة ضباط ألمان واثنين من الثوار العرب، لفتح جبهة عسكرية ضد المحتلين على الأراضي الفلسطينية.

     وقد أنزل الكوماندوز بالمظلات قرب البحر الميت خلف خطوط البريطانيين، ومعهم معدات اتصال بالراديو وبعض الأسلحة وكميات كبيرة من المتفجرات والنقود، لكن المهمة فشلت بسبب صعوبات لوجستية اعترضتها فاعتقل الإنجليز أغلبية أفراد البعثة.

     وعندما انهارت ألمانيا عسكريا أواخر أبريل/نيسان عام 1945، غادر الحسيني برلين طالبا اللجوء في سويسرا، لكن الأخيرة أبعدته إلى فرنسا حيث وضع قيد الإقامة الجبرية في فيلا بالقرب من العاصمة باريس حتى تمكن من الهرب إلى مصر.

ردود فعل

    استعملت القوى الصهيونية وحلفاؤها العالميون حادثة لقاء الحسيني وهتلر ذريعة لمحاربة القضية الفلسطينية ودمغ الفلسطينيين بأنهم أسوأ من هتلر، تبريرا للمشروع الصهيوني ولطرد الفلسطينيين الذي حدث في النكبة 1948. فطالبت دول أوروبية بمحاكمته باعتباره “مجرم حرب” ومن مؤيدي النازية.

     وفي 21 أكتوبر/تشرين الأول 2015 اتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو -في كلمة أمام المؤتمر الصهيوني العالمي في القدس- الحسيني بأنه هو الذي أقنع هتلر بـ”إحراق اليهود”، قائلا إن هتلر لم ينو إحراق اليهود وإنما أراد فقط طردهم من بلاده، لكن الحسيني قال له إنه إذا طردهم فسيأتون إلى فلسطين ونصحه بإحراقهم.

    لكن تصريحات نتنياهو هذه انتقدها الكثير من اليهود بمن فيهم ناجون من المحرقة، فقد قال زعيم المعارضة الإسرائيلية يتسحاق هرتسوغ إن “المفتي التقى هتلر في عام 1941 بينما بلورت النازية الحل النهائي في الثلاثينيات من القرن الماضي”. وطالب نتنياهو بتصحيح كلماته “على الفور”، لأنها “تشويه خطير للتاريخ”.

    ومن جهته قال المؤرخ اليهودي برنارد لويس -في تصريحات صحفية- إن النازيين “لم يحتاجوا للتشجيع على المحرقة”. وهذا ما أكده أيضا المؤرخ موشيه تسيمير، محذرا من “تحرير النازيين وهتلر من مسؤولية المحرقة وتحويلها للعرب، فهذه خدعة مدمرة تهدف لوصم العرب بأيامنا بما فعله سابقوهم”.

     كما يرى المؤرخ الإسرائيلي إيفي شلايم أن الحسيني “قال إنه لم يكن لديه تعاطف مع أيديولوجية ألمانيا النازية، السبب في تحالفه أثناء الحرب كان عمليا ولصالح شعبه، بريطانيا كانت العدو والصهاينة كانوا العدو الآخر، وهناك مقولة تذكر إن عدو عدوي هو صديقي، ألمانيا كانت عدوا لبريطانيا ولليهود وهذا أساس لسبب تعاون المفتي مع دول المحور”.

     بل إن منظمة “يد فاشيم” الإسرائيلية المعنية بتخليد ذكرى “المحرقة النازية” انتقدت تصريحات نتنياهو عن الحسيني، واعتبرتها “عارية عن الصحة”.

     وقالت المؤرخة في تلك المنظمة دينا بورات إن “أقوال نتنياهو غير صحيحة بكل المعايير، وهتلر لم يكن بحاجة لمساعدة أو تشجيع في جرائمه ولا علاقة قط للمفتي أمين الحسيني بها، والسجلات التاريخية الخاصة بلقاء هتلر والمفتي في نهاية 1941 تنفي ذلك، والمحرقة بدأت قبل ذلك بكثير”. كما أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أكدت -خلال استقبالها نتنياهو- مسؤولية الألمان عن المحرقة.

     وعلى كل حال فإن تصريحات نتنياهو المتهمة للمفتي تكررت قبله من أوساط صهيونية كثيرة حتى في حياة الحسيني نفسه، إذ إنه تطرق لهذه التهمة في مذكراته.

     وضمن هذا السياق، كتب الحسيني “بذل اليهود الصهيونيون أقصى جهودهم لمحاكمتي كمجرم حرب في محكمة نورمبرغ، ولما كانت مواد القانون الذي أصدره الحلفاء في صفة مجرمي الحرب لا تنطبق علي، فقد عمد اليهود إلى تلفيق تهم تحقق أمنيتهم، منها أنني حرضت السلطات الألمانية النازية على إبادة اليهود، وأني كنت السبب في القضاء على ملايين من اليهود”.

     وقال الحسيني إنه أخبر الزعيم الإيطالي موسولوني عند مقابلته إياه بأن “مقاومتنا للوطن القومي اليهودي لم تكن بحافز من التعصب الديني، بل كانت دفاعا عن كياننا وذودا عن بلادنا، وعلاقات المسلمين والمسيحيين في الأقطار العربية هي علاقات وثيقة بين مواطنين متحدين ومتعاونين”. كما أن هناك عصابات صهيونية كانت هي الأخرى على علاقة بالنازية الألمانية.

الوظائف والمناصب

     أسس ورأس «النادي العربي» 1915، وهو أول منظمة سياسية عرفتها فلسطين، وانطلقت منها الحركة الوطنية الفلسطينية، ثم عمل معلما بمدرسة روضة المعارف الوطنية.

انتخب مفتيا للقدس عام 1921م خلفاً لشقيقه كامل الحسيني.

رأس أول مجلس للشؤون الإسلامية والأوقاف والمحاكم الشرعية وهو المجلس الإسلامي الأعلى لفلسطين عام 1922م.

أشرف على إعادة تنظيم المحاكم الشرعية في سائر قطاعات فلسطين (18 محكمة شرعية).

استعاد الإشراف على الأوقاف الإسلامية بعد أن كانت في يد النائب العام (وهو اليهودي الإنجليزي بنتويش).

تأسيس وتقوية المدارس الإسلامية في كل أنحاء فلسطين.

تأسيس الكلية الإسلامية (من 1924 م إلى 1937 م).

تأسيس والإشراف على «دار الأيتام الإسلامية الصناعية» في القدس.

رئاسة لجنة إعادة إعمار وترميم المسجد الأقصى وقبة الصخرة، وهو المشروع الذي تم في عام 1929م.

رئاسة مؤتمر العالم الإسلامي – وهو الذي بدأ منذ عام 1931م في القدس من أجل القضية الفلسطينية، وتكرر عقده برئاسته في مكة وبغداد وكراتشي وغيرها.

تكوين جمعيات «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» للإصلاح بين المتخاصمين ومقاومة الدعوة الصهيونية للعرب ببيع أرضهم.

تنسيق الجهود والإشراف على إعداد التنظيمات المسلحة في أرض فلسطين، والتي أثمرت «جيش الجهاد المقدس» في أطواره المختلفة.

تأسيس ورئاسة اللجنة العربية العليا لفلسطين.

المشاركة في ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق ضد الإنجليز عام 1941م.

إنشاء مكاتب للحركة العربية والقضية الفلسطينية في برلين وروما، ثم في أماكن مختلفة من أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

رئاسة الهيئة العربية العليا لفلسطين والتي تشكلت بموجب قرار من جامعة الدول العربية عام 1946م.

رئاسة وفد فلسطين في مؤتمر باندونغ عام 1955م، وقد حضر الوفد بصفة مراقب.

تنسيق جهود الأعمال الفدائية بعد حرب 1948م.

رئاسة «المؤتمر الوطني الفلسطيني» عام 1948، والذي أعلن حكومة عموم فلسطين ووضع دستورها، وبرنامج الحكومة.

توفي الحسيني عام 1974 ببيروت، وشيع بجنازة رسمية حضرها ياسر عرفات، ودفن في مقبرة الشهداء.

هدم بيته

    هدمت الجرافات الإسرائيلية بيت ومقر أمين الحسيني المسمى فندق شبرد بحي الشيخ جراح في وسط مدينة القدس صباح يوم الأحد الموافق 9 يناير 2011. وكان البيت قد تحول إلى فندق بداية السبعينيات. وحسب الإعلانات الرسمية الإسرائيلية فإنه من المقرر أن تقام عشرون وحدة استيطانية لإسكان عائلات يهودية مكان الفندق، كمرحلة أولى من مخطط لبناء ثمانين وحدة استيطانية في المنطقة. وقد أثار الهدم إدانات دولية وعربية وفلسطينية. فوصفت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون الحادث «بالتطور المزعج» و«المقوض لجهود السلام». كما أدان الهدم أطراف عديدة منها الاتحاد الأوروبي ومنظمة المؤتمر الإسلامي والحكومة الأردنية وحركة حماس. من ناحيتها أدانت الرئاسة الفلسطينية العملية واعتبرتها إجراء سياسي لعزل القدس وتغيير الوقائع فيها. فيما وصف نجل المفتي ومحافظ القدس عدنان الحسيني العملية الإسرائيلية «بالبربرية» و«استهدافا للذاكرة وقيمة المقاومة التي كان يحملها شخص الحاج أمين الحسيني».

محمد عبدالرحمن عريف

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى