دراسات دينية

الدين والمتغيّرات الثقافيّة المعاصرة

الأستاذ إبراهيم منصور (*)

الباحث : الأستاذ إبراهيم منصور
اسم المجلة : مجلة المنهاج
العدد : 67
السنة : السنة السابعة عشر خريف 1433 هجـ 2012 م

الكتاب: الدين والمتغيرات الثقافيّة المعاصرة، تأليف: علي رضا شجاعي زند، تعريب: حيدر نجف، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلاميّ، بيروت، الطبعة الأولى، 2012، 180 صفحة.

وصف الكتاب

ثمة في الحياة الإجتماعية للبشر تحولات متزّمنة (تحدث في الزمان) لها نماذجها يُعبّر عنها بــ”العملية” (Process): إذا تمّ إكتشافها وإستعادتها بصورة صحيحة، ففضلاً عن تقديمها صورة جامعة وفي نفس الوقت بسيطة لفترة تاريخية طويلة، سوف توفر لنا جهازاً مفهومياً ونظرياً متناسقاً لتحليل الحقائق والوقائع الإجتماعية العامة والتفصيلية، وتساعدنا على إجتراح تخمينات مؤثرة للسياقات المستقبلية… والعلاقات والتأثيرات المتبادلة في ما بين الظواهر سواء كانت طبيعية أو إجتماعية، والتغييرات الناجمة عنها في الأمور، وقائع مستقلة عن فاعلها العاقل الواعي، بيد أنّ الإذعان بوجودها وصياغة مفهوم لها، وتنظيمها نظرياً أمور مرتبطة إرتباطاً وثيقاً بوجود المدرك وإرادته لهذا الإدراك والمعرفة…

وفي هذا الكتاب مجموعة من المقالات كل واحدة منها مستقلة عن الأخرى، وتناقش في الوقت ذاته تأثيرات العمليات التغييرية الثلاث الرئيسية في العصر الحاضر، وهي “التحديث” (Modernization) أو “التحدّث” (التحول من وضع أقدم إلى وضع أحدث)، و”العلمنة” أو “التعلمُن” (Secularization) (تحوّل الأشياء إلى الطابع العلماني)، و”العولمة” أو “التعولم” (Globalization) (تحول الأشياء إلى الحالة العالمية) على الدين، وردود الفعل المحتملة من قبل الدين وخصوصاً الإسلام حيال هذه العمليات.

العلاقة بين الدين والتديُّن، من جهة، وبين الحداثة والعلمنة والعولمة، من جهة ثانية، موضوع بالغ الأهميّة، يشغل بال المفكّرين والباحثين وعلماء الاجتماع الدينيّ، كما يشغل حيِّزاً كبيراً من فكر الإنسان المعاصر، خصوصاً المتدينين والتنويريّين.

ما زال أتباع الأديان المختلفة يجاهدون لكي يُثبتوا أنّ البشريّة لا تستطيع أن تتخلّى عن الإيمان الدينيّ لصلاح دنياها وآخرتها، في حين لا تزال العلمانيّة تضيِّق الخناق على الأديان كيفما دارت بها الحال، وسواءٌ منها السماوية وغير السماوية، لتثبت أنّها هي (أي العلمنة) دون سواها، محطُّ رحال البشريّة في حاضرها ومستقبلها.

فلِمن الغلبة في النهاية؟ وما هي العلاقة بين الدين والحداثة والعلمانيّة والعولمة؟ وهل يمكن التعايش بين الدين وكلّ هذه الظواهر؟ هذا ما يحاول كتاب () الإجابة عنه.

________________________________________

(*) كاتب وعضو اتّحاد الكتّاب اللبنانيين، من لبنان.

[الصفحة – 229]

فحوى الكتاب

إنّ هذا الكتاب ـ كما يقول مؤلِّفه علي رضا شجاعي زند، في مقدّمة كتابه ـ يتألف من ثلاث مقالات: دراسة العلاقة بين الدين والتحديث، هي موضوع المقالة الأولى.

وبما أنّ العلمنة كانت لها تحدِّياتها الأشدّ للدين، وأفرزت أحداثاً متنوِّعة على شتّى المستويات الاجتماعيّّة – الدينيّة، فقد عُنيتْ المقالة الثانية بدراسة العلمنة مصداقيًّا، في إيران المعاصرة.

وأمّا المقالة الثالثة فتسلِّط الضوء على عمليّة جارية دوماً، هي عمليّة العولمة؛ إذ حاولت المقالة معالجة الغموض في المفهوم لتعرِّج على تأثيرات هذه العولمة في الأديان، خصوصاً الإسلام وأهمّ التحدِّيات المحتملة التي تواجه هذا الدين الحنيف.

في المقالة الأولى يدرس الكاتب إمكانيّة تعايش الدين والحداثة، فيرى أنّ العولمة هي أهمّ عوامل العلمنة، وكان من المتوقَّع أن يؤدِّي بسطها وانتشارها إلى إقصاء الدين عن وعي الإنسان وحياته. إلّا أنّ وجود شواهد قويّة على الدين وفعاليّته، في المجتمعات الحديثة، يضع علامات استفهام حول نظريّة العولمة وتخميناتها واستنتاجاتها، ويفتح باب الأمل مشرعاً أمام المجدِّدين الدينيِّّين في مجال الدين على معايشة الحداثة.

قد ظهرت فعلاً، حالات المواكبة والتعايش بين الدين والحداثة، في بعض التجارب، خلافاً لما كان يتوقّعه بعض علماء الاجتماع ذوي الخبرة بالدين والعالم الحديث(1) .

ويقدّم الكاتب، في هذا الإطار، رأياً لبعض علماء الاجتماع يقول إنّ وجود مصاديق لتناغم الدين والحداثة، في مقاطع من التاريخ، ومناطق من العالم، أدّى إلى انبثاق نتائج ظنيَّة وكليّة ترى أنّ التحدِّيات المدَّعاة بين الحداثة والدين ليست ذاتيّة، بل ناجمة عن قراءات ذاتيّة للدين أو الحداثة. وبناءً عليه، فلا العلمنة مصير محتوم للحداثة، ولا الحداثة تعني الرفض الكلّيّ للدين. وبالتالي يمكن السير نحو إسلام حداثي، أو حداثة إسلاميّة بهدف صيانة الدين في العالم الحديث، وتلطيف الحياة الحديثة بالإضافات المعنويّة التي يؤمّنها الدين.

________________________________________

(1) ص 16.

[الصفحة – 230]

وخلافاً لهذا المعتقد، يرى علماء الاجتماع ـ في الجانب الآخر ـ أنّ في الجمع أو التعايش بين الدين والحداثة، استحالةً، وذلك انطلاقاً من النقاط الآتية:

1- العلمنة لا تعني – وفقاً لأيٍّ من تعاريفها – شيئاً أقلّ من تقييد الدين، أو تحريفه.

2- ثمَّة قرب قريني بين العلمنة والحداثة، بحيث إنّ كلَّ خطوة في طريق الحداثة، تبتعد بنا خطوة عن طريق الدين.

3- التعارض المستعصي على الحلّ بين الحداثة وأنواع خاصّة من الدين، لا يرتفع إلّا عن طريق دحض أو قلب أحدهما لصالح الآخر(2) .

في الردّ على تلك النقاط الثلاث وأصحابها، يؤكِّد المؤلِّف على حقيقة جليّة، هي أنّ الحداثة ليست الخيار الوحيد، ونموذج التنمية الوحيد للمجتمعات الإنسانيّة. ويقول في هذا الصدد:

«ما لا شكّ فيه لدى أيّ مفكّر منصف ومؤمن بالإمكانيّات والسعة اللامتناهية، هو انفتاح المستقبل ورحابته، وعدم تعيُّن مسار التحوُّلات التاريخيّة ».

من هذا المنطلق فإنّ المؤلِّف يأخذ على بعض المفكّرين شكَّهم في التعارض بين العلمنة والدين، واعتبارَهم بقاءَ الدين واستمرارَ حياته على أرضيّات العلمنة، حالة محتملة وجائزة. وقد تذرَّع هؤلاء المفكّرون لإثبات نظريّتهم، بأنّ وجود شواهد على العلمنة، إلى جانب مصاديق للتديُّن، يعَدُّ دليلاً على عدم التعارض بين الدين والعلمنة. ولكنّ الكاتب يفنِّد هذا الرأي رادًّا إيّاه إلى مجموعة من حالات السهو والخطأ الشائعة في مثل هذه القضايا، علماً بأنّ الكلام عن تعايش الدين والعلمنة غير ممكن، إلاَّ إذا جرى إحراز عدم وجود أيّ تنازل أو تهميش لموقع الدين ومكانته، أو أنّ التنازل الحاصل لا يؤدّي بأيِّ شكل من الأشكال، إلى عدوله عن مديَاته وأغراضه وأهدافه التي يدّعيها هو لنفسه. والمصاديق التي يسوقها أصحاب نظرة التعايش قلَّما

________________________________________

(2) ص 18.

[الصفحة – 231]

تتضمّن مناقشة مثل هذه الشروط وإثباتها.

ويردُّ الكاتب نظريَّته في عدم الانسجام بين العلمنة والدين إلى تركيزه على أنّ العلمنة عمليّة زاحفة توسّعيَّة، وتحتلُّ تدريجيّاً كافّة المساحات الخاصّة بالدين، أو التي يدّعيها الدين لنفسه، وتدفعه إلى أدنى المواقع وأكثر الأماكن هامشيَّة وتفاهةً. وبالتالي فإنّ مشاهدة حالات ومظاهر دينيّة في المجتمعات المتعلمنة، لا تُعَدُّ ثغرةً في نظرة الكاتب إلى العلمنة التي تعمل في خطوتها الأولى، على إسقاط الدين من مرتبته كحلّ جامع لكلّ شؤون الحياة الفرديّة والاجتماعيّّة للإنسان، وتقترح عليه (أي الدين) أن يبقى المؤسّسة العُليا. ولكنّها، في خطوةٍ ثانية، تسحب البساط من تحته، إذ تدعو بقيّة المؤسَّسات إلى الخروج عن السيطرة والهيمنة للدين كمؤسَّسة فرعيّة، أو تركه لمنزلته المؤسَّساتية. ويدعم الكاتب استنتاجاته هذه بآراء عدّة من المفكرين في هذه المجالات، منهم:

لاكمن (1967)، وبرغر (1967)، ولوهمن (1982)، ودابلر (1999). وتبقى المحطة الأخيرة للدين، في هذه العمليّة، هي تحوُّله إلى هَمّ شخصي في إطار الجوانب المعنويّة والروحيّة للحياة(3).

الحداثة والعلمنة

يرى المؤلِّف أنّ ثمَّة إجماعاً على أثَر الحداثة في العلمنة بين علماء الاجتماع الكلاسيكيين، مثل هميلتون (1995)، واستارك (1999)، وعلماء اجتماع الدين.

كما يُشير إلى اعتقاد فيليب هاموني (1984) بأنّ العلمنة هي نتيجة وثمرة لسياقات التحوُّل الصناعي، والعقلنة والتمدُّن، وهي من الخصائص الرئيسة للحداثة.

وقد لاحظ هايدن (1987) وفينك (1992) تأثيرات هذه العوامل في خفض منزلة الدين.

ويرى جيمسون أنّ النظام الرأسمالي الحديث الذي أوجد عالماً ماديّاً تماماً، هو المسؤول عن موت الدين، (وهو بذلك يقصد المجتمعات الأوروبيّة والأميركيّة)، فيقول إنّ الرأسماليّة والعصر الحديث حقبة نشهد فيها انقراض الأمور المقدَّسة، إذ تزول جميع القِيم المعنويّة من الحياة الجارية بتأثير الثقافة المادية(4) .

________________________________________

(3) ص 26.

(4) ص 27 و28.

[الصفحة – 232]

الدين والحداثة

لقد واجهت هذه النظريّة المذكورة أعلاه، والشائعة، انتقادات وتشكيكات جادّة خلال العقد أو العقدين الأخيرين. وقد طرح المشكّكون إمكانية تعايش الدين مع الحداثة، وأنّه لا ينبغي إطلاقاً إصدار حكم حازم بشأن وجود سياق يُفضي إلى زوال الدين. وقد قسم الكاتب هؤلاء المفكّرين ثلاث فئات:

1- الذين شكّكوا في كون الإنسان والمجتمعات، في مرحلة ما قبل الحداثة، أكثر تديُّناً من الإنسان والمجتمعات الحديثة.

2- الذين شكّكوا في ألّا يكون الإنسان والمجتمعات القادمة، أكثر تديُّناً من الإنسان والمجتمعات في العصر الحديث.

3- الذين يشيرون ـ عند دراستهم للوضع الحالي ـ إلى شواهد ومؤشرات مهمَّة للتعايش بين الدين والحداثة.

تسوق الفئة الأخيرة شواهد عينيّة على أنّ الدين يواصل حياته بنشاط وفاعليّة، على خلفيّة الحداثة، ليؤكِّدوا على إمكانيّة التعايش والصلح بين الدين والحداثة. ومع أنّ الشواهد المطروحة من قِبلهم، متنوِّعة، إلّا أنّه يمكننا حصرَها وتصنيفَها في خمس مجموعات متمايزة:

1- نظريّة ماكس فيبر وأتباعه حول اكتشاف التناغم بين نوع من الأخلاق الدينيّّة، وبين النظام الرأسماليّ الحديث، كأبرز تجلّيات الحداثة.

2- وجود المستوى العالي للتديُّن، في بعض المجتمعات الحديثة.

3- ظهور حركات دينيّة جديدة في العالم الحديث.

4- تديُّن بعض القادة الحداثويِّين، أو حداثة بعض القادة الدينيِّّين في البلدان النامية.

5- وجود بعض العناصر الحداثيّة في الحياة الفرديّة والاجتماعيّّة للمتديِّنين(5) .

________________________________________

(5) ص (28 – 30).

[الصفحة – 233]

الحداثة وردود الفعل الإسلاميّة

يرى المؤلِّف علي رضا شجاعي زند أنّ الكثيرين من علماء اجتماع الدين الغربيّين اكتفوا بإطلاق آراء عامَّة حول الأديان غير المسيحيّة، بسبب قلّة معلوماتهم عن الفوارق العريقة بين تعاليم الأديان وتيّاراتها الداخليّة، ممّا جعل نظريّاتهم تُراوح في العموميّات والكليّات. ولجلاء هذا الموضوع يسارع المؤلِّف إلى القول بأنّ ظهور العناصر الحداثية وانتشارها وبقاءها في بعض المجتمعات الإسلاميّة، لم تكن لتتحقّق وتؤتي ثمارها من دون مساعدّة الركائز الفكريّة والتعضيدات الأيديولوجية الموافقة لها.

وينبغي الاعتراف ـ يقول الكاتب ـ بأنّ هناك في إيران الإسلاميّّة، حداثة حقيقيّة ـ ومن دون عنوان، طبعاً ـ تعيش إلى جانب الدين، وتجري في حياة المتديّنين. وهي تحاول ـ رغم بدائيَّتها ـ أن تطرح نفسها كتجربة مختلفة، ونموذج يُحتذى به من قِبل المجتمعات الأخرى. ويعتبر المؤلِّف أنّ هذا المصداق النوعيّ يتمتّع بدرجةٍ عاليةٍ من الإتقان والمتانة والتوثيق لدحض نظريَّة تعذُّر التعايش بين الدين والحداثة(6) .

ويذكر الكاتب جهود (فيبر) لإثبات نوع من التناغم والانسجام بين البروتستانتيّة المسيحيّة، وبين روح الرأسماليّة، لإثبات إمكانيّة التعايش بين الدين والحداثة. لكنّه، أي المؤلِّف علي رضا شجاعي، يعتبر أنّنا إذا كنّا هناك (في البروتستانتيّة المسيحيّة) أمامَ دين تجزيئيّ، وتوصَّلنا ـ في إطار عمليّة غير إراديّة ـ إلى التناغم مع أحد أوجه الحداثة، فإنّنا، هنا (في إيران الإسلاميّّة) أمام دين شمولي، ومسيرة واعية تمام الوعي، حيث الجهود حقيقيّة وجادّة لتعزيز التديُّن الشامل ذي الامتدادات الفرديّة والاجتماعيّّة من ناحية، والسباق الساخن لتحديث ظروف الحياة، من ناحية أخرى.

ويُثير الكاتب مسألةً مهمَّةً تتعلَّق بنوعيّة التحديث في الدولة الإيرانيّّة، هل هو على مستوى الاستهلاك لمنتَجات الحداثة؟ أو على مستوى الإنتاج في عمق الحداثة؟ فيقول إنّ بعض حالات التماشي والتعايش مع العناصر الحداثيّة الملاحظة على تجربة الدولة

________________________________________

(6) ص 43 و44.

[الصفحة – 234]

الدينيّة في إيران، لا تتعلّق بالتكيُّف مع منتجات الحداثة الخاصّة، بل بمتطلَّبات التغيير والتحديث والتلبية المناسبة لإحتياجات الإنسان الجديدة، تبعاً للتحوُّلات الكميّة والنوعيّة في ظروف حياته.

ويستدرك الكاتب قائلاً إنّ مكابدة مُثُل الثورة، وتأسيس دولة دينيّة في إيران، يحتاجان إلى زمن أكثر من هذا حتّى يتحوّلا إلى تجربةٍ ممكنة التقييم ومواجهة للحداثة؛ إذ إنّ الأوضاع والبنى العامّة لا تُخلَق من الصفر، ولا تتشكّل في الفراغ، وإنّما تتحقّق تدريجيًّا، وبالعزيمة والتدبير والجهود الدؤوبة على طريق كثير المنعطفات والتجاذبات، وبكثيرٍ من الاختبارات والأخطاء. طريق يكون الاتجاه ومقدار الحركة فيه تابعين وحصيلتين لعوامل متعدّدة وقوى مختلفة الاتجاهات؛ وذلك على أرض ليست بكراً بالكامل، وبخامات وأدوات موجودة مسبَّقاً، وبعضها معارض، أو غير متماشٍ، ولكن لا مندوحة عن استخدامه بسبب هيمنته وسيطرته.

ويحذِّر الكاتب من أنّ عدم التوفُّر على خطّة أو عزيمة أو إرادة حادّة لإطلاق نموذج دينيّ للحياة والتجدد، والابتلاء بمقتضيات العمل، والاستسلام للظروف والإمكانيّات الجاهزة مسبقاً في العالم الحالي، منبعثة من تقبُّل أطروحة نهاية التاريخ، وانتهاء عصر الدين والأيديولوجيّات، وقبول الأحقيَّة البراغماتيّة للنموذج الذي نجح عمليّاً وفرَض هيمنته.

ويتابع المؤلِّف تحذيراته قائلاً: «السَّيْر في هذا الطريق، مع أنّه يبدِّد من أذهان المتديِّنين وقلوبهم، الأملَ بظهور بدائل دينيّة للتحديث والتجدُّد، لكنه لا يُثبت ـ في الوقت نفسه ـ شيئاً لصالح إمكانيّة التعايش بين الإسلام والحداثة؛ إذ لن يبقى في خاتمة هذا الطريق، شيءٌ من الدين بالشكل الذي تفيده التعاليم الإسلاميّّة، حتّى يمكن الكلام عن التلاقي بينه وبين الحداثة، هذا ما عدا ذكريات نوستالجيّة، أو تماثيل متحفيّة لا تشكّل حالة نديَّة للحداثة »(7) .

ويخلص الكاتب، في نهاية مبحثه الأوَّل (الدين والتحديث) إلى أنّ وجود

________________________________________

(7) ص 46 و47.

[الصفحة – 235]

نوع من الإجماع بين علماء الاجتماع الكلاسيكيّين، وعلماء اجتماع الدين، حول دور الحداثة في عمليّة العلمنة، أو الدور العلمانيّ للحداثة، يزيل كلَّ الشكوك بشأن التعارض الحتمي (المستعصي على العلاج) بين الدين والحداثة(8) .

الدين والعلمنة ـ احتمالات العلمنة في إيران

المقالة الثانية من هذا الكتاب ـ وهي بعنوان (احتمالات العلمنة في إيران) ـ يحاول فيها المؤلِّف، عن طريق تشخيص موضع البحث في أدبيّات العلمنة، فصلَ منهجيّة المقالة عن التأمّلات والاهتمامات الصحفيّة والإعلاميّة، والهموم الكلاميّة في هذا الباب.

ويعتبر الكاتب في مقدِّمة هذا البحث، أنّ العلمنة هي ذات جذور غربيَّة، وقد وصلت، في تلك البلدان، إلى بلوغها التجريبيّ والنظريّ. كما يرى أنّها عمليّة عامَّة نابعة من أمنيات البشر بمزيد من التمتع بمواهب الحياة؛ لذلك ستطال أيّ فرد أو مجتمع يسير سيراً حثيثاً في طريق التنمية. ومع أنّ العلمنة كانت من الموضوعات المحبَّذة لدى المستنيرين والصحافة، وقد بلغت أطوارَ نضجها واتّساعها في إيران، عن هذا الطريق، إلّا أنّ هذا الموضوع أو البحث ـ كما يرى المؤلِّف ـ يعاني في المجتمع الإيرانيّ من نقيصتين مهمّتين، رغم كلّ سعته واستيعابه:

1- عدم وصول المساعي النظرية الرامية إلى إطلاق نظريّات متطابقة مع الظروف الإيرانيّّة، إلى نتائج تُذكَر.

2- الإفتقار إلى مساعٍ جادّة لتجاوز النقاشات النظرية نحو البحوث العلميّّة الميدانية.

بعد هذه المقدّمة، وتحت عنوان (محلّ النِّزاع) يعمد الكاتب إلى تقسيم المجتمعات ـ من حيث علاقتُها بالدين ـ إلى ثلاث فئات:

أوّلاً: مجتمعات ليس لا علاقة بالدين.

ثانياً: مجتمعات لها علاقة بالدين عن طريق التأثيرات غير المباشرة، والمحدودة للأفراد المتديّنين.

ثالثاً: مجتمعات لها بالدين علاقة بنيويّة منظّمة.

________________________________________

(8) ص 48.

[الصفحة – 236]

ويَعتبرُ الكاتب أنَّ النوع الأوّل نادر التحقُّق جدّاً، ومصداقه المحتمَل الوحيد بعض المجتمعات الغربيّّة الشديدة العلمانيّة. أمّا النوع الثاني فهو الحالة التي تصدقُ على معظم المجتمعات المعاصرة. وأمَّا النوع الثالث فهو ـ رغم ندرته ـ له عدّة مصاديق في العالم المعاصر، وربما أمكن اعتبار إيران ما بعد الثورة مصداقاً بارزاً لهذا النوع.

وبقليلٍ من التسامح يُطلق الكاتب على هذه الأنواع ـ على الترتيب ـ أسماء: (المجتمع العلماني)، و(مجتمع المتديّنين)، و(المجتمع الدينيّ).

وفي ضوء حقائق ثلاث هي:

1- الجوهر الشموليّ والتركيبيّ للإسلام،

2- الأكثرية المسلمة التي تزيد عن 89%، والأكثريّة الشيعيّة التي تقارب الـ90%، في إيران،

3- توفُّر الظروف لممارسة الدين دوراً بنيويّاً في المجتمع،

يبدو أنّ نوع الدولة الدينيّة يتطابق مع الوضع في إيران أكثر من غيرها.

ويرى المؤلّف أنّ في المجتمع الإيرانيّ ديناً مشتركاً ينادي بالتدخُّل في الميادين السياسيّة – الاجتماعيّّة، وله نفوذ واعتبار كبيران في هيكيليّة المجتمع، وقد تولَّى أرقى المناصب في السلطة السياسيّة إثر ثورة شاملة كبيرة، عن طريق أصوات الجماهير المباشرة وغير المباشرة.

كما يلحظ الكاتب أن مجموع هذه الظروف قد وفَّر أرضيَّة مساعدّة لتفعيل العوامل (الإراديّة) و(اللّاإراديّة)، أو (مشاريع) و(عمليّات) العلمنة في إيران(9) .

ثمّ يعمد المؤلِّف علي رضا زند إلى تعريف العلمنة بأنّها عمليّة تهبط فيها مكانة الدين وأهميّته عند الفرد والمجتمع، وتغلب فيها التصوُّرات والقراءات الدنيويّة عن التعاليم والغايات الدينيّّة.

وعلى أساس التوجُّه التجزيئيّ الغالب على التعاليم المسيحيّة، تعني العلمنة هبوط مكانة الدين

________________________________________

(9) ص 61.

[الصفحة – 237]

وأهميّته إلى جانب نوع من (الانتقال) من ما وراء الطبيعة إلى الطبيعة، ومن الله إلى الإنسان، ومن الإيمان إلى العقل.

وبحسب النظرة التقابليّة الجارية في الرؤية المسيحيّة التجزيئيّة، فإنّ أيَّ شكل من الاهتمام بالطبيعة والعناية بالإنسان والاستعانة بالعقل، يستدعي الإدبار والإعراض عن الأنداد والمعادلات الدينيّة.

ومن البديهيّ ـ كما يشير الكاتب ـ أنّ هذا التعريف أو الفهم لعمليّة العلمنة يتناقض مع تعاليم الأديان الشموليّة، خصوصاً الإسلام الذي يؤكّد على الدمج والتسرية، لا على التفكيك والتجزئة، وعلى الملاءمة والتوفيق بين الثنائيّات المذكورة، لا على تناشزها وتعارضها، إضافةً إلى تأكيده على التوفيق بين سائر الثنائيّات، نظير العقل والوحي، والعلم والدين، والدين والدولة، والتراث والحداثة.

وتحت عنوان (مسار العلمنة في إيران) يرى المؤلِّف أنَّ الشكّ في انطباق نظريّات العلمنة الغربيّّة على الظروف الإيرانيّة، لا ينفي إطلاقاً، احتمال علمنة إيران، بما في ذلك علمنة المجتمع والفرد والدين في إيران، إنّما يرمي إلى تحليل صحيح للمسألة من أجل اكتشاف عوامله ومسيرته الواقعيّة وعرضه(10) .

ويعتقد المؤلف أوّلاً أنّ العلمنة في إيران، تتأثّر، بالدرجة الأولى، بكفاءة أو عدم كفاءة نظام يُطلق ادعاءات كبيرة جدّاً. وثانياً تَتْبع نموذج التنمية الذي تمَّ أو سيتمُّ اختياره لإدارة هذا المجتمع.

ويُحذِّر من مسألة هي غاية في الخطورة مؤدّاها أنّ عدم كفاءة الحكومة – الدولة في توفير الحدود الدنيا من الحياة الكريمة للإنسان المعاصر الغنيّ بالآمال والمطالبات، يمكن أن يزعزع إدارة المسلمين في الاندفاع نحو المجتمع والدولة الدينيّيْن، ويبثّ في نفوسهم اليأس من السعي وراء المبادئ الدينيّة كخطط عمل وحياة، ويصرفهم عنها. كما أنّ الاستنساخ المنفعل، ومن دون تغييرات لوصفة التنمية الغربيّة، يمكن أن يُعَلْمِن المجتمع المتديِّن، والأفراد المتديّنين على المستوى العمليّ، حتّى لو لم يمسّ

________________________________________

(10) ص 83.

[الصفحة – 238]

ظاهرهم الدينيّ.

في ضوء المعايير أعلاه، بخصوص تصنيف عوامل العلمنة إلى أصليّة وفرعيّة، يبدو أنّ «عدم الكفاءة » و(نموذج التنمية غير المناسب) يعُدُّهما المؤلِّف من أهمّ العوامل الأصليّة لعلمنة المجتمع في إيران. هذا مع العلم أنّ اتضاح عدم كفاءة الأديان الشموليّة في تأسيس المجتمعات وإدارتها ورفعتها، هو ذو تكاليف أعلى بكثير من الأديان التجزيئيّة.

وفضلاً عن خسرانها (أي الأديان الشموليّة) فرصة نادرة، فإنّها تمنحُ أرضيَّةً مساعدّة وفرصة مضاعفة للمنافسين المتربِّصين بالدين كي يُعَلْمِنوا المجتمع والفرد.

وتبرز هذه القضيّة بدرجةٍ من الخطورة والأهميّة بالنسبة إلى المذهب الشيعيّ الذي اكتسب ـ بسبب العقبات والمِحَن التاريخيّّة ـ حماساً وتعجيلاً مبدئيًّا أكبر، ونزل إلى الساحة بادعاءات أضخم(11) .

هنا مكمن الخطورة، إذاً؛ لذا فالتشديد على التأثير المضاعف لعدم الكفاءة، في عمليّة العلمنة، ناجمٌ عن أنّه ـ فضلاً عن عرقلة الوصول إلى الأهداف المقرّرة للدين ـ يؤدّي إلى انكسار الدين وتراجعه في الميادين الأيديولوجيّة والنظريّة.

وفي موضوع (نموذج التنمية غير المناسب) يقول علي رضا شُجاعي إنّ البنية الاجتماعيّة للمجتمعات ـ باعتبارها أرضية لتطبيق التعاليم الدينيّّة، وتحقيق أهداف الدين بخصوص الإنسان ـ تتأثّر تأثّراً شديداً بأسلوب إدارة المجتمعات ونموذج تنميتها.

وخلافاً للرؤية التي تحاول اختزال التنمية إلى محض تدخُّل صناعي ـ إداري في شتّى المجالات الاجتماعيّّة، واعتبارها غنيَّة عن أيِّ أسُس نظريّة واتجاهات أيديولوجيّة، يسارع المؤلِّف إلى اعتبار التنمية ظاهرة تحتاج بشدَّة ـ خصوصاً من ناحية تعيين الأهداف ومسار التطوُّر ـ إلى توجيه أيديولوجيّ وهداية نظريَّة.

ويركّز الكاتب على هذه الفكرة محذِّراً من أنّ قلّة الاهتمام بتأثيرات نموذج التنمية في عمليّات العلمنة، ناتجة من اعتبار الأديان غير أيديولوجيّة وتكمن خطورة هذا الادِّعاء الذي يُطرح أحياناً من باب مناصرة الدين، وبهدف تعظيمه، وضمان

________________________________________

(11) ص 87.

[الصفحة – 239]

بقائه في عصر انتهاء الأيديولوجيّات، في أنّه يُفضي ـ لا إراديّاً ـ إلى تعطيل الدين وإخراجه من حيِّز الفائدة والنفع.

ويتابع الكاتب شرح هذه الإشكاليّة مؤكِّداً على أنّ إثبات لا أيديولوجيّة الدين عمليّة يسيرة وصائبة، إذا كانت بخصوص الأديان التجزيئيّة المجافية للدنيا. أمَّا إذا كانت بخصوص الأديان الشموليّة كالإسلام، فهي غير صائبة ولا ميسورة. وإنّ هذه الأديان لا تستطيع عدم الاكتراث للاتّجاهات الأيديولوجيّة الكامنة في أهداف نماذج التنمية ومساراتها، ولا يمكن لأيِّ نموذج من نماذج التنمية تأمين غايات الأديان وأغراضها وضمان بقائها وحيويّتها.

ويتابع الكاتب تحليله لهذه المسألة الشائكة معتبراً أنّ التأثيرات المذهلة والواسعة للتنمية في ميادين الحياة الفرديّة والاجتماعيّة المختلفة، تضع الأديان وأتباعَها في الموقف الصعب. ثمّ إنّ التناشز المستمرّ بين الظروف والمطالبات يؤدّي إلى غياب المبادئ والأهداف الدينيّة في غياهب الانتظار، وتحوُّل الدين إلى تكليف شاقّ، وأحياناً لا يُطاق. وبذلك لا يمكن العثور على الدين إلّا في صفحات الذهن وسرائر القلوب على أحسن الافتراضات. ويستنتج المؤلِّف، من ذلك، قائلاً إنَّ هذا هو معنى العلمنة الذي اعتبره بعض المستنيرين الدينيّين مشفقاً ونصوحاً جدًّا، لأنّه لا يمتنع عن الهدم الكامل للدين فحسب، بل ويتلطّف بالمساعدّة على استقراره في أفضل أماكنِه وأنسبِها ـ ألا وهو ذهن المتديِّن وقلبه ـ وبقائه مقدَّساً مؤتمناً بعيداً عن التلوُّث بالأمور الفانية الدنيئة.

ويخلص علي رضا إلى القول، في هذا الموضوع: (ما عدا إتِّباع) الدولة لنموذج التنمية لدى الآخرين، في إدارة المجتمع. فإنّ تبعة هذا الاتِّباع سواء أكان موفّقاً أو غير موفّق، سينتهي لصالح أصحاب هذا النموذج وعارضيه، ويُعَدُّ شاهداً آخر على عجز الدين في المجالات الاجتماعيّة، وفي تصميم نموذج للتنمية وعرضه، وفي اقتباس النماذج واحتذائها، وحتى في التطبيق الصحيح للنماذج التي حالفها النجاح في تجارب الآخرين(12) .

________________________________________

(12) ص 89 و90.

[الصفحة – 240]

وفي موضوع أداء النخبة وتوجهاتهم، يعتبر المؤلِّف أنّ النخبة ـ في ظروف معيّنة ـ عامل مؤثّر في ظهور العلمنة وتكريسها. وفي ضوء الماضي التاريخيّ لإيران وظروفها الراهنة، يرصُد تيَّارَيْن نخبويَّيْن مؤثِّرين في المضمار السياسيّ والاجتماعيّ: تيار رجال الدين، وتيّار المتنوِّرين.

رجال الدين: يعتبر المؤلف أنّ رجال الدين ـ بسبب الادِّعاء والدور والرسالة التي حملوها على عاتقهم، والتوقعات التي أوجدوها لدى عموم الناس تبعاً لذلك ـ سيؤثّرون في علمنة إيران عن ثلاثة طرق على الأقلّ: الانفصال عن الناس، والميل إلى الدنيا والنزعة المحافظة.

1ـ انفصال رجال الدين عن الناس

إن المجابهات التاريخيّة لرجال الدين الشيعة مع السلطات والحكومات أخذت أواصرهم وارتباطهم بالجماهير إلى حدٍّ بعيد، وهذه الخصيصة التي أفصحت عن آثارها بوضوح في فترة الثورة الإيرانيّة، خلال عامي 1978 و1979، قد تعرّضت ـ بعد تشكيل النظام السياسيّ الدينيّ واستلام السلطة ـ إلى تغييرات يُعبَّر عنها (بانفصال الناس عن رجال الدين). ومع أنّ هذه الظاهرة ربّما تعرّضت لنوع من التضخيم، وكان لها معانٍ مختلفة عند من روَّجوا لها، إلّا أنّها واقع تثبتُه كثرة الشواهد. ومع ذلك هناك آراء متضاربة حول كميّة هذا الواقع ونوعيَّته وأسبابه(13) .

إنّ قصد الكاتب من انفصال رجال الدين عن الناس، أنّ الانشغال الإجباريّ لرجال الدين في أدوارهم ومسؤوليّاتهم الجديدة، أثّر سلباً على أواصرهم وارتباطاتهم المباشرة وغير الرسميّة السابقة مع الناس، وقلّل إلى حدٍّ كبير من حضورهم في مواضعهم التقليديّة، أي المساجد والمنابر نتيجةً لانخراطهم في نشاطات أهمّ ـ حسب الظاهر ـ في الأجهزة والمؤسـّسات الحكوميّة كدوائر الدولة والمؤسَّسات الثوريّة وقوّات الشرطة والجيش والسلطة القضائيّة والقطاعات الإعلاميّة الرسميّة.

________________________________________

(13) ص 91 و92.

[الصفحة – 241]

2ـ مَيْل رجال الدين إلى الدنيا

يرى المؤلّف أنّ تأسيس نظام الحكم من قِبَل الأديان الشموليّة ـ مع أنّه استراتيجيّة لازمة ومفيدة لنشر التعاليم وتكريسها، ومتابعة المبادئ والأهداف الدينيّة ـ ينطوي على آفات من قبيل مَيْل المتديّنين إلى الدنيا. فعدم المراقبة اللازمة، وقلّة الاكتراث لهذه الورطة يُفضيان إلى مسخ الدولة الدينيّّة، ونقض أغراض الدين. إنّ هذا الأمر خطير، وقد يؤدّي إلى ابتعاد الناس عن الدولة الدينيّة، وربما إلى إعراضهم عن الدين نفسه!(14) .

3ـ النزعة المحافظة لرجال الدين

لقد عانت مختلف أنواع الحكومات التي تأسَّستْ في البلدان الإسلاميّّة، باسم الدين، من مشكلة مشتركة، هي ترجيح البقاء على المبادئ والأصول؛ فإنّ ضرورات مختلفة من قبيل البقاء والأمن والحزم واليقظة حيال المنافسين الدينيّين، وتهديدات الأجانب، أدَّت دائماً إلى ترسيخ نمط من الروح المحافظة حيال أنظمة الحكم. ومع أنّ هذه الروح شاعت بين علماء أهل السنّة أكثر، بسبب الغلبة التاريخيّة، إلّا أنّها لم تكن بعيدة كل البعد عن ممارسات علماء الشيعة وأفكارهم(15) .

فرغم أنّ قوّة رجال الدين الإيرانيّّين ونفوذهم سجَّلا تصاعداً خلال الفترة الماضية، وقد استلموا، في الحقبة الأخيرة، موقعاً حصريًّا في السلطة، بيد أنّهم لم يتحرَّروا من احتمالات الابتلاء بآفة النزعة المصلحية، والاحتياط، والنزعة المحافظة. وفي عهد استقرار الدولة الوحيدة، بالمعنى الدقيق للكلمة، ارتفعت احتمالات هذه الحالة، على نحو خاصّ(16) .

إنّ تكاليف النزعة المبدئية، وصعوبات الإصرار على الأصول، من جهة، والقلق من خسارة هذه الفرصة الفذَّة، من جهة ثانية، يمكن أن يضعا رجال الدين على طريق يعتذرون فيه بحجم الطاقات والمتطلّبات ليتخلَّوا عن الأصوليّة المتوقّعة منهم، ويكتفوا بظاهر

________________________________________

(14) ص 93.

(15) للتعرُّف على حالات من هذه الروح بين علماء الشيعة، انظر: بهشتي سرشت 1380؛ منظور الأجداد، 1379.

(16) ص 95.

[الصفحة – 242]

الأمور.

إنّ النزعة المحافظة والمصلحيّة لرجال الدين في الحكومات الدينيّة، لا تؤدِّيان فقط إلى تعطيل الأصول، بل تُفضيان أحياناً إلى التزمُّت والصرامة في التعامل مع النقّاد والمصلحين والمعارضين الأصوليين للنظام الحاكم. وهذا ما يمكن أن يساعد على علمنة المجتمع والمتديّنين.

وفي موضوع المتنوِّرين، يقول الكاتب: المتنوِّرون ـ بغض النظر عن ميولهم وتوجهاتهم ـ تيّار مؤثّر في الميادين الاجتماعيّّة.. فإنّ سمات التجديد والنقد جعلت هذا التيّار مفضَّلاً ومحبَّذاً لدى شرائح من المجتمع، خصوصاً الشباب.

في ضوء صبغة التنوير وماضيه في إيران، حيث كانت عيونه دوماً مسمَّرة على الخارج، تكتسب هذه المسألة وضعاً خاصاً لا يَعْدَمُ التأثير في عمليّات علمنة إيران.

بعد ذلك ينتقل الكاتب إلى المقالة الثالثة والأخيرة من كتابه، فيسلِّط الضوء على عمليّة العولمة وتأثيراتها في الأديان، خصوصاً الإسلام، وأهمّ التحدِّيات المحتملة التي تواجه هذا الدين.

الدين والعولمة ـ الدين والظاهرة العالميّة

يشرح المؤلِّف (العالميّة) بأنّها عنوان عامّ لظاهرة لها جوانب مختلفة، وهي ـ بالدرجة الأولى ـ واقع يتعلّق بالإشباع الكمّي للعالم، ومضاعفة الترابط بين أجزائه المكوِّنة له.

وفي مقدِّمة البحث يثير الكاتب علاقة الدين بالمعنى الأعمّ للكلمة بـ(الظاهرة العالميّة) التي تشغل أذهان المفكِّرين منذ فترة، كما يطرح عدّة أسئلة من قبيل: هل نحن أمام موقف مشترك وردود فعل متشابهة من قِبل الأديان، أم أنّ كلّ واحد من الأديان واجه هذه الظاهرة بحسب خصائصه التعاليميّة والتاريخيّّة، والمساحات والمدَيات التي يدَّعيها لنفسه؟ وهل تواجه الأديان ظاهرة واحدة، أم أنّ هناك صُوَراً للظاهرة العـالميّة تشارك في هذه القضية، وتثير تحدِّيات مختلفة؟

وفي إجاباته عن تلك الأسئلة يركِّز الكاتب بحثه حول المسألة الآتية:

________________________________________

[الصفحة – 243]

الأديان والظاهرة العالميّة

المسيحيّة والبوذيّة، من حيث إنّ لهما ادّعاءات عالميّة، ديانتان تأثَّرت كلّ واحدة منهما ـ بشكل من الأشكال ـ بظاهرة العالميّة، وعمليّة العولمة، واضطرّتا أحياناً لإصدار بعض ردود الفعل حيالها. ولكن من حيث إنّهما لا تريان لنفسهما دوراً مباشراً وفاعلاً على الصعيد الاجتماعيّ، فإنّهما لا تُثيران الكثير من النقاش والجدل. إنّ التماشي والانسجام النسبيّ لهذين الدينيّن العالميَّين مع عمليّات (العلمنة)، أدَّيا إلى خفض مواطن الصدام مع الظاهرة العالميّة إلى أدنى المستويات.

على أنّ المسيحية تبقى على الرغم من خصوصيّتها الدينيّة وادّعاءاتها العالميّة، مختلفة ومنفصلة عن باقي الديانات؛ ذلك أن انتشار التفوق الغربيّ يعود لصالحها على كلّ حال، مع أنّ النزعة الفردانيّة والماديّة والعلمانيّة الكامنة في الظاهرة العالميّة، سوف تزعجهم عاجلاً أو آجلاً، وستسبِّب القلق لمسؤولي الكنيسة.

بينما الهندوسيّة والزرادشتيّة واليهوديّة والكونفوشيوسيّة، مع أنّها أديان متَّهمة ـ خلافاً للدينين السابقين ـ بالاهتمام بالدنيا، وتجمع أنصارها ومواليها، ولها ردود فعلها ـ مع بعض الفوارق ـ حيال الضغوط الخارجيّّة لتحطيم حالات المقاومة التعاليمية والتأثير في أتباعها، لكنها بسبب طابعها الوطني ـ القوميّ لم ولن تتعامل بقدر الأديان العالميّة الشموليّة، مع الوجوه المختلفة للظاهرة العالميّة.

مع أنّ وجه التهديد في مواجهة هذه الظاهرة موجود بالنسبة إلى كلّ الأديان، ولكن ـ بالنظر إلى النقاط المذكورة أعلاه ـ يبدو أنّ أعقد الحالات وأشدّ التأثيرات تظهر بين هذه الظاهرة (العالميّة) والإسلام، فالسِمَة العالميّة والشموليّة والفاعلة للإسلام أوجدت بانبعاثاته الجديدة، في الفترات المتأخّرة، طاقة متراكمة، وإمكانيّات عالية بين أتباعه، وخلقت توقُّعات واسعة منه، وهو ما يندر أن نجد له نظيراً بين الديانات الحيّة في العالم(17) .

________________________________________

(17) ص 140 و141.

[الصفحة – 244]

الإسلام والعالميّة

الإسلام من الأديان الفاعلة وصاحبة الادّعاءات في المجال الاجتماعيّ. وقد جعلته هذه السِمَة يتدخّل في الماضي التاريخيّ للبلدان الإسلاميّّة، ويعرض نماذج خاصّة تختلف عن الآخرين، لكنّها ليست حاسمة وقاطعة إلى درجةٍ لا تتأثّر معها بالأرضيّات الاجتماعيّّة المختلفة، ولا تبدي أي مرونة حيال الظروف التاريخيّة المتنوِّعة، ولا تترك عن تفسها أي تجارب؛ ذلك أنّ المبدأ الأساسيّ والخصيصة الضروريّة للدين الذي يدّعي العالميّة والخلود، يكمنان في هذه القدرة على التكيُّف. ويمكن إحراز قدرات التكيُّف لدى الإسلام من التدقيق في بعض خصائصه التعليميّّة، فضلاً عن الدراسات التاريخيّة والاستقرائيّة. هذا، رغم أنّ المسلمين ربّما لم يستفيدوا من كلّ هذه الإمكانيّات بصورة صحيحة، وحبسوا أنفسهم داخل أسوار التقليد والتحجُّر.

إنّ (العالميّة) لا تُعَدُّ ظاهرة غريبة ومقلقة لدين استطاع اجتياز تاريخ نموِّه وتطوّره في المجتمعات المختلفة بنجاح نسبي طوال خمسة عشر قرناً من الزمان، كما استطاع الحضور في الميادين العالميّة بحيويّة وحركيّة تفوقان ما كان له في الماضي.

إنّ هذه الظاهرة العالميّة تُعدُّ، بالنسبة إلى دين الإسلام العالميّ بقدراته الكبيرة على التكيُّف والتماشي مع المتطلّبات الخارجيّّة، صانعة فُرص، أكثر منها خالقة تهديدات ومخاطر. إذا كان هناك احتمالات أخطار في هذه التجربة، فهي غالباً نتيجة تقصير أتباع هذا الدين، أو ضعفهم، في الوعي الصائب لظروفه ومتطلّباته، من جهة، واكتشاف إمكانيّاته وقدراته واستخدامها المدروس والصحيح، من جهة أخرى، أكثر من كونها ثمرة للعالميّة كواقع خارجيّ.

وفي المقابل، ما تقدِّمه العالميّة للإسلام والمسلمين كلُّه فُرص قلّما توفّرت قبل هذا لمِشتاقي الحقائق الدينيّة. فالعالميّة، من حيث عولمة القضايا والآفاق، وتطوُّر الاتصالات، وفّرت للأديان الدعويَّة، من جهة، والأرواح المتعطشة للحقيقة، من جهة ثانية، إمكانيّات مؤهّلة، وظروفاً منقطعة النظير، لم تكن في السابق حتّى لتخطر في الأذهان (18) .

________________________________________

(18) ص (141 – 143).

[الصفحة – 245]

وعليه فإنّ العالميّة هي ظاهرة، إذا عُرِفَتْ وحُلِّلتْ بصورة صحيحة، واكتُشفت بضائعها وآلياتُها جيداً، لكانت مفيدة من كلّ النواحي لدِينٍ مثل الإسلام.

وقبل أن يختم المؤلِّف بحثه في موضوع الإسلام والعولمة، يُشير إلى أنّ تصاعد (الإقبال على الدين) الملاحظ في العقود الأخيرة، وتزامناً مع انتشار أمواج العولمة، له أسباب وخلفيّات متنوِّعة ابتداءً من الانفعاليّة المفرطة، وصولاً إلى الفاعليّة الراديكاليّة:

– الإقبال على التقاليد الدينيّة كأدوات هوية.

– الإقبال على المعنويّة الدينيّة كردّ فعل حيال عالِم غارق في المادة والاستهلاك.

– الإقبال على الدين بهدف التوفُّر على مشاريع بديلة لأسلوب الحياة ونموذج التنمية.

كلمة أخيرة

لقد أجاد المؤلِّف علي رضا شجاعي زند، في عرض آرائه حول . ولم يظهر مجرّد كاتب أو ناقل آراء ومقتبِس نظريات من بطون الكتب، ليُظهر نفسه باحثاً اجتماعياً. بل بدا لنا – من خلال مطالعتنا لكتابه – عالماً اجتماعيّاً، وتحديداً في فرع علم الاجتماع الدينيّ.

كما كان المؤلِّف موضوعيًّا، أعطى ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، فلم يتجاهل أو يتغافل عن الأخطار التي يمكن أن تُحدق بالسلطة الدينيّة الحاكمة. وبسبب موضوعيته العلميّة ومبدئيَّته وإخلاصه لدينه ومجتمعه كان جريئاً في طرح آرائه ومعالجة مواضيع بحثه. من ذلك مثلاً، آراؤه في مواضيع حسَّاسة قد تسبِّب له بعض الإشكالات. من هذه المواضيع: انفصال رجال الدين عن الناس، وميل رجال الدين إلى الدنيا… كأنّي به كان يمشي في حقل ألغام، ولكنه أحسن اجتيازه بأمان عندما بيَّن أنّه يخشى على رجال الدين الحاكمين من أن تأخذهم مشاغل الحكم والغرق في تفصيلات الأمن والتنمية، بعيداً عن قواعدهم الأساسيّة بين الجماهير المؤمنة، في المساجد والمنابر. وهذا، إذا حصل – لا سمح الله – يؤدّي أو يساعد على علمنة المجتمع

________________________________________

[الصفحة – 246]

الإيرانيّ والمتديّنين.

أمّا تعريب الكتاب فقد كان جيداً، إذ إنّ لغة المعرِّب الأستاذ حيدر نجف عربية فصيحة صافية، لا يعتورها رِكَّة أو عُجمةٌ أو ضعف. هي لغة علميّة رصينة تناسب علميّة مؤلِّف الكتاب ورصانته.

وإن كان لنا ملاحظة فهي إلى الشكل أقرب منها إلى المضمون، ذلك أن المؤلِّف قد وضع في الصفحة (140) عنواناً هو (الإسلام والظاهرة العالميّة)، ولكنه تحدَّث، تحت هذا العنوان، عن العلاقة بين مختلف الأديان ـ ومنها الإسلام ـ وبين الظاهرة العالميّة. فهو قد تحدّث عن المسيحية والبوذية ثمّ عن اليهودية والهندوسية والزرادشتية والكونفوشيوسية، ثمّ عن الإسلام. فكان أحرى بالمؤلّف ـ كما نرى بتواضع ـ أن يضع هذا الكلام تحت عنوان الأديان والظاهرة العالميّة، كما أثبتنا في مظانّه، وليس (الإسلام والظاهرة العالميّة)، خصوصاً أنّ المؤلِّف ذكر في الصفحة التـالية (141) العنوان نفسه (الإسـلام والعالميّة) ممَّا أوقعـه في التكرار، وقد كان في غنى عنه.

ويبقى الكتاب لمؤلِّفه علي رضا شجاعي زند، كتاباً جيداً في مضمونه ومعالجته للقضايا التي أثارها، ممَّا يُفسح لهذا الكتاب مجالاً مرموقاً في المكتبة العربية.

________________________________________

[الصفحة – 247]

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى