دراسات سياسية

السعودية ومستقبل “منسأتها” – وليد عبد الحي

تشير مراجعة كافة نماذج التحديث من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى فشل النماذج التحديثية ” ذات البعد الواحد ” او المعتمدة على التصور الفردي، فمراجعة نماذج الاصلاح والتحديث بخاصة في العالم النامي وغير النامي تشير إلى ان الاصلاح الاقتصادي المنفصل عن الاصلاح السياسي والاجتماعي غير مقدر له النجاح مهما حسنت النوايا، فالتحديث نموذج لنظرية الأواني المستطرقة ، فكل تغيير في أحد ابعاد البنية لا بد ان يمتد تأثيره وتداعياته للابعاد الاخرى.
في السعودية هناك محاولة للانتقال بالمجتمع طبقا لخطة “أحادية” وفردية تماما محصورة في البعد الاقتصادي ومن زاوية ضيقة، فكيف يمكن بناء اقتصاد منخرط في آليات العولمة بقيادة “إقطاع سياسي” تحكمه قيم قبلية وبنية اجتماعية تقوم ثقافتها على مستحاثات دينية تشكل الوهابية قاعدتها المركزية، لكن هذه القاعدة تقوم على رجل واحدة فهناك وهابية ثقافية دون وجود وهابية سياسية او وهابية اقتصادية تحدد مسار الخطة.
من زاوية اخرى ، فإن كل حركة تنويرية اصلاحية تقوم على “البطولة الفردية” هي حركة قصيرة العمر، فسرعة القافلة تقاس بسرعة آخر ناقة فيها، وهو ما يعني ضرورة وجود قوى سياسية منظمة تدرك تعقيدات العصر وملابساته لتتمكن من التغلغل في كل أوصال الدولة والمجتمع ، لكن السعودية تمنع نشوء أي تنظيم سياسي او أي شكل من أشكال المجتمع المدني ليكون رافعة انجاز المشروع، رغم ان ذلك يمثل نقطة اجماع بين كل علماء السياسة والاجتماع.
كذلك، من الضروري التنبه إلى أن نظرية التبعية تنطوي على ابعاد لا يجوز انكارها، فالفكاك من علاقة المحيط وشبه المحيط عن المركز الرأسمالي أمر ليس بالبساطة التي تتوهمها الوهابية الجديدة او افرازاتها، إن الاعتماد على الحماية الرأسمالية عسكريا، وعلى الزامك بأن يكون القسم الرئيسي من ودائعك في بنوك المركز، واجبارك على ضرورة فتح نوافذ مجتمعك لتدخل الريح منها، يجعل أي تخطيط منفصل عن سياسات المركز مخاطرة كبيرة للغاية، ولنا في نموذج شاه ايران وثورته البيضاء وأنور السادات ومشروع المنابر الذي طرحه بل وغورباتشوف وبيروسترويكاه نماذج على النتائج في هذه الحالات.
وعملية التنمية والتحديث لا تتم في بيئة اقليمية تعمل الوهابية بطبعتها الجديدة على اشعالها واستمرار الحريق فيها من منطلق تحقيق نموذج الدولة المركز ، فالبيئة الاقليمية المحاذية للسعودية (اليمن ودول مجلس التعاون الخليجي والعراق والأردن)مشحونة بالتوجس من مشروع لا تبدو ملامحه واضحة، وعمليات ” الاستضافة الإجبارية” في فندق فاره لقيادات سياسية او اقتصادية سعودية وعربية لا تدل على نسق فكري متزن بل على نزق أخلاقي تخيط نسيجه غرائزية مفرطة ودهاء موهوم يوحي لاي مستثمر بالتاني قبل الذهاب الى مشروع “نيوم” الموعود.
إن ملامح الاضطراب تطل من جنبات مجتمع ينطوي على صراعات كامنة تتمثل في الآتي:
1- صراع بين عولمة كاسحة في مواجهة ثقافة قادمة من القرون الوسطى
2- صراع أجيال بين عشرات الآلاف من النخب التي عاشت ودرست في مجتمعات حديثة وبين “مستحاثات” اجتماعية تقيدها سلاسل القبيلة والذكورة والغيبية والجهل والبداوة
3- صراع بين ضرورات التغيير الاقتصادية وبين ضرورات تغييرات سياسية تأبى السلطة السياسية الاقدام عليها
4- صراع بين ضرورات الانضباط الاستهلاكي بسبب الانكماش الاقتصادي الناتج عن انهيار اسعار النفط وبين ثقافة استهلاكية مفرطة في المجتمع من ناحية وافراط من ناحية اخرى في حجم الانفاق الدفاعي لتجعل من السعودية ضمن المراتب الاولى عالميا في نسبة الانفاق الدفاعي من اجمالي الناتج المحلي.
5- صراع بين رجال حركة دينية( الوهابية القديمة باشكالها المختلفة) معتقلون حاليا بعد أن تربى المجتمع على صدارتهم للمشهد الديني وبين ” فرد” يستثمر خواء سلطوي بعد لملمة كل الخصوم من “البيت” بدءا من بن نايف وصولا لمتعب.
6- صراع بين صورة دولية أكثر تشوها بفعل التقارير الدولية حول الاوضاع الانسانية في اليمن وتحميل ذلك للسعودية وبين اصرار على مواصلة رسم صورة “البطل الصامد” في مواجهة ايران.
7- صراع بين اسرة اعتادت على تقاليد معينة لاختيار الحاكم من بين صفوفها وبين “فرد” يريد تغيير قواعد الاصطفاف دون الالتفات لأي من أفراد الاسرة الآخرين.
8- صراع بين دولة تقدم نفسها على أنها ” مركز العالم الاسلامي” وبين سلوك تبدى هشا مترددا بل ومتواريا عند تعرض أحد اهم المعالم الاسلامية(الاقصى) بدءا من انتهاك فنائه وصولا لضمه لاسرائيل.
9- صراع بين مجلس تعاون خليجي حاول ان يكون بيتا للجميع وبين نزعة فردية ” لتوظيف المجلس ” في خدمة نزعة لقيادة اقيم فرعي.
هذه التناقضات تمور في الدورق السعودي في زمن يعرف فيه النظام الدولي تحولات عميقة للغاية تتبدى الكثير من مظاهرها في منطقتنا العربية ومن ابرزها التشققات في الجدار الامريكي التي تلوح “كباقي الوشم في ظاهر اليدِ” ،ولعل البنية السعودية أقل قدرة على التكيف مع تسارع التغيرات نظرا لتكلس بنيتها السياسية والاجتماعية وللتغيرات في مكانة البترول بين بدائل الطاقة مما يعني أننا نتجه مستقبلا نحو نظام ينتظر ” دابة الأرض التي تأكل منسأته”…

 

vote/تقييم

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى