دراسات سوسيولوجيةدراسات سياسية

الشيخ الجزائري عبد الحميد بن باديس: نموذج رائد لعمليات الإصلاح في التاريخ العربي المـُعاصر

في ظل التغيرات الراهنة في الجزائر، نسهم بهذه المقالة التي أعدها الباحث/ محمد محسن الحوثي، ونشرت عام٢٠٠٧م، تحت عنوان:

الشيخ الجزائري عبد الحميد بن باديس: نموذج رائد لعمليات الإصلاح في التاريخ العربي المـُعاصر
______________

توطئة:
مما لا ريب فيه أنّ العمليات الإصلاحية تظهر بين فترة وأخرى، وتخبو أحيانا حتى يعتقد الكثير من الناس انه لم يعد لها أثر على الحياة ، إلاّ أن ما ينبغي التأكيد عليه أن عملية الإصلاح عملية مستمرة ــ تطوريّة وتدرجيّة وتحولية – بغرض إصلاح الاختلالات التي نلمسها في سلم القيم والمعتقدات، وعوامل الحراك الاجتماعي ، التي تلامس أحد الأنساق أو في بنية النظام الكلية ، أو بغرض التكيُّف مع التغيرات التي تحدث في البيئة الداخلية أو الخارجية ، بحكم أن الجمود غير مفيد حتى في ظل ما يسمى بالثوابت .
إذ أن بالإمكان اعتمال سياسات مرنة تقود إلى تحقيق الأهداف المرسومة ، وكثيراً ما نؤكّد على أن التغيُّر يحدث بشكل أساسي في الأدوات والأساليب – وأهمها على الإطلاق الأداة الذهنية – العقل ،وبدون شك تلازمه بالشرع ،وبحيث لا نقع أو نطمح فوق القدرات ،أو الإمكانات، وبإمكان الإنسان – الفرد – أداء دوره سواء كان في إطار التنظيم الرسمي أو غير الرسمي – أو كان مستقِلا عنهما .

فالقادة يولدون ولا يصنعون، فقط وحدهم الرّؤساء يؤدُّون أدوارهم ضمن هيكل تنظيمي ، أمّا القادة فيعتبر التنميط لهم زيادة نعمة ، لأن لديهم القدرة على أداء أدوارهم بإتقان في معظم الحالات، بل وإحداث التغيير ،ولا يعني ذلك أن يحرموا من حقوقهم كمواطنين ، المثقفون أيضا بمقدورهم أداء الدّور وتغييره من صورةٍ إلى أخرى، ومن أسلوب إلى آخر، مثلا يتفق الكثير من المثقفين في أن دور المثقف يتمثل في التنوير ، كيف ؟

للإجابة على هذا السؤال يمكن الإشارة إلى عدد من النقط التي ستكون بمثابة مدخل إلى هذه المقالة :
مرَّت البشرية خلال المائة عام الماضية بعدد من التغيرات التحولية “الاستعمار نظام عالمي متعدد الأقطاب ؛ ثم ثنائي ثم أحادي ؛ إضافة إلى عدد من المسميات العالميّة والإقليمية كالصراع والتعاون والتحالف ، حتى وصلنا إلى وضعنا الرَّاهن الذي مرَّ بعدد من الأنماط صراعاً وتعاوناً ، غير أنه اتسم بتغيّرين رئيسيين :
تغير تكنولوجي ، قارب بين الدول والجماعات والأفراد ، مما أدّى إلى تغيُّرات جزئية كثيرة مثل التشابك والكثير من الاندماج من جانب ، وتغيّر أدوات الصراع والتفاوض من جانب آخر،ويدخل ضمن هذا التغير، التغير التطوري في العلم – البيولوجي – الجيني – الهندسة الوراثية للجينات ،الأمر الذي بإمكانه أن يؤدّي إلى تصنيع أسلحة جرثومية وفيروسية أشد فتكاً من الأسلحة النووية ، إضافة إلى التطوّر في المواد الكيميائية التي تدخل ضمن تصنيع الأسلحة .

التغير في الأنظمة ، حيث اتسمت المرحلة بالفوض ىــ الخلاّقة ــ التي يقال عنها أنها سياسة الهدم من أجل إعادة البناء ، والترويج لمثل هذه الفكرة بغرض انتزاع القيم الأخلاقية من روح الأجيال الجديدة، وعلى ضوء ذلك خلْق واقع مجتمعي جديد ، يتلاءم وسياسات القوى الجديدة لتحقيق مصالحها وفق إرادتها ، وليس وفق علاقة تبادل اندماجية متوازنة ، أو اعتماد متبادل ،تحترم فيها الحقوق الآدمية، ولهذا السبب يأتي التغيير في أُسلوب المثقف لكي يؤدي دوره ،وبحيث لا يكون تابعاً – خاضعا ومسيرا – مهما عملوا فيه ،وعليه دفع الثمن لا مشكلة مادام يمضي في المسار الذي يتحقق الهدف من خلاله ؛لأنه وحين تصل الأمور إلى الاستهتار والإذلال والتبعية في أشكالها الجديدة ،فإن على المثقف تغيير أسلوبه في إرسال الرسالة بصورة أو بأخرى ، المهم تحريك المياه الراكدة وكسر الجمود ، حتى في ظل رفض الآخرين للفكرة ، أو تقبلهم لها بسلبية ،وعليه الاستمرارية وأداء الدور في صوره المختلفة، بما فيها الدور المناور ،دون الإخلال بالمشروع ، لأن هناك من يشاركك الدور وإن لم تعمل وفق رؤيته .

النقطة الثانية : الإسهام في التذكير بشخصية رائدة ومتفردة في وطننا الحبيب – الجزائر – وكان لها الدور البارز، والنموذج المتفرد في عملية الإصلاح إباّن الاحتلال الفرنسي ، إنه الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي ساهم في إصلاح أمته – الجزائر – التي أبلت بلاءً حسناً في كفاحها ونضالها وجهادها ضد الاستعمار ، فمثلت نموذجاً للصّمود والمقاومة إبان التحرير والاستقلال ،ومن ثم ما خلفه الاستعمار من أثار وزرع بذور الخلاف والصراع بين أهل البلد الواحد ،لاسيما فترة التسعينيات من القرن الماضي، وهو ما أراده الاستعمار الحديث لتمرير مشاريعه عبر زراعة الفتن وإحياء الأثنيات، ليس بغرض التعارف والتعاون والتاْلف، وإنما لإذكاء نيران الحروب ،والتدمير، وإحياء ثقافة التناحر، والكراهية ،والفرقة التي تجاوزتها إلى حدٍّما ، وبالذات في الفترة الأخيرة التي اتسمت بنوع من الاستقرار في إطار نموذج الديمقراطية والتحديث ، المصالحة الوطنية، وتتطلب المرحلة الراهنة المزيد من عمليات الإصلاح ،والجهود من أجل تعميق حقوق الإنسان ،وجعله يعيش متمتعا بحريته وكرامته دون تغطية أو مغالطة أو إكراه وإجبار ؛ وتعتبر المقالة إسهاما وتفاعلاً وتواصلاً مع إخوتنا في الجزائر في هذا العام المبارك، فإلى رائد عملية الإصلاح في الجزائر الشيخ / عبد الحميد بن باديس .

نبذة مختصرة عن شخصية الشيخ عبد الحميد بن باديس:
تفيدنا بعض المصادر ومعلوماتنا المتواضعة أنه كُتب الكثير عن حياة الشيخ عبد الحميد بن باديس باعتباره رائد النهضة الإسلامية في الجزائر في العهد الحديث ، الذي ولد في ثاني الربيعين في سنة 1307هـ الموافق ليلة الجمعة 4 ديسمبر 1889م .
فكان الولد البكر لأبويه، أسرته أسرة “قسنطينية” ــ من مدن شرق الجزائر – والده كان عضوا في المجلس الجزائري الأعلى ، وترجع هذه الأسرة في أصولها إلى المعز بن باديس وكان من ملوك الصناهجية 398-454هـ، وهذه الأسرة مشهورة بالعلم والثراء والجاه ، وكان والده يشتهر بالتجارة والفلاحة ، يعدُّ من أعيان مدينة “قسنطينية “وسرا ة أهلها ، عُرف بدفاعه عن حقوق المسلمين في الجزائر، توفي 1951م.
أما أمه فهي السيدة زهيرة بنت علي ابن جلول من أسرة اشتهرت بالعلم والتدين …
يرجع بن باديس الفضل في تكوينه العلمي إلى والده الذي رباه تربية صالحة ،ووجهه وجهة تعليمية سليمة ، ورضي له العلم طريقا يتبعه ،ومشربا يرده ، ولم يشغله بغيره من أعباء الحياة ،تلقّى تعليمه الأولي في الكتاب ، وتتلمذ على يد حمدان الونيسي من عام 1903م حتى 1908م الذي أخذ منه وعداً بالالتزام بما أوصاه ، (بأن يقرأ العلم لا للوظيف ولا للرّغيف) ،وأخذ عليه عهداً أن لا يقرب الوظائف الحكومية عند فرنسا، وقد نفَّذ وصية شيخه تنفيذاً كاملاً .

وتأثر بالإمام أبو بكر العربي 1073- 1148م وكتابه العواصم من القواصم ، ويقول عنه الشيخ بن باديس أنه (خزانة العلم وقطب المغرب)، كما كان من أبرز شيوخه محمد النخلي الطاهر بن عاشور ، البشير صغره ، الخضر حسين ، وحفظ القران على يد الشيخ محمد المداسي ، وتأثر كثيراً برجال الإصلاح الديني والشيخ محمد بخيت المطيعي العالم الأزهري ومفتي مصر ، والسيد جمال الدين الأفغاني ، والشيخ محمد عبده ،وابن تيمية ،وبن خلدون ،والمعتزلة ، ولم يلتحق بالمدارس الفرنسية .
ويعتبر الشيخ عبد الحميد بن باديس رائد النهضة – الثقافية والاجتماعية والسياسية في الجزائر – في زمنه – باعتباره من أرسى دعائم التعليم والتربية ، وأوجد جيلاً جديداً من الشباب الجزائري الذي أخذ على عاتقة مهام الثورة بعد وفاته ،عندما وصلت المحاولات السلمية للمصلحين ورواد النهضة في الجزائر إلى طريق مسدود ، وحفظ مع جمعية العلماء المسلمين الشخصية الوطنية الجزائرية من ممارسات التذويب الثقافي والحضاري، ومحاولة دمج المجتمع الجزائري بفرنسا وإبقاء الجزائر أرضا فرنسية، مستخدماً في منهجه الاتجاه الكلي ،(الاستنباط)، أي الانتقال من الكل إلى الجزء ، من الدائرة الإسلامية منطلقا نحو الدعوة القومية والوطنية ، وتميّز عن غيره من المصلحين الإسلاميين في أنه لم يدع إلى قومية أو أممية إسلامية ، أي وحدة العالم الإسلامي، بل إنه استنبط استدلالاته في أطروحاته من الإسلام وسيرة العرب في القراًن لتمجيد العرب وحضارتهم ،وإثارة النفوس نحو التاريخ المضيء للعرب والتمسك به في مواجهة دعوات التذويب الثقافي والفَرْنسة والاندماج .

وأُخذ البعض عليه أنه يدعو إلى العصبية والتطرف بسبب اهتمامه بعملية الإصلاح بالتربية ، وحرصه على اللغة العربية والعلوم الدينية – الإسلامية حفاظا على الهوية في ظل الاحتلال .
وفي هذا الصّدد مثله مثل العديد من المصلحين والمفكرين الذين تبنّوا انفتاحاً على التراث والثقافات الأخرى ، أو استخدام أساليب جديدة في تفسير الأحداث ،كابن خلدون الذي أخذت عليه بعض الاتجاهات “العصبية “،وعند التأمل الدقيق لفكره ونتاجه تتضح لنا بعض الحقائق عنه ، مثلا اشتغاله مع ولاة كانوا يتبنّون المذهب المالكي، فاصبغوا عليه صفة المالكية بينما كان حنفيا بحتاً ،ومعتزلياً فكراً ، ولم يكن عصبوياً كما أخذ ت عليه بعض الاتجاهات ، لكنه ناقش مفهوم العصبية وطرح رأيه حول الموضوع ،ويتضمن رأيه “إنّ وجود عصبية تخدم عصبية الدين”، وقال بنموذجين رئيسين حول العصبية ، الأول عصبية العِرْق والدم – القبلية بالذات –الثَّاني عصبية المصالح ، وعلى ضوء ذلك يمكن تفسير الظواهر السياسية(الحكم).
ومثله في جانب الإصلاح التربوي ما طرحه الإمام أبو إسحاق ألشاطبي ،الذي اتخذ النهج التربوي للإصلاح ، ويتضح منهجه في كتاب – مؤلفه – (الموافقات) ،الذي حاول فيه التوفيق بين المالكية والحنفية من جانب ،وربط مفهوم الإسلام بمفهوم الإيمان ربطا قوياً حتى ينتج عنهما الإحسان الذي هو غاية المناهج التربوية على اختلاف مشاربها وطرائقها في الإسلام أخطأَت أم أصابت، والعلم الشرعي عند الشاطبي هو بطبعه حامل على العمل ، والتعبد والإصلاح، ولكن على أساس أن يتعمَّق العالم حتى يصير إلى درجة المربِّي .
ومثله أيضا الشيوخ عبد الله الحكيمي ، ابن الأمير الصنعاني، الشيخ الشوكاني ، المقبلي ،وغيرهم من الأئِمة والمصلحين والعلماء في اليمن ،وإن كان وضع الشيخ ابن باديس يختلف من حيث الوظيفة التي يقوم بها في مناهضة الاحتلال …

رحلاته العلمية :
تـُشير المراجع إلى أن للشيخ ابن باد يس رحلتان علميتان :
1ــ رحلة إلى تونس:
في سنة 1908م اتجه إلى جامعة الزيتونه بتونس، وتلقى العلم في هذه الجامعة ، فكانت تلك أولى رحلاته إلى الخارج ،وتلقَّى العلم في هذه الجامعة على يد المـُبرزين من علمائها ، أمثال الشيخ محمد النخلي ، وكان لتوجيهات الشيخ النخلي الأثر الكبير في ذلك .
2ــ رحلة إلى المشرق:
في موسم الحج عام 1913م ارتحل ابن باديس إلى الديار المـُقدسة لأداء هذا الركن، فالتقى هناك بأستاذه الأول الشيخ حمدان الونيسي ،والتقى العالم الهندي الكبير الشيخ / حسين أحمد المدني ، كما التقى في المدينة المنورة بالشيخ البشير الإبراهيمي العالم والأديب الجزائري ،الذي سبقه إلى المدينة عام 1911م يقول الإبراهيمي “كنا نؤدي فريضة العشاء كل ليلة في المسجد النبوي ،ونخرج إلى منزلي فنسمر مع الشيخ ابن باديس منفردين إلى آخر الليل حين يفتح المسجد ،فندخل مع أول داخل لصلاة الصبح ،ويشهد الله على أن تلك الليالي هي التي وضعت فيها أول الأسس الأولية لجمعية العلماء ،وبعد عودته إلى الجزائر طاف بعدة بلدان عربية فزار سوريا ومصر.
بداية دعوته:
بدأ ابن باديس دعوته عام 1913م في ميدان الإصلاح الديني ،إذ رأى أن إصلاح الإسلام في الجزائر هو الضرورة الأساسية لنشر الوعي الوطني والقومي به، ويعود السبب في اهتمامه وحرصه الشديد على اللغة والتعاليم الإسلامية إلى سياسات التغريب الفرنسية التي اتخذها الاستعمار أداة له .
وكانت هذه السنوات أساسا ً وإرهاصا ً لنشوء جمعية العلماء، وفي هذه المرة كانت المشاورة مستمرة مع الشيخ الإبراهيمي ،وكان اللقاء كل أسبوعين لوزن الأعمال وأثارها في الشعب بالعدل .
واتجه في دعوته الإصلاحية اتجاها ً سلميا ً مما عاب عليه البعض ذلك ،ووصفوه بمهادنة الاستعمار مقتديا ً بالشيخ محمد عبده، وقد أدرك منذ البداية أن نهضة الجزائر تتم عن طريق بعث الأمة وإصلاحها (…)، ومن ثم التهيؤ للاستقلال والثورة لذلك فإنه وبعد عودته من مفاوضة الحكومة الفرنسية عام 1936م وفشل مساعيه السلمية تبنى فكرة الاستقلال وحث على الثورة التي تبناها تلامذته من بعده..

أدوات الشيخ ابن باديس في عملية الإصلاح:
استخدم الشيخ ابن باديس في دعوته الإصلاحية عددا ًمن الأدوات يمكن أن نشير إلى سلاحين رئيسين

1ــ التعليم:
أكد عليه منذ تبنيه العملية الإصلاحية ، وإنه بالإمكان محاربة الاستعمار بالعلم ، ومتى انتشر التعليم في أرض أجريت على الاستعمار وشعر في النهاية بسوء المصير، وأكد على إصلاح التعليم كأساس على الإصلاح بقوله : ( لن يصلح المسلمون حتى يصلح علماؤهم، فإنما العلماء من الأئمة بمثابة القلب إذا صلح صلح الجسد كله ، وإذا فسد فسد الجسد كله.. فإذا أردنا إصلاح المسلمين فلنصلح علماؤهم ، ولن يصلح العلماء إلا إذا صلح تعليمهم ، ولن يصلح هذا التعليم إلا إذا رجعنا به للتعليم النبوي في شكله وموضوعه ،وفي مادته وصورته ، فيما كان يعلم صلى الله عليه وآله وسلم من صورة تعليمية ) ،ومن خلال فكره نستنتج اتجاهه السلفي المتفتح والمستنير ، العقلاني ، والجمع بين النظرية – الفكر – العلم ،والعمل ،أي إمكانية تطبيق الأفكار – العلم – في الواقع ، يقول الإبراهيمي زميل الشيخ ( كانت الطريقة التي اتفقنا عليها أنا وابن باديس في اجتماعنا بالمدينة في تربية النشء: ألاّ نتوسع له في العلم ، وإنما نربِّيه على فكرة صحيحة ولو مع علم قليل، فتمّت لنا هذه التجربة في الجيش الذي أعددناه من تلامذتنا ؟..
ويستنتج من الفكرة الاتجاه التعبوي ، أو ما يطلق عليه التجنيد والتنشئة ،بغرض تحقيق هدف معين أو محدد، يتمثل في مقاومة الاستعمار ومن ثم الاستقلال وإعادة البناء ، لهذا عرَّف الإصلاح بقوله: (هو إرجاع الشيء إلى حالة اعتداله بإزالة ما طرأ عليه من فساد)
صلاح الشيء : هو كونه على حالة اعتداله في ذاته وصفاته بحيث تصدر عنه أو به أعماله المراد منه على وجه الكمال ..
وانطلاقا ً من هذا التوجه اهتم بالمعلم – الأساتذة – وبالطلاب ورعاية الموهوبين منهم خاصة ، باعتبار الشباب نتيجة الماضي، وزهرة الحاضر، وآمال المـُستقبل ،وعدة الحياة،كما يقول الشيخ ابن باديس مراعياً في هذا الصدد(الفروق الفردية للمتعلمين)، ويمنحهم امتيازات خاصة من اهتمام ورعاية وابتعاث وغير ذلك ،ومن يتفوّق كان يجعله عريفا ًعلى الطلاب ..

2ــ الصحافة:
لم يكن الشيخ ابن باديس منغلقا ً رغم اتجاهه السلفي ، لهذا انفتح على الصحافة كأداة من أدوات التنوير والتنشئة ، والصحافة في بدايتها كان لها أثر ودور في المجتمعات ، وصدىً يسهم في عملية التغيير … الخ..
فأسّس جريدة (( المنقذ )) ،حيث صدر منها 18 عدداً عام 1925م ،واسمها يدل على ما يهدف عليه الشيخ، وإضافة إلى التوجه الذي تبناه هاجم من خلالها بعض الطرق الصوفية التي اعتبرها عميلة للاستعمار بسبب البدع التي اتبعتها ،وانحرافها عن مسارها الذي رسمه مؤسسوها الأوائل ،وانتشار ثقافة التواكل والكسل بدلاً عن التوكل والعمل ، وتنبّهت الإدارة الفرنسية إلى خطر هذا المـُصلح الذي يهاجم أعوانها فأصدرت قراراً بتعطيل الجريدة ،وكان الأوان قد فات على فرنسا أن تحاصره أو توقف عمله ، وفي هذه المرحلة كانت مطالبهُ بسيطة ،فهو يطالب فرنسا بتطبيق دستورها وألا تكيل بمكيالين، وأن يعيشوا كمسلمين مـُحافظين على العادات والتقاليد في نطاق مستعمرات الجمهورية الفرنسوية..
ومما نستدركه هنا أنّ هناك دوراً إيجابيا ًقامت به بعض الطرق الصوفية منذ بداية الاستعمار الفرنسي للجزائر، حيث ساهمت بعض زواياها في نشر الثقافة العربية الإسلامية، كما قام كثير من رجالاتها بالتصدي للاستعمار، والاستبسال في محاربته، أمثال الأمير عبد القادر الجزائري، الذي كان راسخ القدم في التصوّف ،والشيخ الحداد أحد قادة القبائل الكبرى عام 1871م الذي انتهت إليه مشيخة الطريقة الرحمانية في وقته .

وبعد إغلاق جريدة المنقذ أصدر جريدة ((الشهاب)) الذي احتفظ بها حتى وفاته، وكان يصدرها أحياناً بدروسه في التفسير ، وأصدر مجلة الشهاب لـ 11 سنة ،كما أصدر صحفا أخرى مثل (( الشريعة )) ، ((السنة المحمدية )) ، (( الصراط )) ، التي لم تعمّر طويلاً بسبب إغلاقها من قبل الإدارة الفرنسية …
كما شارك في تأسيس جريدة النجاح التي كانت في بداية أمرها إصلاحية ثم انحرفت فتركها ليستقل بصحافته .. وظهرت بعض الصحف الوطنية والإصلاحية منها جريدة (( الصديق )) ، وجريدة ((الأقلام)) كذلك جريدة ((الإصلاح)) ببسكرة .

ونختم هذا الموضوع بالإشارة إلى جمعية العلماء المسلمين التي أسسها الشيخ عام 1930 م وكان غرضها تحرير الجزائر عن طريق إنشاء جيش من الشباب يحمي فكرة الجمعية وعقيدة الإسلام وأن يكون تلاميذها نقطة جذب لمئات الآلاف من أنصار العلم والتحرر .
حيث بدأت الجمعية عملها بإنشاء المدارس الحرة العديدة والنوادي الثقافية وإصدار الصحف والتعلم في الجوامع ، ولم تأت نشأتها عفوية نتيجة حدث أورد فعل ، إنما جاءت بعد تخطيط وتفكير عميق وبعد دراسة وتأن ، حيث كانت البداية عام 1913م ولكن الجمعية لم تقم إلا عام 1930م حيث انتظر الشيخ أن تنضج الفكرة وتأخذ حقها من التريث والترتيب وجمع الكلمة ، وكان من دستور الجمعية أنه (( لا يسوغ لها بأي حال من الأحوال أن تخوض في الأمور السياسية ومن أهدافها محاربة الآفات الاجتماعية كالخمر والميسر وكل ما يحرِّمه الشَّرع وينكره العقل وغيرها من الأهداف كالتوحيد باعتباره أساس الدين .

وبدعم سلطات الاحتلال تأسست جمعية علماء السنة في خريف 1932م تضم الطرقيين ورجال الدين الرسميين إضافة إلى بعض العلماء المأجورين لمناهضة جمعية العلماء ومناصبتهم العداء ، ودعموا حملتهم بإصدار بعض الصحف .. التي تبدو في ظاهرها وبدايتها إصلاحية كما هو الحال في معظم البلدان الإسلامية والعربية .
غير أن ذلك لم يثن نشاط ودور جمعية العلماء ، بل قوي وامتد نفوذها في المجتمع ،فبدأت لهجة الشيخ في فرنسا تزداد حدةً في سنة 1933م كتب إلى الوالي الفرنسي متهما إياه بالتدخّل في الشئون الدينية لمسلمي الجزائر ،على نحو مخالف للدين والقانون الفرنسي ، ثم توجه الشيخ بنداء إلى الأمة أن لا تتبع السياسة العتيقة ، سياسة المطالبة والانتظار تجاه دولة تخلف وعودها.

ويدعو إلى سياسة المقاومة السلمية مثل مقاطعة الانتخابات ، وقد ثار المستعمرون الفرنسيون على نداء ابن باديس ،فكتب يرد عليهم (لم يسوؤني ما علقتم به من عبارات الحقد والتحريش ، وأريد أن أحقق لكم أن تحرشكم لا يخيف صغاراً من تلامذتنا ، فمن باب أولى أن لا يكون له أدنى تأثير في كبارنا ، ومن المؤسف أنكم لا تدركون تطورات الأمم وتقلبات الأيام)
وفي سنة 1937م انتقل إلى مرحلة المقاومة السياسية ،ثم المقاومة بالقوة بعد أن عرف أن فرنسا تعد وتخلف مواعيدها ،والجزائر تخدع وتطمع ، ولهذا أصرَّ على الاستمرار في المقاومة.
في ختام هذه المقالة المتواضعة نحب التذكير بأنّ الهدف من كتابتها ، معرفة دور المفكرين والعلماء والمصلحين، وشخصياتهم وصبرهم، ومثابرتهم ،والحفاظ على كيانهم وكيان أمتهم والأساليب المتبعة ،والتعرف على النضال المستمر ،وحث الأمة على الاستزادة والاستقاء من التراث مع الانفتاح على كل جديد، والتحديث البناء الذي يزيد في صلابة قوة أمّتنا.

اعتمدت المقالة على المراجع التالية :
رياض الصيداوي؛”سوسيولوجيا الجيش الجزائري ومخاطر التفكك” شئون الأوسط (بيروت :- مركز الدراسات الإستراتيجية والبحوث والتوثيق العدد 93 ، مارس2000م) صص 53 – 83
ساجد احمد علي؛”الشيخ عبد الحميد بن باديس والوعي القومي العربي 1989-1940م”المستقبل العربي (بيروت :مركز دراسات الوحدة العربية العدد 4،254 / 2000م ) صص59-73 .
محمد العبدة؛”فقه المرحلية عند عبد الحميد بن باديس” المنار الجديد (القاهرة :دار المنار الجديد للنشر والتوزيع ، العدد 20 خريف أكتوبر 2002م) صص 29- 34 .
مجدي حماد(وآخرون)؛”الحركات الإسلامية والديمقراطية : دراسة في الفكر والممارسة”،عرض أبو العلا ماضي، المستقبل العربي،(بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية ، العدد 249 ، 11 / 1999م) ص 165 – 169.
مصطفى محمد حميد اتوه ؛”عبد الحميد بن باديس رحمه الله وجهوده التربوية” ، (الدوحة:وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية،العدد 57 من سلسلة كتاب الأمة محرم 1418ه) .
++++++++++
نشر لبحث في جريدة الثورة في حلقتين ، 1- الأحد 22 صفر 1438ه الموافق 11 مارس 2007م العدد (15460)
– الأربعاء، 25 صفر 1428ه الموافق 14مارس 2007م العدد (15463)

 

 

SAKHRI Mohamed

أنا حاصل على شاهدة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى شاهدة الماستر في دراسات الأمنية الدولية، إلى جانب شغفي بتطوير الويب. اكتسبت خلال دراستي فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الأساسية والنظريات في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية، فضلاً عن الأدوات وطرق البحث المستخدمة في هذه المجالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى